في الصيف الماضي، وقفت داليا مجاهد، الباحثة ومديرة مركز الدراسات الإسلامية بمؤسسة "غالوب" (Gallup) لاستطلاع الرأي في واشنطن محاضِرة في جامعة "يال" الأميركية عن الأميركيين المسلمين من خلال دراسة علمية إحصائية مستفيضة أشرفت عليها طوال سنوات مع فريق من الباحثين الأميركيين. كانت المحاضِرة متميزة في اختياراتها وبنيتها والأرقام التي كشفت عنها والخلاصات التي انتهت إليها. من بين الأرقام اللافتة للنظر التي قدمتها المحاضرة المسلمة والمصرية الأصل، أن %7 فقط من الأميركيين المسلمين الذين سئلوا عن موقفهم من الهجمات التي وقعت على الولاياتالمتحدة في 11 سبتمبر 2001 قالوا إنهم يبررونها وأن "تفَهُّمَهم" لما اقتُرف يومئذٍ لا علاقة له بالدين إطلاقا، إنما يعللونه بالسياسات الإمبريالية الأميركية. في المقابل فإن المحاضرة سجلت تحيزا أميركيا ضد المسلمين عبر عنه %44 من المستجوبين الذين صرحوا بأن "المسلمين متطرفون جدا في عقائدهم الدينية"، كما أن %22 من الأميركيين لا يرغبون في أن يكون لهم جيران مسلمون. تعليقا على هذا ذكّرت المحاضرة بمعاناة المهاجرين الإيطاليين واليهود في عهود سابقة من العداء والتحيّز المضادين لهما قبل أن يصبحوا مواطنين لا يَطعن في مواطنتهم انتماؤُهم الثقافي أو الديني. ثم قدمت رقمين لا يتعلقان بالمسلمين بل يكشفان عن مدى الإمكانيات المتاحة لتطور العقليات في الولاياتالمتحدة. ذكرت مثلاً أن نسبة الزواج بين البيض والسود كانت في خمسينيات القرن الماضي لا تتجاوز ال %14 وأنها قد بلغت اليوم ال %80. تخلص الباحثة إلى التأكيد على وفرة الحظوظ المساعدة على تغيّر النظرة إلى الإسلام والمسلمين إن تواصلت جهود هؤلاء في العمل الجمعياتي والتوعية المدنية والقانونية وفي الانخراط الواعي في المشهد الاجتماعي السياسي وفي المؤسسات الوطنية والمحلية. لا أدل على السير في هذا المسعى الموصول بالفاعلية الجماعية لدى الأميركيين المسلمين من تزايد عدد الجوامع في كامل الولاياتالمتحدة، فمن 52 جامعا في نهاية الحرب العالمية الثانية بلغ العدد ما يزيد عن 600 في ثمانينيات القرن الماضي ليتجاوز هذا العام ال 1250 جامعا ومركزا إسلاميا. من هذا المجال الاجتماعي الحضاري المستقبلي للمسلمين في أميركا الذي أضاءته محاضرة داليا مجاهد في جامعة "يال" بمدينة نيو هافن، ولاية كونكتكت اختار الدكتور طه عبدالرحمن "المفكر الإسلامي لمعالجة موضوع الملتقى المتعلق ب "حب الله وحب الجار بالكلمة وبالعمل" مدخلاً فلسفياً اعتقادياً منفتحاً على أفق إيماني يؤكد التطوّر النوعيّ في فكر المسلمين الديني. أنصت إلى هذه المحاضرة الثانية أكثر من 120 شخصية مسلمة ومسيحية مع بعض رجال الدين اليهود عرض أمامهم المحاضر بدقة المنطقي ورهافة المؤمن المنخرط ضمن "الروح الجديدة في الإسلام" حديثا جديدا عن الحب. كان العرض منطلقا مما يسميه طه عبدالرحمن: "الإبداع الموصول" الذي يجعل روح التجديد والحداثة متأصلين في المسلمين إنسانيا وتاريخيا وأنهما لا يُنقَلان من الخارج إنما يُبتَكَران من الداخل. مؤدى هذا في موضوع الحب هو أن الكلام، إسلاميا، عن حب الله لا يتأتّى بطريق روحانية تأملية مقطوعة عن عالم الناس. بعبارة طه عبدالرحمن لا معنى لحب الله إلا ب "طريق الكلام عن كون الإنسان محبوبا، فمُحبيّة الله تتجلّى في محبوبية الإنسان وهذه المحبوبيّة تتعلق بأفعاله التي هي صور محبته والتي هي مظهر رحمة الله الخاصة". هو بناء يتمثل مقولة محمد إقبال في حديثه عن الوعي النبوي المختلف عن التصوف السلبي المُعرض عن عالم الدنيا الطامح إلى مقام الشهود. إنّه الوعي الذي يحوّل رياضته الدينية إلى قوًى عالمية حيّة وفاعلية حضارية، هو وعي صاعد- نازل يجعل إرادة المؤمن في عملها الإنشائي تقدَّرُ قيمتُها ذاتُها كما تقدِّر هي عالمَ الحقائقِ المحسوسة التي تحاول أن تحقّق وجودَها فيها. ذلك هو معنى حب الله إسلامياً: روحانية ووضعية في الآن ذاته. هو في المستوى الفردي بحث عن الأنا في الآخر تعميقاً للذات من ثراء المختلف وهو من الواجهة المجتمعية تجلٍّ للروح أمام أعين التاريخ حين يعتبر المؤمن شروطَ الواقع الموضوعي الدنيوي. من هذا التجلّي للشهود في الواقع الحضاري والتاريخي باشر قضية الحب محاضرٌ ثالث هو الأستاذ مصطفى الشريف المثقف الجزائري والوزير السابق والعامل بمثابرة وكفاءة في مجال الحوار بين المسلمين والمسيحيين. كان خطابه واضحا مباشرا، أكد فيه أن الكلام عن الحب لا ينبغي أن ينسي الواقع المر المملوء بالكراهية، بل لا بد أن يوقفنا على الفجوة الهائلة بين نظريتنا وتطبيقنا. ذكّر بعد ذلك الحاضرين، مسيحيين ويهودا، أن الإسلام دين توحيد أمام الله -عز وجل- ودين العدل أمام الآخر، وأن السيد المسيح عليه السلام قال هو أيضاً عن بعض من يدّعي النبوة: "من ثمارهم تعرفونهم، وكل شجرة صالحة تعطي ثمرا صالحا". هذا ما يجعل المسلم ملزما "بالاعتراف بالآخر كشبيه ومختلف في الوقت نفسه أي احترام خصوصيته بهدف المشاركة". من هذا الاعتراف تتوجب المعرفة والإصغاء واحترام الاختلاف حتى نستطيع "تحمل مشقة الوجود تحملا مشتركا" بما يحفظ للرباط الاجتماعي الحيوية. بعد هذا خلص الدكتور الشريف إلى القول بأنه لا يستعصي على الإنسان إلا ما لا يقاومه، أي أنه علينا أن نتحرك ونفكر دون ادعاء احتكار مفاتيح كل الحقيقة. خاتمة المطاف كانت للأستاذ الدكتور سيد حسين نصر المفكر والمدرس بجامعة "جورج واشنطن" الذي اعتمد خطابا توحيديا إلهيا جامعا يؤكد على عالميتي الرسالتين التوحيديتين مخصصا قسما من محاضرته لأهمية التفاعل بين الرحمة والعدالة الإلهيتين، وأن هذا التفاعل هو المؤسس لأصناف المحبة في المستوى البشري. من جملة هذه التوجهات يترجح القول بأن مستقبل الأميركيين المسلمين في العقود القادمة واعدٌ، إن هم جددوا طرق العمل الدعوي والفكري والسياسي. بذلك يقع الالتقاء مع مقولة محمد مقتدر خان، الأميركي من أصل هندي والباحث في العلوم السياسية الذي يرى أن ما توفره الولاياتالمتحدة من حريات عامة وإمكانات علمية وفكرية تجديدية لا نظير له في بلدان المسلمين الأصلية. لعل هذا ما دفع بالشيخ مصطفى تشيريتيك المفتي العام للبوسنة في نهاية الملتقى أن يختار دعاءً يلخص به في رقة وحزم عبء المسؤوليات الملقاة على كاهل الأميركيين المسلمين خاصة، وإخوانهم في الدين عامة، حين قال: "اللهم اجعل الحزن أملا، واجعل اليأس عملا". كاتب تونسي العرب القطرية 2009-08-06