أنتجت السينما الأميركية في بحر هذا العام والعام السابق مجموعة من الأفلام من نوع الخيال العلمي برزت من بينها أشرطة لا تجيدها إلا هوليوود تلفت النظر لكونها تتناول موضوعا واحدا هو نهاية العالم. في سنة 2008 ظهر شريطان هامان: «اليوم الذي توقفت فيه الأرض» (The Day the Earth Stood Still) و «كلوفرفيلد» (Cloverfield)، بعدهما تواصلت الوتيرة في سنة 2009 مع شريط «نبوءات» (Knowing) وشريط «2012». إذا أضفنا إلى هذا النوع صنفا آخر من الأشرطة التي تنتجها هوليوود عن البطل المنقذ الذي لا يشق له غبار من قبيل «سوبرمان» و «باتمان» و «أيرونمان» و «سبايدرمان» فإنه يصبح مشروعاً أن نتساءل عن دلالات هذا التوجه السينمائي في هذه الأزمنة التي لا تخلو من كوارث وأزمات. ما الهدف من هذا النوع من الأشرطة التي تتنوع فيها الأهوال المدمرة؟ لماذا كل هذا التركيز على المخاطر والفواجع التي تحدق بالعالم؟ ثم لماذا هذا الإصرار على أن الأرض ذاهبة إلى زوال قريب؟ إذا كان الدافع التجاري حاضرا لحفز المنتجين على الإقبال على هذا النوع من الأشرطة الكارثية المكلفة ماديا لكن المربحة في الوقت ذاته فإنه لا يبدو عنصرا كافيا لتفسير تزايد الاهتمام بمثل هذه القضية المقلقة. إن ما يدعو إلى البحث عن اعتبارات أخرى إلى جانب عنصر الربح المادي هو أن السينما كانت دائما تحمل ما يسميه رجال التربية والاجتماع «الدرس المضاعف». الشريط السينمائي شأنه شأن الدرس الذي يتلقاه التلاميذ في الفصل، له ظاهر وباطن. في المعهد أو الكلية هناك في كل درس جملة معارف ومعلومات ومهارات تقدم وفق برامج ومقررات في اختصاصات مختلفة. مع هذا الدرس الظاهر هناك بصورة شبه ثابتة درس خفي يعتمد على الأسلوب التربوي والدلالات الرمزية الثقافية والاجتماعية التي يقع تشرّبها بصور مباشرة أو غير مباشرة داخل المؤسسة التعليمية. ما يقع تمثله من السلوكيات المتداولة في الدرس من طريقة التدريس وأسلوبه ومن وسائل التقييم المعتمدة وما يقع استيعابه من المحيط المدرسي من خلال نظافته ومن نوع معماره، ومن خصائص الملبس التي يقع ارتداؤها وكذلك من الاختلاط ومن نوعية المنحدر الاجتماعي للتلاميذ والطلبة والأساتذة، كل هذه العناصر تشكّل فيما بينها مكونات الدرس الآخر غير المنظور. في السينما أيضا هناك عرضان متساوقان، أحدهما مباشر والآخر غير معلن لكنه حاضر وفاعل. في الجانب الأول، يحقق الفن السابع، خاصة في الأفلام الأميركية، الفرجة التي تتيح للجمهور أن يقتحم عوالم يتداخل فيها الخيال بالواقع بصورة مثيرة ومباشرة بقدر لا تحققه الفنون الأخرى. ذلك راجع إلى أنه مع قدرة المخرج ومستوى النص السينمائي تضاف خصائص داعمة من فنون المسرح بكفاءة ممثليه والموسيقى والتصوير مع التقنيات الفنية المختلفة والتي زادها التصوير الرقمي عاملا لا يضاهى من حيث القدرة على الإبهار المؤكد. لكن هذا لا ينبغي أن ينسينا العرض الآخر والذي يكون أكثر تأثيرا في مستوى فاعليته على القيم والتوجه الفعلي والسلوكي. إنه الوجه الخفي للسينما الذي به يعاد تشكيل وجدان الجمهور وتصوراته وعن طريقه تصاغ الرؤى وتتغير القيم والمعايير. وإذا كان وليام شكسبير قد قال «أعطني مسرحاً أُعطِك شعباً مثقفاً» فإن مقولته تلك تحيل على ذلك الدرس أو العرض المضاعف الذي يستبطنه الفن المسرحي والذي يتيح إعادة تشكيل رؤية الجمهور بطريقة خفية لكنها حاسمة. تنطبق المقولة ذاتها وبصورة جازمة على الفن السابع لأن العرض المستتر فيه أشد نفاذا وأوسع مدى. عند النظر في الشريط الأميركي «2012»، وهو آخر ما صدر من سلسلة هذه الأشرطة المروّعة، يمكن أن ندرك عناصر الإجابة عن الأسئلة السابقة المتعلقة بالغاية من إنتاج عدد من الأفلام عن نهاية العالم. يعتمد شريط «2012» على نبوءة سائدة لدى شعب «المايا» الذي ترجع أصوله إلى الهنود الحمر والذي كان يقطن أميركا الوسطى حيث أسس بناءً حضاريا متقدما في العمارة والفلك والرياضيات والخزف والنحت. أساس النبوءة قائم على التقويم السنوي الدقيق لشعب «المايا» الذي بلغت حضارته أقصى مراحل تطورها في القرن الثالث الميلادي والذي يتوقف الحساب فيه عند سنة 2012 مما يمكن أن يدل على نهاية العالم في تلك السنة. انطلاقا من هذا التقدير التقويمي يعرض الوجه الأول من شريط «2012» إلى توالي مؤشرات مناخية فاجعة منذرة بأهوال يحاول العلماء والخبراء درسها قصد التصدي لها دون جدوى. يقدم الشريط لوحات مذهلة عن الكارثة المدمرة لمدينة لوس أنجليس نتيجة الانزياح العنيف للصفائح القارية للبنية الجيولوجية التي أقيمت عليها المدينة. ثم يتسع الهول مع عتوّ المحيطات والبحار الثائرة التي تكتسح الأرضين بفعل الزلازل البحرية التي لا تصمد أمامها البناءات الشامخة والمعالم الحضارية المختلفة والتي تبلغ حد اكتساح أعالي جبال الهيمالايا الشاهقة. من ثم فإن النجاح الباهر الذي يسجله هذا الشريط يرجع إلى القدرة التكنولوجية العالية التي أمكن من خلالها تصوير نبوءة شعب المايا وبعض ما ذكرته الكتب المقدسة عن نهاية العالم. يبقى وراء كل هذا الهول المريع الوجه الآخر لشريط «2012». هناك في المقام الأول الملمح الخارجي من ملامح الرسالة غير المعلنة التي يراد إبرازها. إنها هشاشة البناء الإنساني وقابليته للانهيار السريع نتيجة بنية أرضية بالغة الضعف وعديمة الثبات. بعد ذلك يتبدّى الملمح الثاني من خلال ذلك الواقع الطبيعي والبشري الهشّ، إنها صورة للعالم كله وكأنه وحدة لا تتجزأ. على هذا تصبح نهاية العالم مصدراً لوحدته ويضحي تاريخ 2012 موحِّدا للناس جميعا أيا كانت معتقداتهم أو مواطنهم. مع الملمح الثالث يمكن استحضار السياق الحضاري المهزوز للولايات المتحدة اقتصاديا وماليا وعسكريا فتكون بذلك الرسالة واضحة: انهيار الولاياتالمتحدة ليس سوى الانهيار الكامل للعالم بأسره. هي رسالة مطمئنة للذات الأميركية التي يمكنها أن تخرج من هذا الصنف من الأفلام في حالة رضا كامل عن النفس ومواصلة على النهج ذاته دون أية حاجة للمراجعة الجادة. ثم هي رسالة إلى العالم كله، أنه لا مناص من السير على هدي الخيار الأميركي لأن سقوطه هو نهاية الجميع. من هذا الملمح الأخير يتضح أن أشرطة نهاية العالم تستعيد فكرة مركزية شقيقة لمقولة فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) عن نهاية التاريخ. فإذا كانت نهاية التاريخ تعني تتويجا لمسيرة الإنسانية المضطربة بالوفاق الكوني على المنظومة الديمقراطية الليبرالية التي ستضع حدا لكل الصراعات الإيديولوجية والمذهبية، فإن رسالة نهاية العالم السينمائية تحذو حذوها داعية للاصطفاف على مقولة فرعونية قديمة «ما أُريكم إلا ما أرى» تلك المقولة التي يستعيدها المثل المعروف: «ليس بالإمكان أبدع مما كان». العرب 2009-11-12