الاعلان العالمي لحقوق الانسان:بين السلطة و منظمات حقوق الإنسان بقلم عامر عياد منذ أن تم إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر 1948 أصبحت حقوق الإنسان و حرياته الفردية و الجماعية شانا عالميا بعد أن ظلت في القرن الماضي شانا وطنيا محصورا إدراكه في قلة من المفكرين الإصلاحيين و انتقلت العناية بهذه الحقوق من ميدان المبادئ الأخلاقية و النظريات الفلسفية و الإيديولوجيات السياسية و الاجتماعية إلى ميدان الممارسة الواقعية . ولقد زاد اهتمام النخب بميدان حقوق الإنسان التي أصبحت بعد سقوط المعسكر الاشتراكي إيديولوجية جديدة تجمع تحت لواءها المفكرين و المصلحين الهاربين من نير الانتماء إلى الحركات السياسية الممنوعة النشاط في بلدانهم. وبعد ما يقارب الستة عقود ما زال هذا الإعلان العالمي يثير عديد الإشكاليات التي نجد في مناسبة إحياء ذكراه السنوية مناسبة لطرحها وتعميق النقاش حولها. لقد كان إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في أعقاب فترات الظلم السياسي و الاجتماعي الذي لحق العالم إبان الحرب العالمية الثانية التي لم يكن مضى على وضع أوزارها أكثر من ثلاث سنوات، فكان هذا الإعلان ومن بعده جميع المواثيق الأخرى حاملة لثقافة المنتصر و لم تكن مجسدة لقيم و ثقافات الشعوب الأخرى.. هذه الفجوة بين الاحتفاء السياسي الدولي بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان و ارتياب البعض في أسسه الفلسفية و إعراض الكثيرين أو تقاعسهم علنيا عن الالتزام بمقتضياته تعكس أزمة الخطاب والمحتوى التي يعاني منها مشروع حقوق الإنسان و تتجسد في غياب توافق كاف حول مبررات شرعية حقوق الإنسان من جهة وغياب فهم محدد لمضمون هذه الحقوق من جهة أخرى.. من الواضح أن إعلان 1948 ينطلق من فكرة العالمية باعتبارها احد المقومات الأساسية لمفهوم حقوق الإنسان و يبدو أن الفهم السائد لمبدأ العالمية ينتمي إلى تيار العقلانية الأخلاقية المتأثر –ولو بدرجات متفاوتة- بالأطروحات التقليدية لمدرسة القانون الطبيعي..و نتج عن ذلك تبني مفهوم مجرد لحقوق الإنسان باعتبارها حقوقا أخلاقية مطلقة زمانا ومكانا و مستقلة عن الظروف الاجتماعية التاريخية. واضح أيضا أن التجاذب الإيديولوجي القائم لحظة صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان رؤية إيديولوجية معينة قد انتصرت في النهاية، وهي رؤية ليبرالية محافظة تهتم بالحقوق التي تمثل حصانات أكثر مما تهتم بالحقوق كضمانات رغم محاولات استكمال هذا النقص من خلال عهود دولية صدرت لاحقا فان الخلل الأصلي ظل قائما و لم يفتأ أثره يتفاقم خصوصا منذ اكتسحت العالم موجة العولمة الليبرالية الجديدة. غلبة مرجعية معينة لفكرة حقوق الإنسان و انتصار نظرة إيديولوجية محددة رجحت فهما غير متوازن للحقوق ،أمران كان لهما الأثر البالغ إلى جانب اختطاف شعار حقوق الإنسان على يد بعض القوى الدولية،في التنفير من الفكرة و إفراغها من محتواها بتأثير النتائج السلبية العديدة التي ترتبت على ذلك ومنها: *التشبث بوهم وجود أساس فلسفي مطلق لحقوق الإنسان بما يلغي خصوصيات الثقافات والفلسفات الأخرى لصالح الفلسفة و الثقافة المهيمنة و قد انتقد الحقوقي الايطالي "نوريتو بوبيو" هذه النزعة معتبرا أن "الأساس المطلق الذي يتمثل في عالم الأفكار نظير السلطة المطلقة في عالم الأفعال ، ففي مواجهة الإنسان المطلق ينكسر العقل مثلما تنكسر الإرادة في مواجهة السلطة المطلقة" لذلك لم تخضع كثير من الثقافات لرؤية المدرسة الطبيعية ذات الجذور اللاهوتية المسيحية..و الذي حصل هو أن بعضها تمرد على فكرة حقوق الإنسان نفسها. *تحولت حقوق الإنسان في كثير من الأحيان من رسالة تحريرية إلى مشروع إيديولوجي لفرض خصوصيات ثقافية معينة، كما تم توظيفها على نطاق واسع لخدمة سياسات الهيمنة الجديدة للقوى الغربية التي سعت إلى تأبيد نفوذها الاستعماري عبر استغلال شعار حقوق الإنسان. *غلبة المقاربة الليبرالية أدت تدريجيا إلى تكريس نظرة انتقائية و غير متوازنة لحقوق الإنسان حيث تم التركيز في أحسن الأحوال على الجيلين الأول و الثاني من حقوق الإنسان، وهي حقوق سلبية وفردية في الغالب.و في المقابل تم تجاهل الحقوق الايجابية أي تلك التي ترتب على الدولة التزامات تجاه أصحاب الحقوق مثل الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية. و رغم كل ما كتب و ما قيل تبقى إشكالية العالمية و الخصوصية من أكثر ما يعيق التطبيق الفعلي و العملي لبنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فالجدل بين الخصوصية و العالمية يظل قابلا للتشكل بمقدار المساهمة الواعية من الأطراف الفاعلة لصوغ مفهوم خاص لحقوق الإنسان يدرك المشترك و الإنساني العام بين الحضارات و الثقافات و قادر على تطوير نسق مستقل على المستوى النظري و العملي يدرك الخصوصيات المختلفة للحضارات و الثقافات، فمع الانفتاح على العالم لا يمكن أن ننسى أو نتناسى الوسط المباشر الذي نعيش فيه و عمقه مكانيا و زمانيا و منه يجب التأكيد على انه لا يمكن للمجتمع العربي أن يمر في مسار تطوره بمراحل تطور المجتمع الغربي نفسه و اعتماد نماذجه التنموية نفسها، لا يعني ذلك عدم الاستفادة من تجربة الغرب لان التنوع و التغيير شرطان أساسيان من شروط وجود الحياة الاجتماعية و ضمان حيويتها و ديناميكيتها، ففي التنوع و التعدد و الاختلاف حياة الإنسانية و ارتقاءها ومن هنا فالثقافات الحية و المجتمعات الناشطة لن تقبل بهيمنة الثقافة الغربية الواحدة على العالم. زاد اهتمام العالم بمنظومة حقوق الإنسان بل و أصبح شرط احترام حقوق الإنسان هو المحدد في كثير من الأحيان للعلاقات بين الدول صعودا و هبوطا..و تكاد حقوق الإنسان أن تكون إيديولوجية جديدة هرب إليها و التجأ الكثير من النخب السياسية و الفكرية العربية نظرا لما يعانونه في بلدانهم من تسلط جراء انتماءهم إلى أحزاب أو منضمات غير معترف بها. و في تونس و مع التأكيد المتواصل من طرف القيادة السياسية على احترام حقوق الإنسان و ايلاءه المكانة التي تليق على اعتبار أن الإنسان يبقى ثروة تونس الأولى و الرهان عليه احد الخيارات الإستراتيجية التي تسعى تونس إلى تكريسها إلا أن المعادلة تبقى صعبة التحقق بين المغالبة المتبادلة و المستمرة بين منظمات حقوق الإنسان و السلطة لا سيما أمام الاتهامات المتبادلة بين الطرفين ففي حين تتهم الأولى السلطة بانتهاكاتها المستمرة لحقوق الإنسان و توسيع هذه الدائرة لتشمل جميع الفئات ليكون في النهاية الشعب كله في دائرة الاستهداف ، تؤكد الثانية أن منظومة حقوق الإنسان كل لا يتجزأ و الحقوق السياسية جزء مهم من الحقوق و أنها تسعى دوما إلى تحقيق أفضل الضمانات لاحترام القانون في ظل سيادة الدولة متهمة في ألان نفسه منظمات حقوق الإنسان بالاستقواء بالأجنبي من اجل تحقيق أجندة خاصة لأصحاب الفكر الوصائي. ومن جانبنا لا نجانب الحقيقة إذا أقررنا بصواب النظرة الرسمية الحكومية على انه بات من الضروري فك الارتباط بين فكرة حقوق الإنسان و مشروع الهيمنة الثقافية الغربية ، فالالتباس الحاصل في أذهان البعض لم يؤد إلى الانتصار لمبادئ حقوق الإنسان بقدر ما مكن للقيم الثقافية أن تتسلل تحت شعار هذا الدين الجديد لتغزو فضاءات ثقافية مغايرة متسببة في احتكاكات لا ضرورة لها. و إضافة لهذه التسللات الثقافية تستعمل حقوق الإنسان اليوم من اجل التدخل في الشؤون الداخلية للدول قصد السيطرة على مقدراتها الاقتصادية وتحقيق الأجندات السياسية للدول الكبرى و المهيمنة في زمن صارت فيه هذه الذرائع وسيلة لسلب الشعوب حرياتها و ابسط حقوقها ألا وهو حقها في السيادة و حقها في تقرير مصيرها. إن الساحة الدولية بما تشهده من أحداث دامية و متسارعة تفضحها عولمة الإعلام لا تسمح لأي كان أن ينتصب خطيبا أو داعيا أو واعظا أو مرشدا للآخرين في مادة حقوق الإنسان دون أن تخونه نزعته الوصائية سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، فالأجدى لهذه الحقوق أن تبقى مسالة داخلية و محلية في تكريسها حتى و إن كانت كونية في جوهرها. لذلك كانت حجة الدولة في تونس تستند أساسا إلى اتهام منظومة حقوق الإنسان بكونها لم تحترم الخصوصيات الثقافية للأخر ، كما أنها ترفض استعمال هذا الشعار لغايات سياسية، فالسلطة وهي تعتقد أنها حاملة لهذا الفكر السيادي تريد إبراز مقاربتها الشاملة و الخاصة لحقوق الإنسان التي لا تروم منها إرضاء الجهات الأجنبية بقدر استجابتها الحقيقية لانتظارات شعبها في الحياة الكريمة التي لا تتحقق إلا في إطار نظرة شاملة لحقوق الإنسان في مختلف أبعادها الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية مع ما يرفق هذه الأبعاد الأساسية من تلازم و انسجام فالحقوق الاجتماعية لا تستقيم بمعزل عن الحقوق الاقتصادية، والحقوق السياسية لا معنى لها في غياب الحقوق الاجتماعية.