على جمال الدين ناصف الفجرنيوز بورسعيد - مصر القيادة تعرف بأنها العملية التى تمكن من الاسهام بصورة فعالة فى حركة الجماعة نحو هدف معروف ، و يتجلى دور القائد فى قدرته على تحريك سلوك الجماعة نحو تحقيق أهداف معينه ، و يتعين على القائد أن يكون على علم و إلمام جيد بطبيعة العمل الذى يتولى شأنه ، و يتوفر له القدر الكافى من المعرفه للجوانب المختلفه لطبيعة عمله لكى يكون قائدا حقا و هى من البديهيات الاولية للقائد ، فإن كان ذلك كذلك فأن القائد الذى على هذا النحو و الملم بجوانب عمله بدرجة عاليه يستطيع أن يقود الناس ، بينما القائد الذى أتت به الاقدار و أصبح قائدا و ليس متوفر له القدر الكافى من المعرفه و الالمام بطبيعه و جوانب العمل ، فهو ينقاد من خلال الاخرين ، ولا يختلف معى أحد ، أن هناك فرق جوهرى بين ( يقود ) و ( ينقاد ) ، و هذه آفه من آفات القيادة يطلعنا عليها واقع الحال فى هذه الآونه ، هذا بالاضافة إلى ما تقدم فأنى من أسوأ ما أرى الأن هذه الظاهرة التى يحسب لها ألف حساب من قبل القادة و هى حساب الرأى العام ، أكثر مما يحسب الرأى العام حساب القادة . و ليس أدل على ذلك من قادة الأدب ، فإن أحب الجمهور روايات الحب و الغرام ألفوا فيها و أكثروا منها ، و إن أدركوا أنه يشتد تصفيق الجمهور كلما كان الحب أحد ، تسابق الأدباء إلى أقصى ما يستطيعون من حدة و عنف ، ومهروا فى أن يستنزفوا دموع المحبين ، و إشعال عواطفهم ، للوصول إلى أعماق قلوبهم ، و إن كره الناس أدب القوة فويل لأدب القوة من الأدباء ..!! إذ يصبح سمج ، و جاف ، و ما الى ذلك من المعانى ، و إن كان الجمهور لا يقبل إلا الأدب الرخيص فكل المجلات أدب رخيص ، لأنه كلما أسرف فى الرخص غلا فى الثمن ، و إن بدأ الجمهور يتذوق الجد تحولوا إلى الجد و مضوا فى فلكه حيثما دار .
حتى دعاة الاصلاح ، فهم يرون مثلا أن الشباب قوة فوق كل قوة ، و هم عصب الأمة و إكسير الحياة ، و قادة الغد ، و لديهم القدرة على أن يرفعوا من شاءوا إلى القمة و يسقطوا من شاءوا إلى الحضيض ، تجد هؤلاء الدعاة ينظمون لهم الدر فى مديحهم و إعلاء شأنهم ، و ملئهم ثقة بأنفسهم ، فهم رجال المستقبل ، و أمل الغد ، و عماد الحياة ، و هم خير من آبائهم ، وسوف تكون الامة فى منتهى الرقى يوم يكونون رجالها ، و قد يكون هذا حقا ، و لكن للشباب أخطاءه الجسيمة ، و له غروره و إندفاعه ، و له أيضا إفراطه فى الاعتداد بنفسه ، فإن حق على المصلحين أن يكثروا القول فى المعنيين على السواء ، فيشجعوا وينتقدوا ، و يبشروا و ينذروا ، و يرغبوا ويرهبوا ، كى تتعادل قوى النفس البشرية ، و ليشعروا بمحاسنهم و مساوئهم معنا .
و لكن هؤلاء القادة مع الاسف ، يعزفون على نغمه واحدة فقط التى تعجب الشباب و تحمسهم و لم يجرءوا بالجهر بعيوبهم ، و لو تلميحا من مواضع النقص فى نفوسهم ، الأمر الذى جعل الشباب يسترسلون فى الايمان بقول الدعاة إلى أقصى حد ، و اعتقدوا أنهم كل شئ فى الحياة ، و هم فوق أن يسمعوا نصيحة ناصح أو نقد ناقد ، و كل هذا كان نتيجة متلازمة من موقف القادة منهم .
و إن كان لى أن اتذكر من الماضى عندما كان طالب العلم يقدس قول أستاذه ، و هو و أستاذه يقدسان ما فى الكتاب الذى يتلى علمه ، و كان الشاب يجل أستاذه فى قوله و فعله ، لا يرى له صوتا بجانب صوته ، ولا رأيا بجانب رأيه ، و أننى كدت أشك أن سلوك هذا الجيل إنما هو إنتقاما من الجيل السابق.
إن موقف القادة من الجمهور إسترضاء للرأى العام قلب الوضع ، فالعالم إذا قال برأى الناس لم يكن لعلمه قيمة ، و المصلح إذا دعا إلى ما عليه الناس لم يكن مصلحا .
و أننى قد أتفهم إلى حد كبير أن التاجر يسترضى الجمهور ، لأن نجاح تجارته يتوقف على رضاهم ، كما أننى أفهم بأن المغنى يقول ما يعجب الجمهور ، لأنه نصب نفسه لإرضائهم ، و إستمالتهم نحو إعجابهم به ، بينما لا أفهم هذا فى قائد الجيش ، فإن له مهام أخرى و هو أن يظفر بالنصر على العدو ، فلو كان همه أن يسترضى جنوده لا أن ينتصر على العدو ما إستحق لقب القيادة لحظة ، و لأنقلب الحال أن أصبح الجند قادة و القادة جند .
كما لا يعد المصلح مصلحا حتى ينبه الناس من غفلتهم ، ويحملهم على أن يتركوا ما ألفوا عليه من مضار ، أو يعتنقوا ما كرهوا من صالح ، و هو فى أغلب أمره مغضوب عليه ممقوت . و قد كان المصلحون فى الشرق فى عهد ليس ببعيد أشد الناس تعبا فى الحياة ، و أكثر تبرما بالجمهور ، و معظمهم لم يوفوا حقهم إلا بعد أن وافهم الموت .
و الأن و بعد ما وصل بنا الحال من فساد و إنحلال و وضاعه تمس جانبا من حياتنا اليومية ، لا نخشى أن نصرح به ، لاننا نلمسه و نسمعه و نراه ، و يزيد من أمره فى القطاعات الادارية التى نعمل بها ، ما هذا الوافد العجيب الذى سيطر على مناح عديدة ، و ما هذا الركوع و الانبطاح للعديد من القيادات الادارية و الخوف الغير مبرر من الرأى العام ، فلا هناك ثمة حركة تتسم بالقوة بين المصلح و من يراد إصلاحه ، فقد يكون ذلك سببه أن القائد ينظر إلى نفسه أولا و قبل كل شئ و آخر كل شئ ، حيث قصد أن يصفق له أكثر مما قصد لخدمة الحق ، و قد وصل إلى درجة من إعجاب الجمهور يريد أن يزيدها أو يحتفظ بها ، فهو بذلك قد خلع ثياب القائد ، و إرتدى للأسف ثياب التاجر ، يبحث عما يعجب الناس ليقوله أو يكتبه أو يطنب فى وصفه ، و يبحث عما يسوءهم ليحمل عليه حمله شعواء بقوله أو بكلمته .
تلك هى أشد حالات الانحطاط فى القيادة ، فأول درس يتلقاه القائد أن يكون قليل الاهتمام بشخصه ، كثير الاهتمام بالغرض الذى يرمى اليه فى الاصلاح ، سواء كان إصلاحا إداريا أو إجتماعيا أو أدبيا أو دينيا ، و أن ينظر الى كل ما يجرى حوله فى هدوء لا يسره إلا أن يرى الناس إقتربوا من غرضه و لو بسبه و شتمه ، و يضحى بالشهره فتتبعه الشهرة ، و يضحى بالحظ فيخدمة الحظ ، ولا يشعر براحة إلا أن يصل إلى غرضه أو يقترب منه ، يحب المنتصرين لرأيه و يرحم الناقمين عليه ، و يرفض لباس تاج الفخر إلا أن يكون من نسيج ما سعى إلى تحقيقه ، فهذا أول درس يتعلمه القائد و آخر درس أيضا .