يُعتبر استفتاء سويسرا حول المنارة (المِئذنة) الإسلاميّة، من أهمّ الأحداث التي شغلت المسلمين في الفترة الأخيرة والتي سال فيها الكثير من الحبر إخبارا وتحليلا وحتّى خدمة للذّات وللمصلحة الضيّقة أو الواسعة... وقد تميّز المسلمون السويسريون هذه المرّة في ردود أفعالهم بالهدوء والرّزانة والحصافة، فنبّهوا بلباقة إلى عدم الحاجة ناهيك بالضرورة إلى تدخّل السّواد المسلم الواقع في البلاد الإسلاميّة المسوّدة بصنائع الحكّام... فلا ضرورة إذن عندهم إلى الخروج في الشوارع للصياح وإيذاء المرضى والعجّز ولا فائدة من المساهمة في تلويث البيئة بحرق الأعلام أو الدمى العجماء المصنوعة من الورق المقوّى... بل ولا حكمة في ذلك البتّة!... فقد فعل المسلمون ذلك – بنياتهم – دفاعا عن سيّد البريّة صلّى الله عليه وسلّم لمّا استهدف في الدّانمارك، ولكنّهم لم يزيدوا بذلك أعداء الإسلام إلاّ جرأة على الإسلام والمسلمين... جرأة مدعومة في أغلب الأوقات من "المسلمين" أنفسهم... والحقيقة أنّنا في بلاد الغرب نشهد الكثير من الهجومات علينا وعلى ديننا ونبيّنا صلّى الله عليه وسلّم... ولكنّها - في أغلبها – ليست هجومات مجانيّة، بل لها من الأسباب والمسبّبات، ما يجعلها مفهومة أو متفهَّمَة... ولعلّي في هذه السانحة أتوقّف عند بعضها بدون إطالة: •يمكن القول بصفة إجمالية أنّ تطوّر القوانين الوضعية في بلاد الإقامة الاضطرارية (بلاد الغرب) وتطويرها لمحاصرتنا، إنّما يحدث بمساعدة عنصرين اثنين: أحدهما هو عدم استعداد بعض سكّان البلاد الأصليين من العنصريين أو المتطرّفين أو الوطنيين (تسمية جديدة عندهم، أريد بها التخفيف من استعمال لفظ العنصرية) إلى استقبالنا والتعايش معنا... وثانيهما هو عدم قدرتنا (البعض منّا) على أن نكون في مستوى قيم إسلامنا السمح الخاتم الذي طُبعنا ووسمنا به... ففينا الكاذب والسارق والغاشّ والمتهرّب من الضريبة وخليل الفاسدات ومضيّع أولاده ومسيء معاملة زوجته وفاسد سلوكه ومشوّه منظره ومظهره ومفحّش كلامه ومغلّظ تعامله مع غيره!... وليس النّاس الذين فتحوا لنا بلادهم بحاجة ماسّة إلى التدقيق فينا كلّ على حدة، ولكنّهم حسبوا أنّ التشويه "فرض" كفاية، فاكتفوا بما فعل الأقلّ دون كثرة عناء في اكتشاف الأكثر، فصنّفونا خطرين سيّئين إرهابيين متقاعسين جاهلين متوحّشين مشوّهين شهوانيين... ثمّ استعملوا وسائلهم الإعلاميّة التضليلية فسبقونا بها على طريق الإنجاز بقدر ما أخّرنا النّشاز فينا، وحسبنا الله ونعم الوكيل... •انكمشت مآذن المسلمين، فمدّ المتطاولون أعناقهم في هولندا وفي فرنسا وفي القدس الشريف حيث المسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى... فطالب العنصريون والمثليون والصهاينة واليهود، ممّن تواطؤوا على معاداة الله والإسلام والمسلمين، بوقف بناء المآذن وأنشطة المساجد وأصوات المؤذّنين التي بالغت في "إيذائهم"... وقبل هذا طالب آخرون في بلاد الإقامة (الغرب) بمنع لبس الحجاب أو منع حاملته من الدراسة أو العمل، ليظهر آخر المتطرّفين العنصريين فيطالبهنّ باستشارة قبل اللبس وبدفع ضريبة عنه إذا رُخّص بعد اللبس (ضريبة لتعويض الضرر النّاجم عن رؤية هذه الصورة المسيئة للمرأة حسب تعبيره)... والحقيقة أنّه كلّما حصلت إساءة للإسلام والمسلمين هنا إلاّ وتذكّرت ابن آدم (على أبينا آدم السلام)، فقد وُظِّف عليه ذنبٌ عن كلّ نفس تُقتل، لأنّه هو أوّل من سنّ القتل... وعليه فهل يجوز لنا - نحن المسلمين سواء المتواجدين منّا في بلاد الإقامة (الغرب) أو المتواجدين في بلاد العرب والمسلمين - أن نرفع أصواتنا دون خجل بالاحتجاج هنا في الغرب وقد عجزنا عن ذلك في بلادنا "الديمقراطية"، الرابضة هناك، أسفل البحار وعلى مشارف الصحارى الشاسعة... فالحجاب عندنا يمزّق على رؤوس حاملاته، وحاملاته يُهَنّ بالقول الفاحش وبالفعل الأفحش، فيُمنعن من الدراسة والعمل وحتّى الاستشفاء (مع بعض التخفيفات الموسمية)... والمساجد لا تعمّر إلاّ من طرف من يميل في مدحه إلى السلطان على حساب الرحمان... والنّاس من "المتنوّرين" قد عبّروا منذ أكثر من عشريّتين (في تونس على الأقلّ) عن خشيتهم على آذانهم من سماع الأذان سيّما عند الفجر لمّا يكونوا حديثي عهد بالفراش إثر عودتهم من حاناتهم وملاهيهم الساهرة... والقرآن الكريم قد ألقِيَ في دورات المياه وقد رُكل بأرجل الجلاّد... واللحيّ قد أخافت الحسان من غير النّساء فحوربت وزجّ بحامليها في غياهب السجون المظلمة!... أحسب أنّه لا يجوز لنا ذلك (الاحتجاج) إذا كنّا حريصين على احترام أنفسنا، كما أحسب أنه ليس علينا أن "نلعنهم" أو نحتقرهم فمَن عندنا أولى منهم ب"اللعنة" والاحتقار، فقد كانوا كابن آدم أوّل من عمل بالظلم فينا!... •على ما تقدّم يمكنني القول بأنّ الذي منع الحجاب في أيّ بلد أوروبي – إن منع – هم حكّام العرب والمسلمين، وأنّ الذي منع بناء المآذن في سويسرا وغيرها من البلاد المقتدية بسويسرا أو المبدعة قبل سويسرا إنّما هم حكّام العرب والمسلمين، والذي أراد لنا أن نكون لاهثين وراء قيمة لا ندركها هم حكّام العرب والمسلمين، والذي اعتدى على الرّسول الكريم صلّى الله على وسلّم بأن سلّط عليه شاذّا من شواذّ فضلات الحضارة هم حكّام العرب والمسلمين... ووالله لو أنّ حاكما واحدا من بلاد الإسلام الغنيّة عبدَ الله وحده من دون أسياده الذين كرّهوا له أهله لعاش الجميع بعزّة ونخوة ولتسابق النّاس في الغرب يرفعون المآذن بالعدد الذي قد يفوق دكاكين الهومبرقر المنتشرة عندهم انتشار الأقحوان في الحقول الثريّة!... وإلى هذا المعنى نبّه الإخوة الإسلاميون في سويسرا، فقالوا بلغة رامزة موجّهة للمسلمين القاعدين في بلدانهم: مؤازرتكم لنا في سويسرا تبدأ بكم ومنكم وقوّتنا في الله ثمّ في الحقّ وفيكم، ولكن بدل أن تحرقوا الرّايات.. احرقوا المظالم ودوسوها ودوسوا مقترفيها!.. وبدل أن تتظاهروا في الشوارع بالصراخ تظاهروا بالصمت المخيف الذي سوف يرهب الجلاّد عندكم فيفرّ منكم أو يقلع على الأقلّ عن جلدكم، وبدل أن تستكثروا على كافر كرهه للإسلام عزّروا المسلم فيكم وقد استحلّ محارم الله ومحارمكم حتّى فاق الكافر في محاربة ربّكم... نسأل الله الثبات على الحقّ!... عبدالحميد العدّاسي، الدّانمارك