لَوْ خُيِّرْتُ بَيْنَ العَدَالَةِ وأمِّي لاخْتَرْتُ أمِّي . تلك هي مقولة ألبير كامو المشهورة صاحب كتاب المتمرد الذي كان مناهضا يوما للظلم والاستعمار قبل تحوله إلي مدافع عن القضية الأم. وقد أكدت زيارة ساركوزي الاخيرة للجزائر هذه المقولة التي تعكس تمسك الفرنسيين بعدم الاعتراف بالآخر. الزيارة الثانية التي قام بها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلي الجزائر أعادت للشعب الجزائري فتح صفحة آلام وجروح ما زالت لم تندمل، بعدما رسخت في ذهنه ونقشت في ذاكرته رغم مرور الزمن. وقد أسالت الزيارة الكثير من الحبر بين مؤيد ومعارض، لا سيما والغرض من الزيارة بدا متشابكا وأكثر تعقيدا، بين ما هو سياسي تاريخي وما هو اقتصادي تنموي، وقد ذهبت الأغلبية إلي الاهتمام بالهدف الثاني دون التركيز علي الجانب السياسي التاريخي للزيارة كون هذا الأخير يتعلق بهوية الدولة بكاملها. زيارة ساركوزي إلي الجزائر كان لها هدف واحد هوإعادة بناء الدولة الجزائرية وتحديثها وفق المقاييس الفرنسية، وذلك لا يتحقق إلا من خلال تهيئة الظروف المناخية لطي صفحة الماضي أو قلبها، وبالتالي الصفح علي الحركي وجمعهم بالجزائريين في إطار ما يسمي ب : الوحدة المجتمعية والصالح العام للشعب الجزائري، وترسيخ العلاقات الفرانكو ألجيريان والتطبيع معها دون حوار أو تفاوض، وإن كان الشعب الجزائري رافضا للمبدأ الأول (لحوار) رفضا مطلقا كونه لا يملك الاستعداد الكامل للتحاور، سواء مع الحركي أو الخصم الأكبر (إسرائيل) والتطبيع معه، لا سيما وأن بين الجزائروفرنسا بحراً من الدماء. الاعتذار بدا مرفوضا من طرف ساركوزي ، لم يكن هذا الرجل في حاجة إلي معرفة الشروط أو المسبقات أو الإملاءات سواء أكانت من رئيس الجمهورية أو وزير المجاهدين أو حتي من الشعب الجزائري نفسه. لقد جاء وهو يمثل دور القوي في اللعبة الاقتصادية بشكل يجعل الجزائر بلدا تَبْعِيًّا لفرنسا، خاصة وهي اليوم ما تزال تعاني من مشاكل وأمراض وأزمات كبيرة تقض مضجعها وتهز كيانها، بعد الفرقة والتبعثر والانقسام الذي خلفته العشرية السوداء. رفض ساركوزي للاعتذار بدعوي الانصراف إلي بناء المشروع الاقتصادي وإبرام صفقات واتفاقيات عمل بين البلدين بمثابة دعوي للاستسلام وتغيير القراءات .. بدليل دعوته إلي الاعتراف بالكيان الصهيوني وهي إشارة له إلي عدم الوقوف إلي جانب القضية الفلسطينية، وبالتالي تهديم المشروع البومديني الذي قال يوما نحن مع فلسطين ظالمة أم مظلومة . قراءة البعض لهذه الزيارة جاءت انهزامية فقد غرقت الأغلبية في التهليل والترحيب وهي تستقبل شخصية يهودية جاءت وهي تحمل لها حلم الغد الأفضل، حتي ولو كان علي حساب هويتها وكرامتها.. إنها بكل بساطة جماعة المصالح ، جماعة رضعت الحقد والخيانة لجزائر العروبة من ثدي الأم الفرنسية وأحبت فرنسا إلي درجة العبادة والتقديس، في الوقت الذي وجد بعض الرافضين لهذه الزيارة، وهي فئة قليلة من الأسرة الثورية علي رأسها وزير المجاهدين محمد الشريف عباس. تصريحات وزير المجاهدين محمد الشريف عباس كانت أكثر جرأة وشجاعة، جاء فيها بأن تاريخ الجزائر ودماء شهدائها ليست صفحة مظلمة تدعو إلي الخجل أو البكاء والندب، بل هو تاريخ فيه الكثير من الشجاعة وروح التضحية شهدتها انتصارات تتبعها انتصارات، رَكَّعَتْ فيها الدولة الجزائريةفرنسا بأكملها، ومن الصعب جدا اليوم إسدال الستار ونسيان الجرائم المرتكبة في حق الجزائريين. لكن الرجل وجد نفسه وحيدا في ميدان المعركة، وهو موقف يؤسف له لِمَا وصلت إليه الشخصية الجزائرية في اتخاذ مواقفها وقراراتها، مقارنة مع الموقف الفرنسي الذي اختار أمَّهُ عن العدالة ، وهنا يجدر بنا العودة إلي مقولة ألبير كاموالشهيرة: لَوْ خُيِّرْتُ بَيْنَ العَدَالَةِ وأمِّي لاخْتَرْتُ أمِّي . إنه كامو المتمرد علي الظلم واللاعدالة والاستعمار ولكنه عندما دعاه وطنه ووطنيته تحول إلي مدافع عن القضية الفرنسية، وقد أثبتت زيارة ساركوزي إلي الجزائر هذه المقولة التي تؤكد أن الفرنسيين مجبولون علي عدم الاعتراف بالآخر. وهذا ما يدفعنا إلي طرح السؤال التالي: هل من الوطنية والإخلاص للتاريخ أن يغض مسؤولونا الطرف عن تصريحات كوشمير الذي أساء الي شخصية ثورية وطنية دون غربلتها أونخلها؟، خاصة بعدما وعد الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة نظيره الفرنسي بالسماح للمطرب اليهودي انريكو ماسياس بزيارة الجزائر، أليست هذه الوعود إساءة في حق الشعب الجزائري؟ ساركوزي كان مبهوراً بالجزائر وسيرتا علي الخصوص لكن نسي هذا الرجل القادم من وراء البحار أن عار الهزيمة سيبقي يلاحقه مدي الحياة كلما لاح له طيف المدينة والمجد الذي كان يحلم بجعل الجزائر مستعمرة فرنسية .