للإجابة عن السؤال: «لماذا لا نكاد نجد أية مراجعة تغيّر رؤية المسلم المعاصر لشخصية السيد المسيح حسب ورودها في النص القرآني؟» تبرز المنهجية السائدة المعتمَدة لفهم النص كأهم عنصر من عناصر الإجابة. إنها منهجية تعيق البحث عن سبل تجديد الفكر الديني لكونها صيغت في ظروف مختلفة معرفياً عن الظرف الذي نعيشه ولكونها ركّزت على مقاطع قرآنية مخصوصة ولم تراعِ كل السياقات الأخرى التي ورد فيها ذكر السيد المسيح. فضلاً عن هذا وذاك فقد انطبعت تلك المنهجية بنزعة اتباعية في فهم الخصوصية القرآنية المتصلة بقصص الأنبياء عموماً والمتعلّقة بالسيد المسيح بالذات ضمن النسق القرآني ورؤيته المؤسِّسة. هي اتباعية لكونها تنظر إلى النص القرآني كما لو أنّه نص توراتي له ذات الطابع الروائي السردي لا يختلف عن نصوص العهد القديم إلا في بعض التصحيحات التي تميّز بها. ذلك ما جعل الفكر الديني لدى المسلم حِجاجيّ النزعة يولي الأهميّة المطلقة للرد والتصحيح معتبراً أن «المسيح القرآني» ليست له من غاية سوى أنه يمثل الرواية الصحيحة المناقضة للرواية المحرَّفة التي ينبغي التصدّي لها باستمرار قصد دحضها. مثل هذا الاختزال يذهل عن بلوغ رؤية تركيبية لكافة المقاطع القرآنية الأخرى وعن تكامل تلك الرؤية مع أسس الوحي ومقاصده. لهذا فإن السؤال الذي ينبغي طرحه هو: كيف تبدو شخصية السيد المسيح المتحدَّث عنه في مجمل الآيات القرآنية وفي ضوء القَصدِيّة العامة للخطاب القرآني؟ تؤكد خصوصية المعالجة القرآنية لقصص الرسل والأمم ونوع الأهمية التي توليها لهذا الموضوع على أن الغاية هي مقصود القصة قبل التركيز على تحقيق الأحداث وبيان صحتها. لذلك يجدر البحث عن المساقات التي ذكر فيها السيد المسيح وما طبيعة المواضيع التي اندرج فيها الحديث عنه؟ ما الصفات والأسماء التي استعملت له وما العلاقات بينها وبين المقاطع التي اختارها القرآن ليسلط عليها الضوء؟ بعبارة واحدة ما موقع عيسى ضمن بنية الخطاب القرآني وما دلالات هذا الموقع؟ إذا انطلقنا من هذه الزاوية للنظر إلى شخصية عيسى القرآني وجدناه ماثلاً في ثلاثة مستويات مختلفة يرتبط كل واحد منها بمحور كما يكوّن كل مستوى مع المستويين الآخرين نسقاً واحداً تتحدد من خلاله المنظومة الروحية والعقدية المميزة للخطاب القرآني. أ- أول المستويات التي يرد فيها ذكر عيسى هو الحيّز التاريخي القريب. في ساحة الفعل البشري وما يخطّه الإنسان من إمكانات يظهر المسيح في علاقته بخصوم وأتباع يتجسد منها صراع عقدي مزدوج تغذيه تناقضات تاريخية ظرفية يعمل النص القرآني على تجاوزها عبر نقطة الارتكاز التي تؤول إليها كل خطوط هذا الإطار الأول وهي عبارة «الحق». في هذا المستوى يصبح التاريخ المباشر تساؤلاً عن ماهية الإنسان وما يميزه عن سائر الكائنات. هو حيّز يقف بنا أمام الوقائع من جهة فتحها لآفاق الحاضر أي الوعي بقيمتي التحوّل والاستقرار في الحياة البشرية أو التاريخ كعائد لصراع الإرادات. ب- يتصل المستوى الثاني بولادة المسيح وبمعجزاته ثم بوفاته وما ظهر أثناء ذلك من الآيات ومن العجائب غير المعتادة. في هذا المجال المتعلق بالجانب «العجائبي» من حياة عيسى القرآني تبرز الفاعلية الإلهية في سياق الأحداث تخترقُها لتصوغ منها ما يمكن تسميته الحضور الإلهي في التاريخ. التاريخ هنا يضحى جدلاً بين الإرادة الإلهية والفعل البشري كاشفاً للحياة الإنسانية معنى ثاوياً خلف الأحداث. من هذا المجال يتضح خطوط مشروع كليّ يتحقق دون تعسُّف مع واقع الوجود الإنساني بل بالإبقاء على التفاوت بين أفق تلك السيرورة التي يريدها الله سبحانه وما تحققه البشرية بإمكاناتها الذاتية المتاحة. تلك هي السنة الإلهية في الخلق التي تحقق أمر الله وقضاءه مع نوع من الامتداد الزمني الذي يقتضيه الواقع الموضوعي للحياة المادية والبشرية. بذلك فإن الحضور الإلهي في التاريخ لا يقتضي خرقاً للقوانين الطبيعية أو المنظومات الاجتماعية والفكرية للحياة البشرية. إنه حضور يواكب تلك الضوابط يفعل من خلالها، رغم أنه يمكنه تجاوزها. السيد المسيح ضمن هذا المجال المثنّى أداة وصل يحتوي مقومات الواقع البشري الأساسية مع أنه علامة لشيء آخر يحمل مضمونه ويحافظ على استمراريته. أما مركز هذا المجال فهو يعود إلى إحدى العبارات التي استعملها القرآن صفةً لعيسى وهي أنه «كلمة الله» التي تضيئها عبارة قرآنية أشد إيحاء وهي «كن فيكون». ج- أما المستوى الثالث الذي يرد فيه ذكر لعيسى فهو الذي يستعرض فيه القرآن مجموعة من الرسل السابقين والذين يكونون مع عيسى بمثابة التمهيد لظهور الرسالة الخاتمة من جهة والمساعدة على فهم صيرورة العالم من جهة ثانية. هذا المستوى الثالث في تواصل مع الاثنين السابقين يجعل للسيد المسيح، رغم ما وقع تمييزه به من خصائص لم يتصف بها غيره، موقعاً يشترك فيه بالتساوي مع بقية الرسل المحمَّلين بمسؤولية الوحي وبإتاحة المجال للتقليص من ذلك التفاوت الذي بين الواقع والإمكانات البشرية وبين الغائية الكبرى التي تقرّب إليها الرسالات جميعاً. هو نوع من الخط الإيلادي أو الإحداثي تجسّده رسالة كل الرسل يرتكز على الرحمة، تلك القيمة التي تحدد طبيعة علاقة الله بالعالم والعالمين مستفادة من السمة الثالثة لشخصية عيسى ضمن كامل البنية القرآنية. يشير إلى هذا البعد الإيلادي الذي تتكيف فيه الأجزاء حسب الكل جلال الدين الرومي حين يقول «اختفتْ الحيوانيّة فيَّ عندما خُلقتُ بشراً فكيف أخشى أن تنتكس ذاتي يوم وفاتي». هذه الدوائر الثلاث في ترابطها تجلّي وجه السيد المسيح في القرآن ومن ثَم فهي تمكّن من إنشاء منظومة خاصة تتيح لنا وضع تراتبية بين: - غائية الوحي وصيرورة الأكوان القائمَيِْن على مفهوم الرحمة التي تنتظم العالَم. - وبين مجال الكلمة الذي تعرضه صورة تطبيقية للقدرة الإلهية فاعلة في سياق الأحداث وتطوّرها عن طريق المتاح البشري كاشفة بذلك عن المعنى المستور الذي يتحقق تدريجياً أو جدلياً. - ثم ما يعرضه حيّز الشروط التاريخية في صدامها الواقعي الحدثي وهي القائمة على مفهوم الحق وما يستدعيه من تعالٍ يتمثل الحدث الجزئي ويستوعبه بالصيرورة التاريخية للرسالة التوحيدية. بذلك يمكن أن نعتبر أن شخصية السيد المسيح ضمن هذه المستويات الثلاثة المختلفة والمتكاملة تقدم رؤية مركّبة تواجه بها الإرادة الإلهية بتعبيرين اثنين هما: موكبُ الرسل بما يعنيه من غائية وصيرورة وحيّز التاريخ القريب بوطأة رؤيته التجزيئية ومحدودية فعله. من تركيب هذه المواجهة تنكشف بعض أبعاد المشروع الإلهي كَكُلّ. بهذا التمشي الدلالي للسياقات المختلفة التي ورد فيها ذكر السيد المسيح في القرآن الكريم يمكن تخطّي الولع بالروايات والإسرائيليات والردود التي جاءت لظروف خاصة وفي حدود مضبوطة والتي إن تجاهلتها لم تتح للوحي القرآني أن يستوعب مجمل تطورات الحاضر فضلاً عن المستقبل. هي منطلق لردم الفجوة الكبيرة القائمة بين وتيرة التغيّر الاجتماعيّ في العالم العربي الإسلامي وبين تعثر المراجعات الواعية والمنتظمة للبنية الثقافية الخاصة ولرؤيتنا لذواتنا وللعالم. العرب 2009-05-21