حيدر أباد :لم تشارك اسرائيل رسميا في المؤتمر الثاني والستين للإتحاد الدولي للناشرين الذي عُقد أخيرا في مدينة حيدرأباد الهندية، إلا أن مستشارا إعلاميا فرنسيا دافع عنها في شدة محاولا إقناع الحضور بأن شريط اغتيال الصبي محمد الدرة الذي هز مشاعر العالم في سنة ألفين ... كان مُختلقا. وطغت مجادلة حادة في شأن ملابسات اغتيال الشهيد الفلسطيني محمد الدرة في أيلول (سبتمبر) 2000 على الجلسة الأخيرة للمؤتمر بمشاركة أكثر من ثلاث مائة ناشر وإعلامي من جميع القارات. وعلى رغم أن جميع المتحدثين في المؤتمر كانوا من الناشرين أو رؤساء التحرير أو مدرسي الإعلام في جامعات، أعطيت الكلمة في الجلسة الأخيرة للخبير الإعلامي الفرنسي فيليب كارسنتي الذي خصص ورقته لإقناع المشاركين بأن شريط استشهاد الصبي محمد الدرة الذي بثته القناة الثانية الفرنسية في الأيام الأولى من الإنتفاضة الثانية مُلفق وهو مجرد تركيب سينمائي. تحدث في الجلسة التي أدارها نائب رئيس تحرير "الأهرام" الزميل سامح عبد الله أربعة إعلاميين تطرقوا لقضايا تتعلق بأوضاع الصحافة في مناطقهم، عدا كارسنتي الذي أثار قضية سياسية صدمت الحضور. واعترف الأخير بكونه ليس إعلاميا إذ أنه يدير مكتب استشارات في باريس متخصصا بتصنيف الصحف، لكنه يشعر بأنه تعرض للتضليل من إحدى محطات التلفزيون الرئيسية في بلده "فرانس 2" التي بثت بشكل حصري يوم 30 أيلول (سبتمبر) 2000 الشريط الوثائقي القصير الذي صور لحظات استشهاد الصبي محمد الدرة وهو محاصر إلى جانب والده جمال في زاوية أحد الشوارع قبل أن يتلقيا وابلا من الرصاص من الجنود الإسرائيليين أردت الصبي قتيلا وأصابت والده إصابات بليغة. وأشار كارسنتي إلى أن الشريط الذي صور مشاهده طلال أبو رحمة وصنع منها الصحافي الفرنسي المعروف شارل أندرلان شريطا طوله 27 دقيقة، طاف العالم وأثار حملة منقطعة النظير من التضامن مع الفلسطينيين. ولدعم وجهة نظره تطوع لبث شريط قصير آخر أثناء الجلسة أظهر عشرات الطوابع البريدية التي تحمل صور الصبي الشهيد والمسيرات التي خرج خلالها المتظاهرون حاملين صوره، ليخلص إلى أن العملية مُركبة من ألفها إلى يائها حسب رأيه. وعاود بث مقتطف من شريط الإغتيال أمام الحضور بالصور البطيئة مُظهرا موقع العملية الذي يوجد في تقاطع طرقات، مُعتبرا أن القناصة الإسرائيليين ما كان في استطاعتهم عمليا إصابة الفلسطيني ونجله. وأشار إلى أن الصبي رفع رأسه ونظر إلى الكاميرا بعدما أعلن مذيع التليفزيون أنه توفي، مُعلقا بأنه لم يُلاحظ في الشريط آثار دماء على الصبي ولا على والده بعد إطلاق النار عليهما. وأكد أنه استشار عددا كبيرا من الأطباء المتخصصين الذين أثبتوا أنه لا يُعقل ألا تسيل قطرة دم واحدة من جسد تلقى خمس عشرة رصاصة، مشيرا إلى أنه يملك شهادات كتابية من هؤلاء الأطباء وأنه استند عليها لرفع دعوى أمام إحدى المحاكم الباريسية لمقاضاة المسؤولين عن القناة التي بثت الشريط بتهمة تضليل المشاهدين، وقال إنه كسب الدعوى القضائية يوم 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007، غير أن القناة رفضت الإعتراف للمشاهدين ب"خطئها" على قوله. وكان مدير الجلسة سامح عبد الله أول من استوقف كارسنتي ليُواجهه ببعض التناقضات في روايته قبل أن يُعطي الكلمة للحضور للتعليق، فيما سرى في القاعة شعور بالصدمة لدى من سمع كلام كارسنتي. وقال الأخير "أعرف أنني سأصدم مشاعركم لأنني أزعزع قناعات راسخة في عقولكم، لكن الإصداع بالحقيقة يُملي علي ذلك". وعلق الزميل رشيد خشانة من تونس طالبا إعادة الموضوع إلى محوره الأصلي: هل استشهد محمد الدرة أم هو مازال حيا يُرزق؟ واستدل في هذا السياق بخمس حجج تُبين أن رواية كارسنتي للأحداث هي الملفقة، فإذا كان ما يقوله صحيحا لماذا لم تبادر اسرائيل بإبراز محمد الدرة الحي في قنواتها التليفزيونية وهي التي تلقت أكبر ضربة لصورتها في وسائل الإعلام الدولية جراء تلك الجريمة؟ ثانيا إذا كان جمال والد محمد شارف على الموت بفعل الرصاص الإسرائيلي الذي رأى العالم بأسره لاحقا كيف خرب جسده، فكيف لا يقضي الصبي وهو الذي كان معرضا لزخات كثيفة من المصدر نفسه؟ ثالثا لماذا لم يستثمر كارسنتي كل الجهود التي بذلها في تقصي "الحقائق" لمعاودة تركيب الأحداث من أجل البحث عن محمد الدرة طالما أنه لم يُقتل مثلما يزعم، فهذا أيسر له بكل المقاييس؟ رابعا هل يُعقل أن يكون صحافي القناة الفرنسية التي انفردت ببث الشريط شارل أندرلان متحاملا على اسرائيل وهو يهودي؟ خامسا إن استشهاد الدرة تم في سياق الإنتفاضة الثانية التي قتل الجيش الإسرائيلي خلالها عشرات الأطفال، وقتل بعدها مئات من المدنيين وصولا إلى الحرب الأخيرة على غزة، التي أثبتت تقارير دولية معروفة حجم الإنتهاكات وأعمال القتل التي رافقتها. واستدل بتقرير "مركز الإعلام الإسرائيلي حول حقوق الإنسان" (بتسليم B'Tselem) الذي أكد أن اسرئيل قتلت نحو ألف صبي فلسطيني، ما يعني أن هناك المئات من الشهداء الذين قضوا برصاص الجيش الإسرائيلي أسوة بمحمد الدرة. واستخلص المُعلق أن الفرق بين الصحفيين الحاضرين في الجلسة والسيد كارسنتي هو كونهم مطالبين بالبحث عن الحقيقة، فيما هو يعترف بكونه ليس إعلاميا، ما يعني أنه مكلف بمهمة تتمثل ببث رسالة سياسية وأيديولوجية ترمي لتنظيف سمعة اسرائيل من إحدى الجرائم الكبيرة التي ارتبطت بصورتها في وسائل الإعلام الدولية. وتساءل: من هو السيد كارسنتي؟ ومن دعاه ليتحدث في مؤتمر خاص بالناشرين والإعلاميين؟ ونصحه بأن يقول للإسرائيليين الذين كلفوه الدفاع عنهم إن تحسين الصورة لا يكون بخوض معركة خاسرة سلفا وإنما باتخاذ إجراءات عملية للتفاهم مع الفلسطينيين. ونهض الإعلامي الهندي كالبانا شاه ليُثني على مهنية القناة الثانية الفرنسية التي انفردت ببث الشريط الذي كان وراء إعداده يهوديان هما أليزابيث شملة وشارل أندرلان، مؤكدا أن جريمة قتل محمد الدرة ثابتة ولا مجال للتشكيك فيها. وانتقد محاولة كارسنتي معاودة تركيب شريط مضاد من دون أن تكون لديه وقائع حقيقية تؤيد مزاعمه. غير أن كارسنتي رفض أن يُحسب على اسرائيل قائلا ان "هذا دخول إلى ملعب السياسة الذي أرفض الخوض فيه". ورد على الحجج الأخرى بقوله إن آثار العمليات الجراحية الكثيفة في جسد والد محمد الدرة ليست ناتجة من الرصاص الإسرائيلي وإنما من تخريبه بالطعنات على أيدي عناصر "حماس" الذين اعتبروه عميلا لاسرائيل. وأضاف أن صحافي القناة الفرنسية شارل أندرلان حضر المحاكمة التي دانته ودانت القناة في أعقاب معاودة قضاة محكمة الإستئناف الفرنسية مشاهدة الشريط في حضور حاشد من الإعلاميين والمحامين. وكان أندرلان أكد خلال المحاكمة أن ثلاث دقائق فقط اقتُطعت من الشريط قال إنها تُصور لحظات احتضار الطفل في مشهد لا يمكن أن يتحمل رؤيته أي بشر. وانتهى الجدل ببقاء كل فريق على موقفه قبل الإنتقال إلى مداخلة أخيرة للإعلامي التركي يفوز بيدار الذي تحدث عن تجربته كمعلق في صحيفتي "صباح" و"زمان". القدس من رشيد خشانة