غرقت حكومة «جوردون براون» في أزمة طالتها بعنف ، علي الرغم من عمرها القصير ، إذ وصلت إلي الحكم في شهر يونيو من العام الماضي فقط . وكانت التوقعات أن تنجو هذه الحكومة من ملاحقة أجواء الفساد ، التي طاردت توني بلير رئيس الوزراء السابق ، والذي انتهج مجموعة سياسات يمينية وتحالف مع الأثرياء وتخلي عن جذور حزب العمال اليسارية والمتحالفة مع النقابات والقوي التقدمية . والأزمة التي واجهتها حكومة براون ، هي تحويل ملف تحقيقات بشأن تلقي التبرعات لتمويل حملة الوزير بيتر هين ، الذي كان يتنافس علي منصب نائب زعيم الحزب . وقد وصلت حملته إلي ما يقرب من مائة ألف جنيه إسترليني ، لم يتم الإعلان عنها للهيئة المشرفة علي انتخابات جرت في شهر يونيو الماضي وخسرها الوزير الذي قدم استقالته . وكان " هين " قد أعلن عدم معرفته بهذه التبرعات وأن الأمر هو مسئولية الجهاز الذي كان يدير حملته . ولم تقتنع بهذا التبرير الهيئة العليا المشرفة علي الانتخابات ، والحريصة علي الشفافية والإعلان عن كل " بنس " يحصل عليه نواب في البرلمان ووزراء ، ورصد التبرعات التي تصل إليهم ومعرفة مصادرها . وكانت حملة تفجرت في وجه حكومة براون بشأن تبرعات لرجل أعمال بريطاني ، هو ديفيد إبراهامز ، الذي تبرع بأكثر من 750 ألف جنيه إسترليني للحزب الحاكم عبر شخصية وسيطة ولم يكشف عن اسمه مباشرة ، مما أثار ضجة لا تزال مشتعلة . واتهمت تقارير نائبة زعيم الحزب الحاكم هارييت هيرمان ، التي حصلت حملتها علي 5 آلاف جنيه إسترليني من رجل أعمال ، دون تسجيلها أو الكشف عنها ، غير أنها أكدت رفضها لهذا المبلغ ولم تقبله ضمن حملتها الانتخابية ، غير أن التحقيقات لم تصل إلي شيء محدد حتي الآن يدين النائبة . استقالة وقد تمكنت حملة صحفية من إخراج الوزير بيتر هين ، الذي كان يشغل منصب وزير العمل والمعاشات وشئون مقاطعة ويلز . ويعد الوزير المستقيل من رموز حزب العمال الجديد ، وقد تألق مع توني بلير ، ثم نقل الولاء إلي جوردون براون رئيس الوزراء الحالي . ويستند " هين " إلي تاريخ نضالي ضد العنصرية والتمييز . وكان يتظاهر في مرحلة الدراسة والشباب ضد حكومة جنوب إفريقيا العنصرية التي كانت تعتقل الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا ، قبل سقوط هذه الحكومة وإنهيار نظامها العنصري . وأغضب بيتر هين ، إسرائيل عندما كان طالباً وشاباً لأنه انضم إلي التيار الذي كان يطالب بدولة علمانية في فلسطين تضم اليهود والفلسطينيين معاً . واعتبر اللوبي الصهيوني في بريطانيا أن " هين " يعادي دولة إسرائيل ويسعي إلي تفكيكها لصالح الفلسطينيين . وعندما تولي " هين " منصب وزير الدولة للشئون الخارجية ومنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا ، شن عليه اللوبي الصهيوني حملة قاسية ، جعلته يتراجع عن مواقفه السابقة ويخطب ود إسرائيل ، مما سمح له بالترقي ودخول الوزارة وتولي المناصب الرفيعة فيها ، مثل حقيبة أيرلندا الشمالية ، ثم انتقاله إلي وزارة العمل والمعاشات بالإضافة إلي حقيبة ويلز ، بعد تولي جوردون براون الحكم . وقد تخلي الوزير السابق عن ارتباطاته مع النقابات والقوي الراديكالية لذلك عندما " سقط " نتيجة ادعاءات وملفات فساد ، لم يبك عليه أحد في دائرة الصحافة التقدمية والتيارات اليسارية البريطانية . ودخل " هين " الحكومة مرفوع الرأس ، بسبب تاريخه النضالي الطويل ، لكنه خرج منكسراً بسبب فضيحة فساد ، عندما تلقت حملته الانتخابية تبرعات بمائة ألف جنيه إسترليني لم يعلن عنها للجهة المسئولة عن نظافة سير الانتخابات . وأعلن وزير العمل والمعاشات في السابق ، أنه يستقيل للدفاع عن اسمه وتاريخه وسمعته . وقال إنه لم يرتكب شيئاً يتعارض مع القانون أو يخترق إجراءات الشفافية والنزاهة البريطانية . ووزير آخر وقال ديفيد كاميرون زعيم حزب المحافظين المعارض أن " هين " قام بالخطوة السليمة ، للتفرغ للتحقيقات التي تجريها الشرطة ، وأنه تأخر في الإستقالة ، ولم يدفعه رئيس الوزراء براون للإقدام علي هذا القرار من قبل وهذا خطأ تام.. وكان براون عندما انفجرت تقارير عن الأموال التي تلقتها حملة " هين " أعلن وقوفه خلف وزيره للعمل والمعاشات ، لأنه كما قال وضع خطة إصلاحية ويتولي منصبه بمهارة شديدة ، لكن عندما جري تحويل الملف إلي الشرطة للتحقيق ، تراجع براون عن مساندة " الوزير " الذي لم يجد أمامه سوي الاستقالة . وقد ساهمت الصحافة البريطانية في إخراج بيتر هين من الحكومة واندفاعه نحو الاستقالة . وبمجرد الانتهاء من هذه المهمة أدارت مدفعيتها الثقيلة نحو وزير الصحة آلن جونسون ، حيث نشرت التقارير تلقي حملته الانتخابية ثلاثة آلاف جنيه إسترليني من رجل أعمال آسيوي ، وقدم التبرع لشخص وسيط آخر ، وهو ما يرفضه النظام الانتخابي بشكل مطلق.. وتلاحق وزير الصحة اتهامات بفساد نتيجة تلقي حملته هذا التبرع الضئيل من المال ، لأن الخطوات التي تمت بشأنه لم تلتزم القيود والضوابط البريطانية . وكان رئيس الوزراء السابق توني بلير تعرض لتحقيق جهاز الشرطة معه لمرتين ، بسؤاله عن تبرعات لرجال أعمال ، من أجل الحصول علي ألقاب إمبراطورية ودخول مجلس اللوردات . وقال النائب الأسبق لحزب العمال الحاكم لورد هاترسلي ، إن المشكلة الراهنة تعود لتاريخ الحزب العمالي الطويل ، الذي كان يعتمد علي تبرعات أعضائه ومساندة النقابات ، لكن " بلير " أحدث انقلاباً واتجه للأغنياء لتمويل الحزب ، مما ترتب عليه هذه الكوارث والفضائح ، المهددة بإقصاء " العمال " عن الحكم إذا جاءت انتخابات عامة وهم في قلب هذه " الدوامة " لعدم الالتزام بالشفافية وفتح الأبواب لإغواء المال ، الذي دائماً يلوث الأحزاب الراديكالية ، إذ لم تلتزم بثوابتها وانحيازاتها الاجتماعية. رهان العمال وقد راهن الراديكاليون في حزب العمال علي " براون " لإعادة الحزب إلي ثوابته التاريخية وتحالفاته الاجتماعية القديمة ، غير أن رئيس الوزراء علي الرغم من نواياه السياسية الحسنة ، لا يزال يتخبط في أذيال استراتيجية سلفه توني بلير ، ولا يعرف كيفية التمرد عليها ، خصوصاً نهج الطريق المختلف والابتعاد عن التحالف المشئوم مع اليمين الأمريكي الذي ورط بريطانيا في مستنقع العراق والأزمة في باكستان . ولا تزال القوي المحبة للسلام والرافضة للحرب والغزو ، تشجع براون علي الانشقاق والخروج من التحالف مع اليمين الأمريكي والانتظار لنتائج انتخابات الرئاسة في واشنطن ، التي قد تفرز الديمقراطيين ، وتضع في البيت الأبيض قيادة جديدة تنظر للعالم بشكل مختلف ، وتحل قضاياه الساخنة ، بعيداً عن استخدام أسلوب الغزو والقوة العسكرية.. وكان " براون " شرح تصوراته لسياسة خارجية تعتمد علي القانون والعدل والشرعية الدولية ، وتقوية عضلات البرلمان البريطاني ، بحيث لا يمكن التحرك بدونه في القضايا الدولية والملفات المتوترة .