قليبية: الكشف عن مقترفي سلسلة سرقات دراجات نارية    بطاقة جلب في حق سنية الدهماني    صولة ماء الصوناد ذو جودة    بطاقة جلب في حق سنية الدهماني    عميد المحامين: نتعرّض للتحريض من قبل هؤلاء ما أدى لمحاولة قتل محام    رادس: إيقاف شخصين يروجان المخدرات بالوسط المدرسي    اليوم: فتح باب التسجيل عن بعد بالسنة الأولى من التعليم الأساسي    الرابطة الأولى: تشكيلة الإتحاد المنستيري في مواجهة النادي الإفريقي    بقيمة 7 ملايين دينار: شركة النقل بصفاقس تتسلم 10 حافلات جديدة    قبلي: تواصل تسرب المياه من البئر الجوفية الحارة بمنطقة بشري    عاجل/ غلاء أسعار الأضاحي: مفتي الجمهورية يحسمها    رئيس منظمة إرشاد المستهلك: أسعار لحوم الضأن لدى القصابين خيالية    بلطة بوعوان: العثور على طفل ال 17 سنة مشنوقا    كأس تونس: تغيير موعد مواجهة مباراة نادي محيط قرقنة ومستقبل المرسى    الادارة العامة للغابات ضبطت عشرات النقاط السوداء للحرائق    التضخم يواصل التباطؤ وسط تحديات السياسة النقدية    وزير السياحة يؤكد أهمية إعادة هيكلة مدارس التكوين في تطوير تنافسية تونس وتحسين الخدمات السياحية    الأمطار الأخيرة أثرها ضعيف على السدود ..رئيس قسم المياه يوضح    الرابطة الأولى: برنامج مواجهات اليوم لمرحلتي التتويج وتفادي النزول    مقتل 10 أشخاص وإصابة 396 آخرين خلال ال24 ساعة الماضية    عاجل/حادثة اعتداء أم على طفليها وإحالتهما على الانعاش: معطيات جديدة وصادمة..    نرمين صفر تتّهم هيفاء وهبي بتقليدها    لهذه الأسباب تم سحب لقاح أسترازينيكا.. التفاصيل    61 حالة وفاة بسبب الحرارة الشديدة في تايلاند    دائرة الاتهام ترفض الإفراج عن محمد بوغلاب    نادي ليفربول ينظم حفل وداع للمدرب الألماني يورغن كلوب    الكشف عن توقيت مباراة أنس جابر و صوفيا كينين…برنامج النّقل التلفزي    بسبب خلاف مع زوجته.. فرنسي يصيب شرطيين بجروح خطيرة    إتحاد الفلاحة : '' ندعو إلى عدم توريد الأضاحي و هكذا سيكون سعرها ..''    منبر الجمعة .. الفرق بين الفجور والفسق والمعصية    خطبة الجمعة .. لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما... الرشوة وأضرارها الاقتصادية والاجتماعية !    اسألوني ..يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    أنس جابر في دورة روما الدولية للتنس : من هي منافستها ...متى و أين ؟    بلاغ هام للنادي الافريقي..#خبر_عاجل    مدنين.. مشاريع لانتاج الطاقة    بلا كهرباء ولا ماء، ديون متراكمة وتشريعات مفقودة .. مراكز الفنون الدرامية والركحية تستغيث    أحمد العوضي عن عودته لياسمين عبدالعزيز: "رجوعنا أمر خاص جداً"    شركات تونسية وأجنبية حاضرة بقوة وروسيا في الموعد...صالون الفلاحة والصناعات الغذائية بصفاقس يصنع الحدث    قوات الاحتلال تمنع دخول 400 شاحنة مساعدات إلى قطاع غزة..#خبر_عاجل    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين على سفينة في خليج عدن عبر زورق مسلحين    عاجل/ مفتي الجمهورية يحسم الجدل بخصوص شراء أضحية العيد في ظل ارتفاع الأسعار..    أضحية العيد: مُفتي الجمهورية يحسم الجدل    ولي يتهجم على أعضاء مجلس التأديب بإعدادية سهلول...القضاء يتدخل    ممثلة الافلام الاباحية ستورمي دانيلز تتحدث عن علاقتها بترامب    المغرب: رجل يستيقظ ويخرج من التابوت قبل دفنه    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    اليوم: تصويت مرتقب في الأمم المتحدة بشأن عضوية فلسطين    دراسة: المبالغة بتناول الملح يزيد خطر الإصابة بسرطان المعدة    بنزرت.. الاحتفاظ بثلاثة اشخاص وإحالة طفلين بتهمة التدليس    نبات الخزامى فوائده وأضراره    أولا وأخيرا...شباك خالية    قابس : الملتقى الدولي موسى الجمني للتراث الجبلي يومي 11 و12 ماي بالمركب الشبابي بشنني    اللغة العربية معرضة للانقراض….    تظاهرة ثقافية في جبنيانة تحت عنوان "تراثنا رؤية تتطور...تشريعات تواكب"    سلالة "كوفيد" جديدة "يصعب إيقافها" تثير المخاوف    سابقة.. محكمة مغربية تقضي بتعويض سيدة في قضية "مضاعفات لقاح كورونا"    سليانة: تنظيم الملتقى الجهوي للسينما والصورة والفنون التشكيلية بمشاركة 200 تلميذ وتلميذة    الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج – كلاسيكو الجولة السابعة) : الترجي للابتعاد بالصدارة والنجم لاعادة توزيع الاوراق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نعم.. الإصلاح الديمقراطي ممكن مغربي
نشر في الفجر نيوز يوم 06 - 05 - 2009

أمين عام حزب الأمة أحد المعتقلين السياسيين ضمن ما يعرف بخلية بلير
بسم الله الرحمن الرحيم
الفهرس
مقدمة

المحور الأول : في مرجعية المقال
1. في معنى الدستور الديمقراطي والانتخابات الديمقراطية :
2. في معنى التحول الديمقراطي:

المحور الثاني: مسيرة الإصلاح الديمقراطي بالمغرب، فرص ضائعة وخلاصات
1. في منهج النظر إلى التاريخ:
2. شيء من التاريخ وفرص ضائعة:
3. خلاصات :

المحور الثالث: إضاءات من وحي التجارب الإنسانية في بناء الديمقراطية

المحور الرابع : من أجل إنجاز واستكمال مقتضيات الإصلاح الديمقراطي بالمغرب، أفكار ومقترحات.
1. في مطلوب الإصلاح الديمقراطي
2. قضايا للمعالجة على طريق الإصلاح الديمقراطي بالمغرب:
3. في منهجية التعاطي مع سؤال الإصلاح الديمقراطي: أفكار من اجل النجاح
4. الإصلاح الديمقراطي بالمغرب: منهجية التوافق ومضامينه

مقدمة
يلاحظ كل متتبع ومسكون بهم الإصلاح الديمقراطي ببلادنا أن ثمة شيئا ما يحول دون تحققه ووصوله إلى مداه الطبيعي والمنطقي وهو نضج واكتمال اجتماعنا السياسي لأنه الشرط الضروري واللازم لدخول المغرب زمن السياسة بما هو زمن المعقولات والتدبير السلمي للاختلاف والتعبير عن الاحتياجات الملموسة والبحث في سبل الحلول الناجعة للتحديات المختلفة.

إن الإحساس هنا ليس مسألة انطباعية بل هناك في واقعنا الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي قرائن تؤيده.

من هذا المنطلق، جاءت فكرة هذا المقال: لماذا يتعثر الإصلاح الديمقراطي في المغرب؟ وردا على هذا السؤال تتعدد الآراء ووجهات النظر، فقائل لأن السلطة السياسة الحاكمة ببلادنا (أو قوى خفية فيها) غير مقتنعة به أو متخوفة على ضياع هيبتها ونفوذها أو أنها غير مستعدة لدفع مستحقات الإصلاح العملية؟ ورأي يرى أن الإصلاح يتعثر ببلادنا لأننا نحن المغاربة في نظره معاقون حضاريا وثقافيا، نرث تراثا لا يساعد على الجرأة في الإصلاح والدفع به نحو نهاياته الطبيعية أو بمعنى آخر ليست لنا أو لدينا الجاهزية الحضارية والثقافية لنشيد إصلاحنا المغربي ونرتقي في سلم الأمم والحضارات. ورأي يرى أن دفع مستحقات الإصلاح قد تؤدي إلى "استيلاء" قوى غير ديمقراطية على مقاليد الأمور وبالتالي يحصل ارتداد عن المسيرة الإصلاحية ومكتسباتها. ووجهة نظر أخرى ترى أن قدرنا المغربي هو الاستبداد والتخلف وبالتالي لا يستوي الإصلاح مع طبيعتنا هاته.

أما من حيث مسؤوليات التعثر فهناك من يرى أن السلطة السياسية الحاكمة هي وحدها من يتحمل المسؤولية فيما يرى آخرون أن القوى السياسية والفعاليات الفكرية والعلمية ومنظمات المجتمع المدني مسؤولة أيضا؟.. أسئلة وأخرى ستكون مدار هذه المساهمة. والله ولي التوفيق.

وعليه، فإن أهداف هذا المقال تتمثل فيما يلي:

× المساهمة في إعادة النقاش السياسي المغربي من نقاش في الهامش أو الحلقات المفرغة إلى نقاش في صلب الموضوع : مستقبل الإصلاح الديمقراطي.
× المساهمة في فهم إشكاليات الإصلاح الديمقراطي ببلادنا وأسباب تعثره والبحث في سبله الممكنة، وهي موجودة بالتأكيد.. نحتاج فقط إلى إعمال العقل وإلى مزيد من الحوار الوطني الصادق لما فيه خير بلادنا وشعبنا.

وبهذا الخصوص، لابد من التأكيد هنا على أن أخطر ما يمكن أن يصيب أمة أو شعبا هو اليأس، فاليأس يعني نهاية القول والفعل، يعني نهاية التاريخ وموت الإرادة، وموت الإرادة يمنع من الارتباط بالمستقبل. إنه لا يجوز الاستسلام للواقع مهما كانت تحدياته، لأن المطلوب هو إصلاح الواقع والعمل على تغييره نحو الأفضل، فليست الواقعية هي الاستسلام للواقع وموازينه الفاسدة، بل هي فهم واستيعاب له بغرض تغييره وإصلاحه. ينبغي أن ندرك جميعا أننا شعب نمتلك من المقومات الحضارية والثقافية ما يجعلنا جاهزين للإصلاح والدفع به، ولدينا قابلية للتضحية والصبر وتحمل تكاليف الإصلاح.. ومن هذا الاعتبار اخترت العنوان التالي لهذا المقال: "نعم…الإصلاح الديمقراطي ممكن مغربي"..

ومن أجل بلوغ مرامي هذا المقال، سأتوقف في البداية عند الخلاصات التاريخية لمسار الإصلاح ببلادنا، وسأستحضر خلاصات تجارب إنسانية نجحت في انجاز الإصلاح لنحاول الاستفادة منها والاستلهام من خبرتها في فهم عوائق أومعيقات الإصلاح الديمقراطي وسبل تدبيرها.

صحيح أن التجارب تبقى ابنة شروطها التي أنتجتها، ولكن العاقل من يستفيد من تجارب غيره لأنه بذلك يضيف أعمارا إلى عمره. وسأخصص الجزء الأخير لبسط مقترحات وأفكار حول السبل القمينة بدفع المسيرة الإصلاحية وتأمينها. والله الموفق.

المحور الأول : في مرجعية المقال

لكي يكون النقاش أي نقاش سياسي مفيدا ومثمرا وذا معنى، فإننا نحتاج إلى ميزان نزن به الأقوال والأفعال. وهذا الميزان هو ما أسميه بالمرجعية التي أصدر منها في تناولي لإشكالية الإصلاح الديمقراطي ببلادنا، والتي أحتكم إليها وأبني عليه نتائج واستنتاجات.
وقبل بسط مرجعية المقال، لا بد أن نحدد ابتداء مجال الإصلاح الديمقراطي وموضوعه حتى يتوحد استعمالنا التداولي للمصطلح. الإصلاح الديمقراطي لا يعني المجال السياسي فقط، بل يهم كل مجالات ونشاطات المجتمع والدولة ومن ذلك المجال الاقتصادي والاجتماعي. ثم إن الإصلاح الديمقراطي لا يعني مؤسسات الدولة فقط، بل يهم أيضا هيئات ومنظمات المجتمع المدني والسياسي. فكما أن للدولة مستحقات ديمقراطية، فللمجتمع المدني والسياسي أيضا مستحقاته الديمقراطية.

1. في معنى الدستور الديمقراطي والانتخابات الديمقراطية :

بداية، ليست الديمقراطية أن نمتلك نصا دستوريا بصرف النظر عن شكل بلورته وعنمضامينه. إن وجود نص أمر مهم، ولكنه غير كاف. وحتى وجود مضامين متقدمة غير كاف، إذ لا بد من وجود ضمانات ملموسة.
وليست الديمقراطية هي ارتفاععدد الأحزاب، ولكن تقاس التعددية، في المنظور الديمقراطي، بمدى الاعتراف بالحقوقوالحريات الأساسية، ومنها حرية التعبير والتنظيم و تكافؤ الفرص في ممارسة العملالسياسي.
وليست الديمقراطية أن يتم تنظيم انتخابات بصرف النظر عن استيفاء شروطها،لأن الديمقراطية تعني فيما تعنيه حكم الأغلبية التي تحظى بثقة شعبية واسعة مع حفظحقوق الأقلية والمعارضة على السواء، وبالنتيجة فإن معناها احترام الإرادة الشعبية.
ولا بد من التأكيد على أن تنظيم انتخابات من قبل نظام ما غير كاف لوصفهبأنه نظام ديمقراطي أو أنه يتجه إلى الديمقراطية. إذ لا بد من إقرار مجموعة منالحقوق والحريات الديمقراطية الأساسية وتمتيع المواطنين فعليا بها قبل إجراءالانتخابات لأن هذه " لا تسبق الديمقراطية ولا تنتج لا الديمقراطية ولا الحريات ولاالحقوق " على حد تعبير روبرت دال. ومن هنا، فإن تنظيم الانتخابات هو شرط ضروريولكنه غير كاف لوصف نظام الحكم الذي ينظمها بأنه ديمقراطي. هذه واحدة. ثانيا، لايمكن الحديث عن انتخابات ديمقراطية إلا بشرط وركنين: أما الشرط فهو استنادها إلىدستور ديمقراطي. أما الركنان فهما أن تكون انتخابات حرة أولا وأن تكون نزيهة ثانيا. فما المقصود بالدستور الديمقراطي؟ وما هي الانتخابات الحرة؟ وما هي الانتخاباتالنزيهة؟.
الدستور الديمقراطي هو الدستور الذي تتم صياغته بشكل تعاقدي (مبدأ الدولةالتعاقدية) على قاعدة الإقرار بالمبادئ الأساسية التالية وهي:
× ضمان الحقوقوالحريات الأساسية للمواطنين أي أن تصبح المواطنة مصدر الحقوق ومناط الواجبات(مبدأ الدولة الحقوقية)، إذ لا تقاس الديمقراطية بمدى إقرار الدستور للحقوق والحريات، بل تتحدد أساسا بوضع الضمانات الملموسة لحمايتها وصيانتها عمليا بما في ذلك تجريم ومعاقبة انتهاكها، ومن ذلك ضمانات ممارسة المعارضة بحيث يكفل لها الدستور والقانون حقوقها بنصوص صريحة لا تحتمل التأويل. ولهذا، يعبر ج. لوك عن مفهوم المعارضة ب"الحق في المقاومة" وهو المفهوم الذي أسس لمرحلة جديدة في مقاربة العلاقة بين الدولة والمجتمع.
× والسلطة للشعب يفوضها لمن يختاره عبر انتخابات حرة ونزيهة (مبدأ احترام الإرادة الشعبية)، أي ان يصبح الشعب منبع السلطات ومصدرها كما ذهب لذلك روسو.
× والاجتماع المدني (مبدأ لا صوت يعلو فوق صوتالقانون)، ولذلك اعتبر مونتسكيو أن "الاستبداد هو التصرف بخلاف القانون" لأن الحرية السياسية تتعرض للانتهاك كلما تم خرق مقتضيات القانون. ومن أهداف دولة القانون "حماية المواطنين ضد استبداد الدولة" على حد تعبير دومالبرغ. وهذا "تأكيد لسمو القانون على الإدارة على صعيد التطبيق والممارسة"، ولذلك فدولة القانون "ليست دولة محكومة بالقانون فحسب بل خاضعة له أيضا".
× ولا قداسة مع السلطة ( مبدأ لا سلطة بدون مسؤولية ولا مسؤولية بدونمحاسبة ).
× والفصل المتوازن بين السلط (مبدأ السلطة تحد السلطة)، قال مونتيسكو: "لكي لا نسيء استعمال السلطة يجب بحكم طبيعة الأشياء أن توقف السلطة السلطة"، وفصل السلطات هو أيضا ضروري لضمان وصيانة الحقوق والحريات، وهو يحقق التوازن المؤسساتي فيما يتعلق بقدرة البث وقدرة المنع، ولذلك اعتبر بأنه "أفضل تقنية لتحقيق التعايش والتكامل بين مؤسسات الدولة".
× واستقلالية السلطة القضائية وسموها عن السلطة التنفيذية (مبدأ دولة القانون)، والقانون هو وسيلة تقييد سلطة الدولة، ولا تستقيم دولة القانون إلا بضمانتين: رقابة القضاء ومراقبة دستورية القوانين. ولذلك قال غرفيتش "ليست الديمقراطية هي حكم العدد بل هي حكم القانون".
× والتداول السلميللسلطة (مبدأ التداولية). ولا تداول بدون متداولين (أي بدون حرية التعبير والتنظيم وبدون أحزاب حرة فاعلة)، ولا تداول بدون نزاهة (أي بدون انتخابات ديمقراطية لان تنظيم هذه الانتخابات هو جوهر التداول ومناطه)، و لا تداول بدون القدرة على تنفيذ الالتزامات البرنامجية التي حازت على ثقة الشعب.

أما الانتخابات الحرة فهي الانتخابات التي تنعقد فيها المقومات التالية وهي حريةالحصول على المعلومة وعلى المعرفة وولوج خدماتها، وحرية الإعلام، وحرية التعبير،وحرية الاجتماع بالإضافة إلى حرية التنظيم ومنها حرية تشكيل أحزاب سياسية مستقلةبلا تمييز أو إقصاء.
أما الانتخابات النزيهة فهي الانتخابات التي يتوافر فيها الحياد السياسيللقائمين أو للمشرفين على الانتخابات مع خضوع عملهم لنطاق المراجعة القضائية،والانتظام والدورية، وتسجيل الناخبين بشفافية وحياد (أي ضبط اللوائح الانتخابية)وتمكينهم من بطائقهم ومن حقهم في الاقتراع العام، ووجود نظام انتخابي (لا يغمطحقوق أحد من المكونات السياسية ويسمح بالفرز السياسي من جهة التقطيع الانتخابي ونمطالاقتراع )، وتكافؤ الفرص في التمويل والإعلام، وضمان سرية الاقتراع وتمكين مندوبيالأحزاب في مكاتب التصويت من محاضر الفرز فور الانتهاء منه وأخيرا سرعة الإعلان عنالنتائج الانتخابية النهائية. أما عدم الطعن في النتائج الانتخابية فهو وصف غيرمنضبط باعتباره قرارا سياسيا إراديا وذاتيا وبالتالي فهو لا يسبق النزاهة ولاينتجها وحكمه أنه يزيد من قيمة النزاهة حين تحققها.


2. في معنى التحول الديمقراطي:

تشير ثناء عبد الله في كتابها القيم "آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي" إلى أن النمط الديمقراطي يتضمن عناصر رئيسية وهي: "تعيين الحكام بالانتخاب الشامل ووجود برلمان يملك صلاحيات واسعة وتراتبية القواعد القانونية التي تضمن رقابة قضاة مستقلين للسلطات العامة". وذلك بهدف "منع السلطة السياسية من الاستحواذ على القوة الزائدة عن الحد… للحفاظ على حريات المواطنين". وتحدد جوهر الديمقراطية وروحها في النقاط التالية: "احترام حقوق الإنسان، التعددية السياسية وإمكان تداول السلطة شرعيا وسلميا". ويذهب الجابري نفس المذهب تقريبا حينما يحدد معنى الديمقراطية من المنظور الواقعي أثناء تناوله لإشكالية الانتقال الديمقراطي فيما يلي: "إنها نظام سياسي اجتماعي اقتصادي يقوم على ثلاثة أركان: حقوق الإنسان… المؤسسات… وتداول السلطة… على أساس حكم الأغلبية مع حفظ حقوق الأقلية".
أما "الحد الأدنى من الإجراءات التي يجب توفرها من أجل الديمقراطية السياسية الحديثة، فقد عرض روبرت دال أكثر قوائمها قبولا، وهي: أن ينص الدستور على تخويل المسؤولين المنتخبين حق مراقبة قرارات الحكومة الخاصة بالسياسات، أن يتم اختيار المسؤولين المنتخبين عن طريق انتخابات دورية تجري بنزاهة ولا يكون للقسر فيها دور كبير، لا بد أن يكون لكل البالغين الحق في التصويت لانتخابات المسؤولين في الحكومة، لا بد من أن يكون لكل البالغين الحق في الترشيح للمناصب التي يتم شغلها بالانتخابات في الحكومة، المواطنون لهم حق التعبير عن أنفسهم دون أن يكون هناك تهديد بفرض عقوبات شديدة على القضايا السياسية التي تم تعريفها على نطاق واسع، المواطنون لهم الحق في البحث عن مصادر بديلة للمعلومات ولا بد من أن تكون موجودة وتتمتع بحماية القانون، المواطنون لهم أيضا الحق في تشكيل اتحادات أو منظمات مستقلة نسبيا بما في ذلك الأحزاب السياسية ومجموعات المصالح"، وتضيف ثناء فؤاد شرطين آخرين إلى هذه الشروط السبعة وهما: "لا بد أن يكون المسؤولون المنتخبون قادرين على ممارسة سلطاتهم الدستورية… ولا بد أن تحكم الحكومة نفسها".
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن من العلامات البارزة على التحول الديمقراطي توافر العناصر التالية: ألا تكون نتائج العملية السياسية محددة سلفا وألا تعرف إلا بعد فرز الاصوات، وألا يكون بمقدور أية جهة تغيير نتائج العملية السياسية أو اجهاض لحظة التحول. إن التحول إلى الديمقراطية معناه تعرض كل المصالح للمنافسة وعلى حد تعبير أحدهم، فإن معناه "أن تتحول السلطة من مجموعة من الناس إلى مجموعة قواعد".
المحور الثاني: مسيرة الإصلاح الديمقراطي بالمغرب، فرص ضائعة وخلاصات

1. في منهج النظر إلى التاريخ:

إن قراءة ماضينا وتاريخنا ونحن بصدد بناء رؤية للمستقبل هي حاجة موضوعية بلا شك لأن نفيه لن يفيدنا في فهم ما يحصل لنا ولا يساعدنا على فهم الاسباب التي تكمن وراء اخفاقاتنا ولا على تحديد المسؤوليات على حد تعبير برهان غليون. وهذا جزء من الوعي الذي ينبغي تصحيحه. وأقدر أن هناك ميزانين في قراءة التاريخ قراءة سليمة: ميزان السياق أي رؤية الوقائع كما هي لا كما يحلو لنا، وميزان العدل في التمييز بين السياسيات الخاطئة والسياسات الايجابية.

2. شيء من التاريخ وفرص ضائعة:

لو أردنا القيام بتحقيب تاريخي إجمالي لمسيرة الإصلاح الديمقراطي ببلادنا، لقلنا إن هناك خمس مراحل كبرى في تاريخ المغرب الحديث:
× المرحلة الأولى، هي مرحلة النضال الوطني من أجل الاستقلال (ما قبل 1956)؛
× المرحلة الثانية ما بعد سنة 1956 إلى حدود 1975 (تاريخ تدشين السلطة الحاكمة "للمسلسل الديمقراطي")؛
× المرحلة الثالثة هي ما بعد سنة 1975 إلى حدود مرحلة التناوب 1998؛
× المرحلة الرابعة هي مرحلة ما بعد 1999 (أو تحديدا منذ تاريخ تنصيب الملك محمد السادس) إلى حدود انتخابات 07 شتنبر2007) ؛
× المرحلة الخامسة: هي ما بعد انتخابات 07 شتنبر 2007.

لقد تميزت المرحلة الأولى بالكفاح الوطني ضد الاستعمار، وقد أبلى الشعب المغربي ومقاومته الباسلة بلاء حسنا.. فكانت التضحيات غالية من دماء أبناء ورجال ونساء المغاربة. ولكن نتائج هذا الكفاح الوطني البطولي كانت دون التطلعات.. فالاستقلال الذي انتزعه المغاربة كان منقوصا سياسيا وترابيا: أما سياسيا فلأنه كان محكوما بسقف اتفاقات ايكس ليبان. أما ترابيا فلأنه لم يشمل كل الأراضي المغربية التي لا تزال بعض منها محتلة إلى يومنا هذا، والبعض الآخر(وأقصد الصحراء المغربية) لازال البعض ينازعنا فيه ولازال المغرب يكافح لترسيخ سيادته النهائية عليها. وهذه هي النتيجة الأولى..
أما النتيجة الثانية، فهي أن المقاومة الوطنية، بكافة فروعها وأجنحتها، لم تكن تملك تصورا لبناء دولة ما بعد الاستعمار الفرنسي.. وقد مثلت الفرصة التاريخية الضائعة الأولى لتدشين عهد الإصلاح الديمقراطي بالمغرب في زمن مبكر. وقد كانت المحصلة الطبيعية لفقدان تصور إصلاحي للدولة المغربية بعد جلاء الاستعمار المباشر هو دخول المغرب في دوامة المعركة على السلطة كانت نتائجها مكلفة على صعيدين: على صعيد الحقوق والحريات، حيث عاش المغرب أفظع فترات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وعلى صعيد التنمية، بحيث سيتخلف المغرب عن اللحاق بركب الدول النامية والمتطورة. ومع هذه المعركة على السلطة كانت خسارة المغرب الأولى وبداية التعثر في مسيرة الإصلاح المأمولة، لأنها ستميز مرحلة بكاملها (هي المرحلة الثانية).
ثم ستأتي المرحلة الثالثة انطلاقا من سنة 1975 بعد اقتناع متأخر لكل الأطراف السياسية بلا جدوائية المواجهة وتكلفتها السياسية والحقوقية والأمنية الباهظة لتعلن السلطة السياسية الحاكمة عن تدشين ما أسمته "المسلسل الديمقراطي" بتطبيع وترسيم وضعية عدد من الأحزاب الممنوعة أو المقموعة. وهنا أيضا، وبفعل الإنهاك الذي عرفته مرحلة المواجهة الشاملة بين الحكم وقوى المعارضة السياسية (مرحلة الستينيات وبداية مرحلة السبعينيات خاصة)، لم يكن "المسلسل الديمقراطي" سوى مشروع للسلطة السياسية الحاكمة باعتبارها "المنتصرة أمنيا" والمؤهلة بفعل ذلك، من وجهة نظرها، في وضع ملامح هذه المرحلة لوحدها خارج منطق التوافق أو التعاقد. وهذه فرصة ثانية ضائعة لأن هذا "المسلسل" المعلن عنه من قبل الحكم لم يتأسس على قواعد راسخة، وقد رأى بعض المهتمين والباحثين الاستراتيجيين بأن تدشين هذا "المسلسل" من قبل الحكم لم يكن في الحقيقة سوى محاولة للتخفيف من حدة التوتر السياسي بالمغرب ولم يكن في جوهره خطوة على طريق الإصلاح الديمقراطي.. لقد كان تكيفا ديمقراطيا ولم يكن تحولا ديمقراطيا. وهكذا عادت الانتخابات ولكن استمر التزوير و"فبركة" الخرائط الانتخابية.. ولم تتوقف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.. أما المؤسسات المنبثقة عن تلك الانتخابات غير النزيهة، فلم تكن تتمتع بأية مصداقية سياسية أو شعبية. أما القضاء فكان فاقدا لمقتضيات الاستقلالية والنزاهة والعدالة..
ومع بداية عقد التسعينيات من القرن الميلادي الماضي وبسبب التكلفة السياسية الباهظة للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وللإرادة الشعبية، وخاصة على الصعيد الدولي (صدور تقارير دولية حول حقوق الإنسان تنتقد السلطة السياسية الحاكمة بالمغرب على انتهاكاتها وتجاوزاتها)، ونظرا لتفاقم الشروط الاجتماعية والاقتصادية كانعكاس طبيعي لتداعيات سياسة التقويم الهيكلي وما آل إليه من احتداد التوتر السياسي والاجتماعي بين السلطة السياسية والقوى المعارضة، أقدم الحكم على جملة من الإجراءات ذات الطبيعة السياسية والحقوقية كان من أبرزها إطلاق سراح جزء مهم من المعتقلين السياسيين والنقابيين ومعتقلي الرأي وتدشين إصلاح دستوري، ودعوة المعارضة إلى المشاركة في الحكم..
ولئن لقي الانفراج السياسي والحقوقي ارتياحا في أوساط القوى السياسية الوطنية والديمقراطية، فقد تحفظت هذه الأخيرة على التعديلات الدستورية لأنها لم تكن بنظرها في مستوى الانتظارات من جهة، فيما وضعت بعض الضوابط لكي تشارك في الحكم من جهة أخرى..
وفي سنة 1996، ستقدم السلطة السياسية الحاكمة على تعديل دستوري جديد.. وفي زمن قياسي (أي أربع سنوات عن تعديل 1992) في محاولة جديدة منها لإقناع المعارضة بالمشاركة في الحكومة. وفي سنة 1998، سيتم إطلاق ما تبقى من معتقلين سياسيين استثني منها معتقلو جماعة العدل والإحسان وبعض المعتقلين السياسيين ممن كان يعرف حينها بمجموعة 71.
وفي ظل هذه الأجواء العامة، تم تشكيل حكومة التناوب.. وهذه مثلت المرحلة الرابعة .. وقد كانت لحظة تاريخية هامة لأن القوى الوطنية المعارضة ستشكل الحكومة ولأول مرة منذ حكومة عبد الله إبراهيم في سنة 1959. كان من المنتظر أن تشكل لحظة مفصلية في الدفع بمسار الإصلاح الديمقراطي ببلادنا.. إلا أنها للأسف كانت هي الأخرى فرصة ضائعة.. وبعيدا عن الدخول في التفاصيل السياسية، يمكن القول إن تأسيس التناوب على النوايا الطيبة كان مفيدا من جهة بناء الثقة، ولكن النوايا الطيبة تذهب أدراج الرياح مع إكراهات الواقع وتقلباته وتحدياته ولا يبقى إلا ما تمت ترجمته إلى مؤسسات.. لسنا هنا بصدد تصريف نقد، فهذا ليس منهجنا في هذا المقال، ولكننا نعبر عن أسفنا العميق على ضياع هذه الفرصة التاريخية التي كان من الممكن أن تؤسس لمرحلة جديدة تغير مسار المغرب باتجاه الأفضل. إن التوافق لا يعني تأجيل البت في القضايا الجوهرية تحت مسميات بناء الثقة ومقتضيات المرحلة الانتقالية إذ لا بد من الجمع بين اجراءات بناء الثقة وخلق انفراج سياسي وحقوقي من جهة وبين ضرورات الانتقال الديمقراطي التي لا بد منها.
وخارج منطق السياق المغربي، سيتعرض المغرب لحادثة أليمة وإجرامية ذهب ضحيتها أبرياء بين قتيل وجريح.. وهي حادثة 16 ماي 2003 الدموية.. وهي الحادثة التي ستؤسس لما أسميه بتعثر المسار الإصلاحي، وفي المقابل لتنامي المنطق الأمني وتزايد الخروقات القانونية وعودة الانتهاكات الحقوقية. لم يكن معقولا و لا مفيدا لبلادنا أن يتعثر المسار الاصلاحي لأنه بذلك وكأنه غير واثق من مساره الاصلاحي ولذلك قلت في السابق أن خطورة أحداث 16 ماي تكمن في أنها جاءت لتسهيل الهجوم على المكتسبات في مجال الحقوق والحريات.
وعلى إيقاع ما انتهت إليه تجربة التناوب وتداعيات 16 ماي الدموية، سيتم تنظيم انتخابات 07 شتنبر 2007 لتمثل المرحلة الخامسة في تحقيبنا التاريخي. وهي الانتخابات التي مثلت لحظة فارقة في مسيرة الإصلاح الديمقراطي بالمغرب، بحيث سيدخل المغرب مرحلة فراغ في المطلب الإصلاحي ليس فقط من حيث القوى المنادية به، ولكن كذلك من حيث القدرة والقوة الاقتراحية على مستوى المشاريع والبرامج.
فما هي أهم الخلاصات التي يمكن الخروج بها من هذا التحقيب التاريخي؟

3. خلاصات :
1.3. الخلاصة الأولى:

هل يمكن أن نتحدث عن مسيرة للإصلاح الديمقراطي ببلادنا أم لا؟ بنظري هذا نقاش ينبغي أن نرتفع عنه. السلطة السياسية الحاكمة بالمغرب أقدمت على إصلاحات لعدة اعتبارات، منها نضال الشعب المغربي وقواه الوطنية، ومنها محاولة إنقاذ الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ومنها أيضا قيود الاشتراطات السياسية لجلب الدعم المالي الأجنبي بالإضافة إلى ترتيب انتقال السلطة. وحتى لو أردنا أن نسيح بتفكيرنا، فيمكن القول إن الإصلاح بالنسبة للسلطة السياسية الحاكمة كان ضرورة موضوعية لأنه لم يكن أمامها من خيار سوى الانحناء لرياح الإصلاح ولكن بإنجازه على طريقتها وقياسها، وهي تعرف أنه بدون إصلاحات ولو كانت شكلية لا تستطيع أن تحتوي التوتر الاجتماعي والسياسي، بل قد تفقد السيطرة عليه.
وسواء أكانت السلطة السياسية الحاكمة مقتنعة بالإصلاح الديمقراطي أم اضطرت إلى التعاطي معه ولكن بطريقتها ومنهجيتها، ففي كلتا الحالتين قد تبين لها أنه السبيل الأقل كلفة لتأبيد سيطرتها وهيمنتها على تدبير الشأن العام. والمهم بالنسبة لنا اليوم هو كيف نجعل هذه السلطة تقدم على إصلاحات سياسية جريئة تقوي المكتسبات وتطور اجتماعنا السياسي؟ كيف ندفعها للتجاوب مع مطالب الإصلاح الديمقراطي حتى تلك التي تعتبر محرجة؟ والأهم هو كيف نحقق كل ذلك دون تعريض السلم المدني للمخاطر؟ هذه هي الأسئلة الحقيقية التي ينبغي أن يدور حولها النقاش السياسي.
2.3. الخلاصة الثانية:
مع بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، تزايدت الآمال في الإمكان الديمقراطي ببلادنا خاصة مع تدشين السلطة السياسية للمصالحة السياسية. ومع هذه الآمال والتطلعات، عرفت بلادنا نهضة أدبية حول قضايا الديمقراطية وأسئلة الانتقال الديمقراطي، كما تميز الأداء الإعلامي بجرأة غير مسبوقة في تناول قضايا الشأن العام. وهذه وغيرها علامات كانت تدل على أن معالم مغرب سياسي جديد في الأفق، وهي مؤشر أيضا على أن الإصلاح السياسي مدخل أساسي نحو النهضة في كافة أبعادها.
ولكن وقعت من بعد ذلك تعثرات ثم انتهاكات ثم انتكاسات، وخاصة مع الأحداث الإجرامية التي عرفها المغرب في 16 ماي 2003. لقد كان المنطقي والمعقول أن يستمر المغرب في خطواته الإصلاحية ويزيد في جرعتها ووتيرتها، ولكن عادت لتهيمن المقاربة الأمنية على المقاربة السياسية والتنموية. وهذه مؤشرات على أن المكتسبات السياسية والحقوقية لا تزال هشة وهي غير نهائية، وأن تحصينها أولوية سياسية راهنة في هذه المرحلة التاريخية التي نجتازها.

3.3. الخلاصة الثالثة:
يمكن أن نميز بين أربع منعطفات في مسيرة الإصلاح الديمقراطي وبخاصة منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي وهي:
د. مرحلة إجراءات بناء الثقة : ومنها إطلاق سراح العديد من المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي…إلخ، وهي إجراءات تندرج في إطار مصالحة سياسية لطي صفحة الماضي الأليمة وبخاصة منه ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. ولابد من القول هنا إنه إن كانت المصالحة السياسية مسألة ضرورية لتشييد الصرح الديمقراطي، فإنها لوحدها غير كافية.
ب. مرحلة التمهيد للانتقال الديمقراطي: وبصرف النظر عن اشتراطات الانتقال الديمقراطي ومقدماته وممهداته، فلقد كان تشكيل حكومة التناوب على الرغم من ضعف مستندها الدستوري (صلاحيات محددة) وضعف مصدرها السياسي (انبثقت عن انتخابات مزورة) بنظر البعض خطوة تمهيدية للانتقال الديمقراطي لأنها خطوة سياسية بنظرهم تعكس إرادة السلطة السياسية لفتح المجال للمعارضة لتحكم. وقد كان العنوان العام والأبرز الذي اختارته هذه الحكومة (أي حكومة التناوب) هو إعطاء الأولوية للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، إلا أنها أولوية بمستندات غير قادرة على الصمود أمام إكراهات الواقع السياسي والمؤسساتي الملموس وخاصة بعد أن عرفنا اليوم المآلات التي انتهت إليها تلك التجربة.
ج. مرحلة ما بعد 2003 : وقد تميزت هذه المرحلة بتوقيع خليط من السياسات غير المتجانسة: فمن الإعلاء من شأن المقاربة الأمنية وما رافقه من انتهاكات حقوقية من جهة، إلى تبني التنمية البشرية من جهة ثانية. وهو خليط يعكس حالة من الارتباك في الأداء السياسي العام ويترجم غموض الآفاق، بحيث إن وقوع أحداث إجرامية سيؤثر على الأجندة السياسية المغربية وعلى جدول الأعمال السياسي الوطني. وهذا معناه أنه ليست هناك اختيارات سياسية نهائية لا رجعة عنها، بل هناك اختيارات اعتباطية يتم التراجع عنها لمجرد حصول حادث أليم غير مرغوب فيه. وقد كان من تداعيات هذه المرحلة أن عادت الانتهاكات الحقوقية من جديد وتعثرت بعض مشاريع الإصلاح وتعرضت الحرية الصحفية للمزيد من المضايقات..
د. مرحلة ما بعد 07 شتنبر 2007 : وهي مرحلة تعبر عن أزمة المشروع الإصلاحي ببلادنا. وهي مرحلة تستدعي بحق فتح نقاش سياسي وطني صريح لفتح أفق سياسي جديد واعد ما أحوج بلادنا إليه.



4.3. الخلاصة الرابعة :
يمكن أن يدور نقاش موضوعي ونزيه حول جوهر الإصلاحات التي أقدمت عليها السلطة السياسية الحاكمة ومدى تجاوبها مع الانتظارات والتطلعات.. وبهذا الخصوص، يمكن تقديم الملاحظات التالية حول جوهر الإصلاحات التي عرفها المغرب وألخصها فيما يلي:
د. إعطاء جرعة إضافية في النهج الليبرالي في محاولة للتخفيف من حدة القيود الاقتصادية والجمركية وتوسيع هوامش الحريات الفردية والجماعية، ولكن في إطار تهيمن فيه السلطة السياسية الحاكمة على المجتمع وعلى نشاطه الاقتصادي والتجاري.
ب. انفراجات حقوقية تعرضت للانتكاسات منذ الأحداث الدموية الأليمة ل 16 ماي 2003. وقد مثل تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة، على الرغم من الملاحظات التي يمكن تسجيلها حولها من حيث تشكيلها وطريقة ومنهجية عملها ومن حيث جرأة خلاصاتها وتوصياتها، معلما من المعالم المضيئة في هذه المسيرة الإصلاحية، لكن جزءا أساسيا من توصياتها لم تجد طريقها نحو التنفيذ.
وتوضح مجموعة دراسات وأبحاث محلية ودولية حول الحقوق السياسية والمدنية التراجع الكبير الذي يعرفه المغرب في هذه المجالات، ولعل أهمها تلك الدراسة التي أجراها فريق من الباحثين من معهد البنك الدولي منذ سنة 1995، قدم من خلالها قاعدة بيانات حول مستوى الحكامة والحقوق السياسية والمدنية داخل العديد من البلدان، وتتعلق هذه البيانات بستة مؤشرات. ويأخذ كل مؤشر قيمة تتراوح بين +2,5 و -2,5 ، حيث كلما حصل بلد معين على مؤشر أعلى أي يقترب من +2,5 فهو دليل على تطور إيجابي للمجال الذي يعكسه المؤشر.
والملفت للانتباه هو أن مختلف المؤشرات المتعلقة بالمغرب توضح بالملموس مستوى التراجعات التي عرفها المغرب بين سنة 1998 و 2007 في المجالات التالية:
القدرة على المطالبة والتعبير: سجل هذا المؤشر الذي يعكس مستوى الحقوق السياسية والفردية التي يتمتع بها المغاربة تراجعا كبيرا بين سنة 1998 و 2007، حيث انتقل من -0,23 إلى -0,62 . ويترجم هذه المؤشر حقيقة الأوضاع بالمغرب والتراجعات التي سجلها في مجال الحقوق السياسية والمدنية والإعلامية، وهو ما يدحض ادعاءات الخطاب الرسمي الذي يحاول بكل ترسانته إعطاء صورة إيجابية لهذه الأوضاع.
إن تقارير الجمعيات الحقوقية الوطنية والعديد من المنظمات الدولية تؤكد بالملموس النكسات التي يعرفها المغرب في المجالات المذكورة أعلاه، وهو ما يوضح بأن مفهوم دولة الحق والقانون ليس سوى شعار استهلاكي بعيد كل البعد عن أرض الواقع. وهناك العديد من الأحداث والملفات التي تعزز مختلف خلاصات تقارير المنظمات الحقوقية.
الاستقرار السياسي: ويعكس هذا المؤشر حسب الباحثين احتمالات تغيير النظام أو الحكومة بالقوة، وكذا التهديدات للنظام العام بما فيها ما يسمى بالإرهاب. وتشير المؤشرات خلال الفترة الممتدة من 1998 إلى 2007 بأن حالة الاستقرار السياسي المغرب عرفت تدهورا كبيرا، حيث انتقل المؤشر المحسوب لهذا الغرض من مستوى ايجابي ( +0,11 سنة 1998) إلى آخر سلبي ( – 0,52 سنة 2007).
فعالية التدخل العمومي: يراد بفعالية التدخل العمومي معرفة مستوى البيروقراطية داخل الدولة ومدى جودة الخدمات العمومية المقدمة للمواطنين. فحسب المؤشرات المتعلقة بهذا المجال، مازال المغرب في مصاف الدول التي تعاني من ضعف فعالية المؤسسات العمومية ومن سوء خدماتها. وتشير الأرقام في هذا الصدد أن المغرب، رغم كل ما تدعيه الدولة من تخليق الحياة العامة ومن تقريب الإدارة من المواطنين، سجل تراجعا ملحوظا، حيث انتقل مؤشر فعالية التدخل العمومي من - 0,05 إلى - 0,07 .
جودة التقنين والتنظيم: بدوره عرف مستوى جودة التقنين والتنظيم من خلال تحليل العراقيل التنظيمية والقانونية لسير وعمل محيط الأعمال والأسواق تراجعا مهما بين سنة 1998 و 2007 من +0,01 إلى – 0,11 . ويؤشر هذا المعطى إلى مستوى الحقوق الاقتصادية التي يتمتع بها الفاعلون الاقتصاديون بالمغرب ومدى احترام مختلف الأطراف المعنية بالشأن الاقتصادي للمساطر والقوانين التنظيمية.
جودة الإجراءات القانونية: يراد بجودة الإجراءات القانونية هنا مدى احترام السلطة القضائية للقوانين مع مراعاة مدى لجوء السلطات العمومية إلى العنف الفردي والقمع. وهنا كذلك سجل المغرب تراجعا مهولا من +0,17 إلى – 0,15 ، وهذا راجع إلى الانتكاسات التي تم تسجيلها على قطاع العدل والقضاء ببلادنا من طرف العديد من الجهات الوطنية والدولية المعنية بنزاهة القضاء وبمدى احترام المغرب لالتزاماته الدولية في هذا الشأن.
مراقبة الرشوة: يعكس تفشي ظاهرة الرشوة ببلد ما مستوى الفساد الذي ينخر في أطراف الدولة ومؤسساتها، حيث تأخذ الرشوة أشكالا مختلفة وصورا متعددة وحسب مستويات متفاوتة. والمغرب من الدول التي تعرف فيها ظاهرة الرشوة تطورات خطيرة، خاصة تلك المتعلقة بالمال العمومي.
وفي هذا الإطار، فإن المؤشر الذي يعكس هذه الظاهرة (انتقل من +0,13 سنة 1998 إلى -0,24 سنة 2007)، حيث يقيس مدى استغلال صلاحيات السلطة لأغراض شخصية وعلى الخصوص الثراء والاغتناء الشخصي ولاسيما من طرف أصحاب المواقع المتقدمة في السلطة، يوضح بالملموس الوضعية المتفاقمة للرشوة بالمغرب.
ج. إصلاحات قانونية: كان حولها ملاحظات نقدية ليس المجال للتفصيل فيها هنا، ويمكن أن نذكر منها قانون الأحزاب السياسية. وهو القانون الذي يمنح صلاحياتتقديرية واسعة لوزارة الداخلية قبل التأسيس وأثناءه وحتى بعده كما يتضمن إجراءاتمسطرية معقدة وشروطا صارمة فيما يتعلق بتأسيس الأحزاب السياسية وهو ما يشجعنا علىالقول بأنه قانون جاء ليزيد من تقييد الحريات العامة ولم يتم إقراره إلا للحد منقيام أحزاب سياسية جادة وليس للحد من بلقنة المشهد السياسي كما يدعي معدوه ومقرروه،وبيان ذلك على سبيل المثال هو أنه في نفس الفترة الزمنية تقريبا لإيداع أحزابسياسية لملفات تأسيسها، أعطي الترخيص لبعض الأحزاب السياسية، وهذا حقها بلا جدال،فيما أحيل ملف حزب الأمة، رغم استيفائه للشروط المنصوص عليها قانونيا، على القضاءالإداري من قبل وزير الداخلية بهدف إبطال تأسيسه تحت ذرائع واهية !. هذا مع العلم،أن الأصل في العمل السياسي في الأنظمة الديمقراطية هو الإباحة وليس الترخيص وبمساطرمعقدة وبآجال مبالغ فيها.
د. إصلاحان دستوريان ولكن لم يرقيا إلى المستوى المطلوب : عرف المغرب اصلاحان دستوريان في زمن قياسي ولكن هذين الاصلاحين لم يحققا المطلوب، فالدستور بصيغته الحالية لا يعطي للهيئة السياسية الفائزة في الانتخابات أية إمكانية لتطبيق برنامجها والوفاء بوعودها الانتخابية للمواطنين. وهنا سؤال جوهري يطرح نفسه: لماذا الانتخابات؟ وهل الانتخابات مقصودة لذاتها أملغيرها؟، الجواب طبعا ليتمكن الحائز أو تحالف الحائزين على ثقة الشعب من تنفيذالتزاماتهم البرنامجية الانتخابية أي لكي تحكم الحكومة نفسها. السؤال الذي يطرحنفسه بالنتيجة: هل هذا ممكن في الشرط الدستوري الحالي؟ لا، هذا غير ممكن لأنه شرط لايمنح الفائزين إمكانية تطبيق التزاماتهم البرنامجية الانتخابية كما لا يتيح إمكانيةتحديد المسؤولية ولا فرصة المحاسبة لأن الحكومة هي تحصيل حاصل دستوري وسياسي وهذاالحاصل هو الذي يحدد قدرتها أو عجزها .
إذن، لافعالية للانتخابات مع استمرار مقتضيات الدستور الحالي. وعليه، لا بد من إصلاحدستوري يعطي المعنى لوجود الأحزاب وللعملية السياسية ولإجراء الانتخابات وللعملالتشريعي والتنفيذي الحكومي على حد سواء وللقضاء ولدور الشعب الفعلي في الاختياروالمراقبة والمحاسبة، وبالنتيجة لإجراء مصالحة وطنية تاريخية بين السلطة السياسيةوالشعب باعتبارها المقدمة المعنوية والروحية التي ستطلق الإرادات باتجاه البناءالتنموي النهضوي بعد تحريرها من كل القيود التي تراكمت بفعل المسلكية السياسيةالرسمية طيلة عقود. وبناء عليه، ومن أجل إعطاء الاعتبار والمصداقية للانتخاباتكصيغة حضارية في تدبير الشأن العام وترسيخ التداول السلمي للسلطة، فإن هناك بنظرناسببين جامعين ووجيهين للإصلاح الدستوري وهما: فعالية الانتخابات والفاعليةالاقتصادية والاجتماعية. الإصلاح الدستوري والمؤسساتي المرتجى يجب أن يوفر أمرين:
أولا، أن يعطي معنى للتباري الانتخابي وللتداول حول ممارسة السلطة لا خدمتها أي أنيوفر القدرة على تنفيذ الالتزامات الانتخابية وهذا ما نقصده بفعالية الانتخاباتوأعطي مثالا من النظام الإسباني حيث استطاع رئيس حكومتها" زاباتيرو "بعد فوزه فيالانتخابات تنفيذ ما وعد به الأسبان. لقد وعدهم بإعادة الجنود الأسبان من العراقفأعادهم ووفى بالتزامه. هذا هو النموذج الذي نريده..
وثانيا، أن يؤسس لمعنى المساءلةوالمحاسبة أثناء الاستحقاق الانتخابي وهذا ما سيفرض الفاعلية الاقتصاديةوالاجتماعية لأن القوى السياسية الفائزة إذا لم توف بالتزاماتها البرنامجيةالانتخابية أو كانت مردوديتها الاقتصادية وحصيلتها الاجتماعية دون الانتظارات فمنالمؤكد أن الناخبين والناخبات سيقومون بمعاقبتها انتخابيا أثناء الاستحقاق الموالي،وهذا ما نقصده بالفاعلية الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يعطي بالنتيجة معنىللمسؤولية والمحاسبة من قبل الشعب.

ه. إصلاحات اقتصادية ومالية ولكن آثارها ظلت محدودة (انظر معطيات في الملحق): لم يتمكن الاقتصاد الوطني إلى حد الآن من تحقيق نمو قوي ومستديم كفيل بتحسين الدخل الفردي وإحداث فرص شغل لمحاربة البطالة خاصة لدى الشباب، حيث ظل معدل النمو الاقتصادي يتراوح في مستويات متوسطة (4.2% كمتوسط سنوي بين سنة 1998 و2007) متأثرا بمردودية المواسم الفلاحية. وهو ما يجعل الاقتصاد المغربي تحت رحمة التقلبات الجوية وذلك في غياب سياسة فلاحية عصرية شاملة ومندمجة وذات إنتاجية عالية وتراعي متطلبات حماية الموارد البيئية .
إن غياب هذه السياسة جعل العالم القروي، بكل ما يعرفه من خصاص هائل على مستوى البنيات والتجهيزات الأساسية مثل التكوين والصحة والسقي العصري يسجل مستويات مهمة من التفاوتات بين سكان القرية وسكان المدينة. وكنتيجة لهذا الوضع بقي الدخل الفردي للمواطن المغربي في مستويات جد ضعيفة مقارنة مع بعض الدول الصاعدة كالشيلي أو كوريا مثلا، وهو ما انعكس على المستوى المعيشي للمغاربة، حيث زادت حدة التفاوتات بين الوسطين الحضري والقروي من جهة وبين الفقراء والأغنياء من جهة أخرى. فحسب آخر بحث وطني لمستوى المعيشة 2006/2007، يستحوذ الأغنياء (20% من السكان الميسورين) على 48.1 % من إجمالي الاستهلاك الوطني مقابل 6.5% لدى الفئات الفقيرة (20% من المواطنين الأكثر فقرا).
أما على مستوى المالية العمومية، فقد ظلت مختلف الاصلاحات المعتمدة تهدف إلى تقليص عجز الميزانية من خلال تقليص النفقات والزيادة في الايرادات، حيث لم تتخذ السلطات العمومية إصلاحات حقيقية وجذرية تمكن من تحقيق تدبير فعال وشفاف للمالية العمومية، وإعطاء مرونة اكثر وصلاحيات اوسع للجهة باعتبارها اداة فعالة لإنجاح التنمية المحلية، كما ان غياب قانون تنظيمي عصري للمالية لم يمكن من بلوغ النجاعة المتوخاة للمالية العمومية ولم يمكن المؤسسات التشريعية من لعب دورها الحقيقي في تكريس ثقافة التقنين والمحاسبة لدور الجهاز التنفيذي في تطبيق السياسات الاقتصادية.
وفيما يتعلق بالقطاع البنكي والمالي، لازال هذا الاخير بحاجة إلى إصلاح المنظومة البنكية (رؤية ومؤسسات) لتتحول المؤسسات البنكية إلى مؤسسات مواطنة تساهم بشكل فعال في عملية التنمية من خلال تمويل المشروعات وخاصة تمويل مشاريع المقاولات الصغرى والمتوسطة.
إن الاصلاحات التي عرفها القطاع المالي رغم اهميتها لم تلب بعد الحاجيات الحقيقية للاقتصاد الوطني كما أن عدم اعتماد وسائل التمويل البديلة (الاسلامية) خاصة في ظل الازمة المالية الحالية يفوت على اقتصاد البلاد فرصا مهمة للتنمية.
لقد تم تدشين بعض الاصلاحات في غياب رؤية استراتيجية للسياسية الاقتصادية يعكسها مخطط للتنمية يساهم فيه كل القطاعات والجهات المعنية، فمنذ آخر مخطط 2000-2004 لم تتمكن السلطات العمومية من بلورة مخطط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية يضع البلاد على سكة واضحة للرقي بمختلف القطاعات بل اكتفت بوضع برامج قطاعية بعيدة عن الرؤية المندمجة للتنمية. وهكذا سنجد رؤية للقطاع الفلاحي والسياحي وأخرى لقطاع النسيج وقطاع التقنيات الحديثة.. وغيرها من البرامج بحيث أصبح كل قطاع منشغلا في همومه وتحدياته بدون اولويات واضحة على الصعيد الكلي. لينتقل كل قطاع إلى ما يسمى بالبرامج الاستعجالية مما يعني غيابا تاما لرؤية استراتيجية منسجمة.

5.3. الخلاصة الخامسة :
ثمة مجموعة من العوامل المتداخلة التي ساهمت إلى حد كبير في كبح المسيرة الإصلاحية منذ أحداث 16 ماي 2003:
د. رهن قوى الجمود السياسي في السلطة السياسية الحاكمة أولويات المغرب في دائرة مغلقة اسمها "محاربة الإرهاب" وتعطيلها بالمقابل أو لنقل إعاقتها وعرقلتها لأي خطوة إصلاحية نوعية.
ب. ضعف أداء الفاعلين السياسيين من القوى الوطنية الديمقراطية الإسلامية واليسارية والليبرالية.
ج. غياب مخطط أو رؤية استراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
د. ضعف الثقافة السياسية الديمقراطية واتساع دائرة المقاطعة الانتخابية والمؤسساتية
ه. العامل الخارجي كان عاملا لفائدة ترجيح كفة المقاربة الأمنية على حساب المقاربة الديمقراطية والحقوقية والتنموية..

6.3. الخلاصة السادسة:
أثبتت التجربة المغربية فشل خيار المواجهة وعدم جدوائيته لا من جهة السلطة السياسية الحاكمة، ولا من قبل المعارضة الوطنية والديمقراطية.. وأثبتت أيضا أن النوايا الطيبة غير كافية لبناء الثقة. كما أبرزت أن التوافق على المسار الإصلاحي أمر مهم، ولكن يبقى بحاجة إلى ضبط منهجيته وآليات تفعيل نتائجه والتزاماته.

7.3. الخلاصة السابعة:
ما يميز مكتسبات الإصلاح الديمقراطي ببلادنا أنها مكتسبات هشة وقابلة للانتهاك والانتكاس، ولذلك أسبابه كما وضحنا في التحقيب التاريخي.
هذه أبرز الخلاصات التي يمكن تسجيلها في هذا المقام.. وسأعرض الآن لخلاصات الخبرة الحضارية الإنسانية في مجال بناء الديمقراطية قبل أن أعود إلى مقاربة الحالة المغربية من خلال تلك الخلاصات ونتائج تقييمنا لمسيرة الإصلاح الديمقراطي بالمغرب.

المحور الثالث: إضاءات من وحي التجارب الإنسانية في بناء الديمقراطية

إن التأمل في مختلف التجارب الديمقراطية الناجحة يوفر خبرات مهمة ما أحوجنا إليها كمغاربة في مسيرة تشييد صرحنا الديمقراطي المغربي.
ويمكن إجمال أهم خلاصات تلك الخبرات فيما يلي:
1. إن بناء الديمقراطية هو صيرورة تاريخية تراكمية وليست حدثا بدون مقدمات. وهكذا تبين التجربة الغربية وحتى الآسيوية أن بناء الديمقراطية قد تطلب وقتا وجهدا وجاء بعد صراعات عدة بين الدولة والمجتمع. إن بناء الديمقراطية عملية تدريجية وتراكمية لأنها بحاجة إلى نضج الإرادة، وبحاجة إلى مؤسسات وإلى قوانين وآليات. وجدلية التدافع الاجتماعي السياسي هي التي تبرز تلك الحاجات بحسب كل مرحلة تاريخية حتى بلوغ مرحلة النضج الديمقراطي.
2. إن هناك ثلاث مراحل كبرى في بناء الديمقراطية: المرحلة الأولى، هي دخول زمن السياسة بما هو زمن التدبير السلمي للاختلاف والإعلاء من الحوار.. والمرحلة الثانية، هي مرحلة الانتقال الديمقراطي، وتتضمن الإقدام على جملة من التدابير والإجراءات كإجراء المصالحة السياسية وإقرار العدالة الانتقالية وترتيب إعادة توزيع السلطة والثروة. ومن مقتضياته التوافق على الإطار السياسي والدستوري والقانوني الذي سينظم الاجتماع وعلاقة الدولة بالمجتمع. وهي، في مجملها، مرحلة التسويات والتفاهمات العادلة. إذ لا يمكن تصور بناء الديمقراطية بدون مداخل تمهيدية، والمداخل التمهيدية تقتضي تسويات أو لنقل تفاهمات أساسية حتى تصبح الديمقراطية ممكنة. ولذلك، فهي مرحلة دقيقة مفتوحة على الانتكاسات. المرحلة الثالثة، هي مرحلة التحول الديمقراطي. وهنا ، وحتى تصبح الديمقراطية دائمة أي غير قابلة للانتكاس، فإن مراجعة التسويات والتفاهمات الانتقالية المتفاوض حولها خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي ليست مسألة يسيرة، لأنها تسويات أو تفاهمات كانت بهدف أن تصبح الديمقراطية ممكنة، ولذلك فهي تفاهمات تتضمن تساهلا لتيسير الانتقال، ومن تم فهي تظل باستمرار تفاهمات هشة في مرحلة التحول الديمقراطي لأنها قد تعرض هذا الأخير للإجهاض. ولذلك، فإن من أهم الاستخلاصات في هذا الإطار، مراعاة مبدأ التراكم حتى تتحول المكتسبات إلى أمور لا رجعة فيها او عليها أو عنها. بالإضافة إلى اعتبار المآلات في ما يمكن السكوت عليه في تلك التفاهمات وما لا ينبغي السكوت عليه فيها حتى لا يؤدي السكوت عن أمور جوهرية في المرحلة الانتقالية إلى معيقات أمام ترسيخ الديمقراطية بصفة نهائية ودائمة.
3. إن بناء الديمقراطية كان مسبوقا بنهضة فكرية تنويرية. ففي الغرب، لعب المفكرون والعلماء والفلاسفة دورا مركزيا في ترسيخ ثقافة ديمقراطية ساهمت في صيانة أسس العلاقة بين الدولة والمجتمع.
4. إن العامل الثقافي والقيمي المحلي لم يكن عائقا في بناء الديمقراطية. وتعتبر الهند نموذجا في هذا الإطار.
5. إن من أهم محفزات بناء الديمقراطية يمكن ذكر ثلاثة عناصر: النمو الاقتصادي، ووجود مؤسسات حقيقية ومستقرة، وتأسيس الشرعية السياسية على صناديق الاقتراع.
6. إن بناء الديمقراطية يحتمل الانتهاكات والانتكاسات، فهو ليس طريقا سالكا ومعبدا.
ولو أردنا الإجمال لقلنا إن الديمقراطية لم تتجذر إلا ببطء وبتزامن مع الممارسة المواطنة وترسيخ قواعد المشاركة ومنها الإقرار بالتعددية السياسية وحماية حقوق المواطن وحرياته الأساسية، ونزاهة العملية الانتخابية وتجذر حرية الصحافة والتعبير وتطور مؤشر التنمية البشرية الذي يعكس تطورا في النمو الاقتصادي وفي التعليم والصحة.

المحور الرابع : من أجل إنجاز واستكمال مقتضيات الإصلاح الديمقراطي بالمغرب، أفكار ومقترحات

1. في مطلوب الإصلاح الديمقراطي
1.1. المطلوب الأول: تأهيل الدولة

أ. على مستوى تجديد الوظائف:
إن السلطةالسياسية المغربية بحاجة إلى التجديد والتجدد في وظائفها وأدوارها. السلطة السياسيةالحديثة اليوم في الغرب بدأت تترك المجتمع للمجتمع دون أن تتخلى عن مجموعالتزاماتها نحوه على مستوى الخدمات الاجتماعية والعيش الكريم وتوفير الأمن. وهكذا،بدأت تلك السلطة السياسية تتوجه لوظائف واختصاصات جديدة: ففضلا على استمرار وظيفتهاالاجتماعية في توفير البنيات والخدمات الاجتماعية الأساسية باعتبارها دولة خدمات تسعى لتحقيق الرفاه والأمن والاستقرار، وتأمين الوظيفة الدفاعيةوالأمنية، أضحت الدولة تطور اختصاصا جديدا (وهو اختصاص آخذ في النمو والتوسع) هوالتقنين Regulation-Reglementation.وعلى دولتنا المغربية أن تدرك أنه لا يمكنلمجتمعنا أن يكون مناعته والأصح منعته الحضارية إذا استمرت الدولة وصية عليه تتدخل في الصغيرةوالكبيرة ولا تترك لقوى المجتمع الفرصة للعمل والحركة بحرية كاملة وفق مقتضياتالقانون. إن من سيحمي بلادنا حقا من كل مخاطر التطرف والعنف والانفصال والجريمة المنظمةوالفساد والتبعية…. هو المجتمع نفسه.
كما أن على السلطة السياسية أن تحترماختيارات الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وأن تنأى بنفسها عن التدخل في شؤونها الداخلية لأن منشأن ذلك سحب المصداقية عن تلك الأحزاب والمنظمات وبالتالي إضعاف التجربة الديمقراطية وإفراغها من مضمونها.

ب. على مستوى المؤسسات :
وهذا يقتضي إصلاحا دستوريا بما ينسجم مع مقتضيات الديمقراطية كما بينا في مرجعية المقال. ومن أبرز ما يمكن التطلع إليه في هذا الإصلاح هو تأمين دستور لفائدة الفصل بين السلطات وسمو السلطة القضائية واستقلاليتها والتداول السلمي على السلطة.

ج: على مستوى القوانين:
بحيث نوفر لبلادنا قوانين ديمقراطية تبسط الحريات ولا تقيدها وتكفل شروط ومقومات المحاكمة العادلة وتضبط اجتماعنا السياسي والاقتصادي والمدني.

2.1. المطلوب الثاني : تأهيل الواقع الحزبي

لم يعد مستساغا بقاء الأحزاب السياسيةعلى حالها المرضي، فالبناء الديمقراطي وحماية المكتسبات يقتضي وجود أحزاب سياسيةقوية. ومن المعضلات الكبرى التي تعاني منها الأحزاب السياسية المغربية هناكثلاث معضلات:

أ. معضلة عدم الاستقلالية عن السلطة السياسية
فإذا كان مبرروجود الحزب ومصدر شرعيته هو المجتمع، فإن الحزب السياسي لا يستقيم أمره بنظري إلاإذا كان منتهى عمله ونضاله أن يجعل من الدولة دولة المجتمع ترعى مصالحه وتلبيحاجاته المشروعة وتكفل حقوقه وحرياته وتحترم إرادته واختياراته وهويته الجامعة. ولذلك، يقتضي الحزب السياسي وفق هذا الفهم شرطين وهما الاستقلالية عن السلطةوالتعاقد مع المجتمع. لا معنى للحزب السياسي إذا لم يكن معبرا أمينا عن المجتمعوهذا ليس معناه تجاهل إكراهات الدولة، ولا معنى لحزب سياسي يتلقى التعليمات منالسلطة السياسية بدل أن يتلقى الاحتياجات الشعبية والأسئلة المجتمعية ليحولها إلىبرامج سياسية. وهنا لا بد من التنويه إلى وجود أحزاب سياسية جادة حافظت علىاستقلالية قرارها السياسي والتنظيمي وأدت، وما تزال، ثمن خياراتها بهذا الخصوص.

ب. معضلة تخلف الديمقراطية الداخلية

أي سيادة ثقافة تقليدية تحكم تدبيرالشأن التنظيمي الداخلي، يبررها الفاعل الحزبي بأسماء مختلفة من قبيل ” الوحدة ” و ” نبذ التفرقة ” و ” الشرعية التاريخية ” وهي أعراض لمرض عضال، هو مرضالاحتكار، احتكار الفهم الصحيح لكل شيء، احتكار السلطة التنظيمية في تعيين أعضاءالمؤسسات الحزبية وعلى مستوى القرار، احتكار تدبير العلاقات والمفاوضات مع السلطةالسياسية ومكونات المشهد السياسي، احتكار السلطة المالية والإعلامية. بكل تأكيد،فإن ثقافة المشاركة تعاني من مأزق حقيقي داخل الأحزاب. فتحت عناوين الوحدة ونبذالتفرقة والشرعية التاريخية تمت تسويات مأساوية لا زال الواقع السياسي والاقتصاديوالاجتماعي المغربي يدفع ثمنها، وتحت تلك العناوين تمت مصادرة الرأي المخالفومحاصرة أصحابه في المؤسسات التنظيمية بل تحت تلك العناوين تمت تصفية المعارضةالحزبية الداخلية وأحيانا بطرق لا أخلاقية. الحل التاريخي بنظري هو إعمال مبدأالديمقراطية في المسؤوليات واتخاذ القرارات واعتماد مقاييس منضبطة في انتخابالمؤسسات التنظيمية، وتثبيت مبدأ المحاسبة على أساس نتائج ما تحقق من البرنامجوالأهداف المحددة وترسيخ ثقافة المشاركة والتداول وتأكيد الارتباط بالمشروع وبخدمتهلا التشبت بالموقع التنظيمي أو المؤسساتي إلى غير ذلك من أمور. وبدون ذلك، ستستمرالمنازعات على المقامات التنظيمية وعلى وكلاء اللوائح وعلى مشروعية القراراتالتنظيمية والسياسية! وستظل الأحزاب منشغلة بذاتها وحتى إذا تجاوزت الذات إلىالموضوع يكون أداؤها السياسي ضعيفا وغير قادر على الدفع بالأوضاع السياسيةوالاقتصادية والاجتماعية نحو الأفضل. وبطبيعة الحال، وحتى لا نعمم، فإن هناك تجاربسياسية مغربية متنوعة في مرجعياتها وخطوطها السياسية قد توفقت في طرح هذه المعضلةجديا ضمن أولوياتها وتعمل على تجاوزها.

ج. معضلة الانتظارية
وهيسمة طبعت العمل السياسي الحزبي طيلة فترات طويلة وهي لم تكن وليدة اليوم. وهي سمةتجد مستندها في اعتبارين أساسيين: هناك الاعتبار الموضوعي ويتمثل في ضعف هوامشالحريات العامة والقمع الممنهج الذي عرفته بلادنا وهو ما حد من المبادرات السياسيةالحزبية. أما الاعتبار الذاتي والأهم فهو الضعف الذي ميز العمل السياسي الحزبي الذيعرف بالقابلية الذاتية للانتظار وبضعف الإبداع وبالخوف من المبادرة ما لم يكن هناكضوء أخضر. أما ما يميز هذه الثقافة الانتظارية فهي أنها لا تلتقط حركة التاريخ كمالا تلتقط ممكنات الاختراقات في الواقع لتحقيق تطور في مسيرة الإصلاح ولا تتمتعبالنتيجة بوضوح الرؤية في ما يتعلق بشروط المرحلة وممكناتها، وهو ما ينعكس تردداوترقبا وانتظارية سياسية. وحتى لا نسقط في آفة التعميم هنا أيضا، أقر بوجود جهودجدية لدى بعض الأحزاب في تصحيح أوضاعها ومراجعة أوراقها.
ولذلك، أرى أن الإصلاح الحزبي الأساسي يجب أن يشمل ما يلي: إقرار الديمقراطيةالداخلية في اختيار المؤسسات وتحديد المسؤوليات واتخاذ القرارات والتداول علىالقيادة وفسح المجال أمام الأجيال التي ظلت على هامش القرار، وتخليق الأداء السياسيالحزبي، وإعطاء مساحة كافية لقضايا الفكر والثقافة وحماية القرار السياسي والتنظيميالمستقل. إن مستقبل الديمقراطية أصبح مرهونا اليوم بمدى جرأة الأحزاب على إصلاحأوضاعها وتحسين أداءها وفعلها وأيضا بمدى صمودها أمام مختلف الضغوطات والإكراهاتوالإغراءات المتنامية من حولها. وإنني لأدعو إلى اعتماد مقياس الجودة الحزبية من قبل الأحزاب السياسية على غرار مقياس الجودة عند الشركات والمؤسسات الاقتصادية والمالية والإنتاجية (qualité ISO) حتى نستطيع قياس مدى جودة الأحزاب. ولهذا الغرض أقترح على القوى الديمقراطية أن تبادر بعض الفعاليات الديمقراطية المعتبرة والوازنة والنزيهة والتي تحظى باحترام الجميع، إلى انشاء وتأسيس مركز يعنى بجودة العمل الحزبي ببلادنا، ويقوم برصد النشاط الحزبي ويصدر تقريرا سنويا يتمحور حول محورين: محور الأهلية الحزبية ومحور الجودة الحزبية، وذلك على قاعدة قياس مؤشرات تتم بلورتها لهذا الغرض، ويمكن أن نذكر منها الأمثلة التالية:
وفيما يتعلق بالأهلية الحزبية، فالهدف هو قياس ما إذا كان الحزب المعني بالقياس يتوفر على شروط الأهلية الحزبية ومنها: امتلاك مشروع سياسي ووثيقة تنظيمية…(الاهلية الادبية)، عدد الأعضاء ومستوى التواجد التنظيمي على مستوى المناطق والجهات (الأهلية التنظيمية)، معدل النمو التنظيمي، عدد الدورات التكوينية (الأهلية التأطيرية)…
وأما فيما يتعلق بالجودة الحزبية، فالهدف هو قياس نوعية الاداء الحزبي، ومن ذلك: جودة وشفافية اتخاذ القرار، انتظام دورية عقد المؤتمرات وائتلاف المؤسسات التنظيمية، عدد التوترات التنظيمية وطرق تدبيرها، جودة انتخاب المؤسسات، جودة انتخاب المرشحين للاستحقاقات الانتخابية، شفافية تدبير المالية الحزبية. هذه أمثلة للمؤشرات التي يمكن أن يشتغل عليها مركز الجودة الحزبية أو مرصد الجودة الحزبية.
وضمانا لفعالية الأحزاب السياسية، هناك بنظري ثلاث مستويات بحاجة إلى تصويب:
أولها، مراجعة قانون الأحزاب السياسية لجهة دمقرطته وإزالة اشتراطاته التعجيزية.
وثانيها، تأمين مدونة انتخابية توفر شروط تنافسية سياسية حقيقية.
وثالثها، يتعلق بتفعيل خيار القطبية، ولكن أي قطبية؟.. إن القطبية السياسية مسألة سياسية هامة في عملية البناء الديمقراطي، ولكن هناك نوعان من القطبية: قطبية سياسية مصطنعة سواء من خلال صناعة خرائط انتخابية أو من خلال عملية "تهييج" سياسي. وهذه قطبية لن تفيد المسار الإصلاحي الديمقراطي ببلادنا، بل هي مضرة به لأن الديناميكيات السياسية المصطنعة هي ديناميكيات وهمية، والديناميكيات الوهمية لا تصنع التحولات الديمقراطية الحقيقية. وهناك القطبية السياسية الحقيقية وهي إما تلقائية أو حاصل تدبير له معقولية، وهي في كل الأحوال ناجمة عن فرز سياسي طبيعي لمشاريع واجتهادات سياسية متمايزة تبارت في انتخابات ديمقراطية.
وهنا أختم هذه الفقرة بإبداء بعض الملاحظات حول التعددية بالمغرب:
أولا، هل لدينا بالمغرب تعددية سياسية حقيقية أم لدينا تعددية حزبيةعددية؟ الجواب أننا في المغرب أمام تعددية حزبية عددية وشكلية.
ثانيا، إن التعدديةالسياسية الحقيقية ليست عيبا في حد ذاتها باعتبارها تعددية اجتهادية وبرنامجيةتعبِّر عن حاجات سياسية موضوعية. أما التعددية السياسية الشكلية، وهي ما يميزمشهدنا السياسي المغربي الراهن، فبقدر ما تعكس فراغا سياسيا فهي تسيء إلى مفهومالديمقراطية وتشوه مبدأ الحريات العامة لأن التعددية الحقة تقاس، في المنظورالديمقراطي، بمنسوب الحقوق والحريات وليس بعدد الأحزاب.
ثالثا، إذا كان الفرزالسياسي الديمقراطي والحر والنزيه هو الممر الآمن للقضاء على التعددية الحزبيةالشكلية، فهو ليس قرارا إداريا أو تدبيرا حزبيا ذاتيا وهو ليس أيضا عملية ميكانيكيةوتقنية، كما هو مذهب وزارة الداخلية، بل هو صيرورة طبيعية لانتخابات حرة ونزيهةوذات فعالية أي حاصل عملية سياسية ديمقراطية جدية تصفي المشهد السياسي من الزائدوالتكرار وغير المفيد، مما يجعل الحزب السياسي، الذي لا يمتلك مبررات الوجودالسياسي والتنظيمي، غير قادر على المواصلة في إطارها ومآله الاندثار التدريجي منالحياة السياسية العامة. كما أن للفرز السياسي، في إطار عملية سياسية ديمقراطيةجدية، وظيفة أخرى هي دفع وجهات النظر المتقاربة إلى التحالف والاتحاد أو الاندماجفيما بينها وهو أمر مهم في العملية السياسية. إن الانتخابات الحرة والنزيهةالمستندة إلى شروط ديمقراطية معقولة ومقبولة من حيث التقطيع الانتخابي ونمطالاقتراع لدى كل الفاعلين السياسيين هي أداة الفرز السياسي ووسيلة تصفية المشهدالسياسي.
رابعا، في الديمقراطيات الناشئة تعتبر كثرة الأحزاب مسألة طبيعية وتعكسانفتاح العملية السياسية في البداية وذلك في تعبير عن الذوات السياسية الموجودةموضوعيا ولكن سرعان ما تتم عملية الفرز السياسي عبر انتخابات ديمقراطية وحرة ونزيهةتصفي المشهد السياسي لفائدة انبثاق أقطاب سياسية كبرى مما يتقلص معه عمليا عددالأحزاب. أما في الحالة السياسية المغربية، التي تدعي السلطة السياسية فيها أنالمغرب ديمقراطية ناشئة !، فلم تكن التعددية أبدا تعبيرا طبيعيا عن حاجات سياسيةموضوعية لميلاد تنظيمات سياسية جديدة بل كانت حاصل استراتيجية " تفريخية وتفخيخية ": تفريخ الأحزاب وتفخيخ بعضها بغية شقها.

3.1. المطلوب الثالث : التأهيل الاقتصادي والاجتماعي

يقتضي التأهيل الاقتصادي والاجتماعي أربع تهيئات ومراجعة سياسية:
أولها، التهيئة المؤسساتية والمقصود به إصلاح المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية.. إنها تهيئة أدوات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وحيث إن الإدارة هي أداة تنفيذ السياسة، فإنه يتعين إصلاح وتأهيل الإدارة كجزء من هذه التهيئة المؤسساتية.
ثانيها، تهيئة محيط التنمية الملائم، وهذا يعني الرفع من مؤشر التنمية البشرية بالإضافة إلى محاربة الفساد في كافة تمظهراته المالية والإدارية وغيرها.
ثالثها، التهيئة الثقافية، وهذا يعني ترسيخ ثقافة التنمية في الوعي الشعبي العام وإعادة الاعتبار للعمل النافع كقيمة،
ورابعها، إعادة بناء فلسفة التنمية السائدة وتحريرها من قيود منطق الريع ومنطق التدبير الظرفي العارض وغيرها من قيود.
أما المراجعة السياسية، فالمقصود بها إعادة تقييم مجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تم تنفيذها، والعمل على تقويمها بناء على ذلك التقييم وعلى قاعدة تلك التهيئات الاربعة.
ومن أهم ما يمكن الإشارة إليه هنا على سبيل المثال لا الحصر يمكن أن نذكر حاجة اقتصادنا الوطني إلى تنويع بنيته حتى لا تظل مرتبطة بعوامل لا إرادية.
وهناك أيضا ضرورة فك هذا الارتباط بين التنمية ومنطق التوازنات المالية، لأن المراهنة على تلك التوازنات فقط لا يعطي بالضرورة نتيجة تنموية نوعية، ودليلنا هنا هو ما أبرزته تجربة الدول المتطورة حديثا وبخاصة في أمريكا الجنوبية (ما يسمى ب: NPI أي (Nouveaux PaysIndustrialisés من أن تمويل التنمية ممكن عبر سياسة العجز في الميزانية، لأنه عجز على المدى القريب ولكن مردوديته الاقتصادية والتنموية تتحقق على المدى المتوسط أو البعيد.
وهناك أيضا ضرورة مراجعة السياسة الضريبية لجهة إرساء نظام ضريبي عادل ينعش الطلب وينعش بالنتيجة العرض ومعه الدورة الاقتصادية. وطبعا هناك إشكالية الادخار والاستثمار وتداعيات الاقتصاد غير المهيكل (EconomieInformelle) وغيرها من تحديات.. وهذه أمور تحتاج إلى أبحاث ودراسات معمقة.
وعموما، لقد ساهمت العديد من الاختلالات في عدم تحقيق بلادنا لنمو اقتصادي تنعكس ثماره على مختلف الشرائح الاجتماعية. ويرجع ذلك بالأساس إلى غياب رؤية استراتيجية واضحة في المجال الاقتصادي تأخذ بعين الاعتبار متطلبات السوق الوطنية والأجنبية في ظل الإمكانيات البشرية والمادية التي يزخر بها المغرب. إن غياب هذه الرؤية هو نتيجة لتخلي المغرب منذ سنة 2004 عن وضع مخطط اقتصادي واجتماعي مندمج وجاد يساهم فيه كل الفرقاء في هذا البلد كل حسب تخصصه وإمكانياته. وهنا يطرح إشكال حقيقي يتعلق بعدم احترام أصحاب القرار لمقررات الدستور على اعتبار أن هذا الأخير ينص على ضرورة تهيئ مخطط اقتصادي للدولة. إن وضع برامج واستراتيجيات قطاعية في المجال الاقتصادي لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون مبررا لتجاوز المخطط .
وفي هذا الإطار، فإن هناك الكثير من التحديات تطرح نفسها بإلحاح وتتطلب حلولا ناجعة لإرساء أسس اقتصاد وطني متضامن قوي وتنافسي يتماشى مع تطلعات وانتظارات المغاربة.
ونعتقد أن التحدي الأهم للاقتصاد المغربي يتجلى في البحث عن وسائل جديدة من أجل تحقيق نمو اقتصادي قوي وتسريع مسلسل التنمية وتحسين جودتها وضمان الشروط الضرورية لتأمين المستقبل.
ومن أجل ذلك، يتعين على الاقتصاد المغربي أولا تعزيز استقلاليته عن القطاع الفلاحي الذي يمثل 16% من الناتج الداخلي الخام ويشغل ما يقارب 80% من الساكنة النشيطة في الوسط القروي. ولابد كذلك من إعطاء أهمية بالغة لهذا القطاع الذي يعاني من ضعف تأهيل للموارد البشرية والمادية ومن التأثر القوي بالتقلبات المناخية ومن مشكل الماء. وحتى تكون للفلاحة قيمة المضافة وتساهم بشكل فعال في خلق مناصب الشغل وتنويع الأسواق وبالتالي تحقيق التنمية، ينبغي أولا اندماج الإنتاج الفلاحي المغربي بشكل كاف مع باقي قطاعات الاقتصاد الوطني. كما يتطلب الأمر تأمين استقلالية الفلاحة حتى لا تبقى تعتمد بشكل كبير على الخارج من أجل تزويدها بالتجهيزات والمدخلات والمواد الأولية.
ودائما في مجال الاستقلالية، وباعتبار المغرب بلدا غير منتج للنفط، فإنه مطالب بوضع استراتيجية طاقية واضحة تجعله في منأى عن تقلبات الظرفية المتعلقة بالنفط. ذلك أن تبعيته في هذا المجال تؤثر سلبا على النشاط الاقتصادي نتيجة غلاء فاتورة الطاقة وتفاقم العجز التجاري وثقل تكاليف صندوق المقاصة. كما يؤدي ارتفاع أسعار المنتجات النفطية إلى استنزاف القدرة الشرائية للمستهلكين وارتفاع تكاليف المقاولات.
ولن يتحقق للمغرب اقتصاد قوي ومتماسك إلا بتنويع وتحديث بنيته الإنتاجية وتسريع انتقاله إلى الإنتاج ذي القيمة المضافة العالية على حساب المنتجات ذات القيمة المضافة الضعيفة. ويتطلب ذلك ملاءمة جيدة لنظام التعليم والتكوين للمتطلبات الاقتصادية الجديدة في مجال التقنيات الحديثة ووضعها لخدمة التنمية. مما يفرض الاستثمار في مجال تكوين الأشخاص والبحث العلمي ورفع معدل التأطير.
ويفترض تحقيق الطفرة الاقتصادية المطلوبة عدالة ضريبية، بحيث لا يكون هاجس الدولة هو جمع أكبر قدر ممكن من الإيرادات، وإنما جعل الضريبة آلية لإعادة التوزيع ورد الحقوق المالية للفئات التي تستحقها من خلال سياسات الاستهداف. والدولة مطالبة أيضا بتدبير نفقاتها العمومية بشكل فعال وناجع في إطار من الشفافية والمحاسبة، على أن يلعب الجهاز الشريعي دوره كاملا في المتابعة والمحاسبة. ويفترض فيها أيضا أن تنوع أسواقها الخارجية سواء على مستوى الاستيراد أو التصدير وذلك لتحقيق التوازن في علاقاتنا الاقتصادية بدل تركيز معاملاتنا مع جهات محدودة.
ومطلوب من الدولة أن تعمل من جهة أخرى على تقليص الاختلالات الاجتماعية والمجالية. فالدينامية السوسيو-اقتصادية توضح على المستوى الجهوي وجود توجه نحو التمركز المجالي الذي يولد الاختلالات بين الجهات وكذا تزايد ظاهرة الاقصاء الاجتماعي مع انعكاسات سلبية على التنافسية الترابية لأغلب الجهات. وتعزى هذه الوضعية إلى ارتباط الجهاز الإنتاجي لمعظم الجهات بالتقلبات المناخية وضعف البنيات التحتية لهذه الجهات.
وفي هذا الصدد، تتطلب إعادة التوازن للتحولات الحالية وضع سياسة جهوية مندمجة قائمة ليس فقط على مقاربة مجالية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ولكن أيضا على خلق ديناميات للتغيير وتحفيز المبادرات الجهوية. ومن أجل ذلك، يتعين وضع مقاربة ترابية تقتضي إشراك مختلف الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين والأحزاب السياسية في مسلسل التنمية الجهوية وكذا البحث عن تكاملات بين وداخل الجهات.
والخلاصة إذن أن التأهيل الاقتصادي والاجتماعي ممكن على الرغم من كل التحديات المحيطة باقتصادنا الوطني إذا وجدت الإرادات الصادقة التي تتعامل مع أسئلة الاقتصاد والاجتماع بمنطق بنيوي واستراتيجي لا بمنطق ظرفي وتكتيكي.

4.1. المطلوب الرابع: التأهيل الثقافي والفكري

لا غنى عن النهضة الفكرية لانبثاق الثقافة الديمقراطية، لقد كان الاستناد إلى ميراث ثقافي وفكري من مقتضيات الإصلاح الديمقراطي كالذي حصل في الغرب طوال مراحل تاريخية ممتدة. وبناء عليه أقول إن هناك حاجة مغربية إلى عصر أنوار مغربي يمكن أن نختار له وظيفة تاريخية ذات بعدين: من جهة تحرير التراث مما علق به من شوائب (ومنه تحرير الفكر السياسي الإسلامي من التباسات النظام السلطاني ومن فكر الغلبة..) وتنقيته من قيوده التاريخية حتى يلعب التراث دوره الحاسم في تبيئة الديمقراطية. ومن جهة ثانية استلهام حكمة ومعروف الفكر الإنساني وكل ما يفيد منه في بناء صرحنا الديمقراطي وترسيخ لوازمه ومقتضياته.
لهذا العصر الذي نتطلع إليه، لابد من دور للمفكرين والمثقفين وأهل العلم والفاعلون السياسيون والحقوقيون والمدنيون وغيرهم في صياغة معالم هذا العصر. لا يجوز أن تستمر بلادنا في هذه العطالة الفكرية والثقافية: إن الدور هنا هو العمل على تحويل الديمقراطية إلى قيمة ندافع عن حقنا فيها كما ندافع عن حقنا في المأكل والملبس والمسكن والصحة وغيرها، أي أن تصبح الديمقراطية قيمة شعبية ممتدة لا تنحصر فقط عند النخب والفاعلين.. إنه دور التهيئة الفكرية والثقافية لإنضاج شروط التحول الديمقراطي هذا أولا. وثانيا، لابد أن تنضج الدولة أي أن تدخل زمن السياسة وتتحول بذلك إلى إطار مساعد على انبثاق الثقافة الديمقراطية. فهناك إذن جدلية لا غنى لنا عنها: حركة فكرية مستمرة ومتواصلة للارتقاء بوعينا الديمقراطي الجمعي وعمل سياسي ملتزم ومسؤول لإنضاج مقتضيات الدولة كمدرسة للسياسة.

5.1. المطلوب الخامس : "إصلاح الحقل الديني"

الدين الإسلامي مكون أساسي في البنية الثقافية والحضارية للمجتمع المغربي، وبالتالي لا يمكن تصور تحقيق تقدم في الإصلاح الديمقراطي بدون النظر في هذا المكون. لذلك فنحن مع التجديد الديني ونفضل هذا التعبير على تعبير "إصلاح الحقل الديني". ولكن أي تجديد ديني؟، إنه التجديد الذي يعيد للدين دوره الفعال في البناء الحضاري. إنه التجديد الذي يدفع بالعملية الاجتهادية ويوسع من مساحة العقل في التعاطي مع أسئلة العصر وقضاياه على اعتبار أنه لا تناقض بين صحيح المنقول وصريح المعقول كما يقال. إنه التجديد الذي يجعل من الدين مكلفا للاستبداد والتخلف. إنه التجديد الذي لا يقيد التدين ويضبط الفتوى ضمن أطر ضيقة لأن الدين واسع ويسير فلا نضيق أو نعسر ما وسعه الله أو يسره. التجديد المطلوب هو التجديد الذي يطلق حركة العلماء ولا يضبط إيقاعها ضمن فلك مضبوط. فالعلم عطاء، والعطاء العلمي لا حدود له، ولأن الاجتهاد ضمن ضوابطه لا يقبل التقييد لأنه تقييد لمطلق وصاحبه يؤجر مرتين إن أصاب ومرة إن أخطأ. أما حصر الأمر في الجوانب الهيكلية والتنظيمية في التجديد الديني، فمهما بلغت أهمية ذلك، فهي لن توفر الشروط الموضوعية الملائمة لتنزيله وتفعيله كما لن توفر ضمانات استمراريته وديمومته.
6.1. المطلوب السادس : تفعيل دور المجتمع المدني

من شروط الإصلاح الديمقراطي وجود مجتمع مدني حي وفاعل، وحيويته وفاعليته علامة على نضج الاجتماع السياسي. ويقوم المجتمع المدني على أساسين هما: المواطنة والتطوع. ولا يؤدي المجتمع المدني دوره إذا ارتهن للسلطة السياسية أو مارست عليه هذه الأخيرة ضغوطا لاحتواء حركيته وحيويته وفاعليته. إن الاستقلالية شرط صحة لوجود المجتمع المدني.
ومن أجل تفعيل دور المجتمع المدني وتجويد أدائه، فإن هناك حاجة إلى أن يطور المجتمع المدني من مستوى قوته الاقتراحية ضد السياسات الخاطئة وغير العادلة. وأن يقيم الوزن بالقسط في الحكم على السياسات: تثمين ما هو مفيد لشعبنا وبلادنا في تلك السياسات، والاحتجاج والتظاهر ضد السياسات المضرة. وهذا هو ما سيزيد من مصداقيتها.
لدينا مجتمع مدني معتبر ببلادنا، وهو بلا شك بحاجة إلى تفعيل أدائه في مهام التحول الديمقراطي. وقد أوردت أعلاه بعضا مما يمكن أن يسهم في ذلك.



2. قضايا للمعالجة على طريق الإصلاح الديمقراطي بالمغرب:

1.2. في مداخل الإصلاح:

تبرز في النقاش السياسي حول قضية الإصلاح الديمقراطي ببلادنا أطروحتان فيما يتعلق بمداخل الاصلاح: أطروحة المدخل الاقتصادي والاجتماعي وهي على قولين، قول أول يرى أصحابه أن الازدهار الاقتصادي والاجتماعي هو المدخل نحو الإصلاح ولا يرى أي دور للمدخل السياسي فيما يرى أصحاب القول الثاني من هذه الاطروحة أن هناك تراكما كافيا من الإصلاح السياسي قد تحقق وأن بلادنا بحاجة إلى دفعة اقتصادية واجتماعية.
أما الاطروحة الثانية فلا ترى مدخلا للإصلاح غير المدخل السياسي وتعتبر أن ما تم تحقيقه من تقدم في المسار الإصلاحي لم يرق بعد إلى الحد الادنى في مطلوب الإصلاح الديمقراطي.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم علينا كنخب سياسية وكفاعلين سياسيين هو: أي المدخلين له الأولوية؟ وهل بالضرورة نحن مضطرون للحديث عن مدخلين أم عن مدخل واحد ببوابتين مع تركيز لأحدهما اكثر من الآخر؟.. وجوابا على ذلك، أطرح في البداية إضاءتين من الخبرة الحضارية الانسانية: أولهما، ما أبرزته التجربتان الاوربية والأسيوية من أن حصول النمو الاقتصادي هو أحد محفزات بناء الديمقراطية. وهو ما يبين أن النجاعة الاقتصادية ليست عاملا حاسما في بناء الديمقراطية. وثانيهما أن الكثير من التجارب الديمقراطية أبانت على أن المدخل السياسي في بناء الديمقراطية كان عاملا حاسما في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ويمكن تقديم النموذج الاسباني كمثال للتجارب الناجحة في ترسيخ الديمقراطية وتحقيق نمو اقتصادي معتبر عبر المدخل السياسي.
صحيح أن اندماج اسبانيا في الاتحاد الاوربي كان عاملا حاسما في تطورها الاقتصادي والتنموي ولكن ما كان لاسبانيا أن تحظى بعضوية الاتحاد الاوربي لو لم تكن قد توافرت على الشرط السياسي واحد مقوماته الاساسية هو الدمقرطة. ولنتذكر أن المغرب كان يتقدم على اسبانيا في بداية سبعينيات القرن الميلادي الماضي في العديد من القطاعات.
إن التركيز على المدخل الاقتصادي والاجتماعي مهم وضروري، ولكن أين هي بيئة التنمية ومحيطها الطبيعي؟ أين هو الاطار السياسي والدستوري والمؤسساتي الذي يمكن من تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي؟ إن التوزيع العادل للسلطة يسبق التوزيع العادل للثروة كما يسبق نموها. وإذا سارا معا فبجرعة زائدة من الاصلاح السياسي والدستوري والمؤسساتي. إنه حين نتجاوز السؤال السياسي أي أن نضع الاجوبة الدستورية والمؤسساتية لاجتماع سياسي مدني راشد، أنذاك وآنذاك فقط يمكن ان نشرع في معركة مريحة من اجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية
وبناء على هاته الإضاءات، يمكن القول إن مدخل الإصلاح واحد، بوابة الإصلاح السياسية حاسمة وبوابة الاقتصادية والاجتماعية مساعدة ومحفزة. وواهم كل الوهم من يعتقد أن سبيل النهضة يمر عبر الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي دون الإصلاح السياسي. وتقدم حكومة التناوب في التجربة المغربية نموذجا لمآلات المراهنة على الإصلاح بدون التدقيق في ادواته الموصلة إليه أو التساهل في جودتها وصلاحياتها، بحيث وهذا ما صرح به قادة سياسيون ممن انخرطوا في تلك التجربة لم يكن بمقدورها أن تعمل خارج ممكناتها الدستورية والسياسية أولا، ولم تستطع انجاز معدل النمو الاقتصادي المطلوب ثانيا.

2.2. الدين والسياسة وسؤال الإصلاح:

إن معالجة العلاقة بين الدين والسياسية في واقعنا المغربي تحتاج إلى أمرين: أولهما، تجنب اسقاط الخبرة الحضارية الاوربية في العلاقة بين الكنيسة والدولة وما آلت إليه على واقع أمتنا وعلى واقعنا المغربي. أما الأمر الثاني فهو ضرورة رفع الالتباس الحاصل بين النظام السياسي الاسلامي كما هو في أصالته وجوهره وبين النظام السلطاني الذي ساد ردحا من الزمن داخل أمتنا.
أما عن علاقة السياسي والديني في الإسلام، فتتحدد في الاجمال في ما يلي: أولا، أن السياسة في الاسلام من القضايا المخولة إلى نظر الخلق أي من قضايا الاجتهاد ولذلك كان مدارها على الاستصلاح أي طلب المصلحة ودفع المضرة. ثانيا، إن الدولة في المرجعية الإسلامية دولة مدنية والمجتمع هو مبرر وجودها، ولذلك كانت الدولة إجراءا لاحقا لتنظيم الاجتماع السياسي للمجتمع. ثالثا، إن الاعتقاد الديني ليس شرطا في المواطنة في المرجعية الاسلامية لان وضع غير المسلمين في إطار الدولة هو وضع المواطنين. رابعا، تقتضي مدنية الدولة وجوبا مدنية الحزب السياسي أي مدنية برنامجه السياسي، وبالتالي وجب التمييز بين الطبيعة السياسية المدنية للحزب بمعنى بحثه الدائم والمستمر على جلب المصالح ودرء المفاسد، وبين مرجعية الحزب التي تحدد معايير ذلك البحث.
وعليه، فإن اعتماد المرجعية الاسلامية من قبل حزب سياسي لا تخول له إضفاء أية قداسة على بيانه وعمله لان التصرف السياسي تصرف مدني وكل تصرف مدني هو بالضرورة نسبي وكل ما هو نسبي يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ.
ولذلك، إذا انضبطت العلاقة بين الدين والسياسية لهذه الضوابط الأصلية ندرك أن الدين لا يشكل عائقا أو مشكلة في بناء الديمقراطية كما يذهب البعض إلى ذلك.. إن الإسلام بمبادئه وقواعده المنضبطة، يمنح بنظري أفضل إطار لتسريع تبئية الديمقراطية في بلادنا، فهو دين الحرية الحقة وهو دين العدل والقسط وهو فضلا على ذلك دين يناهض الإكراه وكافة الانتهاكات الماسة بحقوق الإنسان.
ومع كل ما قلناه، فإنني أعتقد أن فتح نقاش نوعي ومتميز من شأنه أن يرفع كل الالتباسات الحاصلة والإسقاطات الخاطئة في تناولنا لإشكالية العلاقة بين الدين والسياسة في الإصلاح الديمقراطي ببلادنا.
4.2. الإصلاح بين الخصوصية والكونية:

تقدم التجربة الماليزية نموذجا لنجاح الإصلاح الديمقراطي الذي يستند إلى القيم الأصلية للشعب الماليزي. ولذلك يقدم خبراء الاصلاح التجربة الماليزية كدليل على أن العامل الثقافي لشعب ما لا يمثل أي عائق أمام الدمقرطة والتنمية.
إن نص الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، مثلا، ليس حوله أي مشكل من حيث هو كنص ومتن، ولكن لكل قراءته لهذا النص وتأويله وطريقة تنزيله على واقعه التي ترتبط كلها بعوامل خصوصية.
فالكونية لا تنعقد مقوماتها إلا بشرطين: أن تكون حاصل تلاقح الثقافات والحضارات والأفكار والسياسات والخبرات. فالكونية هي المزج الخلاق بين الخصوصيات. الشرط الثاني: ألا تعكس ميزان قوة بحيث تكون مجرد فعل فاعلين أو قول قائلين يتم تعميمهما على الآخرين أو فرضهما عليهم.
ومن جهة ثانية، لا يجوز الاختباء وراء الخصوصيات للتملص من دفع مستحقات كونية حقيقية. كما أنه لا ينبغي التجاوز والقفز على الخصوصيات تحت ذريعة الكونية وخاصة إذا لم تكن حاصل تلاقح ثقافي وحضاري أو إذا عكست موازين قوى مختلة لفائدة الأقوياء.
الآن لو أردنا أن نتحدث بلغة المرجعية الدولية، فهناك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يحمل رقم 81 وصادر في دجنبر 2000 تحت عنوان "حول تعزيز الديمقراطية وتوطيدها". وهو القرار الذي يؤكد، من ضمن ما يؤكد عليه، على أنه لا وجود لنموذج عالمي واحد للديمقراطية وأن الديمقراطيات تتقاسمها خاصيات مشتركة، وهذا طبعا هو ما ينضج الفكرة الكونية حول الديمقراطية نظرا لتنوع الخصوصيات الثقافية.
إذن، لا أقول إن الخصوصية الثقافية لا تمثل عائقا فقط أمام بناء الديمقراطية، بل هي رافد من الروافد التي تضخ في الفكرة الكونية للديمقراطية.
وعليه، فحينما نتكلم عن قيمنا كمغاربة، وأقصد القيم الإسلامية، فإنني لا أرى فيها ما يمثل عائقا لتبيئة الديمقراطية وتكريم الإنسان وتأمين وكفالة كافة حقوقه.
وعليه، فإنني أعتقد أن هناك حاجة للإبداع في تشييد صرحنا الديمقراطي على قاعدة الاستفادة من الحكمة الانسانية وفي إطار مستوعب للخصوصيات الدينية والثقافية لبلدنا.

4.2. الإصلاح والمسألة اللغوية:

إن الامازيغية شأن مغربي يعني كل المغاربة لا مجرد فئة منهم. ولذلك فإن الاقرار بتنوع الحقوق الثقافية واللغوية ينبغي أن يتم في إطار الهوية المغربية الجامعة. وأرى أن الرغبة في إعادة الاعتبار للتراث والثقافة الامازيغية ومحو عار التنكر لها لا ينبغي أن يقود إلى الوقوع في اوحال المقاربات التجزيئية أو معالجة تنكر الآخر بتنكر مقابل، فمعالجة الخطأ بخطأ أكبر لا يمكنها إلا أن تنمي النعرات الفئوية ولا يمكنها أبدا أن تعالج القضية معالجة في الصميم. إن المطالبة بإعطاء الأمازيغية حقوقها الطبيعية مطلب عادل ومشروع لا يمكن إلا مناصرته. لكن الإقرار بذلك لا ينبغي أن يقود إلى التنكر للأبعاد الأخرى في الهوية الحضارية المغربية.
وبناء على ما سبق أرى أن تناول المسألة اللغوية في إطار الإصلاح الديمقراطي ينبغي أن يتم في إطار الهوية المغربية الجامعة.

5.2. الإصلاح والجهوية:

تعتبر الجهوية مظهرا من مظاهر الديمقراطية وشرطا من شروط التنمية. واليوم يتوجه المغرب إلى إقرار جهوية متقدمة. وطبعا، ليس مجال هذه الورقة التفصيل في هذه القضية، ولكن حسبي ان أثير هنا ثلاثة أسئلة جوهرية بخصوص المطلوب من الجهوية المتقدمة:
أولا، ما هي معايير التقسيم الترابي الذي ستتأسس عليه الجهة في إطار الإصلاح الجديد. وهذا سيطرح عدة تحديات منها تحدي التوازن بين المناطق الغنية والمناطق الفقيرة.
ثانيا، هل نريد جهوية إدارية أم جهوية سياسية وهذا سيطرح بالطبع إشكالية العلاقة بين السلطات المعنية (الولاة والعمال) وبين السلطات المنتخبة؟.
وثالثا وأخيرا، كيف نؤمن الوحدة الوطنية ونحافظ على اللحمة الجامعة لأبناء الوطن الواحد؟



3. في منهجية التعاطي مع سؤال الإصلاح الديمقراطي: أفكار من اجل النجاح

هناك عناصر توجيهية في منهج التعاطي مع إشكالية الإصلاح الديمقراطي ببلادنا وأراها حاسمة في الدفع به نحو الأفضل وهي:

1.3. العنصر الموجه الأول: وعي الزمن السياسي الذي نحن فيه

لكي نعرف مطلوب الإصلاح وحاجاته، لا بد من وعي الزمن السياسي الذي نحن فيه.
ففي أي زمن سياسي نحن اليوم؟ أعتقد أن المغرب في مرحلته الراهنة، يعيش زمنا سياسيا تتعايش فيه سياسات غير متجانسة بل ومتناقضة أحيانا. ومن المؤكد أن المغرب لم يدخل زمن التحول الديمقراطي بعد، لكن يمكن أن نقول بوجود سياسات إيجابية ولو على قلتها ونذرتها في مقابل وجود واستمرار سياسات خاطئة ومعيقة إذا ما قمنا بقياسها بميزان الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. هذا المشهد السياسي يقود إلى القول أيضا أننا نعيش مراوحة بين إرادتين سياسيتين: أولى، وهي الغالبة، تتميز بميل نحو الهيمنة على المجال العام وتتوسل في ذلك وسائل متنوعة، ولكن ما يجمع بينها هو غلبة المقاربة الأمنية واستبعاد الحوار المكلف من حيث نتائجه مع خلط وعجن ذلك كله بقدر يسير من السياسات الإيجابية في المجال الاجتماعي. أما الإرادة السياسية الثانية، وهي غير بارزة، فتتميز بتنفيذ بعض السياسات للدفع بمسلسل الإصلاح الديمقراطي ولو بطرق محتشمة ومحدودة. إذن، نحن نعيش مرحلة فيها شيء من احترام الحقوق وكثير من انتهاكها، مرحلة فيها بعض المظاهر الديمقراطية والكثير من المظاهر غير الديمقراطية. إننا أمام حالة ملتبسة في الحقوق والحريات والديمقراطية، يعكسها هذا الخليط من السياسات غير المتجانسة. وما يزيد الطين بلة هو هذا التزايد الملحوظ للأنشطة السياسية التشويشية بديناميكيتها الوهمية التي تعطل الفرز السياسي الحقيقي وتميع العملية السياسية. وعليه، فإن الحاجة تتزايد إلى ابتكار عناوين جديدة أو متعددة للدفع بمسلسل الإصلاح مع البحث في سبل تقوية كل الارادات السياسية الصادقة والراغبة في دفع مستحقات التحول الديمقراطي.
جانب ثان في وعي الزمن السياسي الذي نحن فيه ويتعلق بالمحتوى السياسي للعملية السياسية الجارية. فبعد إقرار الجميع أو غالبية القوى الفاعلة ببلادنا بأن التوافق هو الطريق نحو الإصلاح الديمقراطي. فإن ما نعيشه في بلادنا لا يخضع بالتأكيد لموازين بناء ما يسمى في الأدب الديمقراطي بتوافق الدولة والمجتمع في بناء الصرح الديمقراطي. إنه أقرب ل "ديمقراطية الوصاية" على حد تعبير هولمز أي "ديمقراطية المأمون والمعروف سلفا، لأنها "ديمقراطية" لا تحتمل المفاجآت، وبالتالي فجوهرها يقوم على مراقبة المجال العمومي في أدق تفاصيله (لا مراقبة سياسية أو حتى إدارية فقط بل مراقبة أمنية أساسا) والتدخل بناء على ذلك لضبط الأمور بما يخدم إنتاج وإعادة إنتاج "ديمقراطية الوصاية"، لأنه في"ديمقراطية الوصاية" لا مجال للمفاجآت، وكل شيء يتم وفق ما هو مخطط له.
المطلوب اليوم هو كيف نضع حدا لزمن "ديمقراطية الوصاية" ؟ بمعنى كيف نزيل التخوفات المشروعة التي تقف وراء التمسك ب"ديمقراطية الوصاية" من جهة، ومن جهة ثانية كيف نبدع في سبل جعل الوعي الديمقراطي وعيا عاما تتحول بمقتضاه الديمقراطية إلى مطلب يوازي مطلب العيش الكريم؟.
أما الجانب الثالث في وعي الزمن السياسي الذي نحن فيه فيتعلق بتقدير حجم الصعوبات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها بلادنا. والمطلوب أن نرتب على الوعي بتلك الصعوبات والتحديات مطالب اقتصادية واجتماعية مستعجلة ومنسجمة مع أولويات الإصلاح الديمقراطي.

2.3. العنصر الموجه الثاني: التدرج

بين المطلوب والواقع هناك مسافة، وردم المسافة يتطلب زمنا، وحسن تدبير الزمن لبلوغ المطلوب يقتضي جدولة أي وضع مراحل لإنجاز أهداف، يؤدي استنفاذ أهداف كل مرحلة إلى العمل على إنجاز أهداف المرحلة التي تليها. وهذا هو التدرج وهو نقيض حرق المراحل، فكل ما يتم بتسرع يتم التراجع عنه بتسرع كما يقال، وفرق بين السرعة والتسرع: السرعة مطلوبة والتسرع مذموم ومضر.
اليوم، هناك وعي يزيد وينقص بأي زمن سياسي نحن فيه؟ طبعا، هناك وعي بأننا لا نعيش الزمن الديمقراطي حتى لدى السلطة السياسية الحاكمة. إذن ، كيف نقارب هذا التدرج؟ هناك بنظري عوامل من شأن العمل بمقتضاها أن تفتح أفقا واعدا في الامكان الديمقراطي ببلادنا:
التدرج يقتضي ابتداء تحديد دفتر تحملات لمطلوب المرحلة، وإذا كان هذا الخير متوافقا بخصوصه، وهذا هو المؤمل والمرتجى، فإنه يتم وضع ميزان لقياس مدى التقدم أو التأخر بالنسبة للمطلوب وعلى أساسه (أي القياس) تتم تحديد المسؤوليات. مثلا، من مطلوب الإصلاح الديمقراطي أن يتم تأهيل الدولة من حيث المؤسسات وصلاحياتها (وهذا يهم الدستور) ومن حيث تجديد وظائفها (فلسفة الدولة). طبعا هذا هدف كبير دونه مراحل، ولذلك يكون التدرج حين نحدد بدقة ما هو المطلوب المرحلي في عملية التأهيل تلك. وهذا يقتضي بنظري مراعاة الأمور التالية:
أولا، ألا نعطي " الاجماع على الأساسيات أكثر من حقه كشرط مسبق لعملية الانتقال الديمقراطي" لأن حل "نزاع مسبق" يفترض "تجنب نزاع جديد" على حد تعبير هولمز. لنقل الأمور بوضوح اكثر: يجب ان نميز في مطلوب المرحلة بين ما ينبغي طرحه اليوم وما لا ينبغي طرحه اليوم؟ ما يفيد الانتقال الديمقراطي وما لا يفيد، أي أن نتجنب المزايدة أو المناقصة في التعبير عن مقتضيات المطلوب الديمقراطي المرحلي.
ثانيا، أن نميز في الجوانب الشكلية بين ما يمكن الصبر عليه وتجاوزه وعدم إعطاءه أكثر مما يستحق، وبين ما يعتبر السكوت عليه ناقضا للمطلوب الديمقراطي النهائي. إن الأهم طبعا في المراحل الانتقالية هو التركيز على المضامين والمحتويات بما يحقق التراكم السياسي الديمقراطي ودون إيلاء اهتمام زائد عن المعقول للجوانب الشكلية. إن تضخيم الجوانب الشكلية يضيع المقصود وخاصة إذا لم تكن لها آثار مضمونية. فالتفاوض او التوافق او التعاقد يجب أن يتم وعيوننا وقلوبنا وعقولنا مشدودة إلى المطلوب من حيث المحتوى والمضمون دون إهمال الشكل ولكن بما لا يؤثر على تحقيق تقدم على مستوى المضمون. ولنقل إذا كان تحقيق المضمون ممكنا بصبر على جانب شكلي غير جوهري فليكن لان تحقيق المضمون وتراكمه مع الزمن سينهي بديناميته الجوانب الشكلية غير المرغوب فيها. فللمضمون ديناميته وهي بطبيعتها تحد في المحصلة النهائية من آثار الجوانب الشكلية السلبية. هذا بنظري هو منطق الإصلاح.
ثالثا، النوايا الطيبة المتبادلة أمر مهم ومفيد، ولكنها غير كافية. فالتدرج يصبح بلا معنى إذا لم نوفر له ضمانات مؤسساتية. فلكل مرحلة تفاهماتها السياسية، ولكي تكون تفاهمات سياسية لفائدة الديمقراطية وتحقق التراكم باتجاهها، لا بد أن تضمن مؤسساتيا على الأرض وعلى مستوى النصوص الدستورية والقانونية.



3.3. العنصر الموجه الثالث: حسن تدبير الانتهاك أو الانتكاس

يحتمل بناء الديمقراطية حصول انتهاكات او انتكاسات لأن قوى الجمود السياسي ترى في تراكم الإنجاز السياسي في تشييد الديمقراطية تفويتا لمصالحها وتهديدا لنفوذها السياسي والاقتصادي. ولذلك تتحدد استراتيجيتها عادة في الانحناء لمطالب الإصلاح على مستوى الخطاب والقول، ولربما انتجت خطابا سياسيا متقدما، ولكن تمارس سياسة معاكسة على مستوى الممارسة. وهذا بالضبط هو ما يسمى في الأدب الديمقراطي ب"إعاقة الديمقراطية". فإعاقة الديمقراطية هي فعل سياسي. ولذلك كان من أسباب اخفاق الإصلاح الديمقراطي في الكثير من البلدان هو سوء تدبير الانتهاكات والانتكاسات التي تطرأ خلال المسيرة الإصلاحية من قبل القوى المعنية بالإصلاح الديمقراطي.
وعليه، فليس هناك منهج أرشد من حسن تدبير الانتهاكات أو الانتكاسات التي تحصل أثناء بناء الديمقراطية وتشييدها. والاعتدال سلوك سياسي حضاري يقتضي الصبر على مزاج قوى الجمود السياسي وتدبير التجاوزات من قبلها لا بمنطق انفعالي. إن الاعتدال فعل وليس رد فعل، فعل محسوب ومدروس في صيغته وآفاقه ومآلاته، أما رد الفعل فهو انفعال بدون ميزان ولا بوصلة. ولذلك كان الفعل الراشد ممتدا في الزمان من حيث نتائجه ومردوديته، اما رد الفعل المنفعل فعمره ومداه الزمني قصير، إنه لا يدوم وهو بلا آثار فضلا عن كونه صبا للماء في طاحون أصحاب "إعاقة الديمقراطية" لأن هؤلاء حين ينتهكون يستفزون وحين تستجيب القوى المعنية بالإصلاح للاستفزاز تكون النتيجة والمحصلة هو الوقوع في فخ "إعاقة الديمقراطية" بما هي عمل متواصل لعرقلة وإعاقة أي تقدم في الانجاز الديمقراطي. والاعتدال في تدبير الانتهاك او الانتكاس ليس جبنا أو تخاذلا أو خضوعا لاعتبارين اساسيين:
لأنه أولا يخدم اهداف ايجابية وهو بذلك علامة ثقة في النفس. إنه ينقل المعركة من منطقة الاستفزاز إلى منطقة الإصلاح. ويعبر بعض الباحثين عن هذا السلوك ب"طريقة التجنب" أي تجنب الوقوع في فخ "إعاقة الديمقراطية". ثم إنه ثانيا لا يمنع من إدارة توتر اجتماعي مدني سلمي مدروس لمواجهة الانتهاك او الانتكاس. وقد أبانت الخبرة الحضارية الإنسانية في بناء الديمقراطية أن التوترات الاجتماعية المدروسة والتي تتوسل اساليب سلمية ومدنية هي علامة على وجود قلق مشروع يدفع في النتيجة إلى مراجعة السلوك الانتهاكي أو الانتكاسي. إن المحدد في الوسائل هو حاصل تقدير الشروط الذاتية والموضوعية، وقد يكون الصبر، بمعنى عدم العبء ببعض مخططات مهندسي الإعاقة الديمقراطية، هو الخط الصحيح والمناسب لأنه تفويت لفخ الوقوع في الاستفزاز. ولذلك، تبين التجربة السياسية المغربية ان مهندسي الإعاقة الديمقراطية يحرصون دوما على إغراق أي مرحلة سياسية أو منعطف سياسي بالأمور الشكلية، لإفراغ النقاش السياسي من محتواه ومضمونه. والنتيجة هي أن عدم التنبه إلى ذلك يقود إلى اليأس والانسحاب من الميدان وترك المجال لمهندسي الإعاقة فتكون الخسارة خسارتان: الأولى، هي الاستجابة لمنطق الإعاقة ولو أن ذلك يبدو غير مباشر وغير إرادي، والثانية، نخسر نقطة في معركة طويلة في بناء الديمقراطية.
بنظري، نحن بحاجة إلى سعة أفقنا الاستراتيجي والتكتيكي وأن نفتح أعيننا على الأوسع وألا نحشر أنفسنا في منطقة الاستفزاز. إن السؤال هنا هو سؤال وجيه: هل نتحرك في منطقة الاستفزاز (أي الدائرة المفرغة ودائرة الإعاقة) أو نتحرك في منطقة الإصلاح؟ وبناء على الجواب الدقيق نقرر ما يلزم عمله. وهذه هي إحدى الدروس الأساسية التي استخلصتها من تجربتنا السياسية المغربية في مسيرة الإصلاح.



4. الإصلاح الديمقراطي بالمغرب: منهجية التوافق ومضامينه

بعد أن أجمعنا على عدم جدوائية (والاصح جدوية) منهجية المواجهة والصدام في تحصيل الديمقراطية، وبعد أن جربنا التوافق ووقفنا على نواقصه، فإنه أصبح من العقلانية والموضوعية والضرورة اليوم أن نطور توافقنا السياسي وذلك بحشد كل الطاقات والكفاءات والإمكانات لتحقيق تراكمات نوعية على طريق الاصلاح الديمقراطي.
ومساهمة في ترشيد التوافق السياسي، أتقدم بالاضاءات والمقترحات التالية:
1 . في البداية، هناك ملاحظة مصطلحية، إنني أحبذ مصطلح التعاقد على مصطلح التوافق، لأنه في التعاقد لا مجال لتأثير موازين القوى في الناتج التعاقدي، أما في التوافق فإمكانية تأثير تلك متعاظمة.
2 . يجب أن نميز بين التوافق والموافقة السياسية. التوافق السياسي المطلوب هو حاصل سلسلة من التفاهمات السياسية التراكمية، تفاهمات تكون تبادلية أي ناتج أخذ ورد وتداول.
3 . مهم أن نبني التوافق السياسي على النوايا الطيبة، ولكن الأهم أن نبنيه على المؤسسات. فالأفعال هي محك صدقية النوايا والأقوال.
4 . بناء الديمقراطية يحتاج إلى دستور ومؤسسات وقوانين وآليات ديمقراطية، والتوافق السياسي هو توافق على تلك الادوات ولو عبر تفاهمات سياسية متدرجة وتراكمية، وهذه مسألة جوهرية وحيوية في تشييد الصرح الديمقراطي.
5 . التوافق السياسي يقتضي التوافق حول آليات المتابعة. وبهذا الخصوص يمكن اقتراح صيغتين: الأولى، هي اللقاء السنوي الوطني للتقييم والتقويم بهدف الاجابة عن سؤال محدد هو: هل نتقدم أم نتأخر؟ واتخاذ ما يترتب على ذلك من قرارات وإجراءات. والصيغة الثانية هي صيغة الفضاء العمومي أو الفضاءات العمومية بهدف اشراك عموم المواطنين في قياس فاعلية ومردودية الاجراءات والقرارات المتخذة.

على سبيل الختم:
إن الإصلاح الديمقراطي هو حاجة مغربية موضوعية ازدادت راهنيتها بامتياز مع ما تواجهه بلادنا من تحديات مركبة ومعقدة ومتنوعة داخلية وخارجية. وما حصل من تعثرات في المسار الإصلاحي ببلادنا، على الرغم من ما يمكن تسجيله من ملاحظات حول مضامينه، لا يبرر الاستسلام لها، كفى فرصا ضائعة. فلنفتح باب التأمل والتفكير في سبيل تشييد صرحنا الديمقراطي. فيا أيها المفكرون والعلماء والمثقفون والسياسيون والحقوقيون الصادقون إن المغرب في حاجة اليكم جميعا. إن الاصلاح الديمقراطي ليس قضية للمناولة (sous-traitance) ، إنه موضوع يهمنا ويعنينا جميعا، وعلى كل واحد منا أن يختار له دورا للإسهام في هذا الاصلاح. وهذا باب من ابواب الخير، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون لما فيه مصلحة بلادنا وشعبنا.
لنفكر جماعيا في بناء طريق للإصلاح الديمقراطي بعيدا عن أية مزايدة أو مناقصة..
وحتى ذلك الحين، سنقبض على جمرة الأمل رغم الألم.. فنقول: نعم الإصلاح الديمقراطي ممكن مغربي.
تم بحمد الله وعونه بالسجن المحلي بسلا
في 22 صفر 1430 الموافق 18 فبراير 2009
محمد المرواني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.