تقتضي المواجهة الميدانية حسن الإعداد والإغراق في الأخذ بالأسباب، فتُعتمدُ لها الخطّةُ والخطّةُ البديلة وبديلة البديلة، ويُحرص فيها على عمق الترتيبة وحسن التنسيق بين عناصرها وتمايز قطاعات رميها وسدّ الفجوات فيما بينها، ويُهتمّ فيها بتعدّد الخطوط والمستويات، وهو ما يعني وجود العناصر النشطة المباشرة ووجود غيرها من الاحتياطي الخادم للمرونة التي لا بدّ أن تُراعَى في كلّ مفاصل العمل الميداني، وهو ما يعني دقّة الرمي وضبطه ودقّة الحركة وتوجيهها بأوامر مسبّقة بُنيت على افتراضات نابعة من حسن معرفة العدوّ أو الخصم بما هو جسم ووسائل وإمكانيات ونابعة كذلك من حسن دراسة الميدان وخبرته تضاريسَ وطبيعةً وسكّانا... فالمواجهة إذن إعداد جيّد ولكنّها قبل ذلك عديد جيّد تحابّوا فيما بينهم وتعاهدوا على نصرة قضيّتهم (وهل من قضيّة أرفع لديهم من دحر عدوّ "أيّ كان هذا العدوّ" يقتحم عليهم حصونهم "أيّا كانت هذه الحصون") وامتلكوا القوّة (والقوّة هي الرمي كما عرّفها سيّد المرسلين عليه الصلاة والسلام) حتّى قدروا على توجيه نيرانهم؛... ذلك أنّ الوقوع تحت نيران العدوّ لهو من أكبر العلامات وأخطرها الدّالّة على ضعف المجموعة (أيّ مجموعة) وقلّة التنسيق فيما بينهم وحتّى هوان بعضهم على بعضهم... ولقد رأيتني أبدأ قراءة حلقات من كتاب لأخ - لم أتعرّف عليه سابقا – قد اختار له عمدا كما بيّن أو كما فهمت من بيانه عنوان "نيران صديقة"، قصد منه ربّما إمكانية تعرّض الصديق إلى ضعف أثناء الأداء قد يلبّس عليه الأمر فيرمي صديقه أو أخاه ظانّا أنّه من عدوّه أو مشتبها في أنّه قد تعامل مع عدوّه... والحقيقة أنّني أعجبت بالحلقات الثلاث التي قرأتها ليس لأنّها تشبع رغبة في نفسي ولكن لأنّها صادرة من أحد أفراد الترتيبة وقد أشار إلى بعض الخلل فيها منبّها إلى تغيّرات طارئة على الميدان قد تعيق نجاعة الخطّة التي طال زمن الالتزام بها..، فصاحبُ الكتاب قاعدي - كما وصف نفسه - أي أنّه من وسط الأفراد المتخندقين في الخطوط الأمامية الذين يرقبون تصرّفات "الخصم" على الميدان والذين يمكنهم كذلك مراقبة ما يتسرّب من ضجر قد يكون خفيّا إلى بعض المرابطين، وقد كان حريّا بالقادة المتمركزين في مركباتهم القيادية والمركّزين على ما تحمله الذبذبات من معطيات ومعلومات راجعة إلى النسق الأعلى أخذ ملاحظاته – "على هوانها" - بعين الاعتبار، بدل تجاهله أو إسكاته بتعلّة عدم "إشغال" بقية العناصر بما لا يخدم المُخَطَّطَ له!... ومماّ ساءني أن تضاربت الأنباء، فمن النّاس من يقول بأنّ الحلقات كانت ثلاثة ومنهم من يقول أنّها كانت أكثر من ذلك (ستّة).. ذلك أنّ هذا الافتراض الأخير يعني منعَ نشر من قِبل سلطة تحتوي النّاشرين، وهو ما يرجع بالتساؤل حول أشياء تسيء في مجموعها إلى فرحتنا بما أُنجِز إلى حدّ الآن على مضمار الكلمة الرّسالية... والغريب أنّه في الوقت الذي استُعِدَّ فيها لمقاومة ال"نيران صديقة" بما لا يخدم مبدأ الاقتصاد في النيران، كانت "نيران عدوّة سافلة" تثبّت (مصطلح عسكري يعني منع الحركة) الكثير من أبناء الحركة بل الكثير من قياداتها وتحطّم منجزاتهم الواحد تلو الآخر دون أن تجد منهم الردّ ولو بأخذ التماس معها... أحسب أنّ الاطلاع على كتاب "نيران صديقة" أمر مهمّ، منه تُتدارك الهفوات (إن وجدت) وبه تُعطى الأمثلة على حريّة التعبير الملتزم بالأخلاق وبمصلحة تونس وأبنائها.. وأمّا أن نحاول كبت الأنفس وخنق الأنفاس، فقد أثبتت التجربة أنّنا أهل إبداع في الرّدود وفي ردود الرّدود التي كثيرا ما التزمت الدقّة المفرطة في كشف كلّ العورات... هذا وأحسب أنّ مناسبة الاحتفال بذكرى تأسيس الحركة الإسلامية مناسبة مهمّة لأخذ التدابير الكفيلة بالخروج من مداءات كلّ النيران (عدوّة وصديقة) كي نصبح قادرين على الحركة والمناورة!...