يوم تضامني مع الصحفيين المسجونين..وهذه التفاصيل..    تطاوين: أعوان شركة البيئة يطالبون بصرف أجورهم    حركة "تونس إلى الأمام" تدعو إلى تنظيم الانتخابات الرئاسية في موعدها..    تونس بوابة إفريقيا تحتفي بقارتها أرض الإمكانيات الاقتصادية اللامحدودة    عاجل/ الغنوشي يمثل مجددا أمام القضاء..    صفاقس قرقنة جولة استطلاع للطائرة العمودية فوق المهبط للتثبت من جاهزيته.    رئيس الجمهورية في زيارة الى الصين ...و هذه تفاصيل    الكيان الصهيوني يغتال ياسين ربيع رئيس حماس بالضفة وقيادياً آخر في رفح    25 إعصاراً تضرب ولايات أميركية    عاجل/ الاحتلال الصهيوني يفجر سيارات فلسطينية شمال الضفة الغربية..    بانوراما الجنوب الغربي ..الرقيعي يلفت الأنظار وموجة استقالات في الرديف    أصداء التايكواندو .. أحمد المدوري موهبة واعدة    أبناء الكريب .. نطالب الوزارة بحل ملف المدارج    نهائي الترجي والأهلي: ما حكاية السيدة التي تنازلت عن تذكرتها لفائدة مشجع؟    أثارت جدلا: فتاة ترسل قلبا لوالدها في نهائي الترجي والأهلي...التفاصيل    نهائي الترجي والأهلي: إيقاف 3 تونسيين في مراكز الأمن المصرية    حالة الطقس ليوم الاثنين 27 ماي 2024    الاحتفاظ بمنظم عمليات''حرقة'' في قليبية..    في الكاف: انقلاب جرّار ووفاة سائقه ..    تجميد الخبز قبل تناوله.. فوائد لا تخطر على البال    مأساة بابوا غينيا الجديدة.. أكثر من 2000 شخص دفنوا أحياء    جلسة تصوير عارضة أزياء تنتهي بطريقة مأساوية.. ماذا حدث؟    الديوان الملكي السعودي يعلن وفاة أمير من آل سعود    ثلاثة أفلام تونسية في الدورة 24 من مهرجان روتردام للفيلم العربي    الجمعيّات النّافعة والجمعيّات الطفيليّة    أولا وأخيرا «عظمة بلا فص»    بالطيب: أكثر من ثلث النزل مغلقة    تراجع نسبة امتلاء السدود    حادث مرور ينهي حياة سائق تاكسي في الكاف..    عاجل/ هجوم بسكين داخل مترو مدينة ليون..وهذه حصيلة الجرحى..    3 أفلام تونسية في الدورة 24 من مهرجان روتردام للفيلم العربي    حي التضامن: الكشف عن شبكة مختصة في ترويج المواد المخدرة    نابل : الإحتفاظ بمنظم عمليات إجتياز للحدود البحرية خلسة    ارتفاع أسعار الخرفان وحيرة المواطن بين تحمل اعباء شراء الاضاحي او التخلى عن احياء عيد الاضحى    بينها الترجي الرياضي التونسي: خمسة أندية عربية تسجل حضورها في كأس العالم للأندية    توزر: طائرة حجيج ولايتي توزر وقبلي تغادر مطار توزر نفطة الدولي في اتجاه المدينة المنورة    كأس فرنسا.. باريس سان جيرمان يحرز اللقب للمرة ال 15 في تاريخه على حساب ليون    الإستعدادات لتنظيم الامتحانات الوطنية محور جلسة عمل لوزيرة التربية    موكب تسليم المهام بين السيدين خالد النوري وسلفه كمال الفقي    بمناسبة يوم افريقيا: وزير الخارجية يؤكد أن تونس تمثّل العمق الجيوسياسي لافريقيا    بعد حادثة ضربها من متعهّد حفلات منذ سنتين: أماني السويسي في المهرجانات الصيفية مع الناصر القرواشي    قريبا على منصة «شاهد» هند صبري «زوجة صالحة» في «مفترق طرق»    أخبار المال والأعمال    "تونس مهد الفسيفساء والملتقى الدولي للفسيفساء بالحمامات تظاهرة ثقافية متميزة نحرص على ضمان استمراريتها ومزيد اثرائها وتطويرها" (المنصف بوكثير)    كلفة تأجير الموارد البشرية في تونس تعد الاضعف مقارنة بنظيراتها وبالبلدان المتقدمة    " وزارة الشؤون الثقافية ستواصل ككل سنة دعم المهرجانات لكن دون اجحاف وفي حدود المعقول مع الحرص على ضمان التوازنات المالية للمهرجانات" (بوكثير في تصريح خاص بوات)    ندوة علمية حول ابن خلدون والأبعاد الكونية لكتاب "المقدّمة": ابن خلدون هو الأب العلمي والعقلي لعلم الاجتماع    البنك المركزي :العائدات السياحية و عائدات العمل تغطي 68 بالمائة من خدمة الدين الخارجي إلى يوم 20 ماي 2024    اتصالات تونس تتوج لمجهوداتها في مجال الالتزام البيئي    أليست الاختراعات التكنولوجية كشفٌ من الله لآياته في أنفس العلماء؟    لأول مرة في تونس: عملية استئصال ورم في قاعدة الدماغ بالمنظار، عن طريق الأنف    من بينها البطاطا المقلية: عادات غذائية تسرع من الشيخوخة..اخذروها..    معهد الفلك المصري يحدّد موعد أول أيام عيد الأضحى    معهد الفلك المصري يكشف عن موعد أول أيام عيد الأضحى    المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك توحه نداء عاجل لرئيس الدولة..    نجاح طبي جديد/ لأوّل مرّة في تونس: استئصال ورم في قاعدة الدماغ بالمنظار عن طريق الأنف    تسع مدراس ابتدائية تشارك في الملتقى الجهوي للكورال بسيدي بوزيد    مواقف مضيئة للصحابة ..في حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف تم اختراع الشعب اليهودي ...( 1-2)


تأليف: شلومو صاند / ترجمة وعرض: بشير البكر
ليس هناك وجود لليهود كشعب، هذه هي خلاصة كتاب “كيف تم اختراع الشعب اليهودي؟” (صادر عن دار فايار في باريس) للمؤرخ والأستاذ الجامعي “الإسرائيلي” شلومو صاند، الذي استند إلى جملة من المعطيات التاريخة والدينية، لكي يبرهن على وجهة نظره التي تعرضت لنقد شديد وازدراء من قبل الصهاينة .كتب أحد منتقدي مؤلف الكتاب “كيف تم اختراع الشعب اليهودي؟” ما يلي: “يتذكر الجميع بعض الملفوظات التي أثارت فضائح: فحسب الإشاعة القادمة من أوروبا أن غرف الغاز لم توجد أبدا في حين أن الإشاعة الثانية القادمة من العالم العربي تقول إن الهيكل اليهودي في القدس من اختراع المستوطنين الصهاينة، على الرغم من أن القرآن يصف عيسى وهو يصلي فيه واقفا . ولكن مع القرن الآتي والذي يعلن عن نفسه بكونه مخيفا نكتشف أن هذين النفيين ليسا سوى تفصيلين .
كتاب شلومو صاند، “كيف تم اختراع الشعب الصهيوني، من التوراة إلى الصهيونية”، يحل القضية بشكل نهائي . الشعب اليهودي لا وجود له: يا لها من مفاجأة إلهية”، لا يوجد تبسيط أكبر من هذا الكتاب (446 صفحة) تنضح صفحاته إحالات ومراجع ومصادر قيمة .
اليهود لم يشكلوا يوماً إثنية حاملة لأصل واحد
يضيف هذا الكاتب منتقدا شلومو صاند: “من غير المفيد لعب دور الأركيولوجي كي نجعل من حائط المبكى امتدادا لمسجد الأقصى، لأنه إذا كان الشعب اليهودي ليس سوى اختراعاً في القرن التاسع عشر تحت الباراديغم الغربي للدولة- الأمة، إذاً فالقضية وجدت حلاً . البعض يستطيعون أن يستنتجوا أنه من الطبيعي بالنسبة لشعب لا وجود له أن يخترع إلى ما نهاية أساطير للتأكيد على وجود زائف” .
يطرح شلومو صاند، هذا السؤال المحرج، الذي يُولّد مجموعة أسئلة رديفة، والتي يمكنها أن تزعزع الرؤية الرسمية، التي يرفعها اليهود إلى مصاف الرؤية الإلهية: كيف تم اختراع الشعب اليهودي؟
هل يُكوّن اليهود شعباً؟ على هذا السؤال يحاول تقديم جواب جديد . وخلافاً للفكرة الشائعة فإن يهود الشتات لم يولدوا من طرد العبرانيين من فلسطين، بل من عمليات تهويد متتابعة في شمال إفريقيا وجنوب أوروبا والشرق الأوسط . وهو ما زعزع أسس التفكير الصهيوني، الذي يريد أن يقنعنا أن اليهود هم أبناء مملكة داود وليسوا ورثة المحاربين البربر أو الفرسان الخازار .
هوية وحركة وأرض موعودة
يبتدئ الكتاب باعتراف من المؤلف بأن الأمر لا يتعلق قط بعمل محض تخييلي . “إنه يطمح أن يكون كتابا ذا طابع تاريخي”، ومع ذلك يذهب، من عدة محكيات تغذيها ذكريات حيث يمنح الخيال نفسه بعض الحرية إلى درجة ما، ويستعرض الكاتب بعض القصص عن الأُسَر التي أحضرتها الحركة الصهيونية من أجل بناء دولة “إسرائيل” . وتمتلئ بالنوادر التي تكشف أن الطابع اليهودي للدولة لم يكن واضحا على الإطلاق، خصوصا وأن الكثيرين من الوافدين الجدد كانوا مسيحيين والكثير منهم كانوا ملاحدة وفوضويين .
يستعرض المؤلف الحوار الطريف ما بين مستخدِم يهودي في فلسطين المحتلة ووافد جديد من إسبانيا .
يسأل المستخدمُ الوافد الجديد:
* هل أنت يهودي؟
لم أدّعِ أبدا أنني يهودي .
* يتوجب تغيير ما يظهر على بطاقة هويتك .
ليست ثمة مشكلة، افعل ذلك .
* من أي جنسية أنت؟
(بعد تردد) جنسية “إسرائيلية” .
* مستحيل، هذا لا يوجد . قال المستخدم .
وما السبب؟
* لأنه لا توجد هوية قومية “إسرائيلية” . قل لي أين ولدت؟
في برشلونة .
* إذا فأنت من جنسية إسبانية؟ قال المستخدم، مبتسما .
لا . لستُ إسبانيا . أنا كاتالاني، وأرفض أن يتم تسجيلي كرجل إسباني . لقد حاربتُ لهذا السبب مع والدي في سنوات الثلاثينات .
حك المستخدم الجاهل جبهته، لم يكن يمتلك معلومات تاريخية ولكنه احترم الأشخاص: “إذا، سنكتب: “الجنسية الكاتالانية”
فكان ردّ الشخص: “رائع” .
يسخر المؤلف من هذه التصرفات ويعلق: “هكذا كانت “إسرائيل” أول بلد في العالم يعترف، رسميا، بالجنسية الكاتالانية” .
يواصل المستخدم مساءلة الوافد الجديد:
* والآن، ما هي ديانتك، سيدي؟
أنا ملحد .
* لا أستطيع أن أكتب هذا . دولة “إسرائيل” لم تتوقع هذا التحديد . ما هي ديانة والدتك؟
حين غادرتها، كانت لا تزال كاثوليكية .
* إذا سأكتب: “ديانة مسيحية”، قال المستخدم، بارتياح .
ولكن ردّ الواصل الجديد كان حادا وجازما: “لا أريد بطاقة هوية وطنية يكتب على ظهرها أني مسيحي . ليس فقط لأن الأمر يخالف قناعاتي، ولكنه يسيء أيضاً إلى ذكرى والدي، الذي كان فوضوياً وأحرق العديد من الكنائس أثناء الحرب الأهلية”، ويتابع الباحث استعراض ذكرياته وذاكراته، فيتحدث لنا عن شخصين من الطرف الآخر، العربي الفلسطيني، أي من “السكان المحليين”، كما يصفهم البعض . كلا الشخصين يحمل اسم محمود . الذي ولد في مدينة يافا سنة ،1945 ولم يكن مصيره كمصير الذين طردوا إلى غزة، ونشأ مع آخرين في “الأزقة الفقيرة للمدينة التي استوطنها بشكل كامل مهاجرون يهود . وخلافا لأقربائهم في منطقة المثلث والجليل فإن فلسطينيي يافا ظلوا معزولين وقليلي العدد” عدد السكان الأصليين كان قليلاً بحيث إنه لم يستطع تطوير ثقافة مستقلة، كما أن السكان الجدد من المهاجرين رفضوا إدماجهم” . وهنا كان الحزب الشيوعي “الإسرائيلي” هو الملاذ الوحيد، “من أجل الخروج من غيتو يافا العربي” .
بفضل الحزب الشيوعي وتربيته العقائدية ارتبط محمود بعلاقة صداقة قوية مع يهودي وأسرّ له أنه كان يود لو يُدْعى “موشي” بل اسمه محمود . وكان أحيانا يخدع بها الكثير من الباعة اليهود، ولكن سرعان ما يستعيد اسمه “محمود” حين يحس بجرح لكبريائه .
من حسن حظ محمود، بسبب انتمائه العربي، أنه لم يستدع لأداء الخدمة العسكرية في ما استدعي صديقه اليهودي . ولكن الصديق اليهودي خرج من الخدمة العسكرية أكثر انغماساً في الحياة “الإسرائيلية”، مما اضطر محمود للهجرة إلى دول أوروبية عديدة قبل أن يستقر في ستوكهولم ويتوقف، منذ فترة طويلة، عن الحلم بالردّ يوماً على من يدعوه باسم “موشي” .
أمّا محمود الثاني، الذي يذكره المؤلف، فقد ولد في قرية صغيرة، لم تعد موجودة، الآن، سنة 1941 . وفي سنة 1948 أصبح لاجئاً، فقد هربت عائلته إلى لبنان، لكن بعد سنة، استطاعت العائلة في ليلة ليلاء أن تتسلل عائدة إلى فلسطين، فاستقرت لدى أقرباء في قرية جديدة في الجليل . وهكذا كان محمود، وخلال سنوات عديدة، يعتبر من “الحاضرين- الغائبين” من قبل السلطات “الإسرائيلية” . وهو ما جعله، وهو طفل، مسكوناً بأحلامه وبالخيال المتوهج الذي لم يتوقف عن إدهاش أساتذته ورفاقه . ومثلما فعل “محمود” الأول، التحق محمود الثاني بالحزب الشيوعي “الإسرائيلي” وأصبح صحافياً وشاعراً . وذهب للإقامة في مدينة حيفا، التي كانت حينها أكبر مدينة مختلطة يهودية وعربية في “إسرائيل” . وفي سنة ،1964 أصدر قصيدة جريئة بعنوان “بطاقة هوية” ألهبت حماس جيل بكامله من العرب .
“سجل،
أنا عربي،
رقم بطاقتي خمسون ألفا،
. . . . إلخ”
ينتهي الأمر بمحمود، وهو هنا الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش، إلى أن يغادر “إسرائيل”، أو فلسطين المحتلة، إلى المنافي المختلفة، من عربية إلى أوروبية، قبل أن يعود إلى الضفة الغربية . فقد سُمح له بعد توقيع اتفاقات أوسلو العودة إلى رام الله . ورفض السماح له بالعودة إلى “إسرائيل” إلاّ في مرة واحدة أثناء تشييع جنازة صديق له . “ولأنه لم يكن يحمل متفجرات فقد استطاع، بعد ذلك، القيام ببعض الزيارت الخاطفة الإضافية” .
هذه صور عن الدولة اليهودية الجديدة، ولكن الصهيونية متغلغلة كما يعترف المؤلف، وبالتالي فإن كتابة تاريخ حقيقي أو مغاير للتاريخ الرسمي يبقى مسألة صعبة . “إنّ تاريخاً يهودياً جديداً، بعيداً عن موشور الزجاج الصهيوني، ليس بالعمل السهل . الضوء الذي يتكسّر فيه يتلقى دونما انقطاع ألوان عِرقيّة مركزية قوية . ويجب على القارئ أن يعرف هذه الحقيقة: إن هذه الدراسة تشكل أطروحة ترى أن اليهود شكّلوا على الدوام مجموعات دينية مهمة ظهرت أو استقرت في مناطق متعددة من العالم، ولكنها لم تُشكّل إثنية حاملة لنفس الأصل، الأوحد، الذي يمكن أن يكون قد انتقل أثناء التيه والمنفى الدائمين . لا يتعلق الأمر هنا بوقائع حوادث ولكن جوهرياً بنقد للخطاب التأريخي المعتاد . وهو ما يقود من وقت لآخر، إلى تقديم ثلاث محكيات بديلة . وقد وضع المؤلّف في رأسه السؤال الذي يطرحه المؤرخ مارسيل ديتيان، في كتابه: “كيف يمكن أن نكون سكّانا أصليين؟” (دار سوي الباريسية 2003) وهو: “كيف يمكن تفكيك الوطنية من التواريخ الوطنية؟” وكيف يمكن أن نتوقف عن ارتياد نفس الطرق، المعبَّدة، في معظمها، بموادّ عبّرت، في الماضي، عن أحلام قومية؟
استحضر الكاتب العديد من النظريات حول الدولة الأمة، ويقول “إن ولادة أمة ما هو بطبيعة الحال مسار تاريخي حقيقي، ولكنه ليس ظاهرة تلقائية بشكل صاف . ومن أجل تقوية الشعور المجرد للوفاء للمجموعة، كانت الأمّة في حاجة، مثل الجماعة الدينية قبلها، إلى طقوس وأعياد واحتفالات وأساطير . وكي تحدد نفسها وتذوب في كيان صلب واحد، هي في حاجة إلى أنشطة ثقافية عمومية ومستمرة بالإضافة إلى اختراع ذاكرة جماعية موحِّدة . مجموعة جديدة من المعايير والممارسات كانت أيضا ضرورية من أجل تشكيل ميتا- وعي، أي نوع من ايديولوجيا توحيدية، وهو ما يشكّل العقيدة القومية” . ويرى الكاتب ان “التمزق الذي تسبب فيه التحديث فصل البشر عن ماضيهم الفوري . سهولة الحركة التي تسبّب فيها التصنيعُ والتمدين لم تكسّر فقط التنضيد الاجتماعي الصلب للنظام القديم ولكن كسّرت أيضاً الاستمرارية التقليدية والدائرية بين الماضي والحاضر والمستقبل . المنتجون الزراعيون لم تكن لديهم حاجة خاصة إلى تاريخ الممالك والامبراطوريات والإمارات . لم يكونوا في حاجة إلى تاريخ جماعات موسعة لأنه لا يوجد لديهم أي اهتمام بالزمن المجرد الذي لم يكن مرتبطاً بحياتهم المحسوسة . محرومون من تصور التطوّر، كانوا يكتفون بمخيال ديني مكون من فسيفساء ذكريات، من دون مفهوم حقيقي للتنقل داخل الزمن . البداية والنهاية كانا متماثلين، والخلودُ كان يستخدم قنطرة ما بين الحياة والموت .
في العالم الحديث المضطرب والعلماني، أصبح الزمنُ المحورَ الرئيسي لسير المخيال الرمزي العاطفي لوعي اجتماعي . الزمن في بعده التاريخي تحول إلى عنصر حميمي للهوية الشخصية والتخطيط السردي الجماعي يمنح دلالته للوجود القومي، والذي تطلّب إرساؤه ضحايا عديدين . إن معاناة الماضي تبرر الثمن المطلوب من قبل المواطنين في الحاضر . إن بطولة الأزمان التي تبتعد تعِدُ بمستقبل مشرق، إن لم يكن بالنسبة للفرد، فعلى الأقل، وبصفة مؤكدة، من أجل الأمة . إن الفكرة القومية أصبحت، بمساعدة من المؤرخين، أيديولوجيا متفائلة بطبيعتها . ومن هنا ينبع، بشكل خاص، نجاحُها” .
إن الحلم في دولة كان يعني مرحلة مهمة من تطور كتبة التاريخ كما أنه يعني مسار التحديث . هذه الاحلام بدأت في التفكك وفي التكسر نحو نهاية القرن العشرين . وقد قام عدد متزايد من المؤرخين بتحليل وشرح و”تفكيك” المحكيات الوطنية الكبرى وبشكل خاص أساطير الأصل المشترك التي كانت تغلّف، إلى ذلك الوقت، وقائع الماضي . فهل من غير المفيد أن نضيف أن علمنة التاريخ جرت تحت تأثيرات صعود العولمة الثقافية التي لبست لبوس أشكال غير منتظرة في مجموع العالم الغربي؟
إن كوابيس الأمس الهوياتية تفسح المكان، اليوم، لأحلام هوية أخرى . وعلى منوال كل شخصية مصنوعة من هويات منسابة ومتنوعة، فإن التاريخ، هو الآخر، هوية متحركة . والمحكي الذي نقدمه للقارئ يقترح إنارة هذا البعد الانساني والاجتماعي المطمور في أعماق التاريخ .
إن خوضنا في تاريخ اليهود يبتعد بشكل خاص من المحكيات المقبولة لحد الآن . وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، أنه (أي التاريخ) محرومٌ من الذاتية أو أن المؤلف يعتقد نفسه في منأى من كل انحراف أيديولوجي . إنه، أي المؤلف، شاء، بصفة متعمّدة، تقديم سطور وصفية لتاريخ مضادّ قادم سيساهم، ربما، في خلق لقاح ذاكراتيّ من نوع جديد . أي ذاكرة واعية للحقيقة نسبية وحاملةٌ لها والتي تتوخى لحم هويات محلية في طور التشكل، بوعي شامل ونقدي للماضي، في محكي جديد .
في الفصل الأول، المعنون ب “صناعة الأُمم . سيادة ومساواة” يستشهد الكاتب بمؤلَّفين لكل من إيتيان باليبار (الشكل الأمة: تاريخ وأيديولوجيا، 1988) وليا غرنفيلد (قومية . طرق خمسة نحو الحداثة، 1992) .يقول باليبار: “لا توجد أي أمة تمتلك بشكل طبيعي قاعدة إثنية، لكن على مقدار ما تشكل الاشكال الاجتماعية أُمّة فإن السكان الذين تحتويهم، والذين تقتسمهم أو الذين تهيمن عليهم “يتأنثنون” (من الإثنية) أي يتم تمثيلهم في الماضي أو في المستقبل كما لو أنهم يشكلون جماعة طبيعية . [ . . .]” .
أما ليّا غرنفيلد فتكتب: “ظهرت الديموقراطية في العالم تحت شكل القومية، مدرجة في فكرة الأمة مثل فراشة في شرنقتها” .
منذ أكثر من قرن تنطع باحثون وفلاسفة لمناقشة مسألة الأمة، من دون النجاح في العثور على جواب مقبول من قبل الجميع .
على القارئ ان ينتظر حتى الفصل الثاني “أسطورة- تاريخ، في البداية خلق الله الشعب”، ليدخل في صلب الموضوع . وكان لا بد من الاستشهاد بإعلان استقلال دولة “إسرائيل”: “إن إرض “إسرائيل” هي المكان الذي نشأ فيه الشعب اليهودي . وهنا تشكَّلَ طابعه الروحي والديني والقومي . وهنا أنجز استقلاله وخلق ثقافة ذات حمولة قومية وكونية ومنح التوراة الخالدة للعالم بأسره” .
في حين أن الفيلسوف الكبير باروخ سبينوزا يؤكد أن أسفار موسى الخمسة الأولى لم يكتبها موسى بل هل هي من تأليف كاتب جاء بعد موسى بعدة قرون .
هنا تبتدأ الأسطورة . “ولكن يجب أن نتذكر أن “الحقيقة” التوراتية المطهرة لم تكُن محكياً كونياً لتاريخ البشر، ولكن وقائع شعب مقدَّس أصبح، عن طريق قراءة حديثة معلمنة للكتاب المقدس، “أول أمة” في تاريخ البشرية .” .
يستعرض الكاتب الكتابات التاريخية حول المسألة اليهودية، ويرى، من خلال كمّ هائل من المراجع والإحالات، أنها كانت متأخرة، “بعد 1600 سنة (من ظهور موسى) قرر الثيولوجي جاك بوزناج، وهو من منطقة نورماندي، ثم استقر في روتردام، كتابة “تاريخ ديانة اليهود .” .
ولكن العديد من الدراسات والأبحاث حول المسألة اليهودية والتي كان يقوم بها مثقفون ومؤرخون يهود، خصوصا في ألمانيا، لم تكن تستهدف غير “منح قيمة لهذا البحث باعتباره قنطرة إضافية تتيح إدماج الجماعة اليهودية في مجتمع ألماني قادم .”، أي “يجب التذكيرأن بدايات كتابة التاريخ اليهودي في العصر الحديث لا تتميز بخطاب قومي صارم .”، ولكن ما لا يجب أن لا نغفله وهو ما يشدد عليه المؤلف بقوة هو أنه “كانت توجد، منذ البداية، علاقة وثيقة ما بين تصور التوراة كوثيقة تاريخية ثابتة وبين المحاولة من أجل تحديد الهوية اليهودية الحديثة بتعابير قومية وما قبل قومية” .
العهد القديم: “أسطورة تاريخ”
يلعب كتاب “تاريخ اليهود منذ الأزمنة القديمة إلى أيامنا” لهيرنيش غريتز والذي ظهر في الخمسنيات من القرن التاسع عشر دوراً كبيراً في صقل الهوية القومية لليهود . “وقد واصل هذا الكتاب المجدد، المكتوب بموهبة أدبية كبيرة، تأثيره في الكتابة التاريخية اليهودية طول القرن العشرين .”، ومن الصعب، كما يقدر المؤلف، “معرفة حجم التأثير في تشكيل الوعي الصهيوني القادم، لكن ليس ثمة من شك في أن دوره كان كبيرا ومركزيا . “وتكمُن قوتُه كما نقرأ في الكتاب في كونه ألهم حتى الفكر الصهيوني في فلسطين .
وعلى الرغم من أن هذا الكتاب لا يولي كثيراً من الأهمية لوصف تاريخ يهود أوروبا الشرقية، فإن المثقفين القوميين الأوائل في الامبراطورية الروسية قرأوه بتلهف وبسرعة . ( . . .) وقد استخدم الكتاب، لاحقاً، من قبل زعماء المستوطنين الصهاينة في فلسطين كخيط رابط في أعماق الزمن . وفي أيامنا هذه تحمل كثير من المدارس في “إسرائيل” اسم غريتز، ولا يخلو مقالٌ في التاريخ العام حول اليهود من الاستشهاد به” .
ما السبب حول هذه الأهمية التي يحظى بها هذا الكتاب؟
سبب هذا التأثير الواسع، في نظر الكاتب، واضحٌ: “يتعلق الأمر بأول كتاب يبذل فيه مؤلفه جهوداً بمثابرة وباستمالة للنفوس بهدف اختراع الشعب اليهودي . ( . . . ) إنّ غريتز، وليس شخصاً آخر، على الرغم من أنه لم يكن صهيونيا، هو من صنع النموذج الصهيوني لكتابة تاريخ “اليهود” . وقد نجح في في إرساء محكيّ موحَّد خالقاً، على الرغم من التشعبات، استمرارية تاريخية تحافظ لحد اليوم على وحدتها”، ومن أجل إيقاظ الشعور القومي، أي الهوية الجماعية الحديثة، يتوجب حضور ميثولوجيا وغائية . الأسطورة التأسيسية يتم منحها بطبيعة الحال من قبل عالَم نصيّ توراتي يصبح الجزءُ الأكثر تاريخية وسردية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أسطورة حية، وبشكل خاص في عيون مثقفين يهود من أوروبا الوسطى، وهذا على الرغم من السهام التي كان يوجّهها النقد الفيلولوجي .
يكتب غريتز في كتابه السابق الذكر: “تاريخ اليهود”: “اليهود لا يدخلون في هذا البلد(فلسطين)، بغرض البحث فيه عن المراعي، والإقامة فيه في سلام، جنبا إلى جنب مع رعاة آخرين . إن مطالبهم أكثرُ سموّا: إنهم يطالبون بكل أرض كنعان . إن هذه الأرض تحتوي على قبور أجدادهم” .
ويتطرق الكاتب إلى مؤلف يهودي آخر، موسيس هيس، مؤلف كتاب “روما والقدس سؤال القوميات الأخير” (باريس، 1881)، يتحدث عن غريتز بحماس . إذ إنه تعلم أنّه “حتى بعد انتهاء التلمود، فإن التاريخ اليهودي “يحافظ على طابع قومي، ولا يمكن اختزاله إطلاقا إلى تاريخ ديانة أو تاريخ طائفة”، ويرى هيس أن مصدر الصراع ما بين اليهود وغير اليهود يكمُن في كون أن الأوائل يشكلون منذ البدء مجموعة وراثية مختلفة . ويكتب: “العرق اليهودي هو عرق صافٍ أنتج مجموع طباعه وخصائصه على الرغم من مختلف التأثيرات المناخية”، ويذهب أبعد في نظرياته العِرقية إلى الخلاصة التالية: “لن ينفع اليهودَ في شيء إنكارُ أصولهم وخضوعهم للتعميد المسيحي وانخراطهم في كتلة الشعوب الهندية الجرمانية والمغولية . إن الخصائص اليهودية لا تمحي” .
يرى غريتز أنه لا يمكن أن ننكر وجود شعوب بائدة اختفت من التاريخ ووجود شعوب أخرى خالدة . لم يتبقّ شيءٌ من العِرق الهيليني ولا من العِرق اللاتيني، لقد ذابا في كيانات بشرية أخرى . أما العرق اليهودي، فقد نجح في الدوام والبقاء على قيد الحياة، وهي على وشك إذكاء نار طفولتها التوراتية المعجزة . إن “انبعاثه الجديد” (أي العرق) بعد منفى بابل والعودة إلى صهيون علامةٌ على أنه يمتلك قوة كامنة وبطيئة لولادة جديدة .
صحيح أن غريتز لم يكن صهيونياً ولكن كان من السهل استخدام أيديولوجيته من قبل الصهاينة .
“كانت غائية الأمة المختارة، عند غريتز، أخلاقية أكثر مما هي سياسية وكانت تحمل في طياتها بقايا غبار الإيمان التقليدي في تفككه”، وقد كان غريتز، كما هو شأن كل مؤرخي القرن التاسع عشر، من أنصار الفكرة القومية، فكان يرى أن تاريخ “أمته” مثير للحماس ولا يوجد له نظيرٌ في مكان آخر .
ثم يستعرض المؤلف كُتّاباً آخرين لم يكونوا يولون للقومية اليهودية أهمية كبيرة . ومن بينهم بارون، مؤلف كتاب “تاريخ “إسرائيل”” . وكان بارون حين يتحدث عن تدمير الهيكل وعن المنفى يصفهما برنة محايدة، مشوبة أحيانا برنة من الرضى: “من الآن فصاعدا لم يعد من الضروري الإقامة في أرض “إسرائيل” أو تحت سلطة “إسرائيل” كي يعتبر المرء يهودياً” .
يحرص بارون في مؤلفاته على إيجاد نوع من التوازن ما بين العرقية المركزية والوعي بأصل مشترك والروحانية الخاصة، التي هي في صلب تحديد اليهودية، من جهة وبين الكونية الإنسانوية التي حملها الشعب اليهودي، في نظره، في منفاه نحو “الشتات”، من جهة أخرى .
يجب أن نتذكر أن “الإثنية” اليهودية، عنده، ليست ثقافة دينية بسيطة، ولا ثقافة علمانية حقيقة، ولكنها نوع من “نمط حياة” توجد فوق نظام المعتقدات والعقائد الدينية .
إن عدم إيلاء بارون أهمية كبيرة للسيادة السياسية والعودة إلى “أمة قديمة”، أي غياب ثيولوجية قومية واضحة بما يكفي في عمله، حرّك انزعاجا بل وحتى نقدا من قبل مؤرخ مهم آخر . ويتعلق الأمر هنا بالمؤرخ إسحاق بايير . وهو مؤلف كتاب “التاريخ الاجتماعي والديني لليهود”، سنة 1938 . وهو يعبر عن موقفه الجذري بالقول: “مؤرّخُ المنفى اليهوديُّ عليه أن يكتشف في الحقبة التوراتية القوى الداخليةَ التي أتاحت لليهود أن يتأبّدوا في الظروف المختلفة والمتغيرة للحقب التالية . إن بارون يجد في الفصول الأولى من تاريخ “إسرائيل” نفس المخطط الدائم الذي يوجد حلاً، لاحقاً، تاريخ الشتات إلى يومنا . وهكذا سدّ طريق الإدراك العضوي”، ويلخص المؤلف هذا الفصل الذي يفيض بالمرجعيات والاستشهادات والأسماء بما يلي: “إن التوراة التي تم اعتبارها قروناً عديدة من قبل الثقافات الثلاث للديانة التوحيدية، اليهودية والمسيحية والاسلام، ككتاب مقدس أملاه الرب، دليله على الوحي وعلى تفوقه، طفقت شيئاً فشيئاً، مع بزوغ أولى براعم الفكرة القومية الحديثة تستخدم ككتاب ألّفه رجال في الماضي من أجل إعادة تكوين ماضيهم” ويضيف “وكما حاول هذا الفصل أن يبرز فإنه مع توسع كتابة التاريخ المتعلقة بتاريخ نشوء الصهيونية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإن التوراة لعبت، بشكل واضح، دورا كبيرا في تشكيل الأمّة اليهودية الحديثة . لقد انتقلت من رفوف الكتب الثيولوجية إلى رفوف التاريخ، وأما أتباع الأمة اليهودية فقد قرروا قراءتها باعتبارها وثيقة صادقة حول المسارات والأحداث التاريخية . أكثر من هذا تم رفعها إلى مصاف “أسطورة تاريخ” ولا يمكن التشكيك فيها لأنها تشكل حقيقة واضحة . وهكذا أصبحت مكانا لقداسة علمانية لا يرقى إليها الشك، نقطة انطلاق ضرورية لكل تفكير حول مفاهيم الشعب والأمة” .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.