رئيس الجمهورية يأذن بعرض مشروع نتقيح الفصل 411 من المجلة التجارية على مجلس الوزراء بداية الأسبوع المقبل    عضو هيئة الانتخابات: حسب الاجال الدستورية لا يمكن تجاوز يوم 23 أكتوبر 2024 كموعد أقصى لإجراء الانتخابات الرّئاسية    تونس حريصة على دعم مجالات التعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ( أحمد الحشاني )    مسؤول باتحاد الفلاحين: أضاحي العيد متوفرة والأسعار رغم ارتفاعها تبقى "معقولة" إزاء كلفة الإنتاج    تونس تشارك في الدورة 3 للمنتدى الدولي نحو الجنوب بسورينتو الايطالية يومي 17 و18 ماي 2024    المنستير: إحداث اول شركة أهلية محلية لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين بجرجيس مخبأة منذ مدة (مصدر قضائي)    الترجي الرياضي يكتفي بالتعادل السلبي في رادس وحسم اللقب يتاجل الى لقاء الاياب في القاهرة    كاس تونس - النجم الساحلي يفوز على الاهلي الصفاقسي 1-صفر ويصعد الى ربع النهائي    الحرس الوطني: البحث عن 23 مفقودا في البحر شاركوا في عمليات إبحار خلسة من سواحل قربة    طقس... نزول بعض الأمطار بالشمال والمناطق الغربية    المنستير : انطلاق الاستشارة لتنفيذ الجزء الثالث من تهيئة متحف لمطة في ظرف أسبوع    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    مهرجان «بريك المهدية» في نسخته الأولى: احتفاء بالتّراث الغذائي المحلّي    عمر الغول.. الولايات المتحدة تريد قتل دور مصر بالميناء العائم في غزة    ملتقى وطني للتكوين المهني    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ صفاقس: انقاذ 52 شخصا شاركوا في 'حرقة' وإنتشال 4 جثث    عاجل/ ضبط 6 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم في 4 ولايات    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    الإنتخابات الرئاسية: إلزامية البطاقة عدد 3 للترشح..هيئة الإنتخابات تحسم الجدل    آمر المركز الأول للتدريب بجيش الطيران صفاقس: قريبا استقبال أول دورة للجنود المتطوّعين    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    بقلم مرشد السماوي: كفى إهدارا للمال العام بالعملة الصعبة على مغنيين عرب صنعهم إعلامنا ومهرجاناتنا!    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    ليبيا: اشتباكات مسلّحة في الزاوية ونداءات لإخلاء السكان    القيمة التسويقية للترجي و الأهلي قبل موقعة رادس    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    داء الكلب في تونس بالأرقام    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    كمال الفقي يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    حفل تكريم على شرف الملعب الإفريقي لمنزل بورقيبة بعد صعوده رسميا إلى الرّابطة الثانية    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محاولة في النقد اللغوي لما ينشره الاستاذ عبد السلام المسدي : بلقاسم الهمامي


دفاعاً عن العربية 1)
عبدالسلام المسدّي
________________________________________
الأستاذ المسدي تقلب في مناصب سياسية في كثير من الأحيان لاتخلو من شبهة سواء في الوصول إليها أو في ممارستها و هذه في الحقيقة سمة سلبية غلبت على كثير من المثقفين أو لنقل الجامعيين التونسيين من أمثال محمد اليعلاوي و محمد عبد السلام وغيرهم ممن كانوا يمثلون مثقفي السلطة حسب التعبير القرامشي و من هنا فإن تخلي السلطة عن مثقفيها بعد أداء الدور المناط بعهدته من شأنه أن يساهم في عودة الوعي إذا اقترضنا العبارة من توفيق الحكيم و لكن هل يمكن اعتبار كتابة المثقف العائد ذات مصداقية علمية ؟ أو هي مجرد ردة فعل عن التخلي الحاصل؟
أمام الخيبات التي طالت النخب العربية خلال أعوام هذين العقدين والتي تنوعت مصادرها وانتهت بالبعض إلى الإحباط الثقافي، وبالبعض الآخر إلى الاستقالة الفكرية، وبالبعض الثالث إلى التهافت على مغازلة ذوي النفوذ بعد إعلان التوبة عن خطاب النقد وفلسفة الاعتراض، لم يبق لرجل الفكر من قلعة يحتمي بها إلا اللغة
2). ما أشد التشابه بين هذه الملاحظة, المقدمة في شكل حقيقة, ووضعية الكاتب:هل هي محاولة لاستعادة الدور ألطلائعي للمثقف ؟ أم هو نقد ذاتي ؟ أم مجرد تملص من الماضي الثقافي السلطوي بإلقاء اللوم تنظيرا على المثقف العربي عموما, و العموم لا يخلو من الإبهام؟
إن نظرة التعميم وراءها تبرئة للذات لأن السمة إذا أصبحت ظاهرة وعمت كفت أن تكون نقيصة تماما مثل الخطأ الشائع في اللغة و لكن كما قال قرامشي في تحديد المثقف:{كل الناس مثقفون و لكن كل الناس لا يحذقون أداء دور المثقف}1 فالمثقف في التعريف القرامشي ليس صفة مجموعة في شروط ثقافية بل هو دور أو هو وظيفة متعددة الجوانب هدفها المحافظة على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية القائمة

1) Tous les hommes sont des intellectuels, mais tous les hommes ne remplissent pas dans la société la fonction d'intellectuels (Antonio Gramsci, Cahier 12, paragraphe 1
إن الترتيب الذي اقترحه الأستاذ المسدي في سياق عرضه لأنواع الترديات التي آل إليها المثقف العربي هذا الترتيب يبدو معكوسا فالإحباط الثقافي لا يكون إلا بعد تجربة ما إما ثقافية أو سياسية أو حتى فنية و جعله في المرتبة الأولى نابع من الداخل بإملاء اللاوعي عند اختيارات الكتابة و أما مغازلة ذوي النفوذ فإنه في الواقع لا يعتبر نقيصة إذا كان المثقف واعيا و مقتنعا بالدفاع عن نموذج الدولة الذي يؤمن به ومحاسبته لا تكون فرديا و إنما ضمن الفشل الذي قدمه نظام الدولة المدافع عنه و الذي هو من سياسات السلطة و المثقف فيها مجرد متصرف فيه بفتح الراء كبقية الوسائل المعتمدة في أجهزة الدولة
2)فداخل اللغة يسكن، بل نسكن جميعا، وداخلنا جميعا تقيم اللغة؛ فطبيعيّ أنها تظل الرمز الأعلى للهُويّة الجماعيّة في زمن يراد فيه استئصال الهُويّات.
ولكن المثقف إذ يتصدّر واجهة الدفاع عن لغته القومية لا يستجيب فقط لوازع التعويض ورغبة الاستبدال بحكم انجرار الوعي الحضاري نحو الانخذال الجماعي، وإنما يقوم بذلك بسبب ما يشاهده من حرب مفتوحة على آخر حصن من حصون هويّته.
3)إن الحديث عن اللغة كمحدد للهوية الجماعية هي في واقع الأمر فكرة عنصرية يجب التفريق بينها و بين الفكرة القائلة أن اللغة تحدد رؤيتنا للعالم و فهمنا له و بالتالي تحدد مواقفنا من الظواهر{ Sapir et Whorfسابيرو ورف } فاللغة باعتبارها أداة من بين أدوات التعبير المختلفة لا يمكن أن تحدد بمفردها الهوية حتى و إن كانت الأكثر استعمالا في تحديد المواقع و المواقف من الكائنات و الظراهر و إلا أصبح الأخرس أو حتى من لايحذق التموقع في الأحداث أصبح بلا هوية
4) إن استعمال عبارة{ اللغة القومية} تعيد إلى الأذهان الفترات التي انتعشت فيها القومية العربية كاستجابة متأخرة لما انتشر في اروبا منذ ظهور الفكر النيتشي و ما خلفه من ويلات في الفكر السياسي و الاجتماعي عموما ثم كانت الحرب و ما ولاها من فكر الخراب الفلسفي و السياسي و الاجتماعي ...و ما أشبه فكر النكبة عند العرب بالإحساس بالخراب في أوروبا بعد الحرب الكبرى.
5) التنظير للخراب أو قل عقلية التشتت التي يحملها بعض المفكرين اليهود الذين يرون أن خراب المعبد أذان بالتشتت المحكوم به أبديا على اليهود, هذه العقلية أصبحت منتشرة في صفوف المفكرين العرب و كل قد نشر غسيلا يخاف سرقته: من خوف على الهوية و خوف على اللغة و ... و لكن ما صوروه موضوع خوف هو في الواقع موضوع أمان و وصف الخراب المنتظر من الحرب الصامته كان مهولا:
إن الترصد المنظم للغة العربية لَيتخذ شكل الحرب الصامتة الناسفة، تتكشف حينا وتتقنع أحيانا أخرى، واستتارها أخطر من تكشفها، لأنه يستنجد بسلاح المسكوت عنه، وهو أوقع في النفوس، وأقدر على تملك الأغرار.
6)العالم الذي يصل إلى نتيجة مهما كان نوعها يعتمد في الأساس على منهجية في البحث يستنتج منها ما وصل إليه و لكن الصراخ العلمي و السياسي عندنا نحن العرب لا يستند إلا على الهزات العاطفية التي لا توصل في النهاية إلى نتيجة عملية و لذلك ندرت عندنا النظريات الأدبية و اللسانية و الإقتصادية و بقينا عالة إما على أسلافنا نلوك تفاسيرهم و لم نخرج في واقع الإمر على الحاشية و حاشية الحاشية رغم وعينا بالظاهرة و نقدنا لها و من يعتبر نفسه مثقفا عندنا هو من انتقل في لوك الكلام من العربي إلى الأوروبي. إننا أمة مستهلكة على جميع المستويات
7)ولهذا الترصد أسبابه الموضوعية؛ فهناك اليوم قلق حقيقي يساور كبار المهندسين الذين يرسمون خريطة الاستراتيجية الكونية، وقد يصل ذلك القلق ببعضهم إلى درجة الخوف، وببعضهم الآخر إلى درجة الفزع، أما موضوع الأمر فهو احتمال تزايد الوزن الحضاري للغة العربية في المستقبل المنظور فضلا عن المستقبل البعيد.
8) إن مسالة الحرب بين اللغات لم يعد لوجودها أثر فقد بليت و عفت بعفو الإكتفاء بلغة واحدة للتعبير في بلد معين. و قد حل محلها ألان فكرة التعاون بين اللغات بغاية التواصل الإنساني. فليس هناك لغة متقدمة و أخرى متأخرة بل هناك لغات تختلف في التعبير عن الظواهر الكونية و كل تعبير له مبرراته و الأبحاث اللسانية تتوجه اليوم إلى فهم الاختلاف و أسبابه و ليس إلى إدانة ذلك الاختلاف أو تلك اللغة.
9) إن الخطر المحدق بأي لغة ليس مأتاه من الخارج بل هو كامن في النظام الداخلي للغة نفسها و قدرة علمائها على فهم أنظمتها اللفظية و النحوية والصرفية...و مساهمتهم في تقوية هذه الأنظمة بجعلها قادرة على التعامل لسانيا مع العالم وعلى تبادل أنواع الخطاب إذ اليوم و أمام التغييرات الجذرية للخارطة الاقتصادية للعالم أصبح دور اللغة اقتصاديا أكثر من اللازم و ليس لعدد المتكلمين دور محدد في انتشار لغة عالمية أوبقائها و إلا أصبحت اللغة الصينية الأولى عالميا بدل اللغة الإنكليزية رغم ما يتهددها اليوم من ضمور(diglossie) أمام توسع استعمال اللغة الإنكليزية حتى في أوربا نفسها
10) إن هؤلاء المخططين الاستراتيجيين يقرؤون للحقيقة الموضوعية حسابها، فاللسان العربي هو اللغة القومية لحوالي 337 مليونا (في إحصاء عام 2007)، وهو يمثل إلى جانب ذلك مرجعية اعتبارية لأكثر من 950 مليون مسلم غير عربي كلهم يتوقون إلى اكتساب اللغة العربية، فإن لم يتقنوها لأنها ليست لغتهم القومية فإنهم في أضعف الإيمان يناصرونها ويَحتمون بأنموذجها.
ثم إن اللسان العربي حامل تراث، وناقل معرفة، وشاهد حي على الجذور التي استلهم منها الغرب نهضته الحديثة في كل العلوم النظرية والطبية والفلسفية، وهو بهذا الاعتبار يخيفهم أكثر مما يخيفهم اللسان الصيني أو الهندي. ولا يَغفل هؤلاء المهندسون الثقافيون الساهرون على برمجة الذهن الجماعي في عصر الأممية والكونية عن الرسالة الحضارية والروحية التي حملت بها اللغة العربية، وهم العارفون بأن التماهيَ بين الذات واللغة لم يبلغ تمامه الأقصى في الثقافات الإنسانية كما بلغه عند العرب بكل اطراد تاريخي وبكل تواتر فكري واجتماعي ونفسي. وما من شك أن الحضور المتكاثر للجاليات العربية والإسلامية في الدول الغربية حيث أصبحوا مواطنين في تلك البلدان لهم حقوقهم الدستورية في اللغة وفي المعتقد قد ضاعف شعور أصحاب القرار السياسي بتغيّر المشهد المألوف.
11) وهل هناك لغة لا تحمل تراثا و لاتكون شاهدة على معارف أهلها؟ فحتى اللهجات تحمل تراث قومية ما أو جماعة تاريخية. و من بداهة القول اعتبار أن أية حضارة قامت و اندثرت أو هي بصدد التكون إنما تقوم على مبادئ و قيم بقطع النظر عن نوعية تلك القيم و معيار الحاجة إليها هو الذي يحدد عمرها, فالقيم تخلد بخلود استعمالها من طرف مجتمعها و تندثر بانعدام الحاجة إليها.

ولكن اللغة العربية تخيف أيضا بشيء آخر، فلأول مرة في تاريخ البشرية يُكتب للسان طبيعي أن يعمّر حوالي سبعة عشر قرنا محتفظا بمنظومته الصوتية والصرفية والنحوية، فيطوّعها جميعا ليواكب التطور الحتمي في الدلالات دون أن يتزعزع النظام الثلاثي من داخله، بينما يشهد العلم في اللسانيات التاريخية أن الأربعة قرون كانت فيما مضى هي الحد الأقصى الذي يبدأ بعده التغير التدريجي لمكونات المنظومة اللغوية.
إن اللغة العربية تلقي بتاريخها تحديا كبيرا أمام العلم الإنساني، وهذا التحدي يبتهج به العلماء الذين أخلصوا إلى العلم مهجتهم، ولكنه يَغيظ سدنة التوظيف الأممي، ويستفز دعاة الثقافة الكونية، لاسيَّما منذ بدأت المعرفة اللغوية المتقدمة على المستوى العالمي -وفي الجامعات الأميركية تخصيصا- تكتشف ما في التراث العربي من مخزون هائل يتصل بآليات الوصف اللغوي، ويقف على الحقائق النحوية العجيبة، ويستلهم مكونات المنظومة الصورية الراقية التي انتهى إليها النحو العربي.
إن صمود اللغة العربية راجع أساسا إلى ظاهرة القداسة فيها و التي لحد الآن لم يوجه العرب المحدثين اهتمامهم إليها و إذا تحدثنا عن النظام النحوي العربي فإن وعي المفكرين العرب المحدثين به ثم بلورته لسانيا كانت بالإستعانة باللسانيات الغربية إنهم لم يفهموا نظامها داخل قداستها كما فعله القدامى من أمثال عبد القاهر الجرجاني و قبله الزمخشري و الخليل ابن أحمد الفراهيدي و غيرهم. إن كل كتابات المسدي نفسه تزخر بالمفردات المترجمة, أحيانا حرفيا, حتى أنك تفضل قراءة كتاب فرنسي او انكليزي على قراءة أحد هذه الكتب التي تدعي الحداثة بتحطيم بنية اللغة لجعلها تواكب العصر" و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه" و قديما قال الحسن البصري لتلامذة كان يعضهم و هم يبكون: كلكم يبكي فمن سرق مصحفي؟

عندما أعلن الكاتب الإسباني كاميلو جوزي سيلا -الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1989- عن تقديراته الاستشرافية حول مصير اللغات الإنسانية، وكشف عن تنبؤاته المستقبلية المتصلة بما ستؤول إليه الألسنة البشرية العالمية المنتشرة اليوم، أحدث كلامه زوبعة ثقافية لم يخفت دويّها في أوساط الكونية الثقافية. فقد ارتأى أن الثورة الاتصالية وانفجار أدوات التواصل التي اختزلت بُعد الزمان، وألغت بُعد المكان، وتجاوزت -بواسطة الصورة- حواجز أدوات التعبير، ستؤدّي تدريجيا إلى انسحاب أغلب اللغات من ساحة التعامل الكوني، وإلى تقلصها في أحجام محلية ضيقة، ولن يبقى من اللغات البشرية إلا أربعٌ قادرة على الحضور العالمي وعلى التداول الإنساني، وهي الإنجليزية والإسبانية والعربية والصينية.
إن الخلود الفعلي للغة العربية, نتيجة ما فيها من قداسة في حاجة إلى الكشف, لا يحتاج إلى شهادات من الخارج, بل هو في حاجة إلى الناطقين بها ليكتشفوا أسرارها, فهي إعجاز و من لايؤمن بمشروعه لن يحققه أبدا و كذلك العربية فمن لا يؤمن بها لا يكون حظه منها مغايرا لحظ كاتب قائمة السلع أمام الدكان ويحسب أنه يكتب شعرا حتى إذا مات بيعت دواوينه حيث يباع "حديث الإربعاء" اليوم. إن صمود اللغة العربية سبعة عشر قرنا إلى حد الآن يدخل في باب الإعجاز ولسنا في حاجة إلى تعداد اللغات التي ولدت ثم ماتت و العربية شاهدة عليها كما أننا لسنا بحاجة إلى ذكر اللغات التي دخلت مرحلة مرض الموت و العربية شاهدة عليها و إنما نحن نحمل أمانة لغوية مفروض على العالم بها تبليغها للناس و العالم بها مسئول عنها قبل مسؤولية الدولة و إن عسر عليه الحمل
لقد استند كاميلو سيلا إلى طفرة الوعي الإنساني الجديد حول انقراض اللغات وتسارع حركته، ولكنه وهو يصوغ رأيه كان غافلا أو متغافلا عن آلية النسف الداخلي التي تهدد اللغة العربية بالانفلاق الذاتي على يد أبنائها، وعلى مرأى من ساسة أبنائها، أو لعله كان يحض العرب -عن طريق الإيحاء- على الانتباه إلى شناعة ما سيفرّطون فيه بأيديهم. ومهما يكن من أمر فإن الحاصل من الجدل الذي أثاره كاميلو سيلا يومئذ يفضي إلى حقيقتين: أولاهما ثقافية، والثانية معرفية؛ فأما الأولى فهي أن هذه الفرضية قد أعانت على كشف المسكوت عنه في الصراع الحضاري الدائر اليوم بين أطراف الثقل في العلاقات الدولية، فأبرزت على سطح الخطاب الثقافي الكوني ما كان ثاويا وراء سطور الدلالة فيه، وعَرّت ما كان محتجبا بستائر حوار الثقافات تحت الأقنعة المضللة. وأما الثانية فإننا نستنبطها مما فسر به الخبراء الاستراتيجيون فرضية كاميلو سيلا؛ وتتمثل في تصنيف اللغات المنتشرة في العالم اليوم، والتي لها سيادة مّا في حقول العلاقات الدولية إلى لغات تُكتسب بالأمومة، ولغات تكتسب لاحقا بعد أن ترسّخت لدى الطفل لغة الأمومة التي هي من طبيعة مغايرة، وأحيانا من فصيلة مباينة. وتصنف اللغة العربية ضمن الألسنة التي يرتبط بها الطفل ارتباطا أموميّا رغم الفوارق القائمة بينها وبين سائر اللهجات في مستوى المكوّنات الصوتية والصرفية والنحوية.
لست من الذين يخافون على العربية, و لا من الصارخين" الحذر, الحذر, كل الحذر" و إنما من الذين يتأسفون على حالهم لأنهم أضاعوا لذة البحث في اللغة العربية و هرولوا إلى اللغات الأخرى فلما جاءهم ماعرفوا ...سعيد من أسعفه حظه للبحث في أسرار الأنظمة اللغوية داخل اللغة العربية و شقي من وهب الامانة ثم أضاعها فمثله كمثل بلعام بن باعوراء...
إن الذي يخيف الآخرين كفرضية في حد ذاته هو الذهاب إلى أي تقدير من شأنه أن يصادر سلفا على عالمية اللغة العربية، والخبراء المخططون القابعون من وراء لوحة القيادة الكونية، والمحركون لأزرار برج المراقبة الاستراتيجية، هم أول من يعلمون المفارقة الموضوعية بين رصد الحقائق اللغوية والتنبؤ بمآلات الألسنة الطبيعية، مهما تكن طاقة الإنسان الحديث في التحكم التقني والتواصلي، ومهما يكن جبروت الشبكات المعلوماتية المندمجة. غير أن هؤلاء هم أسرع من يقرؤون الحساب لكل شيء، وهم الأقدر على فهم الآليات الذهنية ومدى تأثير المعلومة فيها، ولعلهم لا يخشون الحقيقة الموضوعية بقدر ما يخشون التقديرات الحالمة، والافتراضات الموغلة في الانسياب إلى حد الأماني الشاعرة، والسبب في ذلك أنهم هم الأسبق إلى التلاعب بالقناعات الحميمة عن طريق المناورة الذهنية والمخايَلة النفسية.
لقد ألف سرفنتيزالكاتب الإسباني الشهير قصته المعروفة" دون كيشوط" ليصف مرض الحاملين للقيم البائدة في عصر جديد, كان من المفروض التأقلم مع القيم الجديدة التي جاء بها و الطريف في هذه الشخصية التصور المتواصل لأعداء وهميين ثم محاربتهم بحجة فعل الخير.
لماذا نلقي فشلنا على الآخرين ومن ثم نحملهم مسؤولية ما نحن فيه؟
لماذا نبارك عمل الطواغيت فينا ولانفسرمظاهرالفشل على حقيقتها بل نرجعها دائما إلى أعداء مترصدين و صيادين في الماء العكر؟
لماذا جاهلنا حاكم و عالمنا مسجون أو معتوه؟
قال كارل ماركس في أطروحته الحادية عشرة حول فيورباخ:"إن الفلاسفة إلى حد الأن لم يقوموا إلا بتأويل العالم في حين أنه يجب تغييره
"
Les philosophes n'ont fait qu'interpréter le monde, il s'agit de le transformer.
Hammami Belgacem :Suisse/ Neuchâtel
[email protected]( "العرب" (يومية - قطر) بتاريخ 24 فيفري 2010)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.