استنطاق مهدي زقروبة والابقاء تحت مفعول بطاقة الإيداع بالسجن    بلعاتي: على الدول الصناعية تحمّل مسؤولياتها    مجلس الأمن يتبنى "مشروع واشنطن" لوقف إطلاق النار في غزة    عاجل/ رئيس وزراء هذه الدولة يقدم استقالته..    وزيرة التجهيز تتباحث مع البنك الإفريقي للتنمية برامج تمويل المشاريع الجديدة لسنة 2025    نابل: حريق يأتي على 21 هكتار من ضيعات القوارص بمنزل بوزلفة    اثر زيارة رئيس الجمهورية.. انطلاق اشغال تهيئة شاطئ الياسمينة بالحمامات    الجبل الأحمر: ينزلون تلميذا عنوة من المترو.. يعنّفونه.. ويسلبونه هاتفه    فيلم Furiosa في قاعات السينما التونسية: إعادة تعريف للبطلات النسائيات في صناعة السينما"    انطلاقا من يوم العيد في القاعات: فيلم يروي تفاصيل "اخفاء صدام حسين"    دار الافتاء المصرية : رأس الأضحية لا تقسم ولا تباع    نقابة الصحفيين تطالب بالإطلاق الفوري وغير المشروط لكل الصحفيين المودعين بالسجن    نابل: تسجيل 27 حالة غش منذ إنطلاق امتحان الباكالوريا 2024    تطاوين: وفاة امرأة إثر تعرضها لصعقة كهربائية    وزير الشباب و الرياضة يستقبل المدير العام لوكالة التعاون الدولي لجمعية البلديات الهولندية    عاجل/ إختفاء طائرة تُقل نائب رئيس هذه الدولة    العاصمة: عرض للموسيقى الكلاسيكية بشارع الحبيب بورقيبة في هذا الموعد    مونديال الأندية : ريال مدريد ينفي و يوضح    السن الواجب مراعاته في الأضحية    الخريف المقبل: عملية إستمطار بهذه المناطق في تونس    رسميا: تحديد موعد كأس السوبر بين الترجي الرياضي والنادي الصفاقسي    نصائح لمطبخ صحي ونظيف في عيد الإضحى    المحافظة على نفس سعر قبول الحبوب واسناد منحة تشجيعية خاصة بصابة 2014    عاجل/ حادث اصطدام سيارة بعربة مترو بهذه الجهة..وهذه حصيلة الجرحى..    فيما تتمثل حقوق المسافر في حال تأخر رحلته أو تأجيلها؟    توزر: تحول سوق الدواب إلى سوق يومي مع ارتفاع العرض    مطار قرطاج : ضبط أكثر من 1.5 كغ من المعدن الأصفر لدى مسافرتين    نقل تلميذة إلى المستشفى لاستكمال إجراء امتحان البكالوريا..وهذا هو السبب..#خبر_عاجل    الكشف عن مذبح عشوائي للدواجن في أريانة    عيد الاضحى : ما هي أضرار شواء اللحوم ؟    الداخلية تعلن عن الاستعدادات الخاصة بعودة التونسيين بالخارج    لقاح للقضاء على السرطان ماالقصة ؟    حزب الله يعلن استهداف مبنيين يتمركز بهما جنود الاحتلال في مستعمرة المنارة    عاجل: إستنطاق عبير موسي في قضيّتين جديدتين    الحماية المدنية: 18 حالة وفاة في يوم واحد    قفصة: موظّف متورّط في ترويج أقراص المخدّرات    في حادثة صادمة: سيجارة إلكترونية تتسبب في انفجار رئة مراهقة..!!    تونس: إقبال كثيف على أضاحي العيد بالميزان    عاجل : ارسين فينغر في تونس و هذه التفاصيل    عاجل/ إندلاع حريق بجبل النحلي..    شركة'ميتا' تطلق ميزة جديدة للمحادثات عبر 'ماسنجر'    خبر غير سار لأحباء لاعبة التنس أنس جابر    إيطاليا تهزم البوسنة 1-صفر في المباراة الودية الأخيرة لها قبل بطولة أوروبا    قطاع التامين: أقساط صافية ب 1148.2 مليون دينار في الربع الأول من العام    حالة الطقس: الحرارة بين 25 و45 درجة مع ظهور الشهيلي بالجنوب    فرنسا تتعادل سلبيّا مع كندا في اختبارها الأخير لكأس أوروبا    دليل الأسبوع    المحلل السياسي العراقي عبّاس الزيدي ل«الشروق»...استعادة 4 أسرى ... انتصار وهمي لكيان مجرم    قصّة قصيرة    تعرف على 20 عيباً تمنع ذبح الأضحية    تصفيات كأس العالم: المُنتخب الوطني يتعادل مع ناميبيا    معرض صفاقس الدولي الدورة 58 من 21 جوان الى 7 جويلية    الفلبين: تحظر واردات الدواجن من أستراليا لهذه الأسباب    مريم بن مامي: ''المهزلة الّي صارت في دبي اتكشفت''    موعد عيد الاضحى: 9 دول تخالف السعودية..!!    تطاوين : بدء الاستعدادات لتنظيم الدورة السابعة للمهرجان الدولي للمونودراما وإسبانيا ضيف شرف    هند صبري تلفت الأنظار في النسخة العربية لمسلسل عالمي    مُفتي الجمهورية : عيد الإضحى يوم الأحد 16 جوان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلاموية ج 4 : الاستاذ حسن الطرابلسي
نشر في الفجر نيوز يوم 24 - 04 - 2009


الاستاذ حسن الطرابلسي
التجربة الجزائرية:الإسلاموية والجنرالات تعقيدات وغموض
دراسة ظاهرة الإسلاموية في الجزائر تتخذ أبعادا خطيرة، لأن الجزائر شهدت في العقود الأخيرة تحولات متعاقبة وسريعة دفعت هذا البلد العريق في إسلامه، المتجذر في هويته إلى تعقيدات كبيرة في الظاهرة السياسية مما جعل الإسلاموية تجد فرصة لها لتنتعش وتفرّخ وتسود، ومما زاد الأوراق خلطا في الجزائر أن الجيش الوطني الجزائري الذي قاد ثورة التحرير وكان الضامن لحرية الجزائر وسيادتها انحرف عن هذا المسار وحاد عن هدفه مما زاد الوضع سوءا وجعل المتعقب لظاهرة الإسلاموية أمام أسئلة غامضة ومعقدة وصعبة.
وجعل السؤال حول حدود الإسلاموية خطيرا! فكيف تجلت ظاهرة الإسلاموية في الجزائر؟ ومن هم الممثلون الأساسيون لها؟ وهل يمكن الحديث عن دعم أو مقاومة السلطة السياسية والعسكرية لهذه الظاهرة؟ وأي دور للتيار الإسلامي ككل في هذا الخضم؟ وهل لعب التيار الإسلامي دورا في تعميق أو مقاومة الإسلاموية؟ ثم هل من الممكن أصلا الحديث عن تيار إسلامي متجانس في الجزائر كما هو الحال في تونس أو المغرب؟ وهو مايطرح السؤال عن خصوصية ظاهرة الإسلاموية في الجزائر؟
هذه الأسئلة وغيرها جعلت المشهد السياسي في الجزائر معقدا ! ونحن نكتب اليوميعد تجربة انتخابية لم تأت بجديد بل عمقت الأسئلة حول جدية التغيير مما يزيد المشهد السياسي الجزائري تعقيدا أكثر!
فجزء من المساجين الإسلاميين، وأهمّهم علي بلحاج، قد أنهوا فترة سجنهم ! فأي دور يمكن أن يلعبه هذا السياسي في مستقبل الجزائر؟ وهل يمكن الحديث عن “عودة”جديدة للجبهة الإسلامية للإنقاذ؟
الشيخ محفوظ نحنان، أحد الممثلين البارزين للحالة الإسلامية الجزائرية، قد توفي، رحمه الله، فهل يقدر خلفاؤه على مواصلة منهجه؟ وهل كان منهجه هو الأسلم للجزائر؟
عبد الله جابالله، ممثل آخر للصحوة، يمر بمراحل متقلبة : إنشقاق ثم تأسيس ثم إقالة ثم إمكانية الحديث عن عودة مرتقبة للمشهد السياسي؟
إضافة إلى رموز وشخصيات بعضها معلوم وبعضها الآخر مشبوه سادت في فترة التسعينات وقتلت شعبا بريئا وبعضها قتل وبعضها “تاب وآب” !
فيا ليت شعري ما الذي حدث في هذا البلد العظيم!
البعض يتحدث عن “مؤامرة” تقودها أطراف خارجية أو متعاملة مع أطراف خارجية! حزب فرنسا! البربر! الأمازيغ! ضباط في الجيش!
أسئلة عديدة ونقاط استفهام أكثر!
المستفيد الوحيد هو الإسلاموية التي تحولت إلى عنف وإرهاب وجرائم! من المسؤول عنها؟
أمام هذا الزخم الهائل من الصعوبات لا بد من دراسة متأنية للحالة الجزائرية في عمقها التاريخي أي منذ بداية القرن التاسع عشر أساسا! خاصة منذ الإختراق الإستعماري الذي أراد صناعة وجه جديد للجزائر!
وهنا لا بد من التذكير أننا سنواصل تطبيق نظرية الحدود لأننا من خلالها نستطيع تمييز الحد بين الإسلام والإسلاموية! بين الوطنية والعمالة! بين الجيش كحام للبلاد وبين الجيش كطابور خامس ينفذ سياسات خارجية! بين البربر كمسلمين وبين البربر كقومية تبحث لها عن مكان تحت الشمس!
من الإستعمار إلى ثورة 1954
منذ الإستعمار الفرنسي للجزائر عملت السلط الإستعمارية على ربط الجزائر كليا بفرنسا واعتبارها ولاية فرنسية، فحوربت العربية وقضي على ثورات الجهاد التي قادها أساسا الأمير عبد القادر الجزائري، والتي استطاعت فرسا أن تتغلّب عليها وتنفي الأمير عبد القادر إلى فرنسا ثم إلى دمشق حيث توفي هناك، ثم سعت بعد ذلك إلى العمل على نشر ثالوث خطير في الجزائر وهو ثالوث "الجهل والفقر والمرض" في محاولة قتل هوية الجزائر. إلا أن جهود الشعب الجزائري لم تعرف الكلل والملل من أجل تحرير بلاده فقام العمال الجزائريون المهجرون في باريس بتأسيس حزب نجم شمال إفريقيا سنة 1926 وأسندت رآسته إلى السيد عبد القادر حاج علي وأختير الأمير خالد الهاشمي حفيد الأمير عبد القادر الجزائري (18751936) رئيسا شرفيا للحزب، وكان من أبرز مسؤوليه مصالي الحاج الذي أصبح زعيما للحزب فيما بعد، واستطاع الحزب أن يصبح في بضع سنوات قوة سياسية وضعت حدا للركود السياسي . كما استطاع الجزائريون خاصة بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين عام 1931 عن طريق طائفة من علماء المسلمين كان من أهم أعلامهم الإمام عبد الحميد بن باديس (13071358 ه/ 18891940) والإمام محمد البشير الإبراهيمي أن يضاعفوا من جهودهم في سبيل التحرير والإستقلال.
وقد شملت جهود جمعية العلماء العديد من الإصلاحات في المجالات الإجتماعية والتربوية والدينية، فركزت الجمعية على محاربة البدع والخرافات والأمية ونشطت في تأسيس المدارس العربية الحرة في معظم أنحاء البلاد، كما كان للجمعية جهودها السياسية لأنها أكدت على لسان مؤسسها الشيخ ابن باديس في محاضرة له في تونس سنة 1937 على دور العلماء في النضال السياسي قائلا: “لا بد لنا من الجمع بين السياسة والعلم، ولا ينهض العلم والدين كلّ النهوض إلا إذا نهضت السياسية بجدّ” وكتب أيضا في مجلة الجمعية، الشهاب، سنة 1936 معتبرا، الإستقلال حق طبيعي للشعوب: “إن الإستقلال حق طبيعي لكلّ أمّة من أمم الدنيا(...) وليس من العسير بل من الممكن أن يأتي يوم تبلغ فيه الجزائر درجة عالية من الرقيّ الماديّ والأدبي وتتغير فيه السياسية الإستعمارية وتصبح البلاد الجزائرية مستقلّة”1
وهكذا قادت جهود جمعية العلماء إلى التأسيس النظري لثورة الإستقلال وكان علماؤها هم الذين الذين أنشؤوا جيلا إسلاميا يتكلّم العربية كان هو المشعل الذي قاد ثورة الإستقلال سنة 1954.
دولة الإستقلال: المراوحة بين الوطنية والشمولية
بعد الإستقلال سلكت الدولة الحديثة سياسية تراوحت بين التوجه العربي الإسلامي والإنفتاح على التجربة الإشتراكية في نسختها التوتاليتارية . ولكن الخيار الإشتراكي كان يحمل في طياته عوامل فشله من ذلك أنه تنكر لعدد من رموز ثورة التحرير ففرض على الإمام محمد البشير الإبراهيمي الإقامة الجبرية، وصادر الحريات وأصبح الرئيس هواري بومدين (19651977) بعد انقلابه على أحمد بن بلة أول رئيس جزائري هو المهيمن على كل السلطات. هنا في الوقت بدأ الإقصاء والنفي وبدأت الإسلامية تجذر تواجدها، ولكنها كانت مثل المرض الخبيث الذي يبقى ساكنا وينتظر حتى يفقد الجسم مناعته كلّيا فينقذ عليه. وهكذا ضل المرض ساكنا خاصة وأن تولي تولي الشاذلي بن جديد سنة 1977 لم يغير من الأمر شيئا. فزادت البطالة، وحوصرت الحريات، وارتفعت الديون، وفشل المشروع التنموي الصناعي واحتدت الأزمة الإجتماعية والسياسية وهو ما قاد إلى انتفاضات وثورات منها التجمع الكبير الذي قاده الشيخ أحمد سحنون، وريث حمعية العلماء المسلمين، والشيخ عبد اللطيف سلطاني، على إثر توسع الصحوة الإسلامية في الجامعات، كرد فعل على سياسية الدولة التي فشلت ولفقدان الحريات في الجزائر وانتهى هذا التجمع باعتقال الشيخ عباسي مدني ولم يفرج عنه إلا سنة 1984 ثم كانت ثورة الخامس من أكتوبر 1988 حيث انتفضت البلاد وشهدت أكبر الإظطرابات في جزائر ما بعد الإستقلال. ولم تعلن الإسلاموية حضورها المباشر لأن العلماء الذين قادوا هذه الثورات والإنتفاضات حرصوا على ان تحفظ الجزائر من هذا البلاء، ولكن الحكومة ظلت دائما تتجاهل هذا الخطر القادم.
من الإنتفاضة إلى الإنتخابات
أدت مرحلة ما بعد الإنتفاضة الشعبية إلى انفتاح سياسي، فظهر الإسلاميون كقوة لا يستهان بها وتأسست رابطة الدعوة الإسلامية برآسة المرحوم الشيخ أحمد سحنون فكانت الإطار الذي يعمل بإشرافه الدعاة في كل القطر، وكان من أعضائها بالإضافة إلى الشيخ أحمد سحنون، ابن جمعية العلماء المسلمين والأب الروحي للصحوة الإسلامية المعاصرة في الجزائر، كلا من الشيخ بالحاج شريفي، والدكتور عباسي مدني، والأستاذ محمد سعيد، والأستاذ محفوظ نحناح، والأستاذ عبد الله جاب الله.2
بعد هذه الولادة الشرعية للصحوة الإسلامية في الجزائر، والتي ضمت بين أعضائها عناصر مختلفة الأهواء والمشارب إلا أنها كانت خطوة إيجابية كان يمكن أن تراعى ويحافظ عليها. ولكن الإمور سارت على غير ذلك إذ أسس الشيخ عباسي مدني، سنة 1989، بدون تزكية من الرابطة، وبعد أن التقى بمجموعة من الدعاة على رأسهم علي بلحاج، أسس الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ثم أسس بعده الشيخ محفوظ نحناح حركة المقاومة الإسلامية وأعقبه الأستاذ عبد الله جاب الله فأسس حركة النهضة. في هذه اللحظة بدأت وحدة الصف الإسلامي، رغم هشاشتها، تتشظى.
ولكن تواصلت الحياة السياسية الجزائرية بين أخذ ورد، وتنافس بين التيارات الإسلامية، ومناورات من السلطة لاحتوائها، إلا أنها كانت في عمومها معتدلة وبعيدة نسبيا عن الإسلاموية، بحيث أن الفترة من 1988 إلى 1991 كانت بمثابة مخاض تمرّ به الحياة السياسية الجزائرية. فكل الأطراف كان تتوجس خيفة من التيار الإسلامي، وخاصة من الجبهة الإسلامية، التي أخذت تمتلك الشارع وتسيطر كليا عليه، وأما جبهة التحرير التي بقيت لأكثر من عقدين الحزب الأوحد، فإنّها كانت في هذه الفترة تبحث لها عن موقع تحت الشمس، ورغم أنها لا تزال تسيطر على أهم المواقع في الدولة فإنها خسرت العديد من إشعاعها ومن أنصارها.
أثبت الإنتخابات البلدية أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ هي القوة السياسية رقم واحد، وأدى هذا التحوّل الأساسي في الحياة السياسية والثقافية الجزائرية إلى توجس وريبة تجاوزت الجزائر لتجد صداها خارجها، في الغرب، وفي فرنسا خاصة. ومما زاد الوضع ريبة التصريحات والكتابات والخطب التي كانت تصدر عن بعض الوجوه البارزة في الجبهة، وأهمهم علي بلحاج، والتي تأكّد على أن الديقراطية كفر، وأن الجبهة سوف تؤسس لدولة إسلامية كما كانت أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، بإطلاقية كبيرة لا تفصيل فيها ولا توضيح، كما أنها سوف تقف في وجه الغرب، الصليبي أو الصهيوني في حالات أخرى، من ذلك أن علي بلحاج كان أثناء التمهيد للنتخابات الجزائرية “ ينشر سلسلة مقالات تحت عنوان “الدمغة القوية في كفر الملة الديمقراطية” أو “الخلاصة البهية في السياسة الشرعية” ويصرح تصريحات تدفع إلى الريبة في موقفه من التعدّدية السياسية وحرية العمل السياسي.
3وقد حاول جمال سلطان الدفاع عن هذه المنهجية التي وصفها “بالمفارقة” ولكن ذلك لا يمنع من أن توصف، رغم تقديرنا لعلي بلحاج، بانها تفتقد إلى الذوق. كانت تصريحات على بلحاج قبيل وأثناء الحملة الإنتخابية أو في رسائله من السجن بعد اعتقاله بشكل متواصل، وهذا ما جلب للجبهة مزيدا من الخصوم الذين لم تتمكن تصريحات الشيخ عباسي مدني وتأكيده أن الجبهة تتمسك بالتعدّدية السياسية واحترام قواعد الممارسة الديمقراطية، والمحافظة على مكتسبات ثورة التحرير والسماح للمرأة بالعمل والمشاركة في الحياة العامة، من إعادة كسب تأييدهم.
هذا التضارب سهل على خصوم الجبهة تأليب الأعداء عليها في الداخل والخارج، لذلك لم تجد الجبهة بعد إلغاء الإنتخابات وسيطرة الجيش على السلطة واستقالة الشاذلي بن جديد كثيرا من الأصدقاء، فرغم ثورة الشعب الجزائري وانهيار تجربة ديمقراطية وليدة خرجت الأمور من سيطرة الجبهة وشهدت الإسلاموية أفضل أيامها.
إلغاء الإنتخابات وسيطرة العنف والإسلاموية
أدى إلغاء الإنتاخاب ونتائجها إلى نتائج كارثية على البلاد والعباد، لم تقد فقط إلى الإسلاموية وإنما إلى المذابح والإرهاب.
فكيف بدت الإسلاموية الجزائرية؟ وما موقف الفضاء السياسي الجزائري الإسلامي وغيره منها؟
رغم أن فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ لم يكن مفاجئا للمراقبين لأنه سبق وأن فازت في الإنتخابات البلدية التي أجريت في يونيو 1990 إلاّ أن رد فعل الجيش الجزائري الذي لم تستطع نخبه تحمّل فوز الإسلاميين وخاصة الجبهة الإسلامية للإنقاذ هو الذي كان مفاجئا في توقيته وحدّته.
وأمام تعنّت الجيش وإصراره على إلغاء إختيار الشعب، تمت دعوة محمد بوضياف ليكون رئيسا لحكومة خماسية سرعان ما فشلت إثر اغتيال بوضياف نفسه في ظروف مجهولة، دفعت الجزائر دفعا إلى الإسلاموية والتطرف خاصة بعد غياب قيادة الجبهة وعلى رأسها الشيخان عباسي مدني وعلى بلحاج السجينين، ثم ّ اغتيال المهندس عبد القادر حشاني وغيره من القيادات الجزائرية التي كان يمكن ان تحد من توسع الأزمة. إلا أن الظلم الذي شعر به الناخب الجزائري كان كبيرا دفعه إلى ردّ فعل خرج بعد مدّة وجيزة عن المراقبة.
وهنا في هذه الفترة ساد في الجزائر اتجاهان أساسيان:
الجيش: وكان يمتلك تحته كل مؤسسات الدولة ويتمتع بدعم خارجي، فرنسي أساسا.
الشارع الجزائري الذي يدافع عن قضية شرعية ولكنه أمام فقدان القيادة الراشدة التي أعتقلت أو اغتيلت ، أصبح غير منضبط وغير متجانس، وهو ما أدى في الأخير إلى ولادة نمط جديد في الساحة الجزائرية بدأ بظهور “الجماعة الإسلامية”، كظاهرة إجتماعية وسياسية أكثر منها كتوجه فكري وإسلامي ولذلك فإنها تصرّفت ككل ظاهرة متعالية على الواقع، ولكنها في الحالة الجزائرية تستمد تعاليها وتبرر وجودها من زخم الإسلام الروحي، ولذلك فإنّها كفرت الجميع وقادت حربا ضد الجميع فاغتيل في تلك الحملة الشيخ محمد السعيد وغيره وساد تيار سلفي لا أصالة له ولا فكر، كفر الإمام أبن باز، رحمه الله، ومن كان في مدرسته وكفر التيار الإسلامي المعتدل كالشيخ الغزالي، رحمه الله، والإمام يوسف القرضاوي، وتيار الإخوان المسلمون ومن سار في فلكهم. كما تميزت هذه الفترة بتعدد الشخصيات القيادية الشابة، والفاقدة للخبرة السياسة وللزاد الشرعي فغدى التكفير سيد الموقف ، ولمع نجم جمال زيتوني الذي قتل سنة 1996 والمتورّط في مقتل الشيخين محمد السعيد وعبد الرزّاق رجام، ثمّ عنتر الزوابري والذي صعّد من المذابح ضد المدنيين وقُتل هو الآخر سنة 2002 في معركة مع الأمن. وهكذا دواليك.
إلى جانب هذين التيارين وجد تيار آخر هامشي ولكنه كان قوي التأثير ويتمثّل في بعض غلاة العلمانية والماركسية والبربر الذين انحازوا إلى الجيش كليا وباركوا الإنقلاب. فسعيد سعدي ، الأمين العام للتجمع من أجل الديمقراطية والذي لم يفز بأي مقعد في انتخابات 1991، دعا في تصريح له لأذاعة الجزائر في 30.12.1992 إلى مقاطعة الدورة الثانية من الإنتخابات وتعطيلها بكل الوسائل.
ودخلت الجزائر حربا أهلية دامت أكثر من خمس سنوات حصدت معها قرابة مائتي ألف شخص، إضافة إلى المعتقلين والمنفيين والجرحي. إلاّ أن الأخطر من هذا كله هو ظهور جيل جديد، ممن ذكرناهم سابق، سيطر على دائرة الأحداث الإسلامية، وهم في أغلبهم من الشباب الثائر المتحمس الرافض لمسار الجيش،والناقم أصلا على الوضع كليا في الجزائر.
رغم هذا العرض السريع والموجز للأحداث في الجزائر إلا أنه لا بد من التذكير ان هذا البحث لا يهدف إلى دراسة التسلسل التاريخي للأحداث، فهذا يمكن الحصول عليه من المتابعات والتقارير الصحفية، وإنما نريد من خلال ما أثرنا التأكيد على أن الوضع في الجزائر تجاوز الإسلاموية إلى التكفير وبالتالي القتل والجريمة. وفي هذا المستوى يجب أن لا يتحمّل التيار الإسلامي، برغم الإخلالات التي أشرنا إليها، المسؤولية وحده، ذلك أن التقارير تشير إلى أن العديد من المذابح كانت على مرأى ومسمع من الجيش، الذي لم يحرّك ساكنا.
وقد سمح الوضع في الجزائر لدول الجوار، وخاصة للسلطة التونسية، التي كانت تحارب التيار الإسلامي، بالتهديد بالخطر الجزائري ومن ثمة فإنها أمعنت في قمع الخيار الإسلامي والتباهي بذلك.
ولكن لسائل أن يسأل: أي دور كان للتيارات الإسلامية الأخرى؟
التيارات الإسلامية غير الجبهة وهي أساسا حركة المجتمع الإسلامي “حماس”، وحزب النهضة لم يستطيعا أن يحدثا شيئا يذكر في المعادلة الجزائرية.
فحركة حماس بقيادة الشيخ محفوظ النحناح، رحمه الله، كان تفاعلها مع الواقع الجزائري براغماتيا ، ولم يكن لها الحضور الجاد بل إنها صادمت الجزائريين بتحميل الجبهة مسؤولية العنف.
وأما حركة النهضة بقيادة عبد الله جاب الله فإنها لم تستطع تغيير الأحداث .
كما أن النخب العسكرية حاولت قبل انتخاب بوتفليقة عام 1999 تجزئة التيار الإسلامي، فعمدوا إلى محاربة جبهة الإنقاذ الإسلامية وفي المقابل سمحت أو غضت الطرف عن أحزاب إسلامية وهي حركة مجتمع السلم، بقيادة الشيخ محفوظ النحناح، وحزب النهضة بالعمل السياسي.
وتواصلت الحرب الأهلية إلى سنة 1997 وتعب الفريقان: الجيش لأنه فقد سمعته العالية وارتفعت الأصوات التي تدينه وتورّطه في المستنقع الذي دخلته الجزائر، والإسلامويون لأنهم حادوا عن الهدف الأساسي وهو الدفاع عن خيار الناخب الجزائري، وفقدوا أيضا التعاطف الإسلامي بعدما خسروا المعركة ميدانيا.
فأنتهت مرحلة الإنزلاق وبدأت محاولات جدية لإعادة الحياة السياسية إلى الجزائر، ولكن دون الجبهة الإسلامية للإنقاذ وهو ما يمثل إرهاصا لم تخرج منه الجزائر إلى اليوم. وأنتهى هذا التمشي الجديد بانتخاب عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجزائر وبدأت الأوضاع تهدأ نسبيا، سوى من بعض الإنفلاتات هنا أو هناك، كما “عاد” الجيش أيضا تدريجيا إلى الثكنات وضعف حضوره السياسي نسبيا.
المصالحة الوطنية ومستقبل الجزائر في مواجهة الإسلاموية
إنتخاب بوتفليقة، رغم التعليقات والإنتقادات عن كيفية فوزه بالإنتخابات، أدخل الجزائر في مرحلة جديدة. أهم سماتها العودة التدريجية لقيمة الدولة كجهاز مركزي، تخضع له كل القوى، الجيش والأحزاب والحكومة، ولكنّ هذا التمشي كان بطيئا لأن العنف والإرهاب قد سيطر على سلوكيات جميع أطراف الفضاء الجزائري، ولتنقية الأجواء يحتاج العمل السياسي إلى شيء من الوقت. كما أن التيارات التكفيرية المسلّحة لم تتنازل بشكل نهائي عن خياراتها، إضافة إلى تحول شهدته الساحة الإسلامية للتيارات المعتدلة كحزب النهضة وحركة المجتمع الإسلامي، حماس.
فحركة حماس الجزائرية غيرت من اسمها ليتلائم مع دستور 1996 إلى حركة مجتمع السلم، ودعمت بوتفليقة سنة 1999 ، وكذلك واصلت دعمه بعد وفاة مؤسسها الشيخ محفوظ نحناح سنة 2003، فدعمت بوتفليقة في انتخابات سنة 2004. إلا أن هذا التمشي الذي يقوده الشيخ بوجرة سلطاني لا يحظى بقبول لدى كل أنصار حمس. ولعله من الأسباب التي أدت إلى انشقاق الحزب وخروج عبد المجيد مناصرة بعد خلاف طويل مع سلطاني لم تفلح وساطات العديد من الأطراف الإخوانية في فضها، وقد قام مناصرة بتأسيس حزب جديد أسماه “حركة الدعوة والتغيير” وما يهمها في هذا الإنشقاق أساسا هو التهمة التي يتهم بها سلطاني من أنه كان يقصي الآخرين وينفي أراهم وهو ما يمثّل وجها بارزا من وجوه الإسلاموية. ورغم أننا لا نستطيع الآن أن نجزم بحجم هذا الإقصاء في سياسة الحزب تحت قيادة سلطاني، إلا أننا لا نعتقد أن هذا الإنشقاق كان من فراغ.
وأما حركة النهضة فإنّها دخلت في أزمات حادة أهمها أنشقاق سنة 1999 وخروج عبد الله جاب الله وتأسيسه حركة الإصلاح الوطني وخاض بحزبه انتخابات سنة 2002 وكان القوّة الثانية في البلاد ولكنه رفض المشاركة في الحكومة وبقي في المعارضة، ثم ترشح الشيخ جاب الله في رئاسيات 2004 ضد بوتفليقة وحصل على الموقع الثاني ، إلا أن الحركة دخلت من جديد في صراعات كبير ة أفضت إلى عزل جاب الله من الحزب وانتخاب بولحية مكانه، ثم استقالته هو الآخر بعد ترشح أمين عام الحزب جهيد يونسي للإنتخابات الرئاسية في 9 افريل 2009. إلا أن الحزب لم تستقر أوضاعه بعد، وهناك حديث عن عودة الشيخ جاب الله إليه من جديد.
كما أن علي بلحاج منذ خروجه من السجن سنة 2003 لم يغير من مواقفه وضل على صلابته المعهودة، وهو ما يجعل التواصل معه صعبا، وهو يزيد بذلك من خصومه. وهو ولئن تجاهلته السلطة بمنعه من إعادة تأسيس الجبهة او تأسيس حزب سياسي على انقاضها كما منع من الترشح للرئاسيات، لا يزال يتمتع بحضوره الجزائري والعربي والإسلامي، وهو ما يحتم على السلطة أن تتقدم من أجل احتضان أبناء الجزائر ونسيان الماضي ولا تدفعهم إلى الإسلاموية وإلى العنف.
ولا يزال المشهد السياسي الجزائري يراوح بين الأخذ والردّ حتى الآن ولم يثمر نتائج تذكر، لأن السلطة لا زالت تسودها عقلية احتكار القرار بدعوى التخوف من تجربة الجبهة السابقة، كما أن الجبهة الآن تمر بظروف متقلبة فقياداتها إما في السجن أو المنفى أو تحت الإقامة الجبرية وهو ما من شأنه أن يعطل التحول نحو عمل مشترك بين الدولة والتيار الإسلامي بفصائله المتعددة.
كما يجب التحذير من خطر سقوط بعض قيادات الجبهة التي أطلق سراحها من السجن، خاصة علي بلحاج، من السقوط في الإسلاموية باعتماد خطاب سلفي يثير عددا من التساؤلات حول قدرة هذا الخطاب على إحداث نقلة سياسية في الجزائر ولذلك فإني أتمنّي أن يراجع الشيخ على بلحاج بعض أساسيات الخطاب الذي يبشر به ويؤسس لمنطق سياسي جديد، قد يقود إلى مستقبل أفضل له ولشعبه، من ذلك مثلا التنسيق أكثر مع التيارات الإسلامية الموجودة في الجزائر ومحاولة التصدي لخطر الإسلاموية الذي لايزال يهدد البلاد.
إلا أنه لا بد من التأكيد على أسفنا الشديد أن الإنتخابات الأخيرة أضافت إلى أزمات الجزائر ، ازمة ، جديدة/قديمة تمثلت في الجمود والإحتكار والسلطة الفردية× ومما يزيد الطين بلة تصريحات الرئيس الجزائري التي تأكد إعجابه بالتجربة التونسية، وهو ما لا نتمناه أن تنتقل العدوى التونسية إلى الشعب الجزائري العظيم.
وهكذا نجد أن الإسلاموية التي أعلنت إفلاسها في مصر منذ سنة 1997 لا تزال تهدد الجزائر حتى اليوم، خاصة أن الإصلاحات والجهود المبذولة لحدّ الآن لا ترتقي للقضاء على مخلفات سنوات الحرب، كما أن البدائل الإسلامية لم تقدر أن تملأ الفضاء الإسلامي التي كانت تملأه الجبهة. وفي هذا المستوى تبقى الجزائر دائما على حافة الإسلاموية لأن السلام الإجتماعي الذي تم تحقيقه لحد الآن لا يزال هشا.
وتقف الجزائر اليوم أمام مستقبل نتمنى أن يكون خطوة نحو غد أفضل ومستقبل جزائري يتصالح فيه أبناء هذا الشعب العظيم ويكونوا مثالا جيدا لجيرانهم خاصة من الناحية الشرقية.
الهوامش
1 غانم، إبراهيم البيومي: الحركة الإسلامية في الجزائر وأزمة الديمقراطية، دراسة وملف وثائقي تاريخي، أمةبرس للإعلام والنشر، الطبعة الأولي 1413 ه/1992 ص 1819
2 جلولي، مصطفى عز الدين، خلفيات الحرب على الإسلام في الجزائر: مجلّة الوحدة الإسلامية، السنة الثلثة، العدد الثامن والعشرون، آذار 2004، ص 22
3 سلطان، جمال: مراجعات في أوراق الحركة الإسلامية في مصر، دار المنار الجديدن 1420 ه/ 1999 الطبعة الأولى، ص 29


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.