ما زالت بعض الفضائيات المسماة دينية تجنّد بعض المشايخ في خدمة الدكتاتورية والظلم والفساد، الأمر الذي بدا أكثر وضوحاً في الساحة المصرية، وإن شمل الدول الأخرى، وبالطبع في مواجهة الحراك الجماهيري المتصاعد، ولا يتوقف الأمر عند الفضائيات، بل يشمل سائر المنابر الإعلامية الأخرى التي وجدت في التيار السلفي التقليدي ضالتها، حيث يتبرع رموزه بفتاوى تخدم الأوضاع القائمة، مثل فتوى أحدهم بجواز توريث الحكم. ثمة حملة تبدو منظمة تتصدرها فضائيات كثيرة تتوالد تباعاً، ويعرفها المراقبون، وتستخدم طائفة من مشايخ السلفية التقليدية ممن يعبّدون الناس للحكام، إما بطلب مباشر من الأنظمة، أو من باب النفاق بهدف الحصول على المكاسب وحق النطق باسم الدين من خلال المساجد والمنابر الأخرى التي يقصى منها الدعاة المسيّسون لحساب دعاة "طاعة ولي الأمر". من حق أي عامل في الشأن العام أن يقول رأيه فيما يجري، وأن يؤيد النظام أو الحزب الحاكم أو يعارضه، لكن المصيبة هي لجوء أولئك النفر إلى نزع الغطاء الشرعي عن مخالفيهم، معتبرين أنهم وحدهم من ينطق باسم الشرع الذي لا يجيز معارضة الأنظمة أو انتقادها في العلن. وإذا تذكرنا أن الحرب التي يشنها هؤلاء لا تتوقف عند حدود القائلين بالخروج المسلح، بل تستهدف بشكل أكبر لوناً من ألوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ممثلاً في الاحتجاجات السلمية، فإن الموقف يغدو أكثر إثارة للحزن والقهر. أسوأ ما يردده هؤلاء هو ربط هذه القضية المتصلة بالشأن السياسي بالعقيدة، إذ يقولون إن عقيدة أهل السنة والجماعة تحرّم الخروج على ولي الأمر ما أذن بإقامة الصلاة (حتى الصهاينة يأذنون بها)، بصرف النظر عن مواقفه الأخرى. ويتتبع الدكتور حاكم المطيري في كتابه "الحرية أو الطوفان" قصة الخروج وكيف دخلت عقيدة أهل السنة والجماعة، مشيراً إلى وقوع ذلك في العصر العباسي حين ادعى ابن مجاهد البصري الأشعري -شيخ الباقلاني- إجماع الأمة على حرمة الخروج على أئمة الجور، وهي الدعوة التي أنكرها عليه ابن حزم بقوله "ولعمري، إنه لعظيم أن يكون قد علم أن مخالف الإجماع كافر، فيلقي هذا على الناس، وقد علم أن أفاضل الصحابة وبقية الناس يوم (الحرّة) خرجوا على يزيد بن معاوية، وأن ابن الزبير ومن تبعه من خيار المسلمين خرجوا عليه أيضاً، وأن الحسن والحسين وأكابر التابعين خرجوا على الحجاج بسيوفهم، أرى هؤلاء كفروا!". ويضيف المطيري أن دعوى ابن مجاهد البصري المتكلم ما لبثت أن راجت بين الفقهاء، تعبيراً عن أثر واقع العصر على الفقه والنصوص الشرعية، حتى ادعاها النووي في شرحه لصحيح مسلم في القرن السابع، حيث قال "أما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل، فغلط من قائله مخالف للإجماع". ما يؤكد الدخول المتأخر لقضية الخروج في عقيدة أهل السنة ما أورده ابن حجر العسقلاني في دفاعه عن الحسن بن صالح الذي كان يرى الخروج بالسيف على حكام المسلمين من أهل الجور، والذي اعتُبر تهمة عند بعض المترجمين والرواة، إذ رأى ابن حجر أنه ليس تهمة لأنه تبناه يوم كان ممكناً ومعمولاً به قبل أن يستقر رأي أهل السنة على خلافه بعد دراسة التاريخ وأخذ العبرة والعظة بالحوادث الكثيرة التي لم يكن منها إلا الشر. المسألة إذن سياسية اجتهادية لا صلة لها بالعقيدة، أما النصوص التي يشار إليها منسوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام فتحتاج إلى تمحيص تبعاً لمخالفتها لنصوص أخرى قوية، فضلا عن مخالفتها لفعل صحابة مشهود لهم بالفضل كالذين أوردهم ابن حزم، فضلاً عن كونها تتحدث عن الخروج المسلح، وليس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (أي المعارضة السلمية للظلم والجور)، والذي تسنده طائفة كبيرة من الآيات، مثل "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، وهل بعد ظلم بعض الحكام ظلم، فضلاً عن الأحاديث الدالة على مواجهة الجور "كلمة حق عند سلطان جائر"، وحديث "لتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنّه على الحق أطراً.. إلخ"، ولو اتسع المجال لأوردنا من ذلك الكثير. القصة إذن مرتبطة بالموازنة بين المصالح والمفاسد، وقاعدة الكف عن إنكار المنكر إذا ترتب عليه منكر أكبر منه، والتي يقدرها أهل العلم والرأي والسياسة، لكن الإسلام ليس دعوة للخنوع للظلم، ومن يروجونه كذلك يشوهون تعاليمه دون شك. العرب 2010-04-14