سوسة: تدشين محطة التطهير بمدينة كندار.    فاو: ارتفاع مؤشر أسعار الغذاء... اللحوم والزيوت النباتية والحبوب    لجان البرلمان مستعدة للإصغاء الى منظمة "كوناكت" والاستنارة بآرائها    جلسة عمل بين ممثلين عن هيئة الانتخابات ووزارة الخارجية حول الاستعدادات للاستحقاقات الانتخابية القادمة    توطين مهاجرين غير نظاميين من افريقيا جنوب الصحراء في باجة: المكلف بتسيير الولاية يوضّح    حي التضامن: حجز 200 كلغ من لحوم الدواجن غير صالحة للاستهلاك (صور)    حجز 67 ألف بيضة معدّة للإحتكار بهذه الجهة    نتائج قرعة الدورين ثمن وربع النهائي لكاس تونس لكرة القدم    ألكاراز ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة بسبب الإصابة    عاجل/ أعمارهم بين ال 16 و 22 سنة: القبض على 4 شبان متورطين في جريمة قتل    العثور على جثة آدمية مُلقاة بهذه الطريق الوطنية    عاجل/ القبض على بحّار يروّج المخدرات بهذه الجهة    ما قصة هروب افارقة من حافلة متجهة إلى ولايتي جندوبة والكاف ؟    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها    الرابطة الأولى: النادي البنزرتي يستضيف الأولمبي الباجي في حوار فض الشراكة في الصدارة    الرابطة الأولى: تعيينات حكام مقابلات الجولة الثانية إيابا لمرحلة تفادي النزول    كرة اليد: بن صالح لن يكون مع المنتخب والبوغانمي لن يعود    مراسلون بلا حدود: تونس في المرتبة 118 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة لسنة 2024    بطولة افريقيا للسباحة : التونسية حبيبة بلغيث تحرز البرونزية سباق 100 سباحة على الصدر    السعودية: انتخاب تونس رئيسا للمجلس التنفيذي للمركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة "أكساد"    منظمة إرشاد المستهلك:أبلغنا المفتي بجملة من الإستفسارات الشرعية لعيد الإضحى ومسألة التداين لإقتناء الأضحية.    قرعة كأس تونس 2024.    188 قتيلا في فيضانات جراء الأمطار بكينيا..#خبر_عاجل    تحوير على مواعيد إنجاز مشروع المستشفى الجهوي متعدد الاختصاصات بقفصة    جندوبة: 6 سنوات سجنا وغرامة مالية لممثّل قانوني لجمعية تنموية    وزارة الفلاحة ونظيرتها العراقية توقعان مذكرة تفاهم في قطاع المياه.    الحماية المدنية:15حالة وفاة و500إصابة خلال 24ساعة.    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    الحمامات: اختتام فعاليّات الصالون المتوسّطي للتغذية الحيوانيّة وتربية الماشية    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    أعمارهم بين 13 و16 سنة.. مشتبه بهم في تخريب مدرسة    فوز التونسي محمد خليل الجندوبي بجائزة افضل لاعب عربي    جدل حول آثار خطيرة للقاح أسترازينيكا مالقصة ؟    أبل.. الأذواق والذكاء الاصطناعي يهددان العملاق الأميركي    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    عاجل/ اكتشاف أول بؤرة للحشرة القرمزية بهذه الولاية..    حالة الطقس ليوم الجمعة 03 مارس 2024    زلزال بقوة 4.2 درجة يضرب إقليم بلوشستان جنوب غرب باكستان    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    خطير/ خبير في الأمن السيبراني يكشف: "هكذا تتجسس الهواتف الذكية علينا وعلى حياتنا اليومية"..    اليونسكو تمنح جائزة حرية الصحافة للصحافيين الفلسطينيين    المنظمة الدولية للهجرة: مهاجرون في صفاقس سجلوا للعودة طوعيا إلى بلدانهم    عاجل/ الأمن يتدخل لاخلاء محيط مقر مفوضية شؤون اللاجئين في البحيرة من الأفارفة..    العمل شرف وعبادة    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    "أنثى السنجاب".. أغنية أطفال مصرية تحصد مليار مشاهدة    إصابة 8 جنود سوريين في غارة صهيونية على مشارف دمشق    مجاز الباب.. تفكيك وفاق إجرامي مختص في الإتجار بالآثار    بايدن يتحدى احتجاجات الطلبة.. "لن أغير سياستي"    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنان عبد الله الشاهد    وفاة الممثل عبد الله الشاهد‬    صفاقس : غياب برنامج تلفزي وحيد من الجهة فهل دخلت وحدة الانتاج التلفزي مرحلة الموت السريري؟    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    هام/ الترفيع في أسعار 320 صنفا من الأدوية.. وهذه قيمة الزيادة    وفاة الروائي الأميركي بول أستر    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 2 ماي 2024    محمد بوحوش يكتب .. صرخة لأجل الكتاب وصرختان لأجل الكاتب    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نقد العقل التقليدي للإسلام.. المشروع الفلسفي الكبير لمحمد أركون:بقلم: هاشم صالح
نشر في الفجر نيوز يوم 03 - 02 - 2008

نقد العقل التقليدي للإسلام.. المشروع الفلسفي الكبير لمحمد أركون

أزمة الوعي الإسلامي مع نفسه وصلت إلي درجة خطيرة من التأزم
بقلم: هاشم صالح
كل التراث العربي الإسلامي منذ البداية وحتي اليوم ينبغي أن يتعرض لغربلة شاملة
المسلمون علي مفترق طرق.. إما مصالحة الإسلام مع الحداثة وإما الاستسلام للمقادير والانقطاع عن حركة التاريخ كلياً في عصر العولمة
مشروع المستقبل ليس نقد العقل العربي كما يتوهمه الجابري إنما هو مشروع نقد العقل الإسلامي التقليدي
أركون الوحيد من بين كل المثقفين العرب الذي يمتلك التكوين المنهجي الكافي لنقد العقل الإسلامي
أركون يناضل من أجل تغيير برامج التعليم في كل الدول العربية والإسلامية
هناك أخيار في كل الأديان والطوائف بل وفي أوساط غير المتدينين
هدف أركون الأخير.. التوفيق بين الإسلام والحداثة كما فعل ابن رشد
وحدها المسيحية الأوروبية تحررت وتنتظر حدوث نفس الشيء في الإسلام لتجاوز الحزازات المذهبية والطائفية التي عصفت بالعراق وتوشك أن تعصف بلبنان وسوريا واليمن والخليج العربي
مستحيل أن يكون الإسلام الآن مواعظ وخطب جمعة وفتاوي تكفيرية

بقلم: هاشم صالح : كل ما كتبه أركون منذ أربعين سنة وحتي اليوم يندرج تحت العنوان العريض التالي: نقد العقل الإسلامي. إنه مشروع العمر وخلاصة الفكر. ولكن ماذا تعني هذه العبارة بالضبط؟ ولماذا تشكّل حاجة تاريخية ملحة سوف تسيطر علي القرن الواحد والعشرين كله (فيما يخص المسلمين بالطبع)؟ إنها لا تعني اطلاقا الهجوم علي الاسلام كما توهم بعض السذج الذين يفهمون كلمة نقد بالمعني السلبي فقط لانهم يجهلون معناها الفلسفي العميق كما هو وارد عند كانط. وانما تعني ما يلي، وبحسب ما افهم فكر أركون بعد ان عاشرته او بالاحري عاشرت فكره طيلة اكثر من ربع قرن: كل التراث العربي؟ الإسلامي منذ البداية وحتي اليوم ينبغي أن يتعرض لغربلة عامة شاملة، من أجل معرفة بنيته الداخلية، أو كيفية تشكّله التاريخي طيلة القرون الستة الأولي بشكل خاص. فما جف منه وتخشب ومات نطرحه ونبقي فقط علي الجوهر الروحي والاخلاقي لرسالة الاسلام العظيم. فالمعرفة التي نمتلكها عن الفترة التأسيسية للتراث الإسلامي لا تزال لاهوتية؟ إسطورية تضعه فوق التاريخ أو فوق المشروطية الاجتماعية؟ التاريخية. لماذا يشكل ذلك حاجة تاريخية لا بد منها أو لا مندوحة عنها؟ لأن المسلمين، كل المسلمين وليس فقط العرب، وصلوا الآن إلي مفترق طرق: فإما أن ينخرطوا في هذه العملية الجراحية الخطيرة الضرورية لمصالحة الاسلام مع الحداثة، وإما أن يستسلموا للمقادير وينقطعوا عن حركة التاريخ كلياً في عصر العولمة الكونية ويصبحوا مهمشين وواقعين في مؤخرة كل الأمم. وبالتالي فإن نقد الذات التراثية، وفي العمق، أصبح ضرورة ملحة لا يمكن تأجيلها بعد اليوم. والواقع أن الانفجارات والحروب الأهلية (الصريحة أو المستترة) التي تحصل حالياً في شتي أنحاء العالم العربي والإسلامي سوف تجبرنا عاجلاً أو آجلاً علي الانخراط في هذه المصارحة التاريخية مع أنفسنا. لطالما أجّلناها، لطالما أشحنا النظر عنها، خوفاً من عواقبها. ذلك أن "مواجهة الذات لا تقل ضراوة عن معارك الرجال" كما كان يقول الشاعر الفرنسي الكبير آرثر رامبو. ويراهن كاتب هذه السطور علي الحقيقة التالية: لو لم تخض أوروبا معركتها مع نفسها، لو لم تصفّ حساباتها مع ذاتها التاريخية - أي مع تراثها المسيحي القديم- لما استطاعت أن تقلع حضارياً وأن تسيطر علي العالم. فأزمة الوعي الأوروبي مع نفسه كانت قد وصلت إلي حد التفاقم الأقصي الذي يهدد بالانفجار أو بالانهيار. وأزمة الوعي الإسلامي مع نفسه حالياً وصلت أيضاً إلي درجة خطيرة من التفاقم والتأزم. ومن يستطيع أن يواجه الوضع، إن لم يكن المفكرون الكبار؟ أليسوا هم أطباء الحضارات عندما تمرض أو تشيخ وتنسدّ أمامها الآفاق؟ ضمن هذا الجو يظهر مشروع "نقد العقل الإسلامي" لكي يشخّص لنا المشاكل ويفتح لنا الطريق.انه مشروع الأمل والمستقبل.
أتوقف هنا لحظة لكي أضع النقاط علي الحروف: مشروع المستقبل ليس نقد العقل العربي كما يتوهمه الجابري علي الرغم من تقديرنا لجهد المحاولة لديه ولبعض النقاط الايجابية ايضا. وانما هو مشروع نقد العقل الإسلامي التقليدي. لماذا نقول ذلك؟ لانه لا يوجد شيء اسمه عقل عربي او تركي او ايراني وانما يوجد عقل اسلامي او ديني بالاحري مثلما يوجد عقل علمي او فلسفي او وضعي سمه ما شئت. وبينهما قطيعة الحداثة. وبالتالي فالعقل البشري واحد عند جميع الشعوب. فقط هناك شعوب تحررت من العقل اللاهوتي الغيبي الطائفي القديم كشعوب اوروبا الغربية مثلا، وشعوب لم تتحرر بعد. وهذه هي حالتنا نحن. وبالتالي فالشعوب تمر بعدة مراحل من التطور العقلي والفكري. فهناك اولا المرحلة الاسطورية البدائية للعقل، تليها المرحلة الدينية الاكثر تطورا، ثم اخيرا المرحلة العلمية الفلسفية وهي أعلي درجات العقل او العقلانية. قناعتي هي ان الجابري لم يتجرأ علي مواجهة المشكلة اللاهوتية وجها لوجه فقرر خوض المعركة مع العقل العربي لا العقل الإسلامي. وهذا تحايل علي الموضوع في نهاية المطاف او تهرب من المواجهة. ولكنه مفهوم لان للتقليديين سطوة في الشارع ويستطيعون تهديد أي مثقف وتخويفه. وثانيها هي انه لا يمتلك التكوين المنهجي الكافي ولا العدة المفهومية والمصطلحية للقيام بنقد العقل الديني في الاسلام. وحده اركون من بين كل المثقفين العرب يمتلك ذلك الآن. كل من يفهم في شؤون الفكر وشجونه يعرف ذلك. كل مطلع علي الفكر الحديث وتاريخه ومناهجه العويصة ومصطلحاته يعرف ما الذي أقصده هنا.. ولذلك راهنت علي هذا الفكر منذ ثلاثين عاما ولا أزال. والمستقبل يكشف عن مدي صحة رهاني او خطئه. اني أقبل بحكم الأجيال القادمة.
يقول أركون في بعض ما كتب: "إن كل المسائل الحارقة التي دشّنها الاستشراق في بداية القرن العشرين ينبغي أن تُستعاد من جديد وتُدرس علي ضوء التعاليم المستحدثة للعلوم الإنسانية: كعلم الألسنيات الضروري جداً لدراسة النصوص المقدسة أو التراثية، وكعلم السيميائيات أو الدلالات اللغوية وغير اللغوية، وكعلم النفس التاريخي الذي ازدهر كثيراً في فرنسا داخل إطار مدرسة الحوليات الشهيرة، وكالنقد الديني، وكعلم الاجتماع الحديث، وكالأنتروبولوجيا... كل هذه العلوم ينبغي أن تُجيّش بمناهجها ومصطلحاتها من أجل تشخيص مشاكل التراث الإسلامي. بالطبع فإن المسلمين التقليديين سوف يحتجون ويغضبون مثلما احتجوا وغضبوا ضد الاستشراق الكلاسيكي ومنهجيته الفيلولجية-التاريخية التي تعود إلي القرن التاسع عشر". ولكن لا يهمّ. ينبغي أن نواصل العملية حتي النهاية، لأنه بناء علي نجاحها يتوقف المصير التاريخي لشعوب بأسرها. فالتحرير الفكري المنشود لا يمكن أن يحصل إلا بعد الانخراط في هذه العملية الجراحية الخطيرة كما ذكرنا. والواقع أن احتجاجات المحافظين أو التقليديين عائدة إلي الفراغ الفكري والتأخر الثقافي الذي تعاني منه الساحة العربية أو الإسلامية منذ عدة قرون. فعلي الرغم من تأسيس الجامعات، بل وتكاثرها منذ أكثر من نصف قرن، إلا أن الوضع فيما يخص "تحرير التراث" او تجديد فهمه لم يتغير كثيراً. فلا توجد كليات لتعليم الدين بطريقة حديثة وقادرة علي مواجهة التعليم التقليدي السائد في كليات الشريعة، أو الأزهر، أو النجف، أو قم، أو القرويين، أو غيرها كثير. لا توجد كليات لتعليم تاريخ الأديان المقارن مثلاً، أي لمقارنة الاسلام بالأديان الاخري كالمسيحية واليهودية لمعرفة أوجه التشابه والاختلاف بين الأديان التوحيدية الثلاثة. ولايزال التراث الديني في بلداننا يعلم للتلاميذ كما كان يعلم قبل سبعمائة سنة! فهل هذا معقول؟ هل يمكن ان يستمر الي الأبد؟ يقول اركون في تصريحاته لمجلة الاكسبريس الفرنسية بتاريخ 27-3-2003 ما معناه: لا يمكن للعالم العربي او الاسلامي ان ينطلق حضاريا الا اذا انخرط في عملية تفكيكية نقدية شاملة لانظمة الفكر الديني القديم المسيطر والراسخ الجذور. وكذلك ينبغي تفكيك كل الايديولوجيات الغوغائية التي سيطرت علينا بعد الاستقلال وادت الي كل هذا الفشل الذريع الذي نشهده حاليا كالقومجية الشوفينية والماركسوية الكاريكاتورية وسواهما. ولكن نلاحظ حاليا ان أي عمل نقدي هادف لتحريرنا من الرواسب التراثية يتعرض لرقابة مزدوجة: اما من طرف السلطة وأما من طرف معارضاتها الاصولية. الجميع يزاود علي الاسلام بالمعني التقليدي للكلمة لكي يكسب المشروعية ورضي الجماهير. وفي كلتا الحالتين نجد ان الفكر الحديث بكل مكتسباته العلمية مرفوض او مهمش في أحسن الاحوال. ثم يردف اركون قائلا: نلاحظ مثلا انهم لايعلمون في المدارس بل وحتي الجامعات الا الاسلام ويستبعدون دراسة كل الأديان الاخري. وهذا يعني ان مادة تاريخ الاديان المقارنة ممنوعة في العالم العربي والاسلامي كله. والأسوأ من ذلك هو ان تعليم الاسلام نفسه يتم بطريقة قروسطية عتيقة عفي عليها الزمن.وهو علي أي حال خاضع كليا للارثوذكسية الاصولية الصارمة سنية كانت ام شيعية(انظر حالة ايران). ثم يختتم اركون كلامه قائلا: أنا شخصيا اناضل من اجل تغيير برامج التعليم في كل الدول العربية والاسلامية. وينبغي علي الاتحاد الاوروبي ان يتفاوض مع بلداننا لتغيير هذه البرامج وبخاصة فيما يتعلق بتعليم مادة التربية الدينية. أقول ذلك لان تعليم الدين بطريقة ظلامية أصولية وصل مؤخرا الي اوروبا ذاتها وانتشر في جالياتها المغتربة من عربية واسلامية. وبالتالي فالخطر اصبح علي أبواب الغرب نفسه. ولهذا السبب أقول ينبغي علي العالم الإسلامي ان يتوصل الي الحداثة بأقصي سرعة ممكنة وبدون تحفظ. ينبغي عليه ان يتعرف علي المكتسبات التحريرية للحداثة من علمية وفلسفية ثم يهضمها ويستوعبها والا فانه سيظل رهينة في أيدي الاصوليين المتزمتين. ثم يضيف الرجل في الدار البيضاء بتاريخ 14-11-2006 قائلا: ان اطار الفكر الخاص بالاعتقاد الارثوذكسي وكذلك معجمه اللفظي القديم يقفان كعقبة كأداء في وجه استقبال أي فكر نقدي تحريري عن الاسلام في العالم العربي. انهما يشكلان عقبة في وجه التحليلات التفكيكية للعلوم الانسانية الحديثة. ولهذا السبب فانهم يمنعون الابحاث التاريخية الجادة عن القرآن، والحديث النبوي،والشريعة، والفقه، والتفسير، ومختلف جوانب التراث القديم. انهم يحرمون كل ذلك عن طريق فتاوي الهيبة العليا لرجال الدين الكبار وعن طريق خطب الجمعة والمواعظ التي تعتبر نفسها مقدسة او معصومة. كل الفكر النقدي الحديث عن التراث الإسلامي ممنوع في كليات الشريعة والمعاهد التقليدية بل وحتي في المدارس والجامعات الحديثة. وبالتالي فهناك هوة سحيقة تفصل بين الفكر الديني التقليدي السائد حاليا في كل أنحاء العالم العربي الإسلامي، وبين الفكر العلمي الحديث المتشكل عن الاسلام وكل الأديان. نحن في واد، والمشايخ في واد آخر. واللقاء شبه مستحيل بين الطرفين. انتهي كلام اركون.
في الواقع انه ليس من السهل ادخال نظرة جديدة عن الدين الي العالم العربي: أقصد نظرة قائمة علي العلم والعقل لا علي الهيجانات العاطفية والشعارات الحامية التي تجيش الناس بالملايين في الشارع. كثيرا ما يأسف اركون للتأخر الهائل الذي يعاني منه الفكر الإسلامي قياسا الي الفكر المسيحي في اوروبا. ولكن هذه المسألة تعود الي ظروف قاهرة وليس الي تفوق أزلي لدين علي دين آخر. فالاسلام هو من اكبر الاديان في تاريخ البشرية وقد يصبح اكبرها من حيث العدد عما قريب. ولكنه توقف عن التطور والتجدد بعد اغلاق باب الاجتهاد والدخول في عصر الانحطاط: أي عصر الجمود والتكرار والاجترار. هذا في حين ان المسيحية، في اوروبا الغربية علي الاقل، اضطرت الي تجديد رسالتها الدينية واعادة تأويل نصوصها المقدسة بسبب الصعود الذي لا يقاوم للعقل العلمي والفلسفي منذ القرن السابع عشر. وبالتالي فاوروبا ليست متفوقة علينا بالتكنولوجيا والعلوم الفيزيائية والرياضية فقط وانما هي متفوقة ايضا في العلوم الدينية او فلسفة الدين. وهذا شيء نجهله تماما. اوروبا دخلت الآن لاهوت ما بعد الحداثة في حين اننا لا نزال نتخبط في لاهوت ما قبل الحداثة: أي لاهوت القرون الوسطي وفقهها القديم. انظر الفتاوي التي يطلقها المشايخ التقليديون والتي لا علاقة لها بالعصر او بالعقل في معظمها..وهي مليئة بالمحظورات والممنوعات ان لم تكن داعية للتكفير او تشريع القتل والضرب. أقول ذلك مع اعتذاري للشيوخ الكبار العقلاء الذين لا يلقون الكلام علي عواهنه كشيخ الأزهر والشيخ يوسف القرضاوي والشيخ علي السيستاني وسواهم..
ينبغي العلم بان الكنيسة الكاثوليكية البابوية الرومانية قاومت التطور مثلما يفعل الاصوليون عندنا حاليا. بل وحاولت عرقلته وايقافه طيلة مائتي سنة علي الأقل! ولم تعترف بالمنهجية التاريخية النقدية ومشروعية تطبيقها علي النصوص المقدسة الا بعد انعقاد المجمع الكنسي التحريري المشهور باسم الفاتيكان الثاني بين عامي1962-1965 . ولم تعترف بالحرية الدينية والحقوق الانسانية وبعض مباديء فلسفة التنوير الأخري الا في ذلك التاريخ. ولكن المسيحيين في اوروبا اليوم اصبحوا يعترفون بكل ذلك في أغلبيتهم الساحقة. وهذا تطور كبير يدعو للدهشة والاعجاب فعلا. فأين نحن من هذا التطور في العالم الإسلامي؟ بيننا وبينه مسافات ومسافات..ولن نقطعها قبل مرور زمن طويل. ولكننا سائرون علي الطريق.. فالتنوير العربي الإسلامي آت لا ريب فيه.
في الواقع ان الرهان الحاسم الذي دارت حوله كل المعارك الفكرية منذ سبينوزا وحتي الفاتيكان الثاني مرورا بفولتير وروسو وديدرو وكانط وهيغل ونيتشه الخ..يتلخص بكلمة واحدة: حرية الوعي والضمير. بمعني: هل الانسان حر في ان يؤمن او لا يؤمن؟ هل هو حر في ان يؤدي الطقوس والشعائر الدينية او لا يؤديها علي الاطلاق؟ وهل الايمان القائم علي الاكراه والقسر له معني؟ وهل التعددية الدينية او المذهبية أمر مشروع في المجتمع ام انه ينبغي اجبار الناس كلهم علي اعتناق دين واحد او مذهب واحد؟ هذه هي بعض الاسئلة التي طرحها فلاسفة التنوير علي المسيحية والتي يطرحها اركون علي الاسلام حاليا. وفي رأيه ان الحق ليس علي القرآن الكريم فيما يخص تقييد حرية الفكر وانما علي الفقهاء الذين جاؤوا بعده. فالقرآن نص عظيم مفتوح علي تعددية المعني والدلالات. انه نص مجازي، منبجس، حر: حيثما كنتم فثم وجه الله.. ولكن الفقهاء قيدوه وسجنوه داخل معني واحد ضيق لا يتسع له ولدلالاته المعنوية الغزيرة. لقد حولوه الي نص سلطوي، قسري، اكراهي، في حين انه يقول بنص العبارة: لا اكراه في الدين. وبالتالي فالفقهاء القدامي والمحدثين يتحملون مسؤولية جسيمة فيما يخص القضاء علي حرية الفكر في الاسلام او علي الأقل تقييدها وحصرها الي أقصي حد ممكن. وبما ان كلام الفقهاء بشري فانه ليس ملزما لنا علي عكس القرآن الذي هو وحي إلهي معصوم. ولكن بسبب الجهل الطاغي علي عامة المسلمين فانهم يخلطون بين كلام الفقهاء وكلام الله ويتوهمون بالتالي انه معصوم مثله. اصبح اصغر شيخ في اصغر جامع يفرض نفسه وكأنه ذو كلام منزل! وهذا من اكبر الاخطاء التي ترتكب حاليا في عالمنا العربي والاسلامي. ولكن اكثر الناس لا يعلمون، كما يقول القرآن عن حق وصدق.
في الواقع ان هدف اركون الاخير هو التوفيق بين الاسلام والحداثة مثلما فعل ابن رشد في وقته عندما وفق بين الاسلام والفلسفة الارسطوطاليسية ومثلما فعل فلاسفة التنوير في اوروبا عندما أجبروا المسيحية ورجال الدين علي تقديم تنازلات كبيرة للعقل والحداثة العلمية الصاعدة. ولكنهم لم يستطيعوا التوصل الي هذا المكتسب الكبير الا بعد ان فككوا اللاهوت المسيحي القديم وكشفوا عن تاريخيته ومشروطيته البشرية. ومعلوم انه كان يقدم نفسه وكأنه الهي معصوم تماما كالفقه القديم في الاسلام. ومعلوم ايضا ان اللاهوت القديم يزعم امتلاك الحقيقة المطلقة، المقدسة المتعالية، التي لا تناقش ولا تمس. وبالتالي فكل شخص يقع خارجها او لا يعتنقها هو شخص مدان ومصيره جهنم وبئس المصير..علي هذا النحو كانت الكنيسة الكاثوليكية تعلن علي مدار الف سنة تقريبا: خارج الكنيسة الكاثوليكية البابوية الرومانية المقدسة لا خلاص للانسان ولا مرضاة عند الله. وبالطبع فهناك عبارات تشبه ذلك في الاديان الأخري. فكل دين يزعم امتلاك الحقيقة الالهية المقدسة دون غيره. وعلي هذا النحو تشكلت الانظمة اللاهوتية الثلاثة وسيطرت علي العقول طيلة العصور الوسطي. أقصد الانظمة اللاهوتية اليهودية، فالمسيحية، فالاسلامية. وقد مارست دورها كما يقول اركون في احدي اطروحاته الشهيرة علي هيئة أنظمة للنبذ والاستبعاد المتبادل. فكل دين يتهم الاديان الأخري بانها خرجت علي الصراط المستقيم، أي الارثوذكسية باللغات الاجنبية، وحرفت كلام الله او انحرفت عنه الخ..وبالتالي فهي تنبذ بعضها بعضا ثم تستبعد بعضها بعضا من جنة الله والنجاة في الدار الآخرة. كل واحد يكفر أتباع الاديان الاخري. كل طائفة تعتقد اعتقادا جازما ان الله اصطفاها وحدها دون سواها. وهكذا اشتعلت المعارك والحروب بين الاديان علي مدار التاريخ ولا تزال. بل وحتي داخل الدين الواحد ساد النبذ والاستبعاد المتبادل بل واللعنات التكفيرية. انظر ما حدث بين البروتستانت والكاثوليك في المسيحية الاوروبية، او بين الشيعة والسنة والاباضية في الاسلام. فقد ساد حديث الفرقة الناجية الذي يقول بان فرقة واحدة في الجنة واثنتين وسبعين فرقة في النار. وبالطبع فان كل مذهب يزعم انه يمثل الفرقة الناجية دون سواه.. ولايزال الاصوليون متشبثين بهذه المقولات الفقهية التي تعود الي القرون الوسطي. وحدها المسيحية الاوروبية تجاوزت ذلك بفضل الاستنارة العقلية التي نتجت عن انتصار الحداثة، ثم بفضل الحركة المسكونية التي قربت بين المذاهب المسيحية بعد طول شقاق وعداء. ولا نزال ننتصر ان يحصل نفس الشيء في الاسلام لكي نستطيع ان نتجاوز الحزازات المذهبية والطائفية التي عصفت بالعراق الجريح وتوشك ان تعصف بلبنان وسوريا واليمن والخليج العربي ايضا. وبالتالي ما الحل؟ ما الطريق؟ أركون يقول لنا بان الحل اما ان يكون جذريا، راديكاليا، او انه لن يكون. فآخر الدواء الكي كما تقول العرب. انه ينصحنا بتفكيك كل الأنظمة الفقهية واللاهوتية الموروثة عن العصور الوسطي. كل الرواسب الطائفية والمذهبية المتراكمة علي مدار العصور ينبغي ان تتعرض للنقد التاريخي الصارم الذي لا هوادة فيه. فهو وحده القادر علي الكشف عن تاريخيتها وبالتالي تحريرنا من هيبتها ورهبتها تمهيدا لنزع القدسية والمعصومية عنها. فكلام الله هو وحده المعصوم بشرط ان نفهمه علي حقيقته. اما هي التي جاءت بعده فعبارة عن تركيبات بشرية محضة حتي لو كان الذين بلوروها هم فقهاء كبار او عظام. فهم مشروطون بظروف عصرهم وبيئتهم ومستوي المعرفة السائدة في ذلك الزمان الغابر. وبالتالي فحلولهم او فتاواهم ليست بالضرورة صالحة لزماننا ومكاننا. ولكن بما ان عقلية التقليد سائدة في العالم الإسلامي فلا أحد يتجرأ علي تجاوزهم او مساءلتهم او نقدهم. ولذلك يقول اركون باننا بحاجة الي فقه جديد في الاسلام او علم كلام جديد يقتفي اثر المعتزلة ويبني عليه ويضيف اليه كل مستجدات الحداثة الاكثر ايجابية. بل ويقول بان التفكير اللاهوتي المسؤول وكذلك التفكير الاخلاقي انتهيا في الاسلام بعد العصر الكلاسيكي المجيد: أي منذ عشرة قرون علي الأقل. ولذا لا توجد فلسفة عميقة للدين في الاسلام حاليا علي عكس المسيحية الاوروبية. كل ما هو موجود عبارة عن مواعظ وخطب جمعة وفتاوي تكفيرية او ظلامية متخلفة في معظم الاحيان. أهذا هو الاسلام؟ مستحيل. الاسلام كان اكبر وأعظم من ذلك بكثير في عهد المعتزلة والفلاسفة وكبار الأدباء والشعراء والمتصوفة الروحانيين. اسلام الجاحظوالتوحيدي ومسكويه وفخر الدين الرازي وابن سينا والفارابي والمعري وعبد القادر الجيلاني والحلاج وابن عربي وعشرات غيرهم كان غير ذلك.
لكن فكر اركون يتجاوز كل هؤلاء بطبيعة الحال لانه يعيش في عصر الحداثة او ما بعد الحداثة ويحاضر في كبريات جامعات العالم. ولذا فهو ينظر الي الظاهرة الدينية من كافة جوانبها ويعرف كيف يفكك ببراعة منقطعة النظير كل الانغلاقات التراثية في كل الاديان. فهو يتخذ الاسلام كمثال من جملة أمثلة أخري لكي يفهم الظاهرة الدينية من مختلف جوانبها ومن خلال منظور انتربولوجي واسع او أوسع ما يكون. فلا يوجد مجتمع بشري بدون دين او ظاهرة التقديس. ولذا نقول بانها ظاهرة انتربولوجية: أي انسانية كونية تشمل جميع البشر علي اختلاف عقائدهم ولغاتهم وأقوامهم. انه يفكك كل الانغلاقات التراثية التي تقدم نفسها وكأنها مقدسة او معصومة لكي يتوصل الي نواة الدين او جوهره: أي القاسم المشترك الأعظم بين كل الاديان. فالاديان علي اختلاف طقوسها وشعائرها وعقائدها تشترك في مجموعة من القيم الاخلاقية والروحية العليا. انها أقرب الي بعضها البعض مما نتصور. لا يوجد دين كبير ينصح بالكذب مثلا او بالسرقة او بالقتل او بكره الجار او بالحقد علي الفقير والمسكين وابن السبيل الخ..كلها تدعو الي مكارم الاخلاق اذا ما فهمناها علي حقيقتها. وبالتالي فجوهر الدين واحد. ولذا كثيرا ما يقارن اركون بين الاديان التوحيدية الثلاثة: أي اليهودية فالمسيحية فالاسلام لكي يكشف عن النقاط المشتركة ولكي يفضح الانغلاقات التراثية ايضا عن طريق تفكيك الأنظمة اللاهوتية القروسطية التي لا تزال تشعل العداء بين البشر. وهنا يكمن الطابع التحريري الهائل لهذا الفكر الجريء الذي يكسر الحواجز والجدران المقامة منذ قرون وقرون بين أديان التوحيد التي تنتمي الي نفس الاصل او نفس الجذر. وفي دروسه الاسبوعية الرائعة في السوربون كثيرا ما كان ينفعل ويدعونا الي ان نخرج من أقفاصنا وسجوننا التراثية لكي نتنفس الهواء الطلق في الخارج. من هنا أهمية تدريس علم تاريخ الاديان المقارنة. فهو يجبرك علي ان تتعرف علي أديان اخري غير دينك او مذاهب اخري غير مذهبك. وعندئذ تتسع رؤيتك فلا تعود متعصبا ، كارها، للآخرين لمجرد انهم يختلفون عنك. عندئذ تتعلم فضيلة التسامح والانفتاح علي الآخرين، كل الآخرين. فهناك أناس أخيار في كل الاديان والطوائف بل وحتي في أوساط غير المتدينين بدين محدد بعينه او غير الملتزمين بالطقوس والشعائر. ولكنهم يعتنقون الفلسفة دينا. هنا تكمن احدي أهم الاطروحات الاركونية بدون ادني شك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.