تلمسان الجزائرية تحفة أندلسية من زمن المرابطين والزيانيين كامل الشيرازي الجزائر: تعدّ محافظة تلمسانالجزائرية (800 كلم غرب العاصمة) تحفة أندلسية من زمن المرابطين والزيانيين، وتبعا لجمال وعراقة هذه المنطقة، تغنى بها الشعراء الكبار، ومجدها المؤرخون، واشتهرت كعاصمة للدولة الزيانية، وانفردت تلمسان (معناها الينابيع) بكونها إحدى أكبر مفاخر المرابطين في المغرب الأوسط، وتتمتع بعراقة لافتة في صورة احتضانها لعديد المرافق الأثرية، واحتضانها لزهاء 60 مسجدا، بينهم المسجد الجامع الذي بناه المرابطون قبل 855 سنة خلت، على يد "علي بن يوسف بن تاشفين"(1106ه/1142 م). تلمسان التي تستعد بصورة حثيثة لاحتضان عرس الثقافة الإسلامية سنة 2011، تتبدى كمدينة أندلسية كبيرة هربت بأسطحتها القِرميدية وقصورها ومُوشّحاتها من البحر في الشمال إلى التلال العالية في الجنوب بعد أن تساقط نصف متاعها وأبنائها أثناء الرحلة الخائفة، وتتميز المدينة بملامحها الساحلية الجميلة، في صورة عشرات المعالم التي تحتويها من قلعة المنصورة، إلى مغارة بني عاد مرورا بقصر سيدي بومدين وغيرهما من المعالم الأثرية النفيسة، وتذكر مصادر تاريخية، إنّ أصل تسمية تلمسان يعود إلى قبيلة جزائرية كانت تحمل الإسم ذاته، وكانت في أوج عزها اثناء قيام دولة الأدارسة في المغرب العربي وكانت لها هيبتها الا انها تراجعت بعد حروب عديدة، بيد أنّ "أبا الحسن المريني" أعاد بناء تلمسان، عندما أراد الاستحواذ على المدينة عام 1337هجرية، وشهدت على مدار تاريخها الحافل تعاقب عائلات كاملة من العلماء الكبار على الإمامة وإلقاء الدروس على غرار: عائلة المرازقة، وعائلة العقبانيين، وابنا الإمام، وابن زاغو، وابن العباس، والسنوسي، وابن زكري، والمغيلي، والمازوني، والونشريسي، والحوضي، والتنسي، وغيرهم. وقد استمد سكان المدينة من هذه الخاصية التلقينية والدعوية الاستثنائية التي انفرد بها المسجد الجامع، قوة جعلتهم يقفون بضراوة أمام موجة التغريب والمسخ ومحاولات مسح الشخصية المسلمة واللغة العربية أيام الاحتلال الفرنسي للجزائر (1830 م/1962 م). ويذكر الباحثان أبو عبيد البكري وجورج مارسيه، أنّ تلمسان بتلالها وبساتينها المثمرة الممتدّة، ظلت زاخرة بمدارس كبرى منذ القرن قبل الماضي، كما كانت حافلة بمجالس مختلف العلوم، وكانت تدرس فيها أمهات الكتب والدواوين، بدءا من القرآن والحديث وعلومهما، إلى العقائد وأصول الدين، والفقه وأصوله، واللغة وعلومها، والتصوف، والمنطق، والفلسفة، والطب، والهندسة، والفلك وعلوم الزراعة، ما جعلها تضاهي مدن فاس والقيروان والقاهرة سيما في ميدان العمران، بفضل إسهامات عدد من المهندسين والبنائين الذين استقدموا من قرطبة، واللافت إنّ الأمم التي استوطنت تلمسان كما القبائل الغازية لها، كانت في كل مرة تُضيف إلى تلمسان من المباني والمآثر أكثر مما تهدمه فيها.. بل إن بعض هؤلاء الغزاة قد كانوا لا يضيفون شيئاً لعمران هذه المدينة قبل أن يرمّموا ما تهدّم على أيديهم منها، مهما امتدّ بهم زمان حكمها أو قَصُر. والزائر لتلمسان كما المقيم فيها يلفت نظره دونما شك، معالمها الإسلامية المتشامخة التي تحيط بالمدينة من الغرب، وتطلّ على خلفه، وهذه ليست كلَّ شيء في معالم المدينة التي لا تزال تنتظر أن تأخذ نصيبها الذي يستحق من البحث والدراسة والاهتمام، طالما أنّ كثيرا من جوانب تلمسان تبقى تسيل لعاب المولوعين، والعابر بتلمسان، يظن أول وهلة أنها بلدة شاميّة هاجرت بناسِها وبساتينها وينابيعها وأغانيها.. بزهرها.. ونضرة الوجوه فيها.. هاجرت من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب. وخلف أسوارها وأبراجها وكهوفها، تظلّ آثار باطنية كثيرة مخبوءة في عاصمة الزيانيين، وتنتظر رياح التنقيبات الأثرية، ما قد يميط اللثام عن عديد الكنوز المجهولة، علما إنّ مؤرخين مشاهير من قامة عبد الرحمن بن خلدون وابن أبي زرع، أبدوا انبهارهم بحاضرة تلمسان التي كانت في وقت ما لؤلؤة المنطقة المغاربية، عاش فيها كثير من الشعراء المشهورين مثل ابن خفاجة، وابن الخميس. ويقول المؤرخ الدكتور أبو القاسم سعد الله، إنّ ما شهدته حاضرة تلمسان من عطاء فكري، يعدّ أوفر إنتاج الجزائر الثقافي، ومن أخصب عهودها بأسماء المثقفين والعلماء والمؤلفات، موضحا:"في إحصاء سريع أجريته لأسماء العلماء الذين أنجبتهم تلمسان، وجدت أنّ عددهم يفوق أعدادهم في باقي المناطق والأمصار مجتمعة"، ومن أشهر هؤلاء العلماء عائلة المرازقة، وعائلة العقبانيين، وابنا الإمام، وابن زاغو، وابن العباس، والسنوسي، وابن زكري، والمغيلي، والمازوني، والونشريسي، والحوضي، والتنسي، وغيرهم. كما تذكر دراسات تاريخية إنّ ملوك بني زيان الذين حكومها مطوّلا، كانوا مهتمين بتعمير المكتبات، حتى أنّ "أبا حمو موسى" أسّس خزانة وسع فيها على الطلبة والراغبين في العلم، وازدادت ضخامة واتساعا مع توالي السنين وازدهار الحياة العلمية. ويبدو أنّ تلمسان التي استوطنتها 13 أمة وغازيا، استفادت من هذا الموزاييك في تنويع روافدها الانسانية الحضارية ووجهها العمراني الفني الثقافي بجانب شخصيتها الاقتصادية.، حيث تعاقب عليها البربر، و الرومان الذين حكموها إلى غاية الربع الأخير من القرن الخامس الميلادي ثمّ الوندال وقد مرّوا بها خلال فترة الحكم الروماني للمدينة، ثم طُردوا منها من جديد على يد الرومان الكاثوليك، ليدخلها المسلمون فاتحين عام 671م على يد عُقبة بن نافع، وحتى نهاية الحكم الأموي وبداية الحكم العباسي ظلت تابعة للأمويين والعباسيين، قبل ان يمسك " بنو زناتة" بزمامها حتى نهايات القرن الثامن الميلادي، حينما انشقّوا عن العباسيين مع حركة انشقاق الخوارج في المشرق، وذلك بقيادة زعيمهم "أبو قرّة"، ليعقبهم الأدارسة الذين قدموا من فاس بالمغرب، واستولوا على تلمسان بالمصالحة مع زعيم قبائل زناتة، وظلوا يحكمون تلمسان طيلة القرن التاسع الميلادي، وسرعان ما آلت المدينة إلى الصَّنهاجيين من أتباع الفاطميين، وقد حاصروا تلمسان عام 937م وفتحوها، قبل أن يسيطر عليها المرابطون، وهم قبائل من موريتانيا والسنغال حاصروا المدينة عام 1079م بزعامة "يوسف بن تاشفين" وفتحوها وبَنَوا فيها ضاحية "تاغرارت"، وجاء الدور على الموحِّدين، وقد كانوا يتركزون في الجبال الداخلية في المغرب العربي بزعامة "ابن تُومَرْت"، وقد أرسل الأخير صديقه "عبد المؤمن" لفتح تلمسان فحاصرها عام 1143م، ودام حصاره لها سنين حتى انهزم المرابطون، وفُتحت المدينة لهم، ودام حكمهم لها 40 سنة ولم تكن اللائحة لتنتهي عند هذا الحد، حيث سكنها بنو عبد الواد الزيانيّون، وقد كانوا بدواً رُحَّلاً استخدمهم الموحِّدون للحفاظ على تلمسان، إلاّ أن شوكتهم قد قويت فيها، وعلا شأنهم حينما استطاعوا أن يصدّوا قبائل (بني غانية) الطامعة في تلمسان، فما كان من الخليفة الموحِّدي بالمغرب إلاّ أن كافأ زعيمهم بتعيينه حاكماً له، واستمر حكم بني عبد الواد لتلمسان ثلاثة قرون، ابتداء من القرن الثالث عشر الميلادي إلى نهايات القرن الخامس عشر، واشتهر منهم "يغمراش" الذي يعود إليه الفضل في بناء المساجد والقصور الباقية حتى الآن في تلمسان. وخلف بني عبد الواد، المرينيون الذين حاصروا تلمسان سبع سنوات ابتداء من عام 1299ه بقيادة زعيمهم السلطان المريني "أبو يعقوب" ولم يرفع الحصار عن المدينة إلاّ بموته، إلا أن المرينيين قد بَنَوا خارج أسوار المدينة القديمة مدينةً جديدة أطلقوا عليها اسم "المنصورة" (صارت قلعة حاليا)، وقد عاد المرينيون مرة ثانية لحصار تلمسان بقيادة أبي الحسن المريني ففتحوها ودام حكمهم لها إحدى عشرة سنة، وكانت خاتمة المطاف بخضوع تلمسان للأتراك العثمانيين منذ عام 1555م بعد أن كان قد فتحها القائد التركي "بابا عروج" الذي استنصر به "أبو زيان" من بني عبدالواد على عمه "أبو حمد الثالث" الذي انتزع منه الحكم، وظلت تلمسان عثمانية إلى غاية سقوطها في يد المحتل الفرنسي العام 1830 م، قبل أن يستردها أبناؤها 132 سنة من بعد. هذه هي تلمسان ببساتينها بينابيعها وأغانيها، موطن التاريخ، وملعب الزهور، وبلد المساجد، ونزهة النفس، يرجع الفضل إليها في الحفاظ على كثير من أصول الغناء الأندلسي وعهد زرياب والموصلي وعزة الميلاء، فأهلها لا زالوا يعزفون على آلة " الرباب"، وهم متمسكون بفن "الحوزي" الشهير كما "المالوف"، العاكسان لأصول الموسيقى الأندلسية النابضة.