يضعنا -نحن الأغلبية في الوطن العربي من المثقفين المؤمنين بالإسلام والعلمانية معاً- السجالُ بين العلمانيين والإسلاميين أمام خيارات معقدة، بين الخرافة أو الخرافة، وبين التطرف أو التطرف، وتجعلنا الحرية النسبية المتاحة في الإعلام وفي النقاش في القضايا العامة والوطنية نعتقد أننا نسير في طريق مسدود. وسأعرض هنا بحكم المساحة المتاحة مثالين عن الإسلاميين والليبراليين وطريقة تفكيرهم وعقولهم الباطنة المخيفة والتي تجعلنا نشعر بقلق كبير على المستقبل ومصيرنا عندما يكون بين يدي هؤلاء. في كتاب صدر لمحمد أبوفارس أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين في الأردن بعنوان "النظام السياسي في الإسلام"، وكان هذا الكتاب مفروضاً على تشكيلات الجماعة، وهو في مجمله تلخيص انتقائي لكتاب "الأحكام السلطانية"، لمؤلفه أبويعلى الفراء (القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي) وأضاف إليه المؤلف رفضه لفكرة الانتخاب، لأن المجتمع الإسلامي يقدم قادته على نحو تلقائي طبيعي كما اختير الخلفاء الراشدون، ثم ترشح المؤلف للانتخابات النيابية عام 1989 وصار نائباً ومقرراً للجنة القانونية في البرلمان، رغم أنه كان وما زال ينظر إلى الأنظمة السياسية القائمة في البلاد العربية والإسلامية بأنها ينطبق عليها قوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، ومن ثم تحرم المشاركة السياسية فيها. وما زالت الأنظمة الانتخابية الداخلية لجماعة الإخوان المسلمين تمنع الترشح للانتخابات عملاً بالحديث النبوي الذي ينهى عن طلب الولاية، ولكن الإخوان يترشحون للانتخابات النيابية والعامة ويخوضون حملات انتخابية ودعائية. وفي كتب ورسائل جامعية نوقشت في الكليات الجامعية تلمس بوضوح فقهاً خاصاً بالإخوان المسلمين، وكأنهم يرون أنفسهم طائفة لها أحكامها وتقاليدها وفقهها الخاص بها، فقط، وأحكام شرعية تنطبق عليهم فقط، وأخرى لا تنطبق عليهم ولكنها للمسلمين بعامة، فعندما يرجح باحث في رسالته للماجستير حرمة المشاركة في الوزارة أو البرلمان، فهو لا يقصد بذلك المسلمين ولكن الإخوان المسلمين، هذا العقل الباطن مخيف ومقلق. وفي المقابل يردد كثير من المثقفين/ات والأكاديميين/ات والسياسيين/ات ببساطة وتكرار ودون ملل مقولة أن أزمة التعليم ومشكلته (ولدينا في الأردن اليوم أزمة كبيرة في التعليم تشغل جميع المواطنين والمسؤولين) تعود إلى سيطرة الإخوان المسلمين على العملية التعليمية، والغريب أنها مقولة شائعة يرددها كثير من الناس وبخاصة العلمانيون. ولكنها مقولة تتناقض مع أبسط بديهيات العقل والذاكرة، فالتعليم في الأردن يقوده العلمانيون والليبراليون أو المحافظون من غير الإسلاميين منذ تأسيس الدولة في العشرينيات وحتى اليوم، ويستثنى من ذلك سنوات ثلاث كان الإسلامي الدكتور إسحق فرحان فيها وزيرا للتربية والتعليم، وذلك في أوائل السبعينيات من القرن العشرين. فهل يريدنا السادة والسيدات الذين تلقوا أعلى الشهادات وأرقاها في الغرب، ولكنهم لم يتعلموا أبسط قواعد التفكير والحساب والجمع والطرح، أن إسحق فرحان بتوليه وزارة التربية والتعليم لسنوات ثلاث أو أقل قد غيّرها وإلى الأبد، ولم يعد يمكن لكل الوزراء والنواب والمثقفين والأكاديميين والمسؤولين منذ عام 1973 تغيير ما فعله إسحق الفرحان بالوزارة؟ هذا إن كان صحيحا أنه غير الوزارة ومناهجها، فمن المعلوم أن قوانين وزارة التربية والتعليم القائمة تعود إلى مرحلة تأسيس الدولة، وتبلورت في مرحلة لم يكن فيها للحركة الإسلامية حضور يذكر في البلد، ويعرف كل طفل في الأردن أن التوظيف في وزارة التربية والتعليم يجري بتنسيق وإشراف ديوان الخدمة المدنية. بالتأكيد فإن مناهج التربية والتعليم بحاجة إلى تطوير ومراجعة استراتيجية، وبحاجة إلى إدخال مساقات علمية وراقية في الفلسفة والتاريخ والفنون والموسيقى والآداب والنشاط العام والعمل التطوعي، ولكن إلقاء اللوم على الإخوان المسلمين في الواقع المتردي للتربية والتعليم لا يمكن تصديقه إلا إذا اقتنعنا أن إسحق الفرحان والإخوان المسلمين يستخدمون قوى سحرية وخرافية غامضة. وأغلب الظن لديّ أن كثيراً من المثقفين/ات والليبراليين/ات يؤمنون بأن قدرة الإخوان على السيطرة على العملية التعليمية تعود لاستخدامهم قوى خارقة وغامضة لأني أعرف شخصياً أن كثيراً من الليبراليين وممن يتظاهرون بعدم إيمانهم بالدين يستخدمون/ يستخدمن الأعشاب المباركة والوصفات الدينية (هي شعبية بالطبع) لعلاج السحر والحسد، ويلجأون إلى الحجابين والمقاولين المتخصصين بإخراج الجن وتسليطه على المنافسين. وأنا متأكد أن معظم الليبراليين والعلمانيين والأكاديميين وخريجي الجامعات الغربية المتنورين وحليقي الرؤوس في بلادنا يؤمنون بالسحر والحجب وتأثير الجن على قدراتهم/ قدراتهن، ودور حسد الجيران/ الجارات في تدني نتائج أبنائهم/ أبنائهن في الثانوية أكثر بكثير، بل على نحو ليس فيه مجال للمقارنة، مما يعتقده الإخوان المسلمون، ذلك أن معظمهم إن لم يكن جميعهم لا يؤمنون بذلك إطلاقاً.. لماذا يضعنا العلمانيون أمام خيار الانحياز للخرافة والشعوذة أو الإسلاميين؟ العرب 2010-03-25