تونس وسويسرا تطلقان التعاون في مجال حماية المناخ وآفاق واعدة للشراكة الجديدة في المجال    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الاربعاء 29 ماي    سفيرة فرنسا آن غيغان تشيد بجودة الموارد البشرية التونسية    البطولة الاسبانية: إشبيلية يعلن رحيل لاعبه إيريك لاميلا بنهاية الموسم الجاري    الحماية المدنية: تسجيل 6 وفيات و411 إصابة في حوادث مختلفة    لأول مرة في العالم: شفاء مريض سكري باستخدام العلاج بالخلايا    عاجل : صدمة بعالم كرة القدم    الفيفا تصدر بيانا فيما يخص قضية يوسف البلايلي ..التفاصيل    بطولة رولان غاروس: أنس جابر تواجه اليوم المصنفة 77 عالميا في الدور الثاني    دبلوماسي صيني : نمو العلاقات مع الدول العربية يعزز السلام والتنمية في الشرق الأوسط    تونس: كراء سيارة يصل الى 150 دينارا لليوم الواحد    الحماية المدنية: 6 حالات وفاة خلال ال24 ساعة الأخيرة    بداية من 1 جوان: تنظيم الدورة السابعة للمهرجان الدولي لفن السيرك وفنون الشارع بتونس    وزير الفلاحة في جلسة عمل مع الوفد الايطالي    تفكيك شبكة مختصة في التنقيب على الأثار مالقصة ؟    مفزع/ حجز 188 كغ من الزطلة منذ بداية السنة إلى غاية الأسبوع الحالي..    رضا الشكندالي: البنك المركزي يهدف إلى الحدّ من التضخم عبر الترفيع في الفائدة المديرية    يهم التونسيين : الأسعار الحالية للأضحية تتراوح من 700 إلى 1500 دينار    يوم مفتوح بعدد من الولايات للتحسيس بمضار التدخين    الجزائر تتقدم بمشروع قرار لمجلس الأمن الدولي "لوقف العدوان في رفح"..    تقرير: زيادة ب 26 يومًا إضافيا من الحر خلال عام    طقس الاربعاء: الحرارة تصل الى 39 درجة بهذه المناطق    المكلف بتسيير ولاية المهدية يُودّع الحجيج    عاجل/ إخلاء مستشفى القدس الميداني في رفح بسبب تهديدات الاحتلال..    بطولة رولان غاروس : برنامج النقل التلفزي لمواجهة أنس جابر و الكولومبية كاميليا أوزوريو    وزارة التربية تكشف حقيقة عقد اتفاقية شراكة مع مؤسسة "سمارتيرا"..#خبر_عاجل    وزير الصحة يوقع على مبادرة حول المشاركة المجتمعية في القطاع الصحي    اليوم: مجلس النواب يعقد جلسة عامة    بوتين محذرا الغرب: "يجب على دول الناتو أن تفهم بماذا تلعب"    القانون الجديد... بين إلغاء العقوبة السجنية أو الابقاء عليها ...الشيك بلا رصيد... نهاية الجدل؟    للاستجابة للمعايير الدولية...الصناعة التونسية في مواجهة تحدي «الكربون»    نمت بأكثر من 3 %... الفلاحة تتحدى الصعاب    رونالدو يشد عشاقه بموقفه الرائع من عمال الملعب عقب نهاية مباراة النصر والاتحاد (فيديو)    بورصة تونس ..مؤشر «توننداكس» يبدأ الأسبوع على ارتفاع    تحطم طائرة عسكرية من نوع "إف 35" في ولاية نيومكسيكو الأمريكية (فيديو)    الاحتلال يترقب قرارا من غوتيريش يصنفها "قاتلة أطفال"    280 مؤسسة توفر 100 ألف موطن شغل تونس الثانية إفريقيا في تصدير مكونات السيارات    تعظيم سلام يا ابن أرض الرباط ... وائل الدحدوح ضيفا على البلاد    قبل جولته الأدبية في تونس العاصمة وعدة جهات، الكاتب جلال برجس يصرح ل"وات" : "الفعل الثقافي ليس فقط في المركز"    افتتاح الدورة السادسة للمهرجان الدولي للموسيقيين والمبدعين من ذوي وذوات الإعاقة بعد أكثر من 4 سنوات من الغياب    وزير الصحة يشارك في مراسم الاعلان عن مجموعة أصدقاء اكاديمية منظمة الصحة العالمية    وزير الصحة يؤكد بجنيف حرص تونس على التوصّل إلى إنشاء معاهدة دوليّة للتأهّب للجوائح الصحّية والاستجابة لها    قابس: الاحتفاظ بشخص مفتش عنه وحجز كمية من الهواتف الجوالة المسروقة    الليلة أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 18 و28 درجة    بداية من اليوم.. مدينة الثقافة تحتضن الدورة السادسة للمهرجان الدولي للموسيقيين والمبدعيين من ذوي الإعاقة    فتح باب الترشح للدورة 36 لمهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية    المنتخب الوطني: موعد الإعلان عن القائمة وبرنامج التربص    27 ألف مشجّع للنادي الافريقي في دربي العاصمة    عاجل/ اعتراف إيرلندا بدولة فلسطين يدخل حيّز التنفيذ    حادث مرور مروّع في القصرين    عاجل :عطلة بيومين في انتظار التونسيين    رئيس الجمهورية يستقبل الصحفي الفلسطيني وائل الدحدوح    في الملتقى الوطني للتوعية والتحسين البيئي... ياسين الرقيق يحرز الجائزة الأولى وطنيا    في إطار تظاهرة الايام الوطنية للمطالعة بعين دراهم ...«الروبوتيك» بين حسن التوظيف والمخاطر !    أولا وأخيرا «عظمة بلا فص»    أليست الاختراعات التكنولوجية كشفٌ من الله لآياته في أنفس العلماء؟    معهد الفلك المصري يكشف عن موعد أول أيام عيد الأضحى    مواقف مضيئة للصحابة ..في حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسلم البريطاني بين الفصل والاندماج : هل بريطانيا.. دار كفر؟ :أحمد بركات
نشر في الفجر نيوز يوم 28 - 04 - 2009

هل الهوية كيان كامن داخل الفرد؟ أم كيان يتولد بتفاعل الفرد مع ما حوله؟ هل تتعدد الهويات بتعدد المواقف الاجتماعية؟ أم أنها موقف ثابت لا يتغير؟.

هنا تبرز قضية الهوية كواحدة من أهم القضايا التي تشغل المفكرين والباحثين، حيث تتلاحق الأحداث على الساحة العالمية، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر من بداية حرب منظمة على ما أسمته أمريكا وحلفائها -وفي مقدمتهم بريطانيا- بالإرهاب، والتي لم تتجاوز حدود الدول الإسلامية، حيث شعر المسلمون بغضاضة بل بمرارة وقهر ضد كل ما هو غربي، كما توجس الغرب من كل ما هو إسلامي، وأصبحوا يرمقونه من بعيد كعدو قريب لن تقوم حضارته إلا على أنقاض حضارتهم.
القضية معقدة وميدان البحث في هذه الإشكالية متعدد بين الديني والسياسي والتاريخي والاجتماعي، والمسلمون في الغرب في حيرة من أمر هويتهم، وراحوا يتساءلون: هل يختارون هوية على أخرى؟ أم أن هذا الصراع بين الهويات إنما جاء نتيجة لعدم إدراك واع بكنه هذه الهويات جميعا، وطبيعتها، وخصائصها.
وفي ثنايا هذه السطور نبحر في فكر الأستاذ "ديلور حسين" - باحث في المؤسسة الإسلامية بمدينة ليسستر، وأحد المهتمين بشئون المواطنة، والجاليات الإسلامية في أوروبا، والهوية - لنستكشف عمق الهوية الإسلامية، ومدى قبولها أو رفضها للهوية البريطانية.
محددات الهوية
ليس من سمة للمجتمعات الحديثة أبرز من الفردية، والهوية الذاتية، فالفرد يختار ما يأكله، وما يلبسه، وما يشاهده من برامج، وما يقرؤه من أفكار، لتشكل هذه الاختيارات نوع شخصيته، سواء عن وعي أو عن غير وعي، وعلى مستوى أعمق تتحدد ملامح هذه الشخصية باختيارات أخرى مثل الدين، والفلسفة، والمهنة، والعلاقات الاجتماعية، إلى غير ذلك من محددات رئيسية.
ولكن الفرد لا يعيش بمعزل عن المجتمع، ولا بمعزل عن الأحداث العالمية، خاصة في عصر العولمة، ويأتي الإعلام كمحدد آخر وهام للهوية، فالمادة الإعلامية لا يقتصر دورها على عرض ما يحدث في العالم، ولكنها بشكل ما تعمد إلى صياغة العالم بصورة تتناسب مع منطلقاتها، وأفكارها.
وتتعدد الهويات لدى الفرد الواحد، فالهوية كما يؤكد مايكل فوكولت ( Michel Foucault ) ليست كيانا يكمن داخل الفرد، ولكنها كيان يتولد بتفاعل الفرد مع ما حوله، وتتعدد الهوية بتعدد المواقف الاجتماعية، فالفرد في وقت واحد أب، وابن، وزوج، وموظف، وصديق، ورياضي... إلى غير ذلك.
التعددية الثقافية.. ومفهوم البريطانية
استقبلت الأراضي البريطانية في الستينيات، والسبعينيات أعدادا غير مسبوقة من المهاجرين، جاءت على أثر دعوة هجرة القوة العاملة من دول الكومنولث (Commonwealth Countries) إلى بريطانيا، ورغم أن هؤلاء المهاجرين كانوا رعايا بريطانيين بشكل أو بآخر، فإنها كانت المرة الأولى في التاريخ الحديث التي تستقبل فيها بريطانيا هذه الجموع من أعراق، وأجناس مغايرة ليعيشوا على أرضها.
ولأن أوروبا كانت قد عاشت مرارة تجربة فاشية فاشلة، ولما كان الناس هناك غير مستعدين لتكرار التجربة وتفضيل إنسان على إنسان لأسباب عنصرية، كان لابد أن يحدث تغيير في مفهوم "البريطانية"، الأمر الذي أدى إلى جدل كبير على مستويات عدة.
ففي عام 1968 ألقى السياسي والأديب البريطاني الشهير إينوك بول (Enoch Powell) خطابا اتهم فيه بريطانيا بأنها "... أمة مجنونة، مجنونة بالمعنى الحرفي للكلمة؛ لأنها تسمح بهذا التدفق السنوي الهائل لحوالي 50.000 مهاجر بدون عمل، والذين سيشكلون الأساس لأعداد متزايدة في المستقبل من التعداد السكاني للمهاجرين".
وتابع بول في خطابه: "إن الأمر يبدو كأننا نشاهد أمة منهمكة في إعداد محرقتها الجنائزية... لأنني أنظر إلى المستقبل، فأنا متشائم للغاية؛ ولأني واحد من أبناء الحضارة الرومانية فالأمر يبدو لي كأن نهر التايبر يرغو بالدماء".(1 )
وإذا كانت خطبة "أنهار الدم" لبول تبدو غير مقبولة الآن، فإنها عبرت عن مشاعر أوروبا في وقت ما، وهو الأمر الذي أكدته استطلاعات الرأي في ذلك الوقت التي أشارت إلى أن 75% من الناس مؤيدون لبول(2 )، حيث كان الخطاب السياسي في ذلك الوقت يعزف هذه النغمة، ويبدو أنها تطرب لها آذان الناس، بل في عام 1964 -أي قبل خطاب بول بأربع سنوات فقط- فاز مرشح حزب المحافظين في سميث وك ( Smith wick ) والذي كان شعاره "إذا أردت أن يكون لك جار زنجي فأعط صوتك لحزب العمال".
لا اندماج بلا فصل
ولكن لم يلبث هذا الخطاب طويلا، ولم يعد هذا الخطاب العنصري مقبولا لدى الأوساط السياسية، أو حتى لدى العامة، ولاحت في الأفق نقلة نوعية تحاول أن تجمع بين "الفصل" من جانب، و"الاندماج" من الجانب الآخر، أو كما يقول السياسي العمالي روي هاترسلي ( Roy Hattersley ): "بدون فصل، يصبح الاندماج مستحيلا، وبدون اندماج يغدو الفصل غير مبرر". (3 ).
وتكامل النقيضان حتى صارا القدمين اللذين يتحرك عليهما الكيان الاجتماعي السوي، ويؤكد هاترسلي في السياق نفسه أن قوانين الحد من الهجرة، أصبحت وثيقة الصلة بالقوانين التي تجرم التمييز العنصري، والتشريعات التي تعمل على خلق مكان "للسود" في المجتمع البريطاني، ويمضي روي جنكينز ( Roy Jenkins ) بالقضية خطوة أخرى إلى الأمام، حيث يؤكد أن التعددية الثقافية في بريطانيا ليست دربا من المماثلة "... ولكن تنوع ثقافي يسايره فرص متساوية في مناخ من التسامح المتبادل". (4 )
الهوية الإسلامية البريطانية
وللتعرف على ماهية الهوية البريطانية الإسلامية يقتضي أولا التعرف على الهوية الإسلامية ومكوناتها، فهناك ثلاثة مكونات رئيسية لهذه الهوية، وهي: الذات، والإقليم، والمجتمع.
والذات في الإسلام تقوم على حقيقة أساسية هي التوحيد، والتي ينبثق عنها جميع الحقائق الكبرى الأخرى في حياة المسلم، والتي تصبغ طريقته في الحياة.
أما عن الإقليم، فمن المعروف أن المجتمعات الإسلامية التقليدية لم تقم في الأساس على مفهوم الوطن القومي الذي تعيشه اليوم، والذي انتقل إليها من الفكر الأوروبي، بل كان شائعا في المجتمعات المسلمة قبل ظهور الفكر القومي أن يتعايش أناس ذوو أعراق، وأصول مختلفة، ومن خلفيات جغرافية، وثقافية، بل لغوية متباينة، ولا يزال الخلاف دائرا حتى يومنا هذا على مدى شرعية الوطن القومي في الإسلام.
وفي البدايات الأولى للمجتمعات المسلمة، حرص الفقهاء على استخدام مصطلحات "جيوسياسية" للتعريف بالوضع الشرعي للمسلمين الذين يعيشون داخل وخارج أقاليم إسلامية، فقسموا العالم إلى قسمين رئيسيين لا ثالث لهما، هما: "دار الإسلام"، و"دار الحرب" (هذا التقسيم الذي أطلق عليه الدكتور طارق رمضان الرؤية الثنائية للعالم) (5 ): عالم الإسلام، وعالم الآخر.
وكان لهذا التقسيم الثنائي تأثير مهم ومباشر في الحالة الإسلامية، حيث كرهت معظم المدارس الفقهية انتقال المسلمين للعيش في دار الحرب (والتي كان من أسمائها أيضا: دار الكفر، ودار العهد، ودار الأمن، ودار الصلح)، ولم تجزها إلا في حالات خاصة كالتجارة، وطلب العلم، والدعوة... إلخ.
وأثيرت قضايا عدة مرتبطة بهذا التصور الثنائي للعالم، فمثلا إذا كان المسلم يعيش في مجتمع غير إسلامي، فما مسئولياته تجاه هذا المجتمع؟ وما مسئولياته تجاه الشريعة الإسلامية؟ وإذا تحول واحد من غير المسلمين إلى الإسلام، فهل يلزمه الهجرة إلى دار الإسلام؟
واختلف الفقهاء كثيرا في الإجابة عن هذه الأسئلة، فالإمام أبو حنيفة يرى أن العيش في غير بلاد المسلمين مكروه، والإمام مالك بن أنس يحرمه، بينما يرى أبو الحسن الماوردي، أنه ما دام المسلم يستطيع أن يمارس دينه في أرض غير إسلامية فإن هذه الأرض تعتبر جزءا من دار الإسلام، ويذهب جعفر الصادق أبعد من ذلك فيرى أن العيش في أقاليم غير إسلامية يكون أحيانا أفضل للمسلم من العيش في أقاليم إسلامية!!.
تقسيم غير مبرر
مما سبق يتضح أن هناك معايير محددة لما يمكن أن نطلق عليه دار الإسلام، مثل الأمن، والعدل، وحرية العبادة، وتجنب الفساد. ولكن أليس من حق واقعنا المعاصر أن يثير قضاياه في نفس الشأن، حيث يضطر بعض المسلمين إلى الهجرة من "دار الإسلام" إلى "دار الحرب" فرارا بأمنهم، وحرياتهم، والتماسا لعدالة فقدوها في "دار الإسلام"، ثم هل تصلح أن تستمر هذه الرؤية الثنائية القديمة للعالم في عصر العولمة الذي تلاشت فيه الكثير من الحدود؟ وأخيرا.. أين يوجد هذا الكيان الذي يمكن أن نشير إليه باطمئنان، على أنه دار الإسلام، في مقابل دار أخرى للحرب؟
إن كثيرا من علماء الإسلام المعاصرين، وعلى رأسهم فتحي عثمان، ويوسف القرضاوي، وفيصل مولوي، يؤكدون أن هذا التقسيم جاء من باب الاجتهاد، وليس له أصل في القرآن أو السنة، وأن الثابت في القرآن هو أن "لله المشرق والمغرب"(6 ).
وعليه فإذا كان هذا التقسيم الثنائي للعالم كان له ما يبرره في زمن ما، فهو بكل الأحوال ليس لهذا الزمان.
أما المحدد الثالث، والأخير للهوية الإسلامية، فهو المجتمع الذي يعيش فيه الفرد المسلم بكل من فيه من مسلمين، وغير مسلمين على السواء، فالقرآن الكريم يؤكد أنه بعث إلى غير المسلمين "أخاهم" (7 ) الرسول، وكان هذا الرسول ينادى هؤلاء "الكفار" بلفظ "قومي".
إن مسائل الكفر والإسلام ليست عائقا للأواصر الاجتماعية، وليست حائلا دون الوشائج الإنسانية، فالعلاقات بين أبناء المجتمع الواحد واقع لا يسعى الدين لتغييره، ويمضي القرآن بالعلاقات الإنسانية إلى مدارج أكمل، فالتعددية الثقافية، والاختلافات العرقية عوامل بناء، وليست معاول هدم، نحو مجتمع أكثر تماسكا.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.(8 )
الوحدة لا تنفي الانفتاح
ولكن تظل فكرة الانتماء إلى مجتمع ديني قائمة، وهي ما يعبر عنه الفكر الإسلامي بالأمة. إن من خصائص هذه الفكرة أن تعبر بالعلاقات الإنسانية حدود العرق، واللغة والثقافة؛ لينصهر المسلمون في بوتقة واحدة ورابطة واحدة لا تتعارض بحال مع غيرها من الروابط.
إن مفهوم الأمة لا ينفي العلاقات الأخرى، ولا ينكر حقوق هذه العلاقات، ولعل في سيرة الرسول، وأصحابه ما يحقق هذه الافتراضية.
فالرسول الذي ينهى عن التشبه بالكفار يقصر هذا النهى على الأمور الدينية، أما ما يتعلق بالشئون الأخرى كالتجارة، وغيرها من التفاعلات الاجتماعية فتقع بمسافة خارج دائرة النهي، ويؤكد القرآن الكريم هذا في قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ} (9 ).
فالإسلام يجتث العزلة الاجتماعية من جذورها، ويفعّل التعايش والترابط بين أبناء المجتمع الواحد، وإن اختلفوا في الدين، فكان بلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي من كبار صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورد الرسول عن سلمان –وذلك عندما عيّره أحد الصحابة العرب بأنه ليس من العرب- بأن سلمان من أهل البيت.
ويؤكد الرسول أنه لا فضل لعربي على أعجمي، وبعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم خرج الصحابة من حدود الجزيرة العربية بدعوة الإسلام، وليس بدعوة "قرشية" أو "عربية"، والتنوع الثقافي اللامحدود الذي نراه رأي العين حتى يومنا هذا من المغرب إلى ماليزيا لدليل بين على احترام الإسلام للتعددية.
إن الأمثلة على ذلك كثيرة، ولكن النتيجة الواحدة التي تنطق بها هذه الأمثلة أن الإسلام يكاد لا يكون ثقافة في حد ذاته، بل إطارا كبيرا تتعدد داخله الثقافات.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقر مبدأ التعددية الثقافية قبل أربعة عشر قرنا خلت، وسار أصحابه من بعده على نفس الدرب، والمسلمون اليوم في أمس الحاجة إلى أن ينقبوا عن هذه التعددية في تاريخهم، بدلا من أن يرفضوها في واقعهم، وينكروها على أنفسهم، وغيرهم.
بريطانيا.. الوطن
هل البريطانيون وحدهم هم الذين يرفضون المسلمين كمواطنين في الوطن البريطاني أم أن هناك مسلمين يرفضون بريطانيا كوطن، وكهوية؟ الحقيقة أن مشاكل الاندماج لا تقبع دائما هناك في الجانب البريطاني، فهناك من المسلمين من يرى عبثية هذا الاندماج، ولا يقبل بهوية إسلامية بريطانية.
أما عن مبررات الرفض، فيمكن إجمالها فيما يلي:
أولا: أسباب دينية:
1- بريطانيا دار كفر، أو دار حرب، وليست دار إسلام.
2- على المسلم أن يهاجر إلى دولة الإسلام بمجرد قيامها.. وعلى ذلك فالإقامة في بريطانيا إقامة مؤقتة.
3- هناك تناقض واضح بين الشريعة الإسلامية، والقانون البريطاني.
4- السلوكيات غير الأخلاقية التي توجد في المجتمع البريطاني.
ثانيا: أسباب اجتماعية سياسية:
1- العدوان البريطاني ضد الدول الإسلامية في الماضي والحاضر.
2- الضرائب التي يسددها المسلمون في بريطانيا تستخدم في العدوان على دول إسلامية.
3- صراع الولاءات (مثلما يحدث في المواقف العسكرية).
4- المسلمون لن يقبلوا كبريطانيين بأي حال، كما أنهم يعاملون في بريطانيا بشكل غير لائق.
تبريرات واهية
وقبل مناقشة هذه الأسباب -أو التبريرات- لابد من الإشارة إلى أن أصحابها هم الذين اختاروا بريطانيا كوطن يعيشون فيه، ويحتمون في نظامه، بل يتلقون منه إعانات مادية في بعض الحالات.
ولنبدأ من حيث إن بريطانيا دار كفر، وليست دار الإسلام، وكما ذكرنا آنفا أن هذه المصطلحات كانت محض اجتهاد أئمة في زمن غير زماننا، وليست تشريعا قرآنيا يلزم المسلمون في كل عصر، ومصر.
وفي عصر العولمة يكون هذا التقسيم غير قابل للتطبيق، خاصة أن من المسلمين من يفرون من "دولهم الإسلامية" إلى دول "غير إسلامية" يلتمسون فيها الأمن، ويجدون فيها حرية ورحابة لممارسة دينهم، بل الدفاع عنه.
أما عن فكرة الهجرة إلى دولة الإسلام قياسا على هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة فهو دليل مردود، فالحديث الشريف يؤكد أنه "لا هجرة بعد الفتح"(10 )، كما أن عدد المسلمين في ذلك الوقت كان يسمح بهذه الهجرة.. أليس الأحرى بالمسلمين اليوم أن يلزموا أوطانهم، ويبنوا مستقبلهم، ويسهموا في بناء مجتمعاتهم؟
أما عن التناقض بين الشريعتين الإسلامية، والبريطانية، فليس من دولة في العالم اليوم تطبق شريعة الإسلام، بل ذهب كثير من العلماء إلى أن المقاصد العامة للشريعة تكاد تكون أكثر تحققا في دولة كبريطانيا عنها في الدول التي يطلق عليها دولا إسلامية، كما أن وجود المسلمين في هذه المجتمعات يعد نوعا من العقود تجاه تقاليد وقوانين هذه المجتمعات يلزم على المسلمين الوفاء بها.
وتبقى مسألة الممارسات السلوكية غير الأخلاقية في المجتمع البريطاني، وكأن الذي يزعم ذلك يرى المدينة الأفلاطونية الفاضلة قد أصبحت واقعا على رءوس الأشهاد في المجتمعات الإسلامية حتى صارت هذه المجتمعات بلا أخطاء أو خطايا.
كما أن الرسل عليهم السلام لم يرسلوا إلى مجتمعات مثالية (يوتوبية)، بل مجتمعات فيها ما فيها من الضلالات والمفاسد، والنبي صلى الله عليه وسلم أكد حبه لمكة في الوقت الذي كانت تعج فيه بعبادة الأوثان، ولم يتبرأ صلى الله عليه وسلم من عروبته رغم ما كان منتشرا عند العرب من مفاسد مثل وأد البنات وشرب الخمر، بل أخذ على عاتقه عبء تغيير ما في المجتمع من ضلالات، ودعم ما فيه من فضائل.
أما فيما يخص العداء التاريخي لبريطانيا وسياساتها الخارجية حتى اليوم ضد الدول الإسلامية، فالأمر أشبه بعداء العرب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولظلم قريش لأبناء جلدتهم ممن اعتنقوا الإسلام، بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتبرأ من عروبته، وصحابته لم يتنكروا لقرشيتهم، كما أن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن بعضا من الدول الإسلامية تكون شريكا في هذه الاعتداءات، فهل تبرأ العراقيون من عراقيتهم لاعتداء بلادهم على الكويت؟ أو تنصل الباكستانيون من جنسيتهم؛ لأن حكومتهم ساعدت في الحرب على أفغانستان؟.
وينطبق هذا أيضا على الضرائب التي يسددها المسلمون في بريطانيا، وغيرها.أما عن صراع الولاءات، فالإسلام إن كان يدعو إلى الانتماء القومي، فهو ينبذ بنفس القدر العصبية الجاهلية، وبمعنى آخر فإن العدل هو المقياس الوحيد الذي يقره الإسلام في حالات الصراع، فالقرآن الكريم يؤكد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (11 ).
والمسلم ينصر المظلوم برد الظلم عنه، وينصر الظالم برده عن مظلمته، فالعدل المتجرد من أي عصبية هو وحده المنوط بأن يحدد وجهة ولاء المسلمين عندما تتصارع هذه الولاءات، وليس العصبية لدين أو قومية، فالمسلم يقف ضد دولة إسلامية ظالمة مع دولة غير إسلامية مظلومة، والعكس صحيح.
أما في حالة الحرب، فالمسلمون في الغرب لهم وضعية شرعية يقرها القرآن الكريم بوضوح لا غبش فيه: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 12 ).
وهذا ما أكده عمليا الشيخ عبد الله الجديع (13 ) في فتواه للمسلمين البريطانيين الذي أرادوا الذهاب إلى أفغانستان ليقاتلوا مع الطالبان (الذين يحملون نفس الهوية الدينية) ضد البريطانيين (الذين يحملون نفس الهوية القومية)، حيث أكد أن الهوية القومية، أو المواطنة هي ميثاق وقعه المسلمون في بريطانيا مع الحكومة البريطانية، ومن ثم فلا يجوز لهم حمل السلاح، والقتال ضدها، كما أنه ليس هناك ما يلزم المسلمين البريطانيين الذهاب للقتال مع الأفغان؛ حيث إن المصدر الشرعي لهذا الإلزام -كالبيعة أو حاكم مسلم تجب طاعته- غير موجود.
الأوروبيون وتحديات الاندماج
ويبقى أن المسلم غير مقبول كمواطن بريطاني، ومن ثم فهو لا يشعر بالانتماء. إن هذا الأمر يناقش اليوم في أروقة السياسة على نحو واسع، وبشكل مكثف، فعدم الاندماج في المجتمع، والشعور بالغربة على أرض الوطن، سواء بسبب الممارسات العنصرية اليومية، أو بسبب الخطاب اليميني المتطرف، أو غير ذلك يضر أول ما يضر بالوطن.
الاندماج هو الدواء لكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية في بريطانيا خاصة، وأوروبا عامة، ولكن يبقى على المسلمين أن يكونوا أنفسهم إيجابيين في هذا الحوار السياسي، وفي ذلك الجدل الاجتماعي.
لقد استطاع الآسيويون أن يجعلوا الكاري الطبق الأكثر شعبية في المملكة المتحدة، والبريطانيون اليوم أكثر تقبلا، بل سعادة بالتعددية الثقافية على أرضهم، وإن رياح الاندماج تهب يوما بعد يوم لتحرك مياه العزلة الآسنة، فمدينة ليسستر (Leicester) التي نشرت الإعلانات على صفحات الجرائد في السبعينيات تطالب بعدم مجيء الآسيويين الذين طردهم عيدي أمين ( Idi Amin ) إليها، تنال مكانة مرموقة في عام 2003؛ بسبب ما تتمتع به من تماسك اجتماعي، ويعدونها في بريطانيا نموذجا يحتذى لمدينة متعددة الثقافات والأديان.ويبقى على المسلمين السعي الدءوب من أجل إثبات الوجود، والوقت جزء من العلاج.
--------------------------------------------------------------------------------
كاتب ومترجم مصري
1. انظر "هنسرد"، 23 أبريل 1968.
2. اقتباس في: ياسمين أليبهاي برون، من نظن أنفسنا؟ تخيل لبريطانيا الجديدة، لندن، بنجوين، 2001.
3. كنان مالك، أزمة التعددية الثقافية، في http://www.spiked_online.com/articles/00000002D35E.htm. 18 ديسمبر 2001.
4. روى جيكينز، مقالات وخطب، 1976. اقتباس في: لويس، فيليب، بريطانيا الإسلامية: الدين والسياسة والهوية لدى المسلمين البريطانيين، لندن، I.B. توريس، 1994، ص 3.
5. طارق رمضان، لتكون مسلما أوروبيا، ليسستر، المؤسسة الإسلامية، 1999.
6. قرآن، سورة البقرة، آية 115.
7. قرآن، سورة الأعرف، آية 65، 73، 85، سورة هود، آية 50، 61، 84.
8. قرآن، سورة الحجر، آية 13.
9. قرآن، سورة المائدة، آية 5.
10. حديث، صحيح البخاري.
11. قرآن، سورة النساء، آية 135.
12. قرآن، سورة الأنفال، آية 72.
13. الشيخ عبد الله الجديع عضو في المجلس الأوروبي للفتوى والبحث، وقد صدرت عنه هذه الفتوى في نوفمبر 2001، بعنوان " فتوى في حق المسلمين البريطانيين الذين يقاتلون في أفغانستان".
مدارك
28-04-2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.