اضطرت إحدى شركات الطيران البريطانية إلى إعدام 300 ألف نسخة من مجلتها الشهرية لأنها اتهمت ب«الاستخفاف» بالهولوكوست، بمعنى أنها لم تتعامل معه بالتوقير والاحتشام اللازمين، ولم تكتف الشركة بذلك ولكنها قدمت أيضا اعتذارا علنيا لكل من أساء إليه تصرفها. القصة روتها صحيفة «الإندبندنت»، وخلاصتها أن شركة «إيزي جيت» البريطانية الاقتصادية، التي تعد من أبرز الشركات الأوروبية في مجال النقل الجوي منخفض التكلفة ارتكبت «جرما» لا يغتفر في نظر المتعصبين اليهود. وهو ما عرضها لحملة تشهير وانتقادات عنيفة من جهات وجماعات يهودية إضافة إلى أعداد من المسافرين على خطها إلى تل أبيب. والسبب أن عدد أول نوفمبر من مجلتها الشهرية خصص ثماني صفحات تضمنت صورا ظهرت فيها عارضات حسناوات وهن يستلقين أو يسندن ظهورهن إلى حجارة الموقع التذكاري للقتلى من يهود أوروبا الذين كانوا ضحايا للمحرقة التي ارتكبها النازيون بحقهم. وهو الموقع الذي افتتح في عام 2005 في العاصمة الألمانية برلين، وبات يعرف باسم «حقل ستيلاي»، وهو يضم 2700 مجسم من الأسمنت المسلح. الصور التي أثارت العاصفة ضد الشركة التقطت للعارضات في ذلك الموقع «المقدس»(!)، وكانت المناسبة هي الذكرى العشرون لسقوط جدار برلين. المنتقدون اعتبروا الاستطلاع المنشور استخفافا بالذاكرة اليهودية والمجازر الجماعية التي تعرضوا لها، ووصف ستيفن بولارد رئيس تحرير صحيفة «جويش كرونيكل» اليهودية البريطانية المقالة المصاحبة للصور بأنها «عديمة التبصر» ومتجاوزة لحدود اللياقة. وإزاء استمرار تلك الانتقادات قررت شركة «إيزي جيت» أن تتراجع، فأعلنت أنها سحبت كل أعداد المجلة من الجيوب الخلفية لمقاعد طائراتها.. وفي محاولة للتبرؤ من الملامة وتحميلها لدار نشر خارجية ذكر بيانها أنها تعتذر بحرارة لكل من أساء إلى مشاعره نشر الصور والمقالة المصاحبة، مع تلميح إلى احتمال إعادة النظر في عقدها المبرم مع دار النشر. هذه الحساسية المفرطة التي يدافع بها اليهود عن تاريخهم والتي تذهب إلى حد تقديس ذلك التاريخ وإجبار الحكومات الغربية على احترامه، لا تقارن بالأسلوب الذي تتعامل به تلك الحكومات مع الهوية الدينية للجاليات الإسلامية. وقد شاءت المقادير أن تتزامن مشكلة شركة طيران إيزي جيت مع حدث آخر وقع في فرنسا وكانت البطلة فيه فتاة مسلمة محجبة. ذلك أن بعض نواب الجمعية الوطنية (البرلمان) لاحظوا وجود الشابة المحجبة وسط الجالسين في صفوف الزوار الذين يتابعون المناقشات. فأثار ذلك استغرابهم، وطلب اثنان من نواب الوسط الكلام، حيث أعربا عن دهشتهما إزاء «تسلل» مستمعة محجبة إلى قاعة البرلمان، واستندا في ذلك إلى نص في التعليمات العامة لمكتب الجمعية يقضي بأن يكون الجمهور المتابع للمناقشات جالسا في المقاعد المخصصة له، دون أغطية للرأس، واحتجت على وجود الفتاة نائبة اسمها هوستالييه، معتبرة أن حجاب الفتاة يمثل اعتداء على القيم الجمهورية، التي تقوم إحدى دعاماتها على العلمانية والأخرى على المساواة بين الرجال والنساء. وإزاء تعدد الانتقادات، وجه رئيس الجمعية الوطنية رسالة إلى الأعضاء ذكر فيها أن المادة المتعلقة بوجوب كشف الرءوس تحت قبة البرلمان لا تتعلق بالوقت الراهن، ولكنها من بقايا العصر الذي كان الرجال يرتدون فيه القبعات. ورغبة ممثلي الشعب في أن يخلع الداخلون إلى القاعة قبعاتهم احتراما للمكان عند حضور الجلسات. وخلص إلى أن تلك المادة بهذه الخلفية لا تنطبق على المحجبات وهو التعليل الذي لم يقبل به النواب الذين أصروا على موقفهم الداعي إلى حظر دخولهن إلى قاعة المجلس. مطاردة المحجبات على ذلك النحو ليست بعيدة عن حظر ارتداء الحجاب في المدارس والمعاهد التعليمية الفرنسية، وهو الحظر الذي سرت عدواه إلى دول أوروبية أخرى، ألمانيا في مقدمتها، ووصل إلى حد حظر مآذن المساجد في سويسرا. صحيح أن بعض المنظمات الإسلامية في أوروبا استنكرته، لكن الاستنكار لم يتحول إلى ضغوط تلزم حكومات تلك الدول باحترام الهوية الدينية للمسلمات، وهي ذاتها التي تتعامل بمنتهى الرفق والحذر مع الذاكرة التاريخية لليهود. لم تحل المشكلة بعد، لكننا لن نستغرب إذا ما انتهى الأمر إلى منع المحجبات من دخول مبنى البرلمان الفرنسي، لأن المسلمين لا وزن يذكر لهم هناك، ولا هنا أيضا. الرؤية السبت, 5 ديسمبر 2009