ما انفكت الكآبة تخيّم على المشهد الدولي بحكم الشلل الذي أصاب عَصَبَ الاقتصاد في ما بات يسمى بالأزمة العالمية الحادة، وإذ يواصل صنّاع القرار جريَهم اللاهث وراء حلول كلما اقتربوا منها نَأتْ عنهم كسراب في فلاة يندلع في الغرب بين أهل الفكر -من باحثين وأكاديميّين ومبدعين ومثقفين مهمومين بالشأن العام- حوارٌ خصيب مدارُه تحديدُ المسؤولية التاريخية لاستخلاص العبرة مستقبلاً: أهو النظام الاقتصادي المعولم في ذاته، أم هو النظام المصرفي الذي هو سابق في النشأة للعولمة، أم هي سنوات جورج بوش الثماني على سَدّة البيت الأبيض بكل أثاثها؟ والجدل كأنه نظريّ صِرف، ولكن المتأمل يستخلص أن فيه تثبيتا لبعض القواعد الجوهرية بترجيح رؤية على أخرى: تُرى هل تبقى السياسة هي سيّدة الاقتصاد، أم أن الاقتصاد هو الذي أمسى سيّدا على السياسة. أُثيرُ الموضوع والجًا إياه من نفق خلفيّ متسائلاً: لماذا خرج المثقف العربي من الحوارات الكبرى كهذا الحوار؟ وهل منا مَن يتوقع أن مؤسسة فكرية عربية تعقد هذه الأيام ندوة أو تنظم ملتقى يكون محورُه السؤالَ التالي: هل الأزمة العالمية الحالية اقتصادية أم سياسية؟ إننا بشيء من استدعاء الذاكرة القريبة ندرك أن الذي أجهز على حضور المثقف العربي في جدل المسائل الدولية الكبرى هو أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وتحديدا حالة الوهن التي تعاطى بها النظامُ العربيّ الرسميّ مع تلك الأحداث، ويكفي أن نراجع -بآليّة الاستبطان الجماعي- المشهدَ المأساويّ الذي خيّم منذئذ على الواقع العربيّ برمّته. في تلك الأيام كان المثقفون العرب -كلٌ في موطنه وكل على مواطئ قضيته- يتساءلون، وربما ما زالوا يتساءلون. كان المثقف الآخر منذ اليوم الذي انحنت فيه أعناق الشم الرواسي يتابع الأحداث أولاً بأول، وكان يسجل على منابر الإعلام ردود فعله الأولى، ولما انقضت على الفاجعة بعض الشهور، ورأى الفواجع تتعاقب على الفواجع، أمسك بقلمه فألفاه ينساب على الصفحة البيضاء ليقدّم شهادته على الأحداث. وحين هَمّ المثقف العربي بمحاكاة جنسه الآخر وجد نفسه يقدم شهادة على ذاته من خلال الأحداث. كان الآخر يكتب سيرة الآخرين وكان صاحبنا يكتب سيرته الذاتية. بين متابعة الأحداث على حرارتها وتدوين الشهادة عليها فارق في معيار الزمن، فالأولى تتناقص جدواها بمروره، والثانية تزداد كفاءتها كلما تقادمت. وبين الشهادة على الأحداث من خلال النفس والشهادة على النفس من خلال الأحداث فارق في جوهر الوعي: أهو شهادة في السياسة أم شهادة على السياسة؟ كان المثقف العربي يهمهم بكلمات الهمس دون أن يصدح بها، كان يناجي نفسه ويقول: ماذا لو بحثت عن صورتي من خلال صورة الآخر؟ ماذا كان يحصل لي لو أنني كنت أقول: إن وصفات صندوق النقد الدولي أكذوبة كبرى، وإن قروض التأهيل الاقتصادي الشامل مسرحية من مسرحيات سلب الإرادة تعطي فيها اليد اليمنى ما تسترجعه اليسرى؟ وهل كان بوسعي أن أتجرأ فأقتبس الاسم الذي أطلقه الرئيس جورج بوش إثر اندحار المعمار الأعلى كي أصوغ موقفا من آليات العولمة على حد ما فعل مثقف آخر اسمه راموناي؟ «محور الشر» عبارة تدخل ضمن فعل التسمية بوصفه آلية جبارة من آليات الأيديولوجيا الجديدة، أطلقها الرئيس جورج بوش في الخطاب السنوي الخاص بأوضاع الدولة الأميركية من حيث هي اتحاد فيدرالي يوم (29 يناير 2002) وكانت لغة الخطاب في درجة من الحرارة تضارع حرارة الأرض التي انفجرت براكينها منذ وقعت عليها شاهقات السماء، اقتبسها المثقف الآخر ليصنع بها العنوان الرصاصي المتفجر ويكتب مقالاً بعنوان «محور الشر» (لوموند ديبلوماتيك: مارس 2002). لقد ذكّر راموناي في مقالته بما فاه به الرئيس بوش من أن محور الشر في العالم هو الثلاثي: العراق وإيران وكوريا الشمالية، ثم أخذ الكاتب يثبت -عن طريق التحليل السياسي والكشف الاقتصادي- كيف أن خراب العالم سيصنعه محور الشر الحقيقي الذي هو ثلاثي فعلا، وعناصره المكونة له هي: صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمنظمة العالمية للتجارة، وكانت خاتمة مطافه أن قال: لقد سقط القناع فانكشف الوجه الحقيقي في معتقل غوانتانامو، حيث يقبع عديد الأوروبيين في الأقفاص الحديدية. فيا للفضيحة؟ ولم يكن أحد يتوقع ما سيحل باقتصاد العالم بعد سبع سنوات فيدرك بعمق قصة محور الشر الحقيقي ونكبته الكارثية على العالم بأسره. كان المثقف الآخر يتحدث بانسياب شيق عن رجحان وجود مؤامرة نسجها الأميركيون من وراء ظهور الجميع بمن فيهم حلفاؤهم، وكان المثقف العربي يرتعش خوفا من بريق السيف المسلول على لسانه إذا ما توجّع بكوابيس عقدة الذنب، فلطالما كبّله النقص حين اللجوء إلى تفسيرات المؤامرة، حتى صار عليه أن يقسم ببراءة الجلاد قبل أن يَرثيَ نفسه برثاء الضحايا. في موسم انفلاق الأبراج كان حصاد الأسئلة زاخراً وكانت مناجاة المثقف العربي لنفسه ملتهبة، فمن وراء الأسئلة كانت تتولد أسئلة أقوى كلما جد الجديد أو انبعث القديم، بين الشفتين ردد المثقف اليتيم أنشودة الأسى فقال: بأي تهمة من التهم كنت أجَرَّم لو أنني مساء الثلاثاء الأسود صحت بقومي وناديت عشيرتي أن إياكم أن تنخرطوا -هنا والآن- في زفة التنديد بالإرهاب، فالتنديد بالإرهاب سيكون كلمة حق يراد بها الباطل، إياكم أن تكونوا هجّائين كما كنتم بنسيبكم واقفين على الأطلال. تحت مظلة الثأر من أشباح الذين أركعوا ناطحات السحاب كان الوحش الظمآن للدم العربي، والجائع للحم العرب، يحصد وينهش بين ديار الأرض المغصوبة حول المسجد الأقصى. وفجأة خطر للمثقف من أهل الدار أن يسأل: هل كنت أنجو من الجفاء لو أنني منذ يوم الابتدار المبكّر ناديت بأعلى صوتي -قبل أن تتعدل أوتار قمة بيت العرب على أرض شجرة الأرز- فقلت: إن الإجماع على الاعتراف ثم على التطبيع هو توقيع على التفويت في الحق الاستراتيجي مقابل حق تكتيكي هو نفسه لا ضمان لأحد فيه، ثم أضفت: إن المثقف الذي يتقن لعبة السياسة ويرفض الانخراط في حزبها المكيافلي يقول لكم: من حقكم أن تكونوا براغماتيين، ولكن لتعلموا أن البراغماتية السياسية مَرْكب يمتطيه الأقوياء ساعة قوتهم، وإذا امتطاه من هبت عليهم ريح من الضعف، فإما أن يُغرقهم وإما أن يُغرقوه.. وكذا غرقت المبادرة العربية! وانبرى صاحبنا يناجي نفسه من جديد ويقول: لو كنت أستطيع أن أحاكيَ تشومسكي، وإمبرتو إيكو، وجون بودريار، وبيار بورديو، لكتبت باسم المثقفين إلى كل القادة العرب: إياكم أن تظنوا بأن استحكام الأمن يأتي في الأولويات قبل حرية الرأي، فحرية الرأي هي وحدها الكفيلة بتحقيق الأمن العربي العميق، والأمن العربي الشامل، والأمن العربي الدائم. واعلموا أن الاستحكام الأمنيّ لا يصنع الحرية ولكن الحرية تصنع الأمن الحكيم. العرب القطرية 2009-09-02