الشاعرة: الهام ملهبي الفجرنيوز - المغرب يطل مصطفى سعيد على القارئ عبر شقوق شعره المجبول من طينة الحب . يطل باسم جديد/شكل جديد للحب. الحب حين يصبح بوابة نحو العالم، و يصبح طريقا يفضي إلى الكون بكامله، طريق في حاجة إلى تعبيد ، إلى براعة مهندس/شاعر يرسم معالمه و يصمم جنباته و تفاصيله . - قلبي المشرعةُ أردافُهُ من كلِّ الجهات.. - مسيجٌ بحضنكِ.. - مسيّجةٌ بأطرافي.. - حولنا أسلاكَ شائكة.. - مجدٌ خرسانيٌّ مُسيج ..
كل ما قد يبدو لنا هنا من سياجات و حدود و أسلاك و جهات ، هي ليست من أجل وضع الحدود للحب و تسييجه، بل من أجل ان يكون شاسعا بلا حدود . من أجل ان يكون بحجم هذا الكون : - نُهندسُ أجسادَنا .. نُعيدُ هيكلةَ الروحِ.. نهندسُ خارطةَ الكونِ و يصبح للحب معناه الكوني الشامل ، و عبقه الفلسفي : - كلُّنا سيهذي.. كُنا في هذا الكونِ. سنهذي بالأمسِ.. بالملكوتِ.. بالإربِ.. سنهذي.. حين نخلعُ أثوابَنا اللحميّة عن أرواحِنا.. - أحبكِ لأرتقي لحدودِ اللاوجودِ و ليس اختيار عنوان هندسة الحب مجرد اعتباط ، ليس فقط لأنه عنوان إحدى القصائد بل نجد كل مساحة داخل الديوان تزخر بقاموس هندسي ( ان صح التعبير) ، جهات و اطارات و مسافات وطرقات دائرية أو معبدة و أشكال هندسية: - احفري فيَّ لأساساتِكِ لبنائكِ الأزليّ.. - فحدودُكِ برزخان وعرضُكِ مقدارُ الكونِ وضعفان.. - المنحدرُ المُعتقُ تحتَ رقبتِكِ منحدرٌ يتفرعُ من طريقٍ دائري.. طريقٌ بنافذين.. صُكَّ عليهما.. سُلالةُ المعذبين.. سُلالةُ الأولين.. - وأطلقُ أناملي.. لتعبرَ حافةَ الكوكبِ المقوسِ كالهلالِ الفضاءُ رحبٌ مثلَ صدري.. النجومُ ثابتةٌ مصابيحُ بأيدِي الملائكةِ.. - واليومَ أصبحَ العالمُ كلُّهُ زاوية.. الحب في ديوان هندسة الحب له طعم آخر و قيمة أخرى و وزن آخر . يأخذنا مصطفى سعيد لنكتشف معه الحب حين يصبح يقينا ، حقيقة مطلقة لا تختلف عن حقيقة وجود الكون ، أو وجود الله . حقيقة لا شك فيها و لاتحتاج الى جدال . في قصيدة عجينة الله يخاطب الشاعر الحبيبة قائلا : - لما أيقنتُكِ متأخراً ضيّقة كانتِ السنينُ حالكةً بلا طين.. انه وصول الى اليقين. الحب يقين كان غائبا و تجلى واضحا نقيا ساطعا. يقين مكمل لليقين بوجود الله ، كانت العبادة ناقصة و كملها الحب : - عِندَ جنباتكِ يكتملُ الصراطُ بينَ عتباتكِ أُكمل دينيَ المبعثر يا عجينةَ اللهِ.. لكن القصيدة تقودنا إلى منحى آخر ، هذا اليقين بدل أن يشد الحبيب نحو حبيبته قاده نحو الله ، تحولت مناجاة الحبيبة الى مناجاة الله ، و تنتهي القصيدة بهذه العبارات و كأنها كانت قصيدة دينية : إلهي.. أنتَ جاهي.. أركعُ لكَ في القعرِ.. أومَن ألهمَني سواكَ سماؤكَ لاتتسعُ للتائهين.. مذاقُ الجنةِ ثمين.. إلهي..
ثم في قصيدة " المؤدلجون نحوك" يخاطب الحبيبة بنفس نبرة العبادة و نبرة الخشوع أمام المعبود ، بل و التسليم للمعبود بأنه سبب الوجود: جسدي أنبتَهُ الحنينُ لكِ وروحي سجدَتْ في المشيمةِ قبلَ أن تراكِ
و في قصيدة " بين برزخين" مازالت الحبيبة تحمل نفس الصفات، صفات المطلق ، و الحقيقة، و الوجود : وروحُكِ غذاءُ البشرِ المنسكبِ بآنية الله.. الحب اذن حقيقة مطلقة ، بحلوه ومره ، بألمه و أمله ، هو سبب من أسباب الوجود ، يقودنا نحو الكون ، يقودنا نحو أنفسنا ، و يقودنا نحو الله . و الديوان بكامله لا يحمل شعرا في الغزل ، برغم بعض المفردات التي تصف جسد المرأة و التي قد يعتبرها البعض مفردات غزلية لكنها ليست كذلك ( شفاهك – نهديك- أردافك...) . و لكن الحب هنا يظهر في مطلقيته و صفاءه و فلسفيته . و بين كل سطر و سطر نستشعر ألم الحب أكثر من فرحه ، مما يجعل القصائد كلها اغان كتبت ببراعة ، لا تحكي حكايات حب ، بل توقظ داخلنا حزنا جميلا و دافئا يدفعنا للبحث عن قيمة الحب و عن صفاءه. مصطفى سعيد اذن لا يهندس الحب ليبنيه ، بل إن الحب هنا صرح ثابث لا يتزعزع كل ما يفعله الشاعر هو التعبد في هذا الصرح و نقش جدرانه و تزيينها بأبدع الكلمات و أسمى المعاني ، و تلك قمة الخلق و الابداع.