أُعلن فجأة, وبلا سابق مقدمات -على الأقل بالنسبة إلى الإعلام- أن مؤتمراً لقادة التيار الصدري سيعقد في أنقرة, وسيحضر السيد مقتدى الصدر نفسه, في سياق زيارة رسمية يقوم بها إلى تركيا. ليس المؤتمر مفاجأة فحسب، وإنما أيضاً الزيارة الرسمية التي يقوم بها مقتدى الصدر لتركيا, بل إن الأشد مفاجأة أن تكون ثمة علاقة بهذه القوة بين التيار الصدري وزعيمه من جهة والحكومة التركية من جهة أخرى. البعض فسّر هذه العلاقة بأنها مؤسسة على الاتفاق حول موضوع كركوك, وهو تفسير قد يُلقي الضوء على بداية العلاقة, ولكن كيف نمت وتطورت إلى أن وصلت إلى حد القيام بزيارة رسمية, وعقد مؤتمر للتيار من جانب السيد مقتدى الصدر, كما إلى حد الاستقبال الرسمي للسيد من قبل رئيس الجمهورية عبدالله غل ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان, وعقد مؤتمر التيار في تركيا, فأمر له تاريخ قبل ذلك, ويتعدى بالتأكيد موضوع كركوك ليدخل في إطار الحوار, وربما التلاقي على بعض النقاط بين الطرفين حول مواجهة الوضع الراهن في العراق, والتطلع إلى الحل الدائم أو المستقبلي. وهنا يتكشف أن لتركيا دوراً نشطاً بالنسبة إلى العراق لا فيما يتعلق بالعلاقة الدبلوماسية فحسب، وإنما أيضاً بالعلاقة الداخلية ومن خلال قوى سياسية فاعلة ومؤثرة في المعادلة العراقية. صحيح أن عدداً من الزيارات وربما الاجتماعات قامت بها أطراف عراقية إلى تركيا, ولكنها لم تأخذ الطابع الرسمي الذي اتخذته زيارة السيد مقتدى الصدر, ولم تخرج إلى العلن كما خرجت الزيارة الأخيرة, والأهم أن امتداد العلاقة التركية في العراق إلى هذا المستوى من العلاقة بالتيار الصدري يؤشر إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي الكلي أو الجزئي, أو قبل ذلك أو في أثنائه. لا شك في أنه ما كان لتركيا أن تصل إلى هذا المستوى لولا الضعف الذي أنزلته المقاومة الباسلة بالاحتلال الأميركي، إلى جانب ما واجهه من ألوان الممانعات السياسية, فعقلية أميركا الانفرادية, أو الاستفرادية, ما كانت لتسمح بأي تدخل لو لم تصل من الضعف إلى الحد الذي وصلته الآن, والدليل ضغوطها في السابق على عدد من الدول العربية لمنعها من التدخل حتى في حدوده الدنيا. على أن المحصلة تقول إن تركيا أصبحت داخل العراق بما يتعدى مشكلتها مع الأكراد أو في موضوع كركوك, وهو ما يفترض أن يقوم تعاون تركي- إيراني- عربي مع الأطراف العراقية المختلفة للمساعدة على استعادة العراق لوحدته وهويته العربية والإسلامية واستقلاله ودوره فلسطينياً وعربياً وإسلامياً وعالماً ثالثياً. قد يعتبر البعض الدعوة لحوار عربي- تركي- إيراني حول العراق يمس باستقلاله وبحرية شعبه في الاختيار الحرّ, ويشجع على التدخل في الشأن الداخلي, هو اعتبار مقدر ومعتبر، بل ما كان ليخرج هذا الاقتراح إلى النور لولا الانقسامات الداخلية التي استشرت فيما بين مكونات الشعب العراقي بسبب الاحتلال وتفكيك الدولة والجيش, ودستور المحاصصة الطائفية, بما فتح الباب لمختلف التدخلات الدولية والإقليمية, وحتى الصهيونية الإسرائيلية تحت مظلة الاحتلال الأميركي. إن الاتفاق على تعاون تركي- إيراني- عربي يمكن أن يكون مساعداً على تحييد التدخلات الخارجية، وعلى تشجيع المصالحة الداخلية واستعادة العراق لاستقلاله ووحدته وعودة هويته العربية، باعتباره جزءاً من الأمة العربية، بل في المقدمة المساعدة على إغلاق الباب أمام المناورات الأميركية لإبقاء قوات احتلال أو قواعد عسكرية أميركية بعد إعلان الانسحاب بعد سنتين. ما زال الهدف الأول في العراق هو مقاومة الاحتلال الأميركي ودفعه إلى الانسحاب بلا قيد أو شرط, وبلا مغانم تمس ثروات العراق، فالاحتلال الأميركي هو السبب الأول في كل ما حل بالعراق من دماء وخراب وانقسامات, وما حدث من تقتيل وتهجير وضحايا بالملايين, وهو السبب في إثارة أسباب الفتن الداخلية، وما عرف بمشروع الفيدراليات على أسس إثنية وطائفية وجهوية. هذا، وما زال يعيش على هذه السياسات, ولا يظن أحد أن سياساته في عهد أوباما ستختلف من هذه الزاوية عن سياسات إدارة بوش، وإن اختلف في مدى الاستعداد لتحمل البقاء مع الخسائر التي ألحقتها وتلحقها المقاومة والرفض الشعبي لوجوده. إن خروج الاحتلال التام والناجز هو شرط تعافي العراق وحل مشكلاته وهو ما يجب أن يساعد عليه الرأي العام العربي والإسلامي، وكذلك ما يجب أن يقوم به تعاون تركي- إيراني- عربي. وبسرعة, وعوداً إلى زيارة السيد مقتدى الصدر إلى تركيا وعقد مؤتمر تياره في تركيا, فإن المأمول بداية أن يحقق التيار ما يصبو إليه في هذا المؤتمر من تعزيز لوحدته وتحديد لخطه السياسي, ومواصلة مقاومته للاحتلال الأميركي, مع نصيحته بضرورة إعادة النظر في موضوع «اجتثاث البعث»، لأن ذلك سيظل معوّقاً رئيسياً في وجه وحدة الشعب العراقي ودحره للاحتلال الأميركي، والأهم كفى الشعب العراقي نظراً إلى الماضي قبل الاحتلال وحتى بعد الاحتلال من أجل التركيز على الراهن والمستقبل, بل كفاه بحثاً عما يقسّم ويمزّق فيما مستقبل العراق المشرق أمامه وبين يديه. أما من الجهة الأخرى فإن على عدد من الأطراف العراقية ولاسيما السنية منها أن تعيد النظر في تقويم التيار الصدري ودوره الكبير في رفض الاحتلال، وفي إعادة وحدة العراق واستعادة استقلاله وعروبته وهويته الإسلامية بعيداً عن التداعيات التي ولدتها الفتن الطائفية من تهجير وقتل على الهوية, بل نقدها ودفنها من أجل العودة إلى أصالة الشعب العراقي العظيم بالتآخي السني- الشيعي- والعربي- الكردي، والتآخي، فيما بين كل مكونات العراق الدينية والمذهبية والإثنية الأخرى. ومرة أخرى، يؤمل في مؤتمر التيار الصدري بقيادة السيد مقتدى الصدر أن يخرج علينا وعلى الشعب العراقي بمبادرات لإعادة اللحمة إلى هذا التآخي وتصعيد المقاومة والممانعة ضد الاحتلال. العرب 2009-05-05