إستخدام الأواني المصنوعة من مادة البلاستيك يؤدي إلى مضاعفات صحية خطيرة    نصائح وتوصيات وزارة الصحة لمجابهة موجة الحرارة    خلال يومين.. احباط 59 عملية "حرقة" وايقاف 24 منظما ووسيطا    تونسي يتميز في جامعة دايفس بكاليفورنيا الأمريكية    معبر الذهيبة : ازدحام كبير جراء ارتفاع عدد العائلات الليبية القادمة نحو تونس    نحو 16 ألف شخص تعرضوا لإصابات خلال ذبح الخرفان في أول أيام العيد    احمد الجوّادي يُتوّج بذهبية سباق 400 متر في بطولة فرنسا للسباحة 2024    مدخرات تونس من العملة الصعبة تقدر ب 107 ايام توريد    بداية من الغد: تحذير من ارتفاع درجات الحرارة    وزير الشّؤون الدّينية يتفقّد أحوال الحجيج بمخيّمات المشاعر المقدّسة    سليانة.. تقدم موسم الحصاد بنسبة 45 بالمائة    الهيئة الوطنية للمحامين تنعى المحامي الدواس الذي وافته المنية في البقاع المقدسة    كأس أمم أوروبا: برنامج مواجهات اليوم والنقل التلفزي    القيروان : زوج يقتل زوجته بطريقة وحشية بعد ملاحقتها في الطريق العام    قرقنة.. وفاة حاج من منطقة العطايا بالبقاع المقدسة    رئيس الاتحاد الفرنسي يحذر مبابي لأسباب سياسية    تنس – انس جابر تحافظ على مركزها العاشر عالميا وتواجه الصينية وانغ في مستهل مشوارها ببطولة برلين    الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة الختامية..    حجاج بيت الله الحرام يستقبلون أول أيام التشريق    عاجل/ الاحتلال الصهيوني يحرق قاعة المسافرين في معبر رفح البري..    مصرع 6 أشخاص وفقدان 30 آخرين في انهيار أرضي في الإكوادور    قتلى وجرحى بإطلاق نار خلال احتفال في تكساس الأمريكية    بسبب ين غفير.. نتنياهو يلغي مجلس الحرب    المتحدث باسم "اليونيسف".. الحرب على غزة هي حرب على الأطفال    طقس اليوم.. خلايا رعدية بعد الظهر والحرارة في ارتفاع    تراجع الإنتاج الوطني للنفط الخام في أفريل بنسبة 13 بالمائة    فرنسا: تصدعات بتحالف اليسار وبلبلة ببيت اليمين التقليدي والحزب الحاكم يعد بتعزيز القدرة الشرائية    بن عروس/ 18 اتصالا حول وضعيات صحية للأضاحي في أوّل أيّام عيد الأضحى..    صفاقس : "البازين بالقلاية".. عادة غذائية مقدسة غير أنها مهددة بالإندثار والعلم ينصح بتفاديها لما تسببه من أضرار صحية.    الإنتاج الوطني للنفط الخام يتراجع في شهر افريل بنسبة 13 بالمائة (المرصد الوطني للطاقة والمناجم)    رئيس الجمهورية يتبادل تهاني العيد مع كل من رئيس المجلس الرئاسي الليبي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية    استدرجوا امرأة للانتقام منها: صدور حكم بالسجن في جريمة قتل..    العلاقات الاندونيسية التونسية جسر تواصل من اجل ثقافة هادفة، محور ندوة بتونس العاصمة    في ظل انتشار التسممات الغذائية في فصل الصيف، مختصة في التغذية تدعو الى اعتماد سلوك غذائي سليم    47 درجة مئوية في الظل.. الأرصاد السعودية تسجل أعلى درجة حرارة بالمشاعر المقدسة    كأس أوروبا 2024 : المنتخب الفرنسي يستهل غدا مشاركته بلقاء النمسا    رقم قياسي جديد بالتصفيات الأولمبية الأمريكية للسباحة    إخصائية في التغذية: لا ضرر من استهلاك ماء الحنفية..    صفاقس : الصوناد لم تكن وفيّة لوعودها يوم العيد    فرق التفقد الطبي بكامل الجمهورية تقوم بزيارات ميدانية غير معلنة لعدد من الأقسام الاستعجالية    وزارة الصحة السعودية تصدر بيانا تحذيريا لضيوف الرحمان    منسق البعثة الصحية: لا وفيات في صفوف حُجّاجنا    الصوناد: الرقم الأخضر 80100319 لتلقي التشكيات    تخصيص برنامج متكامل لرفع الفضلات خلال أيام العيد    بعد ظهر اليوم.. خلايا رعدية مصحوبة بأمطار متفرقة    أنس جابر تُشارك الأسبوع المقبل في بطولة برلين للتنس    أول أيام عيد الأضحى.. الحجاج يؤدون طواف الإفاضة    في أول أيام عيد الأضحى.. الحجاج يرمون جمرة العقبة الكبرى    المطربة المصرية منى عبد الغني تنهار باكية أثناء أداء مناسك الحج على جبل عرفات (فيديو)    أطباء يحذرون من حقن خسارة الوزن    المهدية: مؤشرات إيجابية للقطاع السياحي    رواق الفنون ببن عروس : «تونس الذاكرة»... في معرض الفنان الفوتوغرافي عمر عبادة حرزالله    المبدعة العربية والمواطنة في ملتقى المبدعات العربيات بسوسة    «لارتيستو»: الفنان محمد السياري ل«الشروق»: الممثل في تونس يعاني ماديا... !    "عالم العجائب" للفنان التشكيلي حمدة السعيدي : غوص في عالم يمزج بين الواقع والخيال    جامعة تونس المنار ضمن المراتب من 101 الى 200 لأفضل الجامعات في العالم    الدورة الخامسة من مهرجان عمان السينمائي الدولي : مشاركة أربعة أفلام تونسية منها ثلاثة في المسابقة الرسمية    تعيين ربيعة بالفقيرة مكلّفة بتسيير وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تركيا . . ماذا تريد منا وماذا نريد منها؟
نشر في الفجر نيوز يوم 06 - 12 - 2009

أينما ذهبت فى بلاد المشرق ستسمع من يشيد بما فعله رجب طيب أردوغان حين انسحب من أحد لقاءات مؤتمر دافوس “احتجاجا على أقوال نطق بها شيمون بيريز بينما واصل عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية اللقاء ولم يغادر” . سمعت الرواية تحكى بنغمات مختلفة ولم اسمع سوى مرات قلائل من يحكيها كما وقعت بالفعل، وهو أن أردوغان انسحب لأن دافيد إجناشيوس، وكان يدير الجلسة، لم يعطه حقه في الرد . على كل حال، كانت الرواية كما تداولها الناس في تركيا والشرق العربي والشرق الآسيوي، هي الرواية التي تحن الشعوب إلى سماعها، رواية ترضي أمما باحثة عن بطل، أو أمم تحن إلى دور كان لها وفقدته . لذلك كان استقبال الأتراك لأردوغان عندما عاد من دافوس إلى بلاده أسطوريا، حتى إن صحافيين أمريكيين أعربوا عن الشك في أن يكون الاستقبال غير مدبر أو مرتب من جانب حزب العدالة والتنمية . ومع ذلك فإن التشكيك في عفوية الاستقبال التركي لا يفسر عفوية الشعبية التي حاز عليها أردوغان في أوساط عديدة في العالم العربي، حيث يفتقر الناس بالفعل إلى زعيم يتجرأ ويغادر محفلا يشارك فيه قادة “إسرائيليون” كبار، وبخاصة بعد أن صاروا يألفون منظر قادة عرب من رجال دين وسياسة وثقافة يستقبلون “إسرائيليين” في مكاتبهم ويهرولون نحوهم في المؤتمرات ويتصدرون معهم المآدب والاحتفالات . قد لا يكون هذا الحدث نقطة البداية في مسيرة اهتمام العرب بتركيا وزعمائها، ولكنه بدون شك لعب دور “المسرع” في علاقة جديدة بين تركيا والشعوب العربية والإسلامية .
البداية متعددة النقاط، ولم تكن عشوائية أو وليدة الصدفة، إذ اشتركت أحداث دولية كبيرة فى التأثير على مسارات تركيا أبلغ الأثر، أولها سقوط الاتحاد السوفييتي، ونحن نعرف أن الاتحاد السوفييتي كان التبرير الأقوى أمام العالم لانضمام تركيا لحلف الأطلسي ولقبولها القيام بدور هام في أمن المنظومة الغربية . وثانيها أزمة الخليج الأولى، حين اكتشفت تركيا أن حاجة أمريكا إلى تركيا الإسلامية تفوق حاجتها إلى تركيا العلمانية، وحين كان المطلوب أمريكيا أن تشترك تركيا وسوريا ومصر في الحرب لتحرير الكويت لأنها دول إسلامية وليس لأي اعتبار آخر . ثالثها حرب العراق، فمنذ اليوم الأول تأكدت تركيا أن المصالح القومية التركية لم تعد تتطابق مع المصالح الأمنية الغربية، وأظن أن مصر والسعودية، شعرتا الشعور ذاته وإن بحدة أقل جدا . ساد وقتها اقتناع بأن الغزو الأمريكي للعراق يعني احتمالا قويا بتمزيق العراق . بمعنى آخر، تأكدت تركيا أن أمنها صار مهددا بالاحتلال الأمريكي للعراق وهو الأمن الذي كان يعتمد اعتمادا قويا على استقرار العراق، كاعتماده على استقرار سوريا . أما رابع التطورات التي أقنعت حكومة أنقرة بضرورة تسريع مسيرة تغيير سياساتها الخارجية، فكان خيبة الأمل في تركيا من مواقف دول أوروبية، بخاصة فرنسا وألمانيا، من مسألة الانضمام التركي إلى الاتحاد الأوروبي . هنا لم تكن خيبة الأمل حافزا يدفع نحو التخلي عن حلم الانضمام، بل العكس تماما، وهو أن تعود تركيا من مسيرة جديدة في سياستها الخارجية وفى حقيبتها نفوذ قوي في المنطقة العربية والإسلامية وفى القوقاز ووسط آسيا، وإن أمكن، في إفريقيا جنوب الصحراء .
القوة التركية الناعمة
جلست بقدر ما سمح وقتي ووقتها مع مليحة أتومشبك أستاذة العلاقات الدولية والمتخصصة فى علاقات تركيا بالمنطقة العربية . بادرتني بأنها تتردد على الدول العربية منذ سنوات عديدة، وأنها ذهلت للحفاوة التي استقبلت بها في كافة أنحاء العالم العربي وبخاصة في سوريا التي زارتها الأسبوع الماضي . قالت “ذهلت لدفء استقبالي وللتغير في مشاعر السوريين الذين كنت قبل سنوات أخشى التصريح أمامهم بأنني تركية” .
الفضل في تغيير مشاعر السوريين، وغيرهم من العرب، يعود في رأيي إلى أن تركيا استخدمت وبكفاءة مدهشة عددا من أساليب “القوة الناعمة” في علاقاتها الجديدة مع العرب . تقول مليحة “بضائعنا صارت في كل أسواق العرب، مواقفنا السياسية، وبخاصة موقف حكومتنا من عدوان “إسرائيل” على غزة والمذابح التي ارتكبها “الإسرائيليون” فيها وموقفنا من سعي الدول الغربية لفرض عقوبات على إيران، ودعمنا المعلن لحق إيران في الحصول على التكنولوجيا النووية، وموقفنا من وحدة الكيان العراقي، ودعوتنا قيادات سياسية في السودان وحماس لزيارة أنقرة رغم ضغوط الغرب وإنذاراته، وتوسطنا في لبنان وحصولنا الفوري على قبول حزب الله لنا ولدورنا بل وإعلانه استعداده أن يفضلنا على إيران لو غيرت إيران سياستها تجاه الفلسطينيين، كل هذه المواقف وأكثر منها تعرفونه، جلب لنا شعبية وافرة في الشارع العربي” .
المسلسلات التركية الناطقة بالعربية
لم أكن يوما من عشاق المسلسلات الطويلة متعددة الحلقات وإن كنت من الدارسين لدورها في تشويه ثقافة قائمة وصنع ثقافة بديلة، وكان قد لفت انتباهي منذ سنوات هذا الشغف المكثف من جانب المشاهدين في مصر ودول عربية كثيرة بالمسلسلات التركية . كنت أتحرق رغبة لأعرف إن كان للدولة التركية دور في إنتاج هذه المسلسلات أو تشجيعها والترويج لها، خاصة وأنه سبق لي أن طالبت المسؤولين عن الإعلام في الحكومة المصرية في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات التدخل للمحافظة على هذه الموهبة الناعمة التي تمتلكها مصر وحمايتها من الاختراق ومنع توظيفها لصالح مذاهب دينية غريبة عن المزاج المصري ولغرس تقاليد اجتماعية تمارس في دول عربية أخرى وتتنافى مع تقاليد مصر ودرجة تطورها وسمعتها وثقافتها . عرفت وقتها أن منتجين من خارج مصر يفرضون مسلسلات أبطالها يتحدثون بلهجة بين بين، أي بين أن تكون مصرية وبين أن تكون شيئا آخر . عرفت أيضا أنهم يختارون نساء ورجالا يمثلون أدوارا لا تعكس الطبائع الحقيقية للمصريين وإن كان بعضها يعكس حالات منحرفة صارت في نظر المشاهدين العرب والمصريين طبيعة مصرية خالصة بعد عقود من التكرار والاحتكار .
تذكرت قصتي مع هذا الرصيد من قوتنا الناعمة، وأنا أسمع من مليحة وآخرين في تركيا عن الدعم الذي بدأت الحكومة تقدمه إلى المسلسلات التركية التي حازت على رضاء المشاهدين، وصارت تمثل جانبا أساسيا من وسائل الترفيه الأساسية في البيوت والمقاهي العربية . قيل لي إن استطلاعا للرأي أجري في إحدى الدول العربية أثبت أن أكثر من 70 في المائة من نسائها يشاهدن هذه المسلسلات بانتظام . كذلك سمعت من أتراك أن الرجل الذي يملك البيت حيث جرى تصوير مسلسل “نور” قام بتحويله إلى متحف يقصده السياح العرب مقابل خمسين دولاراً للفرد .
تركيا والحكام العرب
لو كنت حاكما عربيا، محكوما بقيود ورثتها عن اتفاقيات مع “إسرائيل” وأمريكا أو معتمدا بالكامل أو بقدر كبير على دعم الغرب وحمايته، فبدون شك لن أنام مطمئنا وأنا أرى “تركيا الإسلامية” تكسب موقعا بعد آخر في قلوب أبناء شعبي أو أمتي . حرمتني لباقة أكاديميين وصحافيين أتراك، خلال لقاءات سريعة، من أن أسمع تفصيلات عن استقبال حكومات الدول العربية الكبيرة للانفتاح التركي على المنطقة العربية . لم يخرج الرد على سؤالي الذي بقيت أردده بصياغات مختلفة عن أن “واجب الحكومة التركية هو أن تتجاوز العلاقات الرسمية وتتوجه إلى الشعوب ورجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني” . أحدهم توسع في الرد فقال” يهمنا جدا أن نقنع العرب بتغيير مناهج التعليم ومحتويات الكتب المدرسية لنمحو الضغائن الموروثة لدى الطرفين” . ومع ذلك اجمع كل الذين قابلتهم على أن المشكلات التي ستواجه حكومة أردوغان على صعيد العلاقات الخارجية لا يجوز الاستهانة بها .
لم أكن أقل تشاؤما من هؤلاء الذين يعتقدون أن مسيرة الانفتاح التركي على العرب ستكون صعبة ومعقدة حين طرحت رأيي قائلا “إن التعقيدات الصعبة ستأتي عندما تجر تركيا معها في رحلتها شرق الأوسطية مشكلاتها، مثل المشكلة القوقازية “الأرمينية - الآذرية”، والمشكلة القبرصية، ومشكلات آسيا التركمانية، والمشكلة الكردية، وتطلب من العرب دعمها” .
كنت دائما وأنا صغير، أقف منبهرا أمام مهرج في سيرك يقبض بيديه على خمس كرات وأحيانا سبع يقذفها في الهواء ويتلقاها بحرص يمنع سقوط إحداها على الأرض . تصورت دائما أن مهارة الرجل تكمن في قدرة فائقة على التركيز وتقدير الوقت وحسن توزيعه بين الكرات السبع . وتكمن أيضا في ثقة كبيرة بالنفس .
هكذا تخيلت المهمة الصعبة التي قررت حكومة تركيا تنفيذها وتحمل مسؤولياتها . تخيلت صعوبة التوفيق بين طموحات العثمانية الجديدة، التعبير المفضل الذي يطلقه المحافظون والديمقراطيون الأتراك على السياسة الخارجية التركية الراهنة، وبين المبادئ الكمالية الأتاتوركية التي اختارت التركيز على الداخل وعدم الاهتمام بالخارج، بحجة أن تحقيق السلام في الداخل يضمن تحقيق السلام في الخارج . وأظن أن فكرة قريبة من هذا المبدأ الأتاتوركي يعتنقها كثير من الحكام العرب . تخيلت كذلك صعوبات أخرى في التوفيق بين سياسات وسياسات، مثلا بين المصالحة مع أرمينيا من ناحية وسياسات التحالف التقليدية مع أذربيجان من ناحية أخرى خاصة ونحن نعرف أن بين الدولتين نزاعا عجزت قوى عظمى عن تسويته، أو التوفيق بين سياسات هدفها كسب ود العرب وسياسات غرضها عدم فقدان “إسرائيل”، وبين دعم تطلعات حكومة إيران ونقمة حكومات عربية عليها وخوفها منها، وبين التقارب مع كردستان العراق والمحافظة على وحدة العراق وكلاهما هدفان استراتيجيان، أو التوفيق بين الانفتاح على العرب والمسلمين والانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، وبين صعود شعبية تركيا في العالم الإسلامي وعضويتها في حلف الأطلسى الذي يخطط مع “إسرائيل” لغزو إيران والتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية .
حفزني التفكير في هذه الحقبة السياسية التي تحوي أهدافاً وطموحات صعبة المنال وبعضها شديد التناقض إلى البحث عن تفسيرات مقنعة وإجابات مفصلة لأسئلة بالفعل حائرة . توجهت بقائمة من الأسئلة إلى أحد كبار الدبلوماسيين الأتراك، جانب منها يتعلق بمسيرة الانفتاح على العالم العربي، ويتعلق جانب آخر بتجارب في التعامل مع قضايا داخلية أعتقد اعتقادا قويا أن كثيرين من مفكرينا يترددون في الاقتراب منها، بينما فى تركيا اقتربوا منها بالفعل، ورأيتهم يتعاملون معها .
سألت الدبلوماسي الكبير، متعمدا لفت انتباهه إلى السهولة التي تحقق بفضلها الانفتاح على العرب في خطواته الأولى . سألته إن كان المسؤولون الأتراك يدركون أن العرب ليسوا، كما تصور العثمانيون القدامى، كتلة واحدة . وأضفت قائلا “إن العرب الآن يتوزعون على اثنين وعشرين دولة، لكل منها علم وحكومة وشركة طيران ولهذه الدول حكام يعتقد بعضهم، وبكل الثقة، أنه وحده الأعمق فهما لأحوال العرب وأمنهم ومصالحهم، وهو الوحيد الذي يمكن أن يؤخذ رأيه باطمئنان، وإذا تجاوزته تركيا أو لم تتوقف عنده طويلا لتستشيره خلال زحفها الجديد وتطلب نصيحته فسيشن حربا إعلامية وسياسية ضدها ويهيج شعبه ضدها ويؤلب زملاءه من الحكام العرب على تركيا” . قلت أيضا إن تركيا الأتاتوركية، على عكس تركيا العثمانية، تجاهلت حقيقة أن فيها شعوبا من أصول عرقية ودينية وطائفية مختلفة عن أصل الجسم الرئيسي للأمة التركية . هذا الأمر ليس ممكنا تكراره في تركيا اللبرالية وبالتأكيد ليس ممكنا في العالم العربي بأوضاعه الراهنة، حيث صارت مشكلة الهوية القضية التي تتحدى أكثر من غيرها ذكاء الحكام العرب وخبرتهم وحنكتهم . أضف إلى ما سبق رواسب الماضي الشديدة منذ أيام الإمبراطورية وبعدها في أيام الغطرسة الأتاتوركية . عدت إلى سؤالي فصغته كالآتي: “كيف استعدت الدبلوماسية التركية لهذه التحديات التي ستواجه حتما مسيرة عودتها إلى العالم العربى؟” . وتدفقت أسئلة أخرى . سألت عن الحد الذي وصلت إليه تركيا على طريق إبعاد المؤسسة العسكرية عن السياسة ووقف تدخلها في الوظائف والمهام السياسية . وسألت، أيهما لعب الدور الأكبر في تحقيق هذا الانسحاب الملحوظ من جانب العسكر، أهو الداخل أم الخارج، وأقصد تحديدا الشعب والطبقة السياسية أم الاتحاد الأوروبي وضغوط الولايات المتحدة؟ . ولم أخف عنه اقتناعنا في دولنا وفي العالم النامي عموما بأن مشكلة دور الداخل والخارج في تحديد مسارات بلادنا التنموية والديمقراطية تكاد تشل حركتنا السياسية وتؤثر بشكل حاد في تحديد اختياراتنا الخارجية واستقلال قراراتنا .
كذلك كنت مهتما بشكل خاص أن أسأل عن قدر الإنجاز الذي تحقق في تركيا في مجال إصلاح القطاع الأمني ووقف تجاوزات الشرطة وغيره من أجهزة الأمن المتعددة، وما إذا كانت تركيا قد تأكدت من أن لا عودة إطلاقا بعد الآن من جانب أجهزة الأمن لاستخدام أساليب قمع وانتهاكات لحقوق الإنسان، ولو بالقدر الذي نجحت به بعض دول أمريكا اللاتينية ودول في أوروبا الشرقية . لم أنتظر إجابته إذ كان سؤالى التالي على طرف اللسان منذ اللحظة الأولى وكان واضحا على قسمات وجهي تلهفي لسماع الرد عليه .
سؤالي كان عن تفاصيل المؤامرة التي يحاكم بسببها ضباط في الجيش كانوا يخططون لإثارة فوضى في تركيا عن طريق شن حملة اغتيالات لقادة المعارضة والطوائف غير الإسلامية والكردية . وكنت أعلم أن رئاسة الأركان ترفض الإدعاءات الحكومية، وأن الصدام بين السلطة المدنية والسلطة العسكرية مؤجل لا محالة لأنه على عكس الصدامات السابقة نتائجه غير مؤكدة، فالحزب الحاكم يتمتع بشعبية متصاعدة، وقواعده في القرى والمدن الصغيرة قوية، والانتماء للهوية الإسلامية، وإن باعتدال وثقة في النفس واقتناع بمزايا الديمقراطية، كاسح . لم أحصل من الصديق التركي على إجابات شافية . ولا أخفي أنني خرجت بانطباع أن “الموظفين” الأتراك كالموظفين في عديد من الثقافات لديهم حسابات أخرى .
الأتراك قادمون
نعم تركيا عائدة إلى المنطقة العربية، تعود كدولة وليس كإمبراطورية، كما يقول إينالشيك هاليل أستاذ التاريخ بجامعة بيكنيت بأنقرة، تعود بالقوة الناعمة، اقتصادية كانت أم تلفزيونية أم دبلوماسية . وليس بالقوة الصلبة أو الخشنة، ولكنها تعود . ويشير إلى أن في الغرب الآن حيرة وتردداً واستفسارات شتى، هل يؤيدون الزحف التركي بأمل التقريب بين المسلمين والغرب أم يعرقلونه خشية عواقب اجتماع هويات إسلامية ضد “إسرائيل” ومصالح الغرب . سمعت من أستاذ آخر أن المسؤولين يلاحظون كثافة ما ينشر في الآونة الأخيرة من مقالات في صحف الغرب تتضمن تهديدات مبطنة لهم . مثال على ذلك ما كتبه سانار كاباتاي ويعمل مستشارا فى معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى التابع لجماعة الضغط اليهودية، متسائلا فى خبث واضح، “هل قررت تركيا الرحيل عن الغرب؟” . وبخبث أشد يذكّر المسؤولين في واشنطن بأن حزب العدالة والتنمية، الذى يقوده أردوغان، كان صاحب وصف هجوم القوات الأمريكية على الفالوجة بأنه حرب إبادة، وأنه الزعيم التركي الذي اتهم حكومة عباس في الضفة الغربية بأنها غير شرعية، وهو الذي انتقد بشدة هجوم “إسرائيل” على غزة ومنع قواته المسلحة من الاشتراك فى المناورات الدورية المشتركة مع “إسرائيل” . سانار وغيره عشرات من كتاب المقالات فى الصحف الأمريكية يشنون حملة شرسة ضد حزب العدالة والتنمية بسبب هذه المواقف . وباطمئنان شديد يتحدث محللون أتراك عن مستقبل علاقات بلادهم بالغرب . يقولون إن الغرب ليس واحدا ولا موحدا . ويضربون المثل بنصيحة أوباما للأتراك خلال زيارته الشهيرة لتركيا بأن يواصلوا التقدم ضمن أوروبا الموحدة، وهي النصيحة التي دفعت ساركوزي الرئيس الفرنسي إلى توجيه نقد لاذع إلى أوباما في أول صدام علني بينهما عندما طالبه “بأن يهتم بشؤونه ولا يتدخل في شؤون الآخرين” . ولا ينسى الأتراك لساركوزي خطابه الذي دعا فيه زعماء أوروبا إلى التوقف عن الكذب . وأضاف “لا أستطيع أن أقول لطلاب مدارس فرنسا أن حدود أوروبا تقف عند سوريا والعراق . تركيا تقع في آسيا الصغرى وليس في أوروبا .” ولعل أكثر ما آلم المسؤولين الأتراك في انتخاب رئيس وزراء بلجيكا رئيسا للاتحاد الأوروبي لم يكن تصريحه عام 2004 الذي قال فيه “تركيا ليست جزءا من أوروبا . . ولن تكون” وإنما أن تصريحه هذا لم يقف عائقا ضد ترشيحه وانتخابه من جانب قادة الاتحاد .
كنت استمع إلى محدثي يكرر على أسماعي تفاصيل الحملة الإعلامية الغربية ضد مواقف أردوغان وحكومته بينما ذهب تفكيري إلى إعلاميين عرب وصفوا مواقف أردوغان وتصريحات زملائه “بالعنتريات التي لا تخدم بلاده ولا تخدم القضايا التي يتصدى للدفاع عنها” .
هل يكون الترحيب الشعبي بتركيا نتيجة اقتناع بما حققه الأتراك في بلادهم من ديمقراطية وتعليم جيد وإعلاء للمجتمع المدني وتقدم صناعي وتكنولوجي عالي المستوى ودبلوماسية واعية وشجاعة، وكلها إنجازات لم نحقق منها في بلادنا إلا النزر اليسير . أم يكون لأن تركيا توحي بأنها عاقدة العزم على التخلي عن أواصر التعاون الاستراتيجي التي تربطها ب”إسرائيل”، وبدأت بالفعل تتعمد صنع مسافة تتسع باستمرار وتباعد بينها وبين “إسرائيل” .
ما زلنا في بداية مرحلة جديدة في الشرق الأوسط . اللاعبون الجدد ليسوا من الخارج ولكنهم أيضا ليسوا منا، ليسوا عربا .
الخليج:الأحد ,06/12/2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.