لمدينة القدس في المنظور الإسلامي منزلة لا تقل عن منزلة التقديس، فقد سماها القرآن الكريم في معرض حديثه عن الإسراء ب «المسجد الأقصى»، حتى دون أن يكون فيها مسجد مقام، تكريما لها وإشارة إلى مكانتها الدينية، وسمى أرض القدس وفلسطين بالأرض المباركة. وقد نظرت في تاريخ القدس والحوادث المتعاقبة على هذه المدينة فانتهيت إلى استنتاج خلاصته أن القوة السياسية والحضارية التي تسيطر على القدس هي القوة التي تكون متمكنة على الصعيد الدولي. فكأن مدينة القدس تصلح لأن تكون مقياسا لمعايرة مدى نفوذ وسيطرة القوى السياسية وتحديد مرتبة قوتها المدنية والعسكرية خلال تاريخ البشرية، ويكفي استدلالا على ما سبق استحضار التاريخ السياسي لهذه المدينة الفريدة: ففي القرن السادس قبل الميلاد، أو عند نهايته بالتحديد، تسلم البابليون مدينة القدس، حيث دخلها بختنصر عام587 ق م، إعلانا لتفرد بابل بالقوة الدولية وقتئذ، ثم دخلها اليونان بقيادة الإسكندر المقدوني في 332 ق م، ثم جاء بعدهما الحكم الروماني. وفي سياق ذلك الصراع الدولي المحتدم بين الروم والفرس، وفي إطار سياسة التوازن والتصارع وتبادل الأدوار الدولية كان بيت المقدس هو نفسه يعكس هذا الصراع، فقد سيطر عليه الفرس في 624م، ثم احتله الرومان، وظلوا فيه حتى تصاعدت القوة الدولية الجديدة (القوة الإسلامية) التي فتحت القدس معلنة عن حضور جديد ونفوذ دولي جديد، وإيذانا بانتقال ميزان القوة العالمية إلى جهة جديدة متميزة. وكما يصلح التاريخ السياسي للقدس معيارا لقياس مراتب القوى الدولية، فإنه يصلح لقياس مراتب القيم التي تتمثلها أو تمارسها تلك القوى. فلو قارنا بين أسلوب الدخول إلى هذه المدينة المباركة من قبل المسلمين وغيرهم سنلاحظ فارقا كبيرا في القيم, فقد كان الغزاة من قبل يدخلون المدينة في بحر من الدم، إذ عندما دخلها الرومان ذبحوا أهلها وسبوا النساء وقتلوا الأطفال والشيوخ، وعاثوا في الأرض فسادا، وعندما دخل بختنصر قتل وذبح ودمر وسبى ما تبقى وأجلاهم إلى بابل، ولما دخل الفرس ذبحوا آلاف النصارى وشاركهم في هذا اليهود أيضا! غير أن دخول المسلمين في العام الخامس عشر للهجرة كان فيه إكرام للمدينة وتقدير لها، وهي بذلك قمينة بالتأكيد، حيث توقف الجيش المسلم، رغم انتصاره وقدرته على دخول المدينة، فلم يدخلها القائد العسكري كما كان الحال بالنسبة للمدن الأخرى، بل استحقت القدس المباركة أن يبقى الجيش المسلم خارجها منتظرا أن يأتيها الخليفة عمر بن الخطاب من مكان بعيد، من مدينة رسول الله (ص) ليستلم بنفسه مفتاح القدس ويدخلها مصالحا أهلها مانحا إياهم ذمة رسول الله (ص) بكل ما تعنيه من احترام وتقدير وحفظ. وأثناء تجوال عمر (رض) لمشاهدة معالم المدينة بصحبة حاكمها الروماني أدركته الصلاة وهو بالكنيسة فأخبره أن بإمكانه الصلاة داخلها، غير أن عمر رفض وأجابه بأنه إن فعل يخشى أن يتبعه المسلمون فيحولوا الكنائس إلى مساجد. وعود إلى درس التاريخ لنقول: عندما ضعفت القوة الإسلامية ودخلت جيوش النصارى الصليبيين عام 1096م، قتلوا ما يقرب من سبعين ألفا من المسلمين وخربوا المسجد الأقصى! حتى إن بعض الروايات التاريخية تصف الحدث فتقول إن أزقة المدينة أخذت تجري بدماء الضحايا إلى الركب، وتأمل كيف كان علو الإسلام والمسلمين عندما دخل صلاح الدين الأيوبي القدس سنة 1187، لترى سموق حضارة الإسلام وامتيازها الفريد عن كل الحضارات التي شهدها تاريخ البشرية. إذن إن النظر في تاريخ القدس ليس فقط تقليبا لأوراق الزمن, بل هو استحضار لأنساق ثقافية وحضارية، وإبصار لأشكال وأساليب اصطراعها وتفاعلها، وإدراك لمبادئها ومستواها القيمي والحضاري. العرب القطرية 2010-02-05