سعيّد خلال زيارته إلى صفاقس والقيروان: لا مجال للتفريط في هنشير الشعّال    مناقشة الميزان الاقتصادي    قضية صناع المحتوى الخادش للحياء ...4 سنوات و6 أشهر سجنا ل «انستاغراموز»    103 ملايين دينار .. أرباح الإيجار المالي    مع الشروق .. القطاع السّياحيّ .. قاطرة الاقتصاد المُعطّبة    بنزرت...لهذه الأسباب.. الحِرف اليدويّة مهدّدة بالاندثار !    ارتفاع عدد قتلى السيول في إسبانيا إلى 140 قتيلا    حقيبة الأخبار: العمران تواجه سليمان في باردو وقاعة القرجاني تحوّلت إلى «لغز» كبير    كشفتها تصريحات البدوي : هل فقد سانتوس ثقة هيئة «السي .آس .آس»؟    فتح محضر عدلي للوقوف على ملابسات وفاة رضيعة حديثة الولادة عُثر على جثتها في مصب فضلات (مصدر قضائي)    فيما الأبحاث على أشدّها : العثور على جثتين آدميتين بالمرناقية و العاصمة !!!    معركة مسلحة بين عائلتين في المرناقية: قتيلان والقبض على 15 متورّطا    فيه ظلم مبين وإثم كبير.. هتك الأعراض في الإسلام !    هل ظلم الإسلام المرأة في الإرث؟!    منبر الجمعة: بلوغ الآفاق بسمو الأخلاق    غدا.. انطلاق المؤتمر الوطني الثالث لجراحة الصدر    الإدارة العامة للديوانة تمنح صفة متعامل اقتصادي معتمد إلى 17 مؤسسة جديدة    تقديرات صابة القوارص تتجاوز 14 الف طن في هذه الولاية    بلاغ تحديد الأسعار القصوى عند الإنتاج لبيع للدجاج الحي    وزارة الشباب والرياضة تقيم حصيلة المشاركة التونسية في الالعاب الاولمبية والبرالمبية باريس 2024 وتقدم استراتيجيتها لالعاب لوس انجلس    عاجل/ قتلى في قصف صاروخي من لبنان على اسرائيل    عاجل/ إيران تتوعّد إسرائيل بردّ قاس    الحمامات.. انطلاق أشغال المؤتمر السابع للجمعية التونسية للطب العام وطب العائلة    "فوضى الفضائيات".. قرارات صارمة ضد عدد من البرامج في مصر    مكافحة التهريب : حجز سلع ومنتجات مهرّبة ناهزت قيمتها 409،725 مليون دينار    الدخول إلى المتاحف والمواقع الأثرية والتاريخية مجانا يوم الأحد 3 نوفمبر 2024    الهالوين: أصل الاحتفال به وحقيقة كونه عيدا وثنيا    الترفيع في سقف التمويل وتبسيط الاجراءات الادارية أبرز مطالب أعضاء مجالس ادارة الشركات الاهلية    تأجيل مباراة ريال مدريد وفالنسيا بسبب الفيضانات    تصفيات كاس امم افريقيا (المغرب 2025):تغير طاقم تحكيم وملعب مباراة مدغشقر – تونس    الليلة: امطار متفرقة ورياح قوية بهذ الجهات    ثلاثة أفلام تونسية ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي    محطة استخلاص سيدي ثابت : حجز كميات من المخدرات وايقافات بالجملة    إنتقالات: ريال مدريد يرحب ببيع أحد نجوم الفريق    عاجل/ معركة بين عائلتيْن بهذه الجهة تُسفر عن قتيلين والاحتفاظ ب14 شخصا    كريدة اليد : موعد كلاسيكو الترجي و النجم و بقية المباريات    فرك العينين بطريقة مفرطة يؤدي إلى الإصابة بإضطراب "القرنية المخروطية"    الصحة العالمية: تسجيل مستوى قياسي لحالات الإصابة بالسل    الدورة 28 للمهرجان الدولي للاغنية الريفية والشعر الشعبي بالمزونة    باجة: انطلاق الموسم الزيتي وغلق 4 معاصر شرعت فى العمل قبل الافتتاح الرسمي للموسم    باجة: إخماد حريق بمحل لبيع الدهن والمحروقات بالمدينة    عاجل : رجة أرضية بقوة 4.1 درجة تضرب هذه الدولة العربية    تركيبة أعضاء مكتب ولجان مجلس الجهات والأقاليم    بعد توقّف دام قرابة العامين : المسلخ البلدي بقبلي يعود للعمل    حي هلال: الإطاحة بمروجيْ مخدرات وهذا ما تم حجزه..    خلال زيارة أداها إلى القيروان رئيس الجمهورية يأذن بترميم الفسقية    محتوى مخل بالاخلاق على "التيكتوك": القانون التونسي سيطبق على هؤلاء..#خبر_عاجل    الإعلان عن جوائز الدورة 19 من مهرجان أيام السينما المتوسطية بشنني    تتويج تونسي في الدورة الرابعة من مهرجان أيام كربلاء الدولي للمسرح بالعراق    الاتحاد الأوروبي لكرة القدم يتعهد باستثمار مليار أورو لتطوير الكرة النسائية    فلكيا.. متى يبدأ شهر رمضان2025 ؟    عاجل/ رئيس الدولة يكشف عن عملية فساد مالي واداري في هنشير الشعّال..    في لقطة مثيرة للجدل: ترامب يصل إلى تجمع انتخابي بشاحنة قمامة    صور وفيديو: رئيس الجمهورية في زيارة غير معلنة إلى هنشير الشعال وبئر علي بن خليفة والقيروان    رئيس الجمهورية يؤدي زيارة غير معلنة إلى "فسقية الأغالبة" بولاية القيروان    مفزع/ منظمة الصحة العالمية: 8 ملايين شخص أصيبوا بالسل الرئوي في 2023    عاجل : وفاة الممثل المصري المشهور مصطفى فهمي    لا تنهدش .. كنت يوما صديقي .. اليوم تيقنت اننا لا يمكن ان نواصل …عبد الكريم قطاطة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغرب مريض بالغرب ... (2-3)
نشر في الفجر نيوز يوم 26 - 03 - 2010


لا حل من دون قيام دولة فلسطينية
تأليف: مارتين بولارد وجاك ديون / ترجمة وعرض: بشير البكر
الغرب يعيش اليوم مثل قلعة محاصرة . ملغوم من الداخل بسبب أزمة بنيوية مستدامة . إنه يرى زعامته محط انتقاد وتشكيك متصاعدين، كما يحس بنفسه يتعرض لهجمات من العديد من “الأعداء” الخارجيين . وذلك في الوقت الذي تنسى النخب بأن الغرب لا يمثل إلا قسماً من البشرية وأن قوى أخرى، قديمة أو جديدة، لها الحق في المطالبة بمكان لها على الخريطة العالمية . وهي تتعمد عدم التذكير بأن الهيمنة الغربية لم يكن لها وجود دائم . إنها تنسى التبادلات الأبدية بين الحضارات، وبين الثقافات، وبين الشعوب، التي شيدت أسس حضارة إنسانية، لا يمكن لأحد أن يعلن عن احتكاره لها .
هذه هي الاطروحة الأساسية للكتاب الصادر حديثا في باريس عن دار “فايار” للكاتبين الفرنسيين مارتين بولارد وجاك ديون، تحت عنوان “الغرب المريض بالغرب” . يحاول الكاتبان، مارتين بولارد، المديرة المساعدة في شهرية “لوموند ديبلوماتيك”، والمسؤولة عن قطاع آسيا، وهي مؤلفة كتاب “ الصين والهند، سباق التنين والفيل”، وجاك ديون، المدير المساعد في أسبوعية “ماريان”، تقديم خطاب يخالف الخطاب السائد، عبر “بانوراما” واسعة من الأحداث الدولية خلال السنوات الأخيرة، من الأزمة الجورجية في أغسطس/آب 2008 وانتخاب باراك أوباما، مروراً بعودة فرنسا إلى حضن حلف الأطلسي .
وبدل التقوقع على أساطير اختفت مع القرن العشرين، حان الوقت، في نظر الكاتبين، أن نأخذ في الاعتبار المعطى الجديد وتحديد شمولية جديدة . ما هو المرض الذي ينتاب الغرب إن لم يكن كونه مريضاً من نفسه؟
لا يمكن أن نفهم مآسي العالم العربي الاسلامي من دون استحضار القضية الفلسطينية والدعم اللامشروط من قبل الأمريكيين ل “إسرائيل” . “وهو ما يغذي التطرف وليس لأن الاسلام عدواني بطبيعته”، ويذهب الكاتبان إلى أن حل المشكلة الفلسطينية لن يحلّ كل المشاكل العالقة: “إن ظهور دولة فلسطينية قابلة للحياة، بجوار دولة “إسرائيلية” آمنة، لن يخلّص من عدم الفهم ما بين الإسرائيليين والعرب المسلمين . لكن من دون دولة فلسطينية، لن يكون في الامكان حل أي شيء . ويمكننا أن نتوقع الأسوأ، مثل ما حدث في غزة في يناير/كانون الثاني 2009” . وعلى الرغم من إمكانية تحميل هذا الطرف أو ذاك مسؤولية الصراع واستمراره، فإن الكاتبين كانا صريحين في تحميل “إسرائيل” مسؤولية إضافية: “في نهاية المطاف تبقى “إسرائيل” هي من ينتهك مجمل قرارات الأمم المتحدة، وتنهك نفسها في جعل الدولة الفلسطينية القابلة للحياة مسألة صعبة جدا إن لم تكن مستحيلة” .
أحيانا يلجأ الكاتبان إلى تعميمات، من قبيل أن جميع الديانات التوحيدية تضطر إلى إلغاء الآخر، وحين يتعلق الأمر بالاسلام يحذراننا من السقوط في اليوتوبيا، لكنهما سرعان ما يعودان ليعترفا أن الاسلام كان أكثر تسامحا مع اليهود من المسيحيين .”لقد ثبت تاريخيا أن العلاقات ما بين اليهود والمسلمين كانت أقل عنفا، بشكل ظاهر، من العلاقات اليهودية المسيحية التي انطبعت بعداء عنيف لليهودية” .
يستحضر المؤلفان الأديب اللبناني أمين معلوف وخصوصا كتابه اللافت: “الهويات القاتلة” . حيث يرسم الكاتب ماضياً خالداً عن العرب المسلمين، أين منه العرب اليوم . يتحدث معلوف عن الحالة التي وجد المسلمون أنفسهم فيها بعد انهيار الحكم الاسلامي: المنفى أو التعميد الإلزامي أو القتل . ويقارنها بتسامح عربي كبير أيام عظمته . ويرى أن المسلمين أرسوا ما يسميه: “بروتوكول التسامح”، في فترة كانت المجتمعات المسيحية لا تقبل فيها أي صوت نشاز . ولا يخفي المؤلفان تحسرهما على السياسة الغربية التي تدفع الغرب إلى اتباع سياسات “تتبنى الذين يختارون تصرفات غير متسامحة وتوتاليتارية” . وظهر الأمر في معاداة عبد الناصر في مصر، ونفس الشيء فعلته “إسرائيل” بتسهيلها لنشوء حركة حماس، من أجل شق حركة التحرر الوطني الفلسطيني .
وبطبيعة الحال الأمر ليس بهذه البساطة .فالغرب لم يعرف مصالحه جيدا منذ عدة قرون،فلا عبد الناصر كان يمكن أن يكون ربيباً للغرب،ولا حركة حماس تم خلقها من جانب “اسرائيل” . وذلك في الوقت الذي يتعمد بعض المثقفين غض الطرف عن اسهامات الحضارة العربية وأيضا إسهامات الحضارتين الصينية والهندية . وفي نظرهم: “ليس من نقاش ممكن . الحداثة، تحديدا، غربيةٌ”، ومن بين هؤلاء المثقفين، أو أشباههم، الذين يستحضرهم المؤلفان: إيلي برنابي السياسي والمؤرخ “الاسرائيلي” حين يكتب في مؤلفه الحديث: “الديانات القاتلة”، وهو عنوان غير بعيد عن عنوان كتاب معلوف (الهويات القاتلة): “لا يمكننا أن نولي أهمية الفضول في توسع الغرب الفاتح ما يستحق من الأهمية . المسلمون ليس لديهم فضول . هم أتباع الإيمان الحق ومقتنعون بتفوق حضارتهم، فلا يكتفون باحتقار الغرب، الذي يرونه متوحشا بشكل غير قابل للتغيير، بل يتجاهلونه” .
ويفند المؤلفان آراء برنابي، ويريان أن: “مكتبة الخليفة الحَكَم الثاني (961-976)، في قرطبة، كانت تحتوي على 400 ألف كتاب . وإذا ما قارنّاها بمكتبة الملك شارلمان الخامس ملك فرنسا (1364- 1380)، وهو مشهور برعايته للعلم، فإنها لم تكن تتجاوز 900 مؤلف . هل كان ملك فرنسا ينقصه “الفضول”؟ ولم يكن نبلاء قرطبة، وهم قراء مواظبون، يترددون في بذل أموال باهظة من أجل تمويل أعمال العلماء . وقد استمر الاجتهاد إلى فترة متأخرة مبرهنا على أنه لا توجد أية قدرية تجعل اتباع دين النبي محمد يمنع النقد العقلاني للنصوص المقدسة” .
ولكن الزمن تغير وسقط العالم العربي الاسلامي في الظلام، وهو ما يفسره الكاتب الليبرالي دافيد كونساندي بالقول: “جمود الحضارة الاسلامية الغامض، نهاية الفكر الخلاّق، الانطواء على الذات والتقليدية الجامدة، يمكن تفسير هذا بالافلاس الاقتصادي والانقسام غير المستقر” .
أسطورة الاستثناء الغربي
غي سورمان، مفكر وكاتب ليبرالي فرنسي . ويتميز بنظرته الدونية لكل ما ليس غربيا . ويذهب إلى درجة التصريح: “لحد الساعة لم يمنحنا التاريخ أي مثال عن تحديث تم خارج الغرب” . وهو ما دفع الكاتبين إلى اعتباره “جهلا رهيبا بالتاريخ”، ولكن أنثروبولوجياً بريطانيا، وهو جاك غودي، يصحح القضية بتأكيده على عدم وجود “استثناء غربي”، بالمفهوم الحقيقي للمسألة . والأمر في ما يخص الحداثة الغربية ليس سوى دوران لعقرب الساعة، فقد كان زمن ولّى كانت فيه العقارب تتجه نحو العالم العربي الاسلامي . “في كثير من الميادين كان العالم الاسلامي متقدما على أوروبا . وكانت مدنه باهية، على صورة القسطنطينية، التي كانت أكبر من أي عاصمة أوروبية . وقد أتاحت ذهنية التسامح لعدد من اليهود أن يدخلوا في خدمة السلطان، على صورة سليمان الأول، الذي حكم بيروقراطية تدير 14 مليونا من البشر” .
في هذه الحركة كل حضارة تغتني من حضارات أخرى . ولكن رغم هذا فإن الكثيرين لا يزالون يرون في “المعجزة الأوروبية”، ابتداء من القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر البرهنة على التفوق الثابت على باقي العالم، تبعا للعديد من مدارس المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع والاقتصاديين من ذوي المصداقية”، ولكن الحقيقة هي أنه لا يمكن إغفال دور الحضارات الأخرى في إغناء الحضارة الغربية، ولعل الأنثروبولوجي البريطاني الكبير جوزيف نظام رسم صورة جادة عن إسهامات الحضارة الصينية والعربية في رقي وتفوق أوروبا الحالي، ولا ينكر الأمر إلا جاحد .
ويذهب المؤلفان إلى رأي قريب من هذا حين يكتبان: “لقد استفادت أوروبا من الحضارات الآسيوية بفضل المبادلات العديدة مع الشرق الأوسط، في وقت كانت فيه إفريقيا الشمالية وآسيا متفوقتين على أوروبا بفضل الاحتلال (هكذا يكتب المؤلفان) الاسلامي ووصول المسلمين (واليهود، أيضا) الذين طردوا من إسبانيا” . كثير من الأسئلة تطرح من أجل تفسير التفوق الغربي . ومن بينها: لماذا حدثت الثورة الصناعية في أوروبا وليس في مكان آخر؟ من المؤكد أنه حدث التقاء ظواهر أتاحت التطور، ومن بينها انفجار المعارف . وهنا يورد المؤلفان استشهادا للأنثروبولوجي جاك غودي (من كتابه، الشرق والغرب، دار لوسوي، 1999): يقول فيه: “ما نطلق عليه تعبير “تفرد” الغرب، ارتبط بهذه القفزة الرائعة إلى الأمام للمعارف، وهي نتيجة، من جهة، للّحاق وتجاوز التأخر السابق، ومن جهة ثانية، للتغيرات في ميدان الاتصالات”، ومن بين التفسيرات الأخرى للتفوق الغربي، أن أوروبا كان لها امتياز تاريخي متمثل في كونها: “إطاراً جغرافياً لصراع عنيف ودموي، بين تصورين للأمر الأرضي: الأول يرتكز على الديني، القادر الوحيد على شرعنة تفوق الجهاز الدولتي، والثاني الذي يجعل من السيادة الشعبية الضامن للشرعية” ويستعرض الكاتبان مجموعة من المفكرين الذين يلحون على تميز الفكر الغربي ونمط عيشه، ولكن من حسن حظنا أنهما يُحضران رأيا غربياً مخالفاً لهذا الفكر المركزي الغربي .
بيير لوجوندر، يحذرنا مما يسميه “منطق المرآة” . “حيث الغرب يريد أن يُعادَ إليه، دونما انقطاع، خطابُهُ وقِيَمُه ومرجعياته . ولتعذّر إمكانية تدمير الثقافات الأخرى يريد (الغرب) إدماجها” . ويواصل بيير لوجوندر موقفه الثاقب: “أنا أخشى تأثيرات الانغلاق الشمولي في الاستغراب ( . . .) الغرب ينقصه، وإذا (ينقص) لتغريب العالم، مبضع نظرة أجنبية (غربية) على الشيء الغربي؛ نحن في حاجة إلى عودة صُوَر وخطاب يطرح على الغرب سؤال هويته، أي غرابته الخاصة به” .
ويرى الكاتبان أن بعض الذين يدافعون عن العلمانية يبالغون في تقريظ الحداثة إلى درجة تحويلها إلى دين . ويفضح الكاتبان أحد رموز التفكير الضيق، وهو رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق إدوارد بالادور . وقد ألف كتاباً يدافع فيه عن نظريته الغربية، ومن العنوان نستشف ما هو جوهري: “من أجل اتحاد غربي بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية” (فايار/ 2007) .
وقد قال في محاضرة في “ناشيونال بريس كلوب” في واشنطن، مدافعاً عن كتابه ونظرياته: “المجموع الأوروبي الأمريكي يشكل اليوم ساكنا واحدا من كل ستة على الكرة الأرضية، وفي ثلاثين سنة سيمثل ساكنا من كل تسعة أو عشرة . وإذاً فمن مصلحتنا شراكة وثيقة، بين بعضنا البعض”، ولكن المؤلفين يسألانه: “شراكة، لكن ضد من؟”
ويذهب بالادور في كتابه إلى أن الغرب يشبه اسبارطة في الوقت الذي بدأت فيه أثينا تشكك في تفوقها . ويتحدث عن شعور بالتهميش بل والحقد يتعرض له العالم الغربي ومن هنا مناداته بخلق “المجموع الأورو - أمريكي” . يتعلق الأمر ب “الاتحاد الغربي” الذي تم تصوره من أجل الدفاع عن “القيم الروحية” الخاصة، و”الأخلاقية المتقاربة”، ومن بينها الإيمان المسيحي و”اقتصاد السوق” و”المنافسة” .
وبحق يختم المؤلفان هذا الفصل بشيء من التفاؤل والتسامح: “مثل مسيح أمام حوارييه، في انجيل متى، لدينا رغبة في الصراخ: “لا تخافوا!” إن الغرب، إذا كانت هذه الكلمة لا تزال تعني شيئاً، ليس مهددا في شيء . إن ما هو محل تشكيك تبقى هيمنته وإراته في إدارة العالم، وفي قول الخير والشر، وتحديد الطيب والشرير والتمييز ما بين العادل والجائر” .
إن نهاية هذا العالم، كما يقول لنا المؤلفان، بحق، ليست نهاية العالم، بل إنها فقط ولادة عالم جديد .
أوباما رمز ماذا؟
في الفصل الثاني من الكتاب الذي يحمل عنوان “باراك أوباما، رمز ماذا؟”، يقول الكاتبان: صحيح أن لا أحد تخيل يوما أن يكون للولايات المتحدة الأمريكية رئيس اسمه باراك حسين أوباما . ويتساءلان بعد مرحلة الامبراطورية ذات وجه حربي، هل أصبح لها لأمريكا، الآن، وجهٌ إنساني؟
يرى المؤرخ الأمريكي إيريك هوبسباون أن: “أمريكا فشلت في محاولة إرساء امبراطورية عالمية، هيمنة أحادية الجانب بشكل مطلق مرتكزة فقط على قوة وتأثير وثروات الولايات المتحدة الأمريكية من دون إعارة الانتباه لأحد” .
مع باراك أوباما أصبح من الممكن، أخيرا، الخروج من الاختزالات الهدامة للعصر البوشي، قرون وسطى الجيو- سياسة . وبشكل مفاجئ سمع العالم العربي صوتا للغرب لم يعد يتحدث باحتقار السيد وهو يتوجه إلى خادمه . صوت يعترف أنه من دون الشرق ما كان للغرب أن يوجد؛ وبأنه من دون الغرب فإن الشرق سيكون محكوماً عليه أن يظل عند عتبات الحداثة .
ومن المعطيات الجديدة للقرن الجديد هو أن واشنطن فقدت اليد المالية وأيضاً الدبلوماسية، سواء في العراق أو أفغانستان أو حتى في القوقاز، مع جورجيا . ومن دون شك فإن الرئيس أوباما لديه الطموح في استعادة ولو جزء من العظمة الأمريكية . ولكن زمن الأحادية القطبية قد ولى .
ويبدو أن القائلين باضمحلال القوة الأمريكية الأعظم كُثُر: فها هو المنظر الكبير للانتصار الأمريكي، فرانسيس فوكوياما، ينضم إلى هؤلاء، في “الهيمنة الأمريكية في مأزق” ويكتب سنة 2007: “حين كتبتُ” نهاية التاريخ “قبل عشرين سنة تقريبا، ولم أفطن إلى أي درجة يمكن لأخطاء الولايات المتحدة أن تجعل من معاداة أمريكا، على المستوى العالمي، إحدى نقط الضعف الرئيسية للعلاقات الدولية” .
وعلى الرغم من أن فوكوياما يستهين بالفشل المتولد من الليبرالية نفسها، إلا أنه يلامس حقيقة أن: “أمريكا لن تكون أبدا القوة العظمى العالمية الوحيدة التي تمنت أن تكونها إلى الأبد” . زمن مادلين أولبريت التي كانت تتبجح، في شباط /فبراير 1998: “نحن الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها، نظل واقفين . وننظر بعيداً، في المستقبل” . ولّى .
ويبقى الاستثناء الأمريكي كامنا في كونه لم يتخذ شكل سابقه، أي الامبراطورية البريطانية، التي اشتهرت بتوسعها الجغرافي الرهيب . فحين احتفلت الملكة فكتوريا بيوبيلها الماسي يوم 22 حزيران 1897 كان مواطن من كل أربعة في العالم تحت الراية البريطانية .
القرن الأمريكي
أمريكا كانت البلد الوحيد الذي امتلك وسائل طموحه . من احتكار القنبلة الذرية، التي استخدمتها من دون رادع نفسي ضد سكان مدنيين يابانيين، إلى امتلاك أسطول بحري يتفوق على كل منافسيها، وعلى جهاز إنتاج تم تحديثه، وقواعد عسكرية موسعة بفضل قواعد تخلى عنها الجيش البريطاني في المحيطين الهندي والهادي .
وهكذا عشنا قرنا أمريكا (القرن العشرين)، لكنه لم يخْلُ من علامات ضعف وقلق، لعلّ من بينها الهزيمة في فيتنام وصعود القوة الاقتصادية اليابانية، ولكن قدرة أمريكا على استعادة كل شيء، على الصعيد الاقتصادي (شركات السيارات اليابانية، مثلا، مدعوة إلى العمل على التراب الأمريكي)، وعلى الصعيد الأيديولوجي (قدرة السينما الأمريكية على عدم إخفاء فظاعات الحرب)، منح لها قوة لا تُقاوَم . وهذه المكانة جعلت أمريكا ترى نفسَها، كما يرى المؤلفان، الأمّة المنارة، المرشد الأعلى للكرة الأرضية برمتها، ناسبة انهيار الاتحاد السوفياتي لسبب وحيد هو جاذبية نموذجها الاقتصادي والسياسي . ولكن، “خلافا لما يمكن أن نتصوره أحيانا، فإن هذه العجرفة، الذي غذاها جهلٌ بواقع العالم، لا تعود فقط لعصر بوش” .
في سنوات التسعينات من القرن الماضي، وبعد نهاية الحرب الباردة، كانت ثمة فرصة لأقلمة المؤسسات الدولية مع القوى الصاعدة . “لكن واشنطن اختارت تقوية الاتفاقات السابقة” . وليس ثمة فرق كبير في تقوية الموقف الأمريكي، بين الديمقراطيين والجمهوريين .
في سنة 2000 أطلق الرئيس كلينتون فكرة “رابطة للديموقراطيات”، الهدف منها الالتفاف حول منظمة الامم المتحدة، واستطاع أن يجمع في وارسو 108 بلدان يفترض أنها تنتمي إلى “المعسكر الغربي” .
وقد اختارت أمريكا هذه الدول بعناية ومن كل القارات: جنوب إفريقيا، الشيلي وكوريا الجنوبية ومالي والمكسيك وغيرها . . . وهي تلتزم في الإعلان النهائي: “تأسيس رابطة للدول الديموقراطية، أو بصيغة أخرى مجموعة دول ديموقراطية بهدف تقوية القيم والمؤسسات الديموقراطية” . لكن فرنسا، تحت حكم الرئيس جاك شيراك، رفضت التوقيع على هذا النص .
ومن أجل إنجاز رابطة الديموقراطيات يتوجب مواجهة أعداء جدد: الأمم المتحدة والتعددية القطبية التي تسبب الشلل؛ الصين الشعبية وطموحاتها، روسيا وعودتها إلى الساحة، وبصفة عامة، كل من يعارض، بطريقة أو بأخرى، الطموحات الأمريكية .
أراضي أكبر قوة مسلحة في العالم لم تتعرض لأدنى هجوم منذ قرنين، تعرضت في الحادي عشر من سبتمبر 2001 لهجوم من قبل جماعة من المتطرفين الذين يعلنون عن انتمائهم لتنظيم القاعدة . وعلى مرأى كل العالم شوهد البُرجان وهما يهويان حاملين معهما آلافا من القتلى والجرحى .
ويرى الباحثان أن الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعرضت للإهانة، ومن دون أن تتمعن في أسباب درجة الحقد، دقت ناقوس الانتقام . وانطلقت “الحرب المقدسة” . الحرب “الصليبية” التي أطلقها بوش الابن رداً على جهاد أسامة بن لادن .
نظرية “صدمة الحضارات” التي نشرها بنجاح صموئيل هنتنغتون منحت ما يشبه بريقا فكريا للسياسة التي تختزل العلاقات الدولية في مواجهة ما بين الغرب اليهودي- المسيحي والشرق الاسلامي، المتوحش بالضرورة .
ويستعيد الكاتبان خطابا مهلوساً للرئيس بوش الابن، وهو خطاب شبيه بخطب دعاة القرون الوسطى، أمام الأكاديمية العسكرية في ويست بوانت في 2 يونيو/حزيران من سنة 2002 الذي حدد فيه سياسته الجديدة: “لا يمكننا أن نثق في المستبدين الذين يوقعون، بصفة رسمية، معاهدات عدم الانتشار والذين ينتهكونها دونما انقطاع . لو أننا انتظرنا أن تحقق التهديدات أهدافها فإن علينا أن ننتظر طويلا ( . . . .)، لا يمكن الانتصار في الحرب ضد الإرهاب إذا ما بقينا في وضعية دفاعية . إن علينا خوض المعركة ضد العدو، وإرباك خططه واستباق أخطر تهديداته قبل أن يتم تصميمها . في العالم الذي نَلِجه الطريق الوحيدة التي تقود إلى الأمن هي طريق الحركة . وهذا البلد سيتحرك ( . . .) إن أمننا يستلزم إحداث تحويل في الجهاز العسكري الذي تديرونه، وهو جهاز عسكري يجب أن يكون جاهزا للضرب في أسرع الأوقات في المناطق الأكثر انزواء في العالم” .
الهدف الذي لا يخفي نفسه من وراء كل هذا هو: “إعادة قولبة الشرق الأوسط إلى منطقة واسعة تحت تأثير أمريكي، مع الديمقراطية شعارا والبترول ضماناً”، وقد انضم لهذه الرؤية البوشية عن الشرق الأوسط الجديد مجموع النخبة الأمريكية، تقريبا، من جمهوريين وديمقراطيين ورجال أعمال ورجال الثقافة . ولكن بعد طرد الرئيس صدام حسين ثم قتله، لم تنعم أمريكا بعد بنعم العراق، فالبلد ملغوم بالصراعات الطائفية والاثنية، ولم يكن الحقد على الأمريكان بهذه الدرجة، ومن هنا فإن الوضع يحتاج إلى مهارة رئيس أمريكي جديد .
ويستحضر الكاتبان رأي المعلق السياسي الأمريكي فريد هاليداي الذي يشير في كتابه: “ما بعد العالَم الأمريكي”: “حرب العراق، الذي يحتوي على ثلث احتياطات النفط العالمي، تسببت في مليوني لاجئ . حين ترون إلى الشرق الأوسط يفاجئكم كون “المشكل الصغير” العراقي زعزع المنطقة بشكل كامل وجعل السياسة الأمريكية غير شعبية” .
وليس غريبا أن يصدر هذا القول من هذا المفكر الذي كان مؤيدا لغزو العراق قبل أن ينقلب على نفسه ويعبر عن خطئه .
كتب: “كنت أعتقد أن عراقا حديثاً ومعتدلاً في قلب الدول العربية سيساعد على كسر الاختلالات في العالم العربي . ولكن بعد مرور الوقت قدّرتُ أني لم أهوّن فقط من عجرفة ولا كفاءة إدارة بوش ولكن هونتُ أيضاً من المصاعب المتعلقة بالمهمة .”ويعلق الكاتبان على اعتراف فريد هاليداي بأن: “ الأمر يتعلق بحقيقة تفرض نفسها: لا يمكن فرض نموذج ديموقراطي مزعوم على وقع المدافع” .
ويرى الكاتبان ان المثال الأفغاني دال، لأن أمريكا ذهبت وحدها لمحاربة طالبان لكنها وجدت نفسها تطالب العوْن من أصدقائها . وقد حاولت أمريكا في أفغانستان تنفيذ فلسفتها التي أثبتت فعاليتها في العراق والمتمثلة في أن “القوة تستطيع فعل كل شيء” . ولكن لن تنجح أمريكا في مشروعها الأفغاني: “وبن لادن وأصدقاؤه أحرار مثل الريح، وشبكاتهم لا زالت نشيطة دائما . وإعادة البناء الموعود ليس على موعد، وليست إرادة الرئيس الجديد باراك أوباما في تعبئة جنود إضافيين قادمين من أوروبا هي التي ستغير المعطى”، والخلاصة هي التالي، كما يراها الكاتبان: “نادراً ما تأتي السعادة على عقب بندقية” .
يأخذ الكاتبان مثال إيران وكوريا الشمالية، حيث يأتي الرد على الاستفزاز الأمريكي باستفزاز آخر من الدولتين . كوريا الشمالية أعلنت عن تفجير نووي والرئيس الإيراني لا يتوانى عن تهديد الغربيين . يستخدم الغرب سلاح: “الاستفزاز رداً على الاستفزاز، وبالانزلاق الخطابي واللفظي والعسكري، على أمل تعبئة معارضة الداخل لإسقاط الأنظمة القائمة، ولكن الأمر يتعلق، في أفضل الحالات، بِوَهم”، والتعليق اللاذع: “إن السلام لن يكون على رؤوس المدافع” .
تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية في الآونة الأخيرة للعديد من مظاهر الفشل . فالهند التي تريدها أمريكا قوة في مواجهة الصين لم تأخذ بعد الوزن المطلوب، وإن كان هذا التقارب الهندي الأمريكي يبدو أنه النجاح النسبي الوحيد، ومعنى هذا أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد اللاعبة السياسية الوحيدة في المنطقة . كما أن أمريكا كانت غائبة أثناء الصراع المسلح الروسي - الجورجي . كما أن أمريكا خسرت أمريكا الجنوبية التي كانت تعتبرها الحديقة الخلفية لها . حيث جاءت أنظمة لا تكن ودّا كبيرا للولايات المتحدة ومنها دول فنزويلا والإكوادور وبوليفيا وباراغواي . وقد “أنشئ بنك لأمريكا الجنوبية، يجمع سبع دول من المنطقة وهي الارجنتين وبوليفيا والبرازيل والإكواتور والباراغواي والأوروغواي وفنزويلا” .
كل هذا قاد إلى ما يسميه الكاتبان ب “زمن الغطرسة الأمريكية ولّى”، وهو ما يؤدي بالطبع إلى ظهور “قِوى جديدة ترفع من صوتها” . ومن بين هذه القوى فنزويلا والصين وروسيا وغيرها . وأصبحنا نسمع ونقرأ تصريحات كنا نعتقدها صدرت من فم شافيز رئيس فنزويلا فإذا هي لمسؤولين صينيين: “الآن يتوجب على معظم بلدان الكرة الأرضية، تقريبا، أن تتخذ خطوات فيها مخاطرة بسبب الأزمة المالية الأمريكية، بينما تختفي مسببة هذه الفتن، أي الولايات المتحدة الأمريكية، خلف مظلة الدولار الحامية، وهي تحمي مصالحها الضخمة . تستيقظ الشعوب في هلع شامل وتستنتج أن الولايات المتحدة الأمريكية تستفيد من هيمنة الدولار من أجل فرض أرباح على الثروات العالمية . مع أن الدولار الأمريكي توقف عن أن يكون جديرا بالثقة . والنتيجة هي أن دوره في التجارة العالمية يجب أن يتعرض للكسر” . ولحسن الحظ أن تقلص النفوذ الأمريكي منح الفرصة لظهور دُوَل، ولظهور يقظة سياسية عالمية، طبعتها عودة دول تجتمع حين ترى الأمر مفيداً . مثل الصين والبرازيل اللتين أفشلتا مفاوضات منظمة التجارة العالمية حول القضايا الزراعية، التي كانت ستضعف الفلاحين في بلديهما . كما أن الصين وروسيا والجمهوريات الآسيوية السوفييتية السابقة المنضوية تحت منظمة تعاون شنغهاي مع الهند وإيران وباكستان، كملاحظين، تواجه، مجتمعة، مشاكلها بعيداً عن المنظمات التي توجهها واشنطن .
والخلاصة، كما يراها الكاتبان أنه: “بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وبالنسبة للغرب، المتعود على وضع نفسه في الزعامة، لا يتعلق الأمر بتغير بل بثورة” .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.