بقلم: أ.د/ عبد الله بن أحمد الفَيْفي الفجرنيوز -1- أقامت "مجلّة العربي"، في دولة الكويت، (ندوة العربي 2010)، حول "الثقافة العربيّة ووسائط الاتصال الحديثة"، خلال الفترة من 8 إلى 10 مارس. وقد كانت لي مشاركة في الندوة بورقة بحث تحت عنوان "مستقبل الثقافة العربيّة في ظلّ الوسائط الاتصاليّة الحديثة". وأستطيع القول: إن القيمة الكبرى لتلك الندوة قد بدت لي- إلى جانب موضوع الندوة، الذي يُعدّ موضوع الساعة- في الكشف عن الهوّة السحيقة التي تُعيق تقدّم ثقافتنا، متمثّلة في الركون إلى الإلف، والثبات على الماضي، والسعي إلى استبقاء الحال على ما هو عليه. وهي سكونيّةٌ، تنازع أيّ تغيير، وتجادل كلّ جديد، بلا منطق ولا منهاج. ولذلك ترانا- نحن العرب- ندور في هذه الندوات والمؤتمرات على أنفسنا، بلا حراك؛ لأننا في النهاية إنما ندور على أنفسنا، بهمومها، وتوجّساتها، ومواقفها الجاهزة قبل المناسبة وبعدها، بل من قبل أن نولد؛ من حيث إن عقولنا التي في رؤوسنا إنما نرثها عن آبائنا؛ تُبرمج لنا مبكِّرًا، وتظلّ برمجتها سارية المفعول حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، حتى إنْ تغيّرت محتويات البرمجة الذهنيّة فإن آليّات المعالجة تبقى هي هي لا تتغيّر. ولذا فإنه يُحمد للقائمين على تلك الندوة طرح قضايا الوسائط الحديثة للإعلام والاتصال، لا لأهميّة الموضوع في ذاته فحسب، ولكن أيضًا لما يموضعه هذا الطرح أمامنا من مشهدٍ بالغ الدلالة، هو بعينه حقلٌ جديرٌ بالتحليل والدرس. كانت الورقة التي شاركتُ بها تهدف إلى مناقشة وظيفة الإعلام العربيّ بين: (الإخبار) و(التثقيف)، وقياس مواكبة الثقافة العربيّة لتطوّر ثقافة الصورة: من السينما إلى "اليو تيوب"، وثقافة الكتابة: من الحِبر إلى الإلكترون. وفي نطاق ذلك تبحث الورقة في مدى تأثّر مقوّمات الثقافة العربيّة بالوسائط الاتصاليّة الحديثة، انطلاقًا من التساؤل حول وضع اللغة العربيّة في عصر الوسائط المتعدّدة، وأثر تلك الوسائط في الأدب العربيّ الحديث، وصولاً إلى مقاربة أحوال الثقافة العربيّة وأقنية التلقّي المعاصرة، عبر القنوات الفضائيّة، والإنترنت، وعتبات التحوّل من النشر الورقيّ إلى النشر الإلكترونيّ. وتأسيسًا على ما سبق، تناولت الورقة علاقة التعليم العربيّ بالتقنيات المعاصرة، ودوره في مواكبة التطوّر التقنيّ الحديث، واستثماره إيّاه في أداء الوظائف التربويّة والتعليميّة. كما تطرّقت في نهاية المطاف إلى المِلكيّات الفكريّة والإبداعيّة وحِفظ حقوقها في ظلّ تعدد وسائط النشر. -2- ومن المؤشّرات الدالّة في بحوث الندوة ومداولاتها يظهر ملمحان، هما لباب الإشكاليّات في ثقافتنا العربيّة: أ- الانشغال بالمجرّدات قبل معرفة الوقائع، والحكم على الواقع- الذي لا نعرف- بناء على هواجس وهميّة أو توجّسات خياليّة. فمن الأسئلة مثلاً: كيف نقرأ كتابًا على الإنترنت؟ وكيف سنتّقي الضرر على العيون؟! وهذا على طريقة جيلٍ مضى كان يسمِّي "التلفزيون": "تلف العيون"، لا حرصًا على العيون، بل حرصًا على رفض "التلفزيون". كما أن اللغة العربيّة، الضائعة اليوم بين وسائط التقنية الحديثة، منشغل أربابها- حسب ما طرق الأسماعَ في الندوة، وإن على سبيل الطرفة- بتسمية هذا الكائن الذي غزا عالمنا النائم: "الإنترنت". ماذا نسمّيه يا أمّة العرب؟ هل نسمية "شبكة عنكبوتيّة"، على ما للعناكب في مخيالنا من إيحاءات ودلالات، وبيوتها أوهن البيوت، كحال تعاملنا مع الإنترنت ونظرتنا إليها في هذا العصر؟ أم نسميها: "الشابكة"، ونكون بذلك قد شبكنا هذا الغازي العجيب في ما هو أقوى من "شبكة العنكبوت"، آخذين بقول (ابن الهباريّة، -509ه= 1115م): وَمِنهُمُ مَن يَجحَد المَلائِكةْ *** وَالجنَّ أَيضاً وَالأُمورَ الشابِكةْ فلا شكّ أن "الإنرنت" من "الأمور الشابكة" جدًّا، التي لا يمكن أن نجحدها، وإن كانت ما تزال في شَبَهٍ مُريب بالملائكة وبالجِنّ في تصوراتنا لماهيتها ووظائفها واستخداماتها. أمّا بعض هؤلاء اللغويين فقد تفتّق ذهنه عن اقتراح جديد، ساحق ماحق، هو أن نسمّي "الإنترنت": "المِعمام"! إذن لقد ارتضينا أن نخترع عجائب التسميات، وليخترع الآخرون عجائب الأشياء، ومنذ أكثر من مئة عام. مع أن التسميات والمصطلحات ليست بالقضيّة هاهنا، حتى على المستوى اللغويّ. ولقد دخلتْ مئاتٌ منها في ثقافتنا العربيّة، ولم تنشغل بها هذه الثقافة أيّام كانت فاعلة منتجة وجادّة، لا طفيليّة مستهلكة، كما هو واقعها المعاصر. وليست هناك أُمّة اليوم تنشغل بصناعة الكلمات لما تستورده من تقنيات، وإنما هناك أُمم تنشغل بصناعة تلك التقنيات نفسها، ومن ثَمَّ تأتي تسمياتها بلغاتها بطبيعة الحال. لأن اللغة حضارة، لا اختراع كلمات في الهواء. إنه تاريخ، إذن، من العطالة العربيّة، منذ "الشاطر والمشطور بينهما كامخ"، إلى "السيّارة"، التي ألغت في الأذهان دلالة مستقرة، وقرآنيّة، للسيارة بمعنى: القافلة، أو مرادفتها: "العربيّة"، التي اختطفت كلمة أخرى تتعلق هذه المرّة باللغة كلّها، لتطلقها على المركبة المعروفة. وهكذا، ظلّ همّنا: ماذا نسمّي؟ لا ماذا نُنتج؟ ولا يعني هذا موقفًا ضدّ التعريب- ولاسيما للمصطلحات- لكنه موقف ضدّ هذا الانشغال الطفوليّ بتسمية ما يصنعه الآخرون. وهي حالة بالغة الدلالة علينا، ثقافيًّا، وقبل ذلك حضاريًّا. ب- أمّا الانشغال الآخر، فانشغالٌ أخلاقيّ دينيّ رديف. ذلك أنه كما ينصبّ همّنا على إرغام كلّ ما صنع البشر ليتقمّص ألفاظًا عربيّة، غصبًا عن الذين خلّفوه، فإنه ينصبّ همّنا في الجانب الفقهيّ على النظر في حُرمة الشيء أو حِلِّه، قبل كلّ شيء. فالأصل قد بات في الأشياء الحُرمة، ولو من باب سدّ الذرائع، إلاّ أن هناك مجالاً للبحث عن مخارج، لعلها تبدو مسوّغات للتحليل. وهذا تاريخ قديم كذلك، بدأ بالراديو، ثم التلفاز، ثم الانترنت، ثم مؤخّرًا الفيس بوك.. ويخلق ما لا تعلمون.. كلّما أنبت العالم المتحضّر جديدًا بقينا عشرات السنين (فقط) لكي نتجادل في الاسم، وفيما إذا كان يخدش الدِّين أو لا يخدشه. والإشكاليّة هنا أن فقيهنا المعاصر لا يفقه غالبًا في هذه الأشياء إلاّ ما يقال له أو ما يوصف، فيبني عليه فتواه. مع أن الفقيه ما سُمّي فقيهًا إلاّ لفقههه بالواقع قبل فقهه بالنصوص. غير أن هذا هو ديدننا، وغاية أمرنا، ومنتهى هممنا في معترك الحياة والحضارة. -3- وفي بُعدٍ آخر، يقف فريق مقابل على طَرَفٍ نقيض. إلاّ أن العقليّة هي العقليّة، وإنْ اختلفت التوجّهات. إذ على الجبهة الأخرى للهمّ اللغوي، يبدو تمترس نقيضٌ لذاك الحريص على تسمية الإنترنت بالمِعمام. هو تمترس عامّي يواجه تمترسًا معماميًّا! يصرّ جنوده على أن اللغة العربيّة لا خوف عليها البتّة، وأن التشاؤم ينبغي أن نزيحه من أذهاننا، وأن الهوجاء اللهجيّة الحاليّة التي هبط إليها الإعلام بقوّة، وتبعه التعليم على استحياء.. ثم على غير استحياء، لا تأثير له في اللغة، ولا في الأدب، ولا في القِيَم الثقافيّة، أو الاجتماعيّة، أو الحضاريّة. وصاحبنا ينبري لهذه المرافعة المطمئنة إلى مستقبل العربيّة بخليطٍ مضحك من العاميّة الموغلة في عاميتها ولغات أخرى، فخور هو بمعرفة بعض مفرداتها الدارجة، كي يُقنع الآخرين بأن لسان العرب بخير وعلى خير ويقرئكم السلام! بل إن هناك- كما يرى بعض أتباع هذا المذهب- "ضرورات قصوى"، هكذا، وراء ذلك التلهيج الحاليّ للإعلام والثقافة! كيف؟ لأن الجماهير تريد ما تريد. والمعايير المبدئيّة الاستراتيجيّة للثقافة لم تعد ما تدور عليه محرّكاتُ الثقافة والإعلام، وإنما تدور على معايير العَرض والطلب، حسب السوق التجاريّة. بل إنه ليبرز ما هو أخطر من هذا المنطق اللا منطقي واللا مسؤول. من حيث إن انتقاد ظواهر العامّيّات أصبح معرّة انتقادٍ لعروبة هذا البلد أو ذاك! مع أن العروبة عروبة اللسان لا عروبة النَّسَب. والسؤال المحوريّ الموجع، والفاثئ للدمامل في هذه الحالة، هو: أ نريد أن نكون أُمّة واحدة، ذات لغة واحدة، حيّه، لا كهنوتيّة، تحمل هويّتنا، وتعبّر عن شخصيتنا المحترمة في العالم، وتربطنا تاريخًا وجغرافيا، أم لا نريد؟ فإن كانت الإجابة بنعم، فلا يستقيم أن نظلّ نلفّ وندور لإنكار أن العربيّة اليوم- ولاسيما في ظل وسائط الاتصال- مهدّدة في وجودها أكثر من أيّ وقت مضى، إنْ من داخلها بالعامّيات، أو من خارجها باللغات الأجنبيّة. إننا بتلك المغالطات إنما نكذب على أنفسنا، ونمارس الدجل المفضوح على السامعين. ومن شجاعة الرأي هنا وشرف الموقف أن نعلنها صريحة، بلا تلجلج: لا نريد أن نكون أُمّة واحدة، ذات لغة واحدة، بل شعوبًا وقبائل مختلفة اللغات، وأننا نرى اللغة العربيّة معيقًا أيديولوجيًّا، وفكريًّا، يحاصر تطلّعاتنا نحو الحرّية والتقدّم. حقًّا، لقد كانت (ندوة العربي) ندوة "العربيّ اليوم"، في تصدّعاته الرؤيويّة وتشظّياته القيميّة، التي لم تستطع وسائط الاتصال الحديثة وصلها، بل هي بالأحرى تمزّق منها ومنّا الأوصال أكثر فأكثر. أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي