صِفرٌ مكعّب لوزير التربية الفرنسي! هذا ما أورده تعليق صحافي لافت نقلته عدة مواقع على الشبكة عن مجلة «الأكسبرس» الفرنسية. سبب هذه السخرية الغاضبة هي الأخطاء اللغوية الشنيعة التي جاءت في الملف الصحافي الموزع على رجال الإعلام عشية الندوة الصحافية التي عقدها الوزير بمناسبة انطلاق السنة الدراسية الجديدة. أن تصدر تلك الأخطاء المشينة في ملف رسمي عمومي من وزير تربية أمر لا يقبل. الأنكى من ذلك، أنها من قبيل الأخطاء التي لا يقبلها برنامج «وورد» للحاسوب، أي أنه قد وقع التنبيه إليها بشكل آلي ومع ذلك بقيت في النص المعلن. هكذا تكون تكنولوجيا الحاسوب قد كشفت جانباً من الإهمال الإداري في وزارة من مهامها سلامة التكوين اللغوي وهو ما يفضح تدني المستوى العلمي لبعض النخب الحاكمة وقلة اهتمامهم به. من ناحية ثانية يفيد الخبر أن أزمة التعليم الجامعي ليست خاصة ببلادنا العربية إلا أن حدّتها هنا بلغت مدى لا يقارن بالوضع في البلاد الأوروبية حيث يقع التصدي هناك لمثل هذه النقائص بجملة من العوامل من أهمها الرهان على ضرورة الجدل بين الجامعة والعولمة. حين نقرأ خبراً آخر عمّا يقع في عموم الغرب من ربط بين المكتبات والمدارس والجامعات والمؤسسات في شبكات إلكترونية تسهّل تبادل الخدمات والمعلومات وتقلل التكرار والازدواجية ندرك أهمية التفاعل الإيجابي بين المحلي والكوني منزَّلاً ضمن سياق الارتقاء بالمستوى العلمي والبحثي. أذكر أن النظام الجامعي الفرنسي، في أواخر الستينيات من القرن الماضي، كان يفرض، قبل ظهور هذه الشبكات التواصلية المعاصرة، ضرورة تأجيل تسجيل أية رسالة دكتوراة في أي مجال بحثي إلى أن تأتي الموافقة من المجمع العام للأطروحات التي تثبت أن الموضوع المقترح للرسالة وبتلك الإشكالية لم يُدرس في أيّة جامعة من جامعات البلاد وأنه ليس بصدد الدرس. ما يقع العمل به الآن في نفس هذه الوجهة بفضل التطور الهائل للتنظيم الإلكتروني ووسائل التواصل التي يتيحها يكشف عن قبول التحدي العولمي للقطاع الجامعي في الغرب من جهة ويعبّر في ذات الوقت عن فهم مختلف لطبيعة الجامعة. هناك، يُقبل التحدّي العولمي نتيجةَ الخصوصية التي تكتسيها الجامعة بصفتها المجال المتقدم لتطوير المعرفة وتعميق البحث العلمي والتدرب على اتخاذ المواقف الصائبة استجابة لمتطلبات المجتمع وحاجياته المختلفة. مؤدى ذلك يمكن اختزاله في عبارة: الجامعة هناك هي موطن التكوين على فعالية الإنتاج بمعناه الواسع الشامل. أما هنا فعموم الجامعات لا تقبل التحدّي العولمي لجملة من الأسباب يمكن اختصارها في كلمة: الجامعة هي مجال التكوين على فعالية الاستهلاك بما تفتحه للخريج العربي من إمكانيات الارتقاء الاجتماعي الشخصي بالدرجة الأولى. من هذه الزاوية يمكن أن نجيب عن الأسئلة المحرجة المتعلّقة مثلاً بتكرار ذات الموضوع في مستوى الرسائل الجامعية بين جامعة وأخرى بل أحيانا داخل ذات الجامعة. كيف يمكن قبول رسائل جامعية دون ضبط دقيق لإشكالية البحث الذي ستقوم به ودون إبانة مردود ذلك البحث بالنسبة إلى تقدم عموم التخصص الذي ينتمي إليه العمل الأكاديمي؟ كيف يفسَّر استنساخُ باحث، في بعض الجامعات، عملَ باحث آخر سابق له في جامعة أخرى من أجل مناقشته والحصول على رتبة جامعية؟ لماذا تكون الرسالة الجامعية لعديد الجامعيين العرب هي في مجال إنتاجه العلمي بيضة الديك فلا يُعرف له بعدها بحث يذكر وكأن إنتاج تلك الرسالة هو نهاية مطاف وليس بدايته؟ تعبّر هذه الأعراض وغيرها بوضوح عن أزمة الجامعة في البلدان العربية كما تكشف عن أشكال القصور عن اللحاق بالعديد من المؤسسات التعليمية العالمية. لا شك أن غموض الفلسفة التي تعمل الجامعة في البلاد العربية وفقاً لها يمثل عاملاً من العوامل الهامة لتفسير بقاء جامعاتنا خارج تصنيف مميّز في المستوى العالمي. إلى جانب هذا تشكو عموم الجامعات من ضعف علاقتها بمجتمعاتها وذلك بتعال غالب الخريجين عن مشاغل واقعهم الحقيقية وقلة اكتراثهم بتنمية المجتمع في إمكانياته المادية والتثقيفية والتوعوية. من هنا يمكن الشروع في الإجابة عن سؤال: هل نعولم أنفسنا؟ اختيار تفاعل الجامعة مع ظاهرة العولمة مدخل جدّي للحدّ من تلك العاهات التي ألمعنا إليها بما يرفع من كفاءة الخريج ويرتقي بمستوى الإبداع العلمي والمعرفي المُنتَج من الجامعة مفضياً بذلك إلى حظوظ أوفر لتحقيق تنمية شاملة للمجتمع. مع ذلك فإن التردد في قبول تحدي العولمة جامعياً يمكن أن يُفهم نسبياً لما يعنيه الانفتاح من إمكان الاستتباع الحضاري وما يؤدي إليه من مخاطر الثنائية والانشطار في الهوية أو تشظيها. معنى هذا التردد أن جامعةً معولمةً لن تبقى جامعة عربية أصيلة لكونها ستخِلّ بأحد أهم التزاماتها إزاء محيطها الاجتماعي والثقافي. مع ذلك فإن قبول تحدّي العولمة مع ما فيه من مجازفة فإنه أقدر على تمكين الخصوصية الثقافية الوطنية والقومية الثاوية في وعي مجتمعاتنا وفي لاوعيها من أن يشتد عودها من خلال التوجه الكوني أكثر مما لو استمر الأمر على ما هو عليه من انغلاق للمنظومة الجامعية وتشرّبها للروح الدفاعية التمجيدية المنهكة. ما يؤدي إليه التفاعل الإيجابي بين الجامعات العربية مع العولمة هو في جوهره تأهيل للخصائص الثقافية والفكرية والمنهجية بما يحقق تجاوز التردّي الجامعي وتخطّي عاهاته. تضاف إلى هذا الجانب الأول خصوصيةٌ ثانية متصلة بالجامعات العربية المهتمة بمجال الدراسات الحضارية والإنسانية، لقد قرر الفكر الخلدوني منذ قرون أن عموم التعليم هو «صنعة أساسية من صنائع العمران»، لكن الواقع العربي في المستوى الجامعي أعرضَ عن دلالة هذا المقصد الذي يتم في ضوئه صوغ الشخصية الحضارية للجماعة صياغة مشتركة. ما تحقق عربيا هو انشطار المؤسسة التعليمية إلى شقّين: شقّ مدنيّ يرمي إلى سعة الفكر في وجيز الوقت وغايته القصوى التنمية، وشق ديني قاعدته تركيز قيم التراث ونظامه الاجتماعي ومقصده عقديّ وخُلقيّ. اعتنت الكليات الجديدة ذات الاهتمام ب «الإنسانيات» ب «عبقرية المُحدَث» وحذق أفنان المعرفة الحديثة بالاطلاع على إنتاج الفكر الكوني إطلاعاً مباشراً، في حين انزوت الدراسات التراثية في معارف تقليدية تقتصر على نقل ما قاله المتقدّمون مع إضافة بعض الفنون الجديدة ظنّاً بأنّ ذلك يوجِد مَلَكة علميّة ويحصّن الهويّة الوطنيّة. ما تحقق فعلاً هو استحكام أزمة النخب الجديدة التي تؤكّد عجز المؤسسات التعليمية الحديثة عن تجاوز الفصام الثقافي الذي يطالَب معه الخريجون ببناء روح وطنية تتمثل التراثَ وتجاربَ الماضي بينما يكونون في ذات الوقت مندفعين إلى ولوج الحضارة العصرية في ظروف استثنائية تلزم استغناءهم عن جانب هام من خصوصياتهم الثقافية. في الشق الجامعي الآخر المختص بالدراسات الإسلامية والتراثية لم تظهر ثمار إضافة بعض المعارف الجديدة إلى جانب الأخرى التقليدية في توليد ملكة علمية وفكر معاصر. لقد أدّى الانشطار الجامعي في الدراسات الإنسانية والحضارية والشرعية إلى اختفاء الجدل بين الداخل والخارج المعرفيَيْن والثقافيين فلم تظهر معرفة متسقة تتجاوز النسيج المعرفي السابق من حيث التمكّن والراهنية. جماع هذين الجانبين من جوانب أزمة الجامعات العربية يمكن أن يلخص في ضرورة الإجابة عن سؤالين محوريين هما: أيّة حقيقة تسعى وراءها جامعاتنا اليوم، في عصر العولمة؟ كيف تصبح الجامعات العربية محضنا معرفيا وفكريا لصياغة أصالتنا الثقافية العربية الإسلامية بأكثر ما يمكن من الفاعلية التي يقتضيها الوضع المحلي والعالمي؟ • كاتب تونسي العرب القطرية 2009-09-24