محمَّد أحمد الوليد الفجرنيوز روى أصحابُ التَّواريخ كابن خلِّكان والذَّهبي وابن الجوزي والسُّيوطيِّ أنَّ أبا بكر بن مجاهد المقريء المشهور قال :" كنت عند أبي العبَّاس ثعلب ، فقال لي ( أي ثعلب ) يا أبا بكر: اشتغل أصحابُ القرآن بالقرآن ففازوا ، واشتغل أهلُ الفقه بالفقه ففازوا ، واشتغل أصحابُ الحديث بالحديث ففازوا ، واشتغلت أنا بزيدٍ وعَمرو ( أي بعلم النَّحو ) ، فليت شعري ما يكون حالي في الآخرة? قال ابنُ مجاهد : فانصرفت من عنده ، فرأيت تلك الليلة النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في المنام ، فقال لي : أقرئ أبا العبَّاس عني السَّلام ، وقل له : إنَّك صاحب العلم المستطيل " . وواجب على النَّبيهِ أن يقف عند هذه الرِّواية المقرِّرة ، ويتأمَّلَ في ألفاظها ، وينظرَ في مقدِّماتها ، وسيجد أنَّها جاءت مشحونةً بالدِّلالات الظَّاهرة ، ، تخاطب البصيرة ، وتشحذ الهمم المستنيرة ، ولا تقولن : إنَّما هي حُلمٌ ، فالشَّيطان هو من يزيِّنُ قولَ ذلك ، وتقوّيه نفسٌ أمَّارةٌ بالسُّوء ، لا تركن إلى إشارة ، ولا تؤمن بكرامة وإعانة ، والمؤمن العامل لا يغرُّه ملبِّسٌ يشوِّش عليه فهو يُسرُّ بالبشرى ، وينشرح صدره بالرُّؤيا ، يراها أو تُرى له .. . إنَّ أوَّل ما يقع في النَّفس ، ويسبق إلى الذِّهن سؤالُ لِمَ خُصَّت الرُّؤيا بابن مجاهد ؟ فلم يرها ثعلب فليس راء كسامع ؟ فأقول مستعيناً بالله : - إنَّ مجيء الرُّؤيا على لسان مجاهد كان أعظم أثراً ، وأبلغ حجَّةً ، فهي شهادةٌ لنا من غيرنا ، وأيّ غير ، فهو ابن مجاهد المشهود له بالتَّقوى والصَّلاح ، وغزارة العلم ، وسَعة الرِّواية ، وعلو المكانة ، فلو جاءت على لسان ثعلب - وهو الثِّقة - لربَّما توهَّم واهمٌ ، ولبَّس ملبِّسٌ أنَّه ادِّعاء من أصحابنا النَّحويين لاستمالة العوام ، وتكثير السَّواد طلباً للهيبة والرِّياسة والشهرة . - لقد كانت الرُّؤيا في تلك الليلة التي شكا فيها ثعلب - رحمه الله - من حاله ، فكان الجواب سريعاً ، وسرعة الإجابة تُبين خطر السؤال وشرف السَّائل ، وأنَّه لا يحتمل إبطاءً ، ولا يطيق تأخيراً . - والجوابُ النبويُّ وإن كان موضوعه بيان فضل علم العربيَّة فهو يحمل كرامةً لثعلب - رحمه الله - فقد جاءه جوابٌ سريعٌ من مبشِّرات لا يتمثَّلها شيطان ، ولا يخالطها دنسٌ ، فقد قال الرَّسول الأعظم ﴿ من رآني في المنام فقد رآني ، فإنَّ الشَّيطان لا يتمثَّل في صورتي ﴾ ، وهو شهادةٌ لثعلب بالحجَّة والرِّفعة ( إنَّك صاحب العلم ) ، ولا يفوتنَّك تخيّره للفظ الصَّاحب فإنَّه دقيقٌ ، فالصَّاحب دالٌّ على الملكيَّة ، مفيدٌ للاختصاص ، مشعرٌ بمعاشرة الشَّيء ولزومه ، وحفظه وتحصينه ، وكلُّها في اللسان فارجع إليه . - وانظر إلى جمال ما خوطب به ( أقرئ أبا العبَّاس عني السَّلام ) فقد جاء الجار والمجرور ليثبت أنَّ هذا السَّلام من الرَّسول الأكرم - صلَّى الله عليه وسلَّم - ، ولو قال : ( أقرئ أبا العبَّاس السَّلام ) فقد يُفهم منه أنَّ مجاهداً مأمورٌ بأن يسلِّم على ثعلب ، وليس ناقلاً سلاماً من سيِّد النَّاس . - وما أدفأ التَّعبير بالكنية ( أقرئ أبا العبَّاس ) ففيه قربُ المخاطِب من المخاطَب واستئناسُه به ، وقد وافقها وتلاءم معها الفعل ( أقريء ) فلم يقل : أبلغ أبا العبَّاس ؛ فإنَّ في الإقراء معنى زائداً ، قال صاحب اللسان :" وفي الحديث:﴿ إِن الرّبَّ - عزَّ وجلَّ- يُقْرِئكَ السلامَ ﴾ ، يُقال : أَقْرِئ فلاناً السَّلامَ ، واقرأْ عَلَيْهِ السَّلامَ ، كأَنَّه حين يُبَلِّغُه سَلامَه ، يَحمِلهُ على أَن يَقْرَأَ السلامَ ويَرُدَّه ". - وانظر إلى الحكم المستنبط من قوله : " وقل له : إنَّك صاحب العلم المستطيل " ففيه وجوبٌ ظاهرٌ على مجاهد ومن يدرِّس القرآنَ والفقهَ والحديثَ بأن يُقرَّ بعلم ثعلب ( علم العربيَّة ) ، و تأمَّل لو أنَّه قال : أقرئ أبا العبَّاس عني السَّلام إنَّه صاحب العلم المستطيل ، سترى الخطاب اختلف معناه ، فإنَّه لا يتضمَّن لزوم وجوب التَّقرير على لسان ابن مجاهد ( الفقهاء والقرَّاء ) . - وما أحسن التَّعبير بلفظ ( المستطيل ) ففي الاستطالة دلالةٌ على الإحاطة والتمكُّن والامتداد على العلوم ، والفضل عليها ، فالعالم بالعربيَّة تفتح له المسائل المغلقة ، وتذهب عنه الغوامض الْمُشكلة ، قال الجرمي :" أنا مذ ثلاثون سنة أفتي الناسَ في الفقه من كتاب سيبويه " أي : أنَّه كان يعتمد على النَّحو في تفسيرالقرآن الكريم واستنباط الأحكام الفقهية . قال الرّوذْباري في تفسير قوله ( العلم المستطيل ) : " أراد أنَّ الكلامَ به يكمُل ، والخطاب به يجمُل . وقال مرَّةً أخرى : أراد أنَّ جميع العلوم مفتقرةٌ اليه " ( بغية الوعاة ). - وقد استعمل مصطفى الصَّادق الرَّافعي هذا الوصف للعلم ( العلم المستطيل ) في كتابه تاريخ آداب العرب مبرهناً على سعة الاطلاع ، وحسن الاستخدام ، فقال في قضية افتعال اللغة ، والوضع فيها بغير حقٍّ :" ؛ فإنَّ بين العلم المستطيل والحفظ المتَّسع موضعاً لبسط اللسان إذا أراد قائلٌ أن يقول" . - والعجيب أن كتب المعاجم تفرد ثعلباً بالرواية بمعنى من معاني الاستطالة ، وهو قوله كما في اللسان :" واسْتَطالَ الشَّقُّ في الحائط: امتدَّ وارتفع" وهو قريبٌ إذا ردَّ بلطف الصَّنعة ، إلى ممَّا نقل إليه في الرُّؤيا ، فعلم العربيَّة يشقُّ الصَّعب ، ويكسر الصَّلد . - وبعد أن عشنا مع الرُّؤيا لحظة ، ووقفنا عندها وقفة ، وجب تأييد فضل العربيَّة ورفعة شأنها بكلام الفقهاء في اليقظة ، فهم يشهدون للنحوي بفضله ، وللبياني بسبقه ، وللغوي بريادته ، وبأن انتقاصها نقيصة ، والجهل بها فضيحة ، واللحن فيها سبَّة ، وقد ألَّفوا في بيان منزلتها من العلوم الشَّرعيَّة مؤلَّفات تبين استطالتها واشتراطها ، منها كتاب ( ملجأة المتفقِّهين إلى معرفة غوامض النَّحويين ) لأبي بكر بن العربي الفقيه المالكي ( 543ه) ، و( الصَّعقة الغضبيّة في الردِّ على منكري العربيّة ) للإمام نجم الدِّين الطُّوفي (716ه) ، ، وكتاب: ( الكوكب الدُّري فيما يتخرَّج على الأصول النَّحوية من الفروع الفقهية ) للإمام جمال الدِّين الإسنوي (772ه) ،وكتاب:( روضة الإعلام بمنزلة العربيَّة من الإسلام ) للإمام محمَّد بن علي بن الأزرق (898ه) وكتاب ( زينة العرائس من الطُّرف والنفائس ) للإمام ابن الْمِبْرِد الصَّالحي الحنبلي (909ه) وجلُّها مطبوع . - فبان أنَّها العلم المستطيل ؛ لأنَّ معرفة الفقة متوقِّفة عليها ،يقول الإمام الشَّافعيُّ - رحمه الله- :" فعلى كُلِّ مسلم أن يتعلَّم من لسان العرب ما بلغه جهدُه ، حتَّى يشهدَ به أن لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه ، ويتلو به كتابَ الله ، وينطقَ بالذِّكرِ فيما افترضه عليه من التَّكبير ، وأُمر به من التَّسبيح، والتَّشهُّد ، وغير ذلك" ويقول الإمام السَّخاوي عند حديثه عن حكم تعلم علم النَّحو:"وظاهرُه الوجوبُ ، وبه صرَّح العزُّ بن عبدالسَّلام حيث قال فى أواخرالقواعد: البدعةُ خمسةُ أقسامٌ : فالواجبةُ كالاشتغال بالنَّحو الذي يُفهم به كلامُ الله ورسولِه ؛ لأن حفظَ الشَّريعة واجبٌ لا يتأتَّى إلا بذلك ، فيكون من مقدمة الواجب".وسبب ذلك أنَّ الفقه مبنيٌّ في جزءٍ كبيرٍ منه ُ على الفقه يقول الإمام الطوفيُّ:" إذ لو استقصينا المسائل الشَّرعيّة المعتمدة على القواعد العربيَّة لكانت مقدار ثلث الفقه على ما تقرَّر". - وصرَّحوا أنَّها العلم المستطيل الطَّاهر الَّذي ما ينبغي أن تلامسه يدٌ نجسة تهزأ به ، تنتقص قدره بالزور والبهتان ، أو تستعمله أداة موهمة فيما لا يصح من الاستدلال ، هذا ما ذهب إليه بعض الفقهاء فذكر أن تعليم النَّصاري العربيَّةَ من باب المحرَّم ؛ لأنَّه يمكِّنُهُم من قراءة القرآن فيكذِّبونه ويهزؤون به ،حتَّى قال ابنُ حبيبٍ الفقيهُ المالكيُّ: "من فعل ذلك حرصا يوجبُ إسقاطَ شهادته" ، ويروي لنا التّنبكتي في نيل الابتهاج أنَّ يهودياً متقناً قواعد النَّحو العربي سأل أحد العلماء المسلمين ما الدَّليلُ على عموم رسالة نبيِّكم ، فقال صاحبُنا قوله - صلَّى الله عليه وسلم - بعثت للأحمر والأسود ، فقال اليهوديُّ هذا خبرُ أحاد والقضية عقَديَّة لا يؤخذ بها بخبر الأحاد ، فقال العالم المسلم ، وقول الله تعالى ﴿ وَمَا أرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّة لِلنَاسِ ﴾ فقال اليهوديُّ هذه باعتبار جواز تقدُّم الحال على صاحبها وهو محلُّ خلاف بين النَّحويين ، وأنَّا ممَّن لا يجيز ذلك ، ونسي هذا العالم المسلم أن يستدلَّ بقوله تعالى : ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ - وبيَّنوا أنَّها العلم المستطيل الذي لا يجوز هجر مفردتاه الفصيحة ، وتراكيبه الجزلة في مواطن الجدِّ ، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة " إن اعتياد الخطاب بغير العربية مكروهٌ " ، وهذا الحكم فى حقِّ عوام النَّاس . - أيها الكريمُ هي العلم المستطيل الطَّاهر لا يطعن فيها ، ولا يقلل من شأنها ، ولا يدعى إلى استبدالها ، أما من يراها وسيلة لا تجدي ، وطريقاً لا يهدي ، فقد جعل له الفقهاء حكماً نافذاً ما نراه واقعاً بالمسيئين في زماننا ، يقول الإمام المالكيُّ ابنُ رُشد فى فتاويه فيمن يسبُّ اللغة العربيةَ ، ويُنقص قدرَها ويردِّد أنَّه لاحاجة بنا إليها: "هذا جاهلٌ جدَّا ، فلينصرف عن ذلك ،وليتبْ منه فلايصحُّ منه شيءٌ من أمور الدِّيانة والإسلام إلابلسان العرب ،يقول الله : ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾.وسُئل أيضا - رحمه اللهُ - عمَّن يردِّد القولَ السابقَ، وهو ممّن ينسبُ نفسَه إلى علوم الشَّريعة،ويشتغلُ بالحديث والفقه، فقال: "تلزمه التَّوبةُ والإقلاعُ عمَّا هو فيه، إلا أن يُرى أن ذلك منه فى دينه أو نحو ذلك، فيؤدِّبهُ الإمامُ على قوله ذلك بحسب ما يرى،فقد قال قولا عظيما" . - وفي ختامه إنَّ الرُّؤيا وإن قال بعض الفقهاء إنَّه لا يُؤخذ بها حكمٌ شرعيٌّ ، فليس كلامهم يعني ردَّها في كلِّ موطن ، وإنَّما يكون ذلك بموانع كأن تكون الرُّؤيا تخالف حكماً شرعياً ، أو تأمر بمنكرٍ ، وقد جاء في بعض كتب التفسير أنَّ الخليفة الرَّاشد أبا بكر الصديق أنفد وصية الصَّحابي ثابت بن قيس في ماله برؤيا صالحةٍ ، وخذها فقد استفتحنا الحديثَ برؤيا ، ونختمه برؤيا ، قال القرطبيُّ في تأويل قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ الحجرات2 : "وقال عطاء الخراساني: حدثتني ابنة ثابت بن قيس قالت: لما نزلت: "يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" الآية ، دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه ، ففقده النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأرسل إليه يسأله ما خبره ، فقال: أنا رجلٌ شديدُ الصوت ، أخاف أن يكون حبط عملي. فقال عليه السلام: ﴿ لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير ﴾. قال: ثم أنزل الله: ﴿ إن الله لا يحب كل مختال فخور ﴾ لقمان: 18، فأغلق بابه وطفق يبكي ، ففقده النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأرسل إليه فأخبره ، فقال: يا رسول الله ، إنِّي أحبُّ الجمال ، وأحب أن أسود قومي. فقال: ﴿ لست منهم بل تعيش حميداً ، وتقتل شهيداً ، وتدخل الجنة ﴾. قالت: فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالدِ بن الوليد إلى مسيلمة فلمَّا التقوا انكشفوا ، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيقة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -، ثم حفر كلُّ واحدٍ منهما له حفرة فثبتا وقاتلا حتَّى قُتلا ، وعلى ثابت يومئذ درعٌ له نفيسةٌ ، فمرَّ به رجلٌ من المسلمين فأخذها، فبينا رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له : أوصيك بوصيَّة ، فإياك أن تقول هذا حلمٌ فتضيعه ، إنِّي لما قُتِلت أمسِ مرَّ بي رجلٌ من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى النَّاس ، وعند خبائه فرس يستن في طوله ، وقد كفأ على الدِّرع برمةً ، وفوق البرمة رحلٌ ، فأتِ خالداً فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها ، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم - يعني أبا بكر - فقل له: إنَّ علي من الدَّين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق وفلان، فأتى الرَّجلُ خالداً فأخبره ، فبعث إلى الدِّرع فأتى بها وحدَّث أبا بكر برؤياه فأجاز وصَّيته. قال: ولا نعلم أحداً أُجيزت وصيته بعد موته غير ثابت - رحمه الله - ذكره أبو عمر في الاستيعاب ".