الأزمة تشتد بين المحامين والداخلية .. إيقاف المحامي المهدي زقروبة    دعا رئيس الجمهورية الى التدخّل العاجل ...عميد المحامين : لسنا ضد المحاسبة... لكن    ماذا في لقاء وزير السياحة بوفد من المستثمرين من الكويت؟    القيروان: حجز حوالي 08 طن من السميد المدعم    الوكالة الدولية لمكافحة المنشطات ترفع عقوباتها عن تونس    حالة الطقس ليوم الأربعاء 15 ماي 2024    6 علامات تشير إلى الشخص الغبي    يوميات المقاومة .. قتلت 7 جنود للاحتلال بعملية نوعية في جباليا .. المقاومة تكبّد الاحتلال خسائر جديدة    هام/ مجلس وزاري مضيّق حول مشروع قانون يتعلق بعطل الأمومة والأبوة    البرمجة الفنية للدورة 58 من مهرجان قرطاج الدولي محور جلسة عمل    ذبح المواشي خارج المسالخ البلدية ممنوع منعًا باتًا بهذه الولاية    بن غفير يطالب باعادة الاستيطان في غزّة وطرد الفلسطينيين    اختفى منذ 1996: العثور على كهل داخل حفرة في منزل جاره!!    شوقي الطبيب يُعلّق اعتصامه بدار المحامي    وزير الفلاحة يفتتح واجهة ترويجية لزيت الزيتون    للسنة الثانية على التوالي..إدراج جامعة قابس ضمن تصنيف "تايمز" للجامعات الشابة في العالم    عاجل : مطار القاهرة يمنع هذه الفنانة من السفر الى دبي    دراسة : المبالغة بتناول الملح يزيد خطر الإصابة بسرطان المعدة    هل الوزن الزائد لدى الأطفال مرتبط بالهاتف و التلفزيون ؟    عاجل/ إصابة تلميذتين في حادث دهس بقفصة    عاجل/ فرنسا: قتلى وجرحى في كمين مسلّح لتحرير سجين    سليانة: القبض على عنصر تكفيري    تونس تصنع أكثر من 3 آلاف دواء جنيس و46 دواء من البدائل الحيوية    قابس : اختتام الدورة الثانية لمهرجان ريم الحمروني    بن عروس: جلسة عمل بالولاية لمعالجة التداعيات الناتجة عن توقف أشغال إحداث المركب الثقافي برادس    العجز التجاري يتقلص بنسبة 23,5 بالمائة    تعرّف على أكبر حاجّة تونسية لهذا الموسم    نبيل عمار يشارك في الاجتماع التحضيري للقمة العربية بالبحرين    عاجل/ السيطرة على حريق بمصنع طماطم في هذه الجهة    الإعداد لتركيز نقاط بيع نموذجية للمواد الاستهلاكية المدعمة بكافة معتمديات ولاية تونس    تأجيل النظر في قضية ''انستالينغو''    منطقة سدّ نبهانة تلقت 17 ملميترا من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    سوسة: تفكيك شبكة مختصّة في ترويج المخدّرات والاحتفاظ ب 03 أشخاص    كل التفاصيل عن تذاكر الترجي و الاهلي المصري في مباراة السبت القادم    بعد تغيير موعد دربي العاصمة.. الكشف عن التعيينات الكاملة للجولة الثالثة إياب من مرحلة التتويج    الرابطة الأولى: الكشف عن الموعد الجديد لدربي العاصمة    منحة استثنائية ب ''ثلاثة ملاين'' للنواب مجلس الشعب ...ما القصة ؟    كأس تونس: تحديد عدد تذاكر مواجهة نادي محيط قرقنة ومستقبل المرسى    فتح تحقيق ضد خلية تنشط في تهريب المخدرات على الحدود الغربية مالقصة ؟    أول امرأة تقاضي ''أسترازينيكا''...لقاحها جعلني معاقة    باجة: خلال مشادة كلامية يطعنه بسكين ويرديه قتيلا    في إطار تظاهرة ثقافية كبيرة ..«عاد الفينيقيون» فعادت الحياة للموقع الأثري بأوتيك    تونس: 570 مليون دينار قيمة الطعام الذي يتم اهداره سنويّا    مدنين: انقطاع في توزيع الماء الصالح للشرب بهذه المناطق    بادرة فريدة من نوعها في الإعدادية النموذجية علي طراد ... 15 تلميذا يكتبون رواية جماعية تصدرها دار خريّف    برشلونة يهزم ريال سوسيداد ويصعد للمركز الثاني في البطولة الإسبانية    أخبار المال والأعمال    مع الشروق ..صفعة جديدة لنتنياهو    مبابي يحرز جائزة أفضل لاعب في البطولة الفرنسية    الاحتفاظ بنفرين من أجل مساعدة في «الحرقة»    عشرات القتلى والجرحى جراء سقوط لوحة إعلانية ضخمة    نابل..تردي الوضعية البيئية بالبرج الأثري بقليبية ودعوات إلى تدخل السلط لتنظيفه وحمايته من الاعتداءات المتكرّرة    نور شيبة يهاجم برنامج عبد الرزاق الشابي: ''برنامج فاشل لن أحضر كضيف''    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحركات القومية العربية من المعارضة إلى موالاة السلطة:عبد الاله بلقزيز
نشر في الفجر نيوز يوم 19 - 10 - 2009

من المألوف في تاريخ الحركات السياسية الثورية وحركات التحرر الوطني أن تشهد انعطافة في طبيعة خطها السياسي ومضمونها الثوري حين تنتقل من طور النضال إلى طور الحكم وإدارة السلطة، تميل - في أعقاب ذلك الانتقال - إلى الواقعية أكثر، وإلى المحافظة أكثر حرصاً على السلطة التي احتازتها، فتتراجع عن تطبيق العديد من الرؤى والشعارات التي حملتها، وتتعلل في ذلك التراجع بثقل الأوضاع الموضوعية وعدم كفاية القوة الذاتية، وحقائق ميزان القوى الإقليمية والعالمية، وتنسى أو تكاد أنها كانت - قبل عهد قليل - تناضل ضد هذه التعلات كلها معتبرة إياها ذرائع واهية تتحجج بها الأنظمة القائمة للتحلل من التزاماتها الاجتماعية والوطنية.
ترفع شعارات الديمقراطية حين تكون في المعارضة، وتنتهك الديمقراطية حين تصل إلى السلطة، تبشر بالاشتراكية كحركة وتطبق الرأسمالية كسلطة، تدعو إلى الوحدة القومية ابتداءً، وتنتهي إلى حماية التجزئة... الخ.
تلك مآلات كانت إليها أيلولة الحركات السياسية الثورية في العالم على تفاوتٍ بينها في حدة المصير. هكذا بدأ البلاشفة في روسيا القيصرية لينتهي بهم المطاف - بعد عقود - إلى فظاعات الحقبة الستالينية. وهكذا بدأت الثورة الصينية لتصل - بعد عقود ثلاثة على انتصارها - إلى تصفيات معممة في نطاق “الثورة الثقافية”. وهكذا بدأت “جبهة التحرير الوطني الجزائرية” ثورتها ضد الاحتلال لتنتهي إلى سلطة قمع وفساد. ثم هكذا بدأت حركة “فتح” قبل أن تأكل السلطة ميراثها الثوري. بل هكذا بدأت قبل هؤلاء جميعاً - الثورة الفرنسية قبل أن تنتهي إلى اليعقوبية وقبل أن تنتهي فكرة الحرية إلى استعمار وعنصرية.
لا تشذ الحركة القومية العربية عن هذه القاعدة. فلقد عرفت، بدورها، هذا النمط من التغير في مضمونها السياسي والثوري نتيجة انتقالها من حركة شعبية إلى سلطة حاكمة في بعض الأقطار العربية، ومع أن المرء لا يملك أن يجحدها حقها من الاعتراف لها بما أنجزته من مكتسبات في مضمار التنمية الوطنية (خاصة في مصر والعراق) أو في مواجهة التحدي الصهيوني والاستعماري الجديد، ونصرة الشعب الفلسطيني وحركات التحرر الوطني والمقاومة، إلا أن ذلك ما كان يكفي هذه الحركة القومية الحاكمة كي يحافظ لبرنامجها السياسي الأصل على مضمونه التغييري.
سندع جانباً تقييم تجربة هذه الحركة في السلطة ومآلاتها السياسية الدراماتيكية، لنتناول بالرصد والتحليل وجوه ذلك التغير الذي طرأ على خطابها السياسي وأدائها وجدول أعمالها منذ باتت لها مراكز سياسية حاكمة وبات عليها - بالتالي - التكيّف مع هذا المعطى الجديد، بل تصميم دورها على مقتضى مطالبه وحاجاته.
مثلما سنلقي نظرة على المصائر التنظيمية والإيديولوجية التي آل إليها الكثير منها بعد حرب 67 والضربة العنيفة التي تلقاها المشروع القومي منها.
وليس من شك في أن إضفاء النسبية على الأحكام حاجة ضرورية في هذا المعرض لاستحالة الحديث عن حركة قومية بالجمع فيما التباين في الخيارات البرنامجية بينها، وفي درجة البعد أو القرب من السلطة، السمة الغالبة عليها، فالناصرية قبل الثورة لم تكن حركة سياسية معارضة كي تحاكم على مقتضى ما أعلنته وهي في موقع المعارضة، ولا هي أقامت لنفسها حزباً يدعم سلطتها. حتى محاولة إقامة تنظيم الطليعة العربية لم يكف عبدالناصر ينظر إليه كتجاوز لتجربة “الاتحاد الاشتراكي” الذي لم يكن - هو نفسه - حزباً ناصرياً بالمعنى الدقيق. أما “حركة القوميين العرب”. فلم تصل إلى السلطة ولا يمكن - بالتالي - محاكمة تجربتها وإن كان ممكناً محاكمة مواقفها. فيما كان “حزب البعث” مَن انفرد بأنه بدأ حركة وانتهى سلطة وكانت له - في الحقبتين - فروع تنظيمية في كل مكان.
منذ الأربعينات حتى اليوم، شغلت ساحة العمل القومي ثلاث حركات: “البعث” والناصرية و”حركة القوميين العرب”. استمر “البعث” منذ ذلك الحين حتى الآن، وانتهت “حركة القوميين العرب” بعد حرب ،67 ثم انتهت الناصرية كنظام سياسي بعد رحيل عبدالناصر (1970) وتصفية رموز عهده (مايو/أيار 1971) لتبدأ كحركة (أحزاب) سياسية.
ثم لم تلبث ليبيا أن دخلت ميدان منافسة المراكز القومية الأخرى بعد رحيل عبدالناصر، فتبنت الحركات الناصرية ابتداءً، ثم وسّعت الدائرة فباتت حركات اليسار - المنشقة عن “حركة القوميين العرب - وبعض اليسار الشيوعي في جملة من يتلقى منها الدعم والإسناد وينخرط بالمؤتمرات والأطر التي أنشأتها من أجل الإمساك بحصتها في قرار حركة التحرر الوطني العربية (“مؤتمر الشعب العربي”، “ملتقى الحوار العربي الديمقراطي الثوري”..) ومنازعة بغداد ودمشق ذلك. مثلما حاولت الجزائر، في عهدها البومديني، واليمن الجنوبي في عهد عبدالفتاح اسماعيل وعلي ناصر محمد أن تفعل شيئاً من ذلك من دون كبير نجاح.
فجأة، ومنذ النصف الثاني من السبعينات، ستبدأ صورة تنظيمات الحركة القومية العربية في التغير بنتيجة عاملين: التناقضات السياسية والتنظيمية الداخلية والاستيعاب السياسي لها من قبل النظام القومي الرسمي. كانت هذه التناقضات قد بدأت مبكراً، منذ هزيمة ،67 فأفضت بحركة القوميين إلى الانقسام في فروعها كافة لتخرج منها منظمات جديدة تبنت الماركسية - اللينينية وموضوعاتها النظرية في الثورة مثل “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” و”الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين”، و”منظمة الاشتراكيين اللبنانيين”، والجبهة القومية في اليمن” وفروع أخرى في الكويت والخليج العربي وسوريا... الخ، ثم لم تلبث هذه التناقضات أن استفحلت داخل الأحزاب القومية الأخرى ك “حزب البعث” الذي انقسم إلى قيادتين قوميتين في دمشق وبغداد لتنقسم معه فروع الحزب في الأقطار العربية (لبنان، الأردن، الخليج العربي، تونس، الجزائر، وموريتانيا) وأحياناً ليحصل الانقسام داخل فرع الحزب نفسه في القطر الواحد. وامتد الانقسام إلى التنظيمات الناصرية التي نشأت بعد رحيل عبدالناصر، أو امتنعت صور التوحيد بينها، على نحو ما نجد في فسيفسائها التنظيمية في بلد مثل لبنان منذ مطالع السبعينات من القرن الماضي (“اتحاد قوى الشعب العامل”، “الاتحاد الاشتراكي”، بقياداته المختلفة المنشق بعضها عن بعض، “التنظيم الشعبي الناصري”، “حركة المرابطين - الناصريون المستقلون”، “التكتل الوطني المستقل”، “المؤتمر الشعبي اللبناني”...). وحين بدأ الاستقطاب القومي بين المراكز الثلاثة (دمشق، بغداد، طرابلس الغرب)، كانت هذه الفسيفساء التنظيمية “القومية” تتوزع بين الولاء لهذا أو ذاك من المراكز الثلاثة.
ومن النافل القول إن هذا التشظي التنظيمي الذي شهدته الحركة القومية بين منتصف الستينات ومنتصف السبعينات شكّل البيئة المثالية لاستيعابها سياسياً من قبل الأنظمة العربية التي حكمت باسم القومية العربية، وهو استيعاب نقلها - عملياً - من تنظيمات شعبية ومعارضة إلى تنظيمات ملحقة بالنظم الحاكمة، تابعة لقرارها السياسي. كان لذلك الاستيعاب وجه داخلي شكّل محطة ابتدائية في برنامجه قبل أن يفيض عن نطاقه الوطني (القطري) ليصبح استيعاباً عابراً للحدود الوطنية (ولا نقول قومياً). أما المحطة الابتدائية التي عنينا، فهي تشكيل “جبهات” وطنية وتقدمية بين “الحزب القائد” في النظام “القومي” والأحزاب الوطنية الأخرى من قومية ويسارية. وإذ أثمرت هذه التجربة، في الغالب، ترويضاً لتلك الأحزاب، أنضجت شروط تعميمها على المعظم الآخر منها في سائر البلاد العربية الأخرى، وهو ما بدأ يشهد اندفاعته في النصف الثاني من السبعينات، وحين بدأت “الحاضنة” الليبية تبدو توحيدية أكثر، مستقلة عن مدار التقاطب العراقي - السوري ومن يتحرك فيه، و”وريثة” لبعض الميراث الناصري، أصبحت اندفاعة الاستيعاب أكثر ودخلت على خطة عوامل ودوافع أخرى غير فكرية وغير سياسية كحوافز مشجعة.
لم تكن مشكلة ذلك الاستيعاب في المستوعِب (النظام القومي العربي)، لأن ذلك مما يقع في صلب استراتيجية أي نظام يريد أن يتحصل شرعية ثورية، أو يمد نفوذه الإيديولوجي والسياسي خارج حدوده، وإنما كانت في المستوعَب الذي ارتضى لنفسه أن يدخل في منطقة التباس بين وظيفة أصل له (معارضة النظام القائم، التعبير عن الموقف الثابت من القضايا القومية) وبين موالاة نظام عربي آخر هو جزء من النظام العربي ككل. وعلى الجملة، فإن مشكلته كانت في تعطيل جدول أعماله السياسي والانتظام في جدول أعمال النظام الموالي له أو المدعوم منه.
باسم “التحالف مع الأنظمة الوطنية” في وجه العدوان الامبريالي - الصهيوني، أنضجت الحركات القومية العربية من خارج السلطة انقلابها على نفسها وعلى تاريخها وميراثها القوميين، وقطعت شوطها الطويل نحو الالتحاق بهذه الأنظمة والعمل ضمن نطاق سياساتها العليا وتحت سقف قرارها السياسي، وارتضت لنفسها أن تتنزل في مجتمعاتها منزلة الناطق باسم تلك الأنظمة، المنافح عنها في وجه المعارضين لها في الداخلين: الداخل الاجتماعي لتلك الأنظمة، والداخل الاجتماعي للناطقين باسمها. وكان خطابها التبريري يتهافت مع الزمن إلى أبعد حدود البؤس.
"الخليج"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.