ما كادت السياسة العراقية تخرج من أزمة القانون الانتخابي، حتى زج بها في أزمة أعمق وأكبر، بعد أن تفتق ذهن الحاكمين العراقيين عن حملة اجتثاث واسعة النطاق لكل من يمكن اتهامه من خصومهم، لاسيما بين الشخصيات السنية العربية. في لحظة ذروة الأزمة، وقد أصبح واضحاً أن هيئة التمييز التي شكلها البرلمان العراقي ستصدر قراراً بمنع ترشح المئات للانتخابات، ألقى رئيس الوزراء العراقي كلمة أمام دائرة الرعاية الاجتماعية. قال المالكي، وبالحرف، «إن العراق لن يسمح بعودة من يريد على ظهر دبابة أو عبر الارتباط بالأجنبي». ولكن المالكي لم يقل لمستمعيه كيف عاد هو، والطبقة العراقية الحاكمة، أو كيف أصبحوا حكاماً للعراق. بمثل هذا التزييف الصريح والفج لتاريخ العراق ومناخه السياسي، فجرت أزمة الاجتثاث، وشهد العراقيون حلقة أخرى من حلقات العدمية الطائفية التي يجر إليها وطنهم على أيدي قادة الدعوة والمجلس والحزب الإسلامي. هيئة الاجتثاث، أو هيئة المساءلة والعدالة، ليست مؤسسة قانونية بأية حال من الأحول. فالذين يديرونها لم يصدق على تعيينهم برلمان، وهم سياسيون نشطون، ومرشحون للانتخابات القادمة، ولا يصح لهم بالتالي أن يصبحوا حكماً يقرر مصير مرشحين آخرين. والمئات الذين وضعت الهيئة أسماءهم على قائمة المنع لم يتهموا جميعاً بأنهم بعثيون. المطلق والعاني، مثلاً، متهمان بالترويج للبعث وليس الانتماء له، ومثل هذه التهمة لا تعتبر من اختصاص هيئة المساءلة. الأزمة، باختصار، لا صلة لها بالقانون والدستور، ولكن ببروز التحالف الوطني وقائمته العراقية، التي يقودها طارق الهاشمي، إياد علاوي، صالح المطلق، رافع عيساوي، وأسامة النجيفي. التشكيل غير المتوقع لهذه القائمة، التي تحمل أملاً كبيراً للعراقيين بالخروج من مناخ الانقسام وأجواء السياسة الطائفية السوداء، هو المتغير الرئيس في عراق الشهور القليلة الأخيرة. مثل الآخرين في الطبقة العراقية السياسية الجديدة، تعاون هؤلاء مع إدارة الاحتلال، وارتكبوا أخطاء كبيرة في السنوات القليلة الماضية. ولكنهم كانوا أسرع إدراكاً من غيرهم لطبيعة العراق وبنيته الوطنية، ولثوابت العراق العربية والإسلامية. ما إن أعلنت ولادة التحالف الوطني الجديد، حتى بات واضحاً أن لا الائتلاف الشيعي ولا قائمة دولة القانون (الشيعية هي الأخرى)، رغم كل الإجراءات التجميلية، يمكن أن تقفا أمام القائمة العراقية، لا في أوساط السنة ولا الشيعة. بعد سنوات من الانقسام الداخلي، والتخندق الطائفي والمناطقي، عاد العراقيون يلملمون شتات وطنهم وجماعتهم الوطنية، وإلى تلمس السبل للحفاظ على وحدة بلادهم. ولأن الجميع يدرك حقيقة هذا التطور في المزاج الجمعي العراقي، فقد دق التحالف الوطني الجديد أجراس الخطر لدى الذين بنوا وجودهم وسلطتهم على الغرائز الطائفية وإثارة مخاوف العراقيين من بعضهم البعض. كان المالكي، رغم محاولته الظهور بمظهر المسؤول التنفيذي المحايد، هو المحرك الرئيس لحملة الاجتثاث الجديدة، ولكن المحرض جاء من طهران. باقتراب موعد الانسحاب الأميركي من العراق، تعمل طهران على تعزيز نفوذها في العراق، مرتكزة إلى قوى طائفية، اتفاقات اقتصادية وأمنية، واختراق واسع النطاق لمؤسسات الدولة العراقية. وقد حاولت طهران دفع القوتين الشيعيتين الرئيستين إلى التحالف في قائمة واحدة، ولكن المحاولة لم تنجح، حتى الآن على الأقل. بروز التحالف الوطني وقائمته العراقية دفع طهران إلى المحاولة من جديد. قرأ الإيرانيون التحالف الوطني مرة باعتباره تجلياً للنفوذ السعودي، ومرة باعتباره موالياً لتركيا. وكانوا بلا شك مخطئين في الحالتين. الترحيب الذي صادفه التحالف الوطني كان واسعاً ومتعدداً، من القاهرة إلى دمشق إلى أنقره، ليس لارتباطه بأي من هذه العواصم، بل لأن أغلب دول الجوار رأى فيه أملاً لبداية تعافي العراق وإعادة بناء استقراره. ولكن طهران لا تستطيع المغامرة، ومن هنا ولدت فكرة اللجوء إلى نهج الاجتثاث، الموجه في صورة خاصة للتحالف الوطني ومرشحي قائمته. عندما يقول الجنرال باتريوس، القائد السابق للقوات الأميركية في العراق، إن هيئة المساءلة ليست أكثر من أداة في يد قيادة قوات القدس، فهو لا يروج لشائعات، وعندما يعلن الرئيس أحمدي نجاد في خطابه بمناسبة ذكرى الثورة الإسلامية دعمه لإجراءات الاجتثاث، ففي إعلانه إشارة مستبطنة إلى أن الإرادة الإيرانية عازمة على قيادة الشأن العراقي، مهما كانت التكاليف. أحد الأطراف التي سارعت إلى الالتحاق بجبهة الاجتثاث، كان الحزب الإسلامي، المعبر عن الهوية الطائفية السنية في العملية السياسية. الحزب الإسلامي، الشريك الأصغر في النظام، رأى هو الآخر في قائمة العراقية مصدر تهديد. الحقيقة، أن انهيار الدعم العربي السني للحزب بدأ منذ أكثر من عامين، ليس فقط لعجز الحزب عن تمثيل مصالح من انتخبوه، ولكن أيضاً لأن سنة العراق لا يرون أنفسهم ولا موقعهم من منظار طائفي، وقد جرى تصويتهم للحزب وقائمة التوافق التي قادها في الانتخابات السابقة في ظل التدافع والتناحر الطائفيين في البلاد. وما أن أعلن التحالف الوطني، حتى أصبح واضحاً أن الحزب سيخسر خسارة فادحة أمام مرشحي العراقية. وسرعان ما وجد الحزب في مشروع الاجتثاث فرصة سانحة للتخلص من منافسيه الوطنيين. وقد لعب نواب الحزب في اللجنة القانونية، ورئاسة البرلمان، دوراً ملموساً في تسهيل مهمة المالكي وهيئة المساءلة. في لحظة الخطر، لم يجد الطائفيون الشيعة والسنة من العمل معاً لحماية السلطة والثروة والامتيازات التي وفرها لهم نظام الحكم الطائفي. الأميركيون، قصة مختلفة تماماً. مركز الاهتمام الأميركي بقرارات الاجتثاث لم يكن عدالتها ولا قانونيتها، ولكن مدى تأثيرها على جدول انسحاب قوات الاحتلال. ولكن الأميركيين أدركوا، على أية حال، أن الإرادة الإيرانية في العراق باتت تعلو إرادتهم. ثمة قراءتان للموقف الأميركي من تطورات الشأن العراقي– الإيراني، والتدهور السريع في التأثير الذي باتت واشنطن تستطيع ممارسته في بغداد. تقول الأولى إن الأميركيين غير مكترثين الآن بحقيقة ولاء هذا أو ذاك من حلفائهم العراقيين، ويرون أن مستقبل العراق يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمسألة الإيرانية، حرباً انتهت أو سلماً. حل المسألة الإيرانية سيترك تأثيره المباشر على الطبقة السياسية العراقية، ويجعل الأمور في العراق أكثر وضوحاً. أما القراءة الثانية فتقول إن الأميركيين سعداء باستقرار الحكم الطائفي في العراق، حتى بوجود نفوذ إيراني، لأن مثل هذا العراق سيخرج نهائياً من المعادلة العربية، ويسهم في المحافظة على تجزئة المنطقة وتشظيها. الأرجح، أن إدارة أوباما تدرك أن مغامرة العراق كانت خاسرة من البداية، ولأن هم واشنطن أوباما هو إقفال الملف العراقي ونسيانه، فإن أحداً في واشنطن لا يعرف على وجه اليقين ما السياسة الأفضل والأصوب تجاه العراق في السنوات القليلة القادمة. المتيقن أن العراق لا يمكن أن يستقر بمثل الحكم الذي يدير شؤونه الآن. سياسات العزل والاجتثاث ومحاولة فرض رواية واحدة للتاريخ ليست جديدة، ونمط الحكم هذا ما جعل العراق يعيش على حافة الهاوية منذ ولادة دولته الحديثة في مطلع العشرينيات. ما جد على العراقيين بعد مشروع التحرير والديمقراطية هو إضافة النهب والارتهان للخارج إلى سياسات العزل والاضطهاد والاستئثار بالسلطة. وليس هكذا تقوم الدول، أو يكتب لها البقاء. العرب القطرية 2010-02-18