أيمكن القول - ونحن نعيش الكثير من الضيق والتشكيك والتتفيه، ونتعرّض للسجن والتهجير والقتل، ونفتن في تربية أبنائنا وفي "نفور" أحبّتنا منّا وهروب أقاربنا إلى الأقاصي حيث الذّئاب تحتفل بهم تأكلهم دون أن تبقي منهم القميص لمعرفة أخبارهم - ... أيمكن القول؛ إنّ في ذلك خيرا؟!... إذا كنّا مؤمنين، فالجواب نعم! «عَجَبًا لأمْرِ المُؤمنِ إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خيرٌ ولَيسَ ذلِكَ لأَحَدٍ إلا للمُؤْمِن: إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيرًا لَهُ، وإنْ أصَابَتْهُ ضرَاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا لَهُ». وسبحان الله ما أبلغ حبيبي صلّى الله عليه وسلّم "ولَيسَ ذلِكَ لأَحَدٍ إلا للمُؤْمِن"... وإنّي لأفهم من هذا التعبير الإعجاز؛ أنّ ذلك الخير لا يكون إلاّ للمؤمن وأنّ ذلك الخير لا يشعر به إلاّ المؤمن، إذ غير المؤمن (والإيمان يزيد وينقص وقد ينعدم) يرفض الضرّاء ويسخط عليها ولا يقتنع أبدا بها ولا بأسبابها أو آثارها، بل تراه يتحدّث - مع توخّي المبالغة أحيانا – عمّا سبّبت له الضرّاء من آلام وأمراض نفسية واجتماعية أثّرت علويّا على أسرته وعائلته فجعلت منهم زبائن دائمين في مستشفيات الأمراض العقلية وأثّرت سُفليا على الأبناء فجعلتهم متخوّفين من مستقبل تتربّص فيه الضرّاء بهم حيث ما نزلوا... فينسى أنّ الذي يقدّر هو الله سبحانه وتعالى، وأنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنّ الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، كما بيّن ذلك سيّد البشريّة وخير ولد آدم عليه السلام محمّد صلّى الله عليه وسلّم... فبدل أن يقبل بقلب مطمئنّ ما حصل، ثمّ يبحث في الأسباب التي أعانت على حصوله قصد الاجتهاد في دفع الأسباب بالأسباب (والمؤمن يأخذ بالأسباب ويحاول دفع القدر بالدّعاء أو الهروب من القدر إلى القدر كما قال عمر رضي الله عنه)، تراه يتّكِئُ على السبب الأضعف والعامل غير المؤثّر، فعوض أن ينظر مثلا إلى تعدّي الظالم عليه وإجباره على الخروج من أرضه ودياره ينظر بالقصير إلى من صاحبه في رحلة الخروج فيرى فيه علّة الخروج ومآلاته مستشهدا بمآثر العرب - الذين منهم من تفرّغ لمحاربة "حماس" بدل الكيان الصهيوني – القائلين بمرارة ظلم ذوي القربى (والقولة صحيحة إذا أحسن استعمالها) حتّى أنّهم ليرون قرباتهم مظالم وقريبهم عدوّا لا يُصادق ولا يُصالح (والعدوّ عندهم يتقرّب إليه ومنه ويُصالح)... أحسب أنّه ليس من الحرص على الأجر عند الله سبحانه وتعالى الإكثار من الحديث عمّا لاقى الأهل في سبيل الله وعن الضريبة الباهضة التي دفعوها، في محاولة دنياوية لإبراز "الجرم" الضخم الذي ارتكبته قيادة الحركة الإسلاميّة وبعض منتسبيها، فلعلّ ذلك يفسد النيّة ويُخسر الأعمال والعاقبة، ولعلّه كذلك يُفسد الحقائق ويدلّسها... فإنّ كلّ ما طال العائلات (والجميع بدون استثناء قد طال عائلاتهم ما طالها، فليس من الحكمة التباري في ذلك) لم يكن بسبب هفوات الإسلاميين ولكن بسبب حقد أناس في المجتمع (النّظام الحاكم وبعض المثقّفين) على الإسلام والمسلمين... فلو كان السبب هو الخارج الهارب من البلاد للقي المقيم المحصر فيها عناية من الحاكم تخفّف عنه مصيبته في "عقوق" ابنه أو عائله المغادرين، ولكنّه الحقد على الإسلاميين وإبغاضهم بما تترجمه اليوم البرامج التلفزية والأنشطة الثقافية النّاخرة لعظام الهويّة والدّين والرّجولة والمروءة. وبما تترجمه محاولات إنعاش الفتنة بين أبناء تونس الجريحة من الإسلاميين، بعد أن فُتِحت الدّنيا عليهم. وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "... فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم"، ووالله لقد كنّا – ونحن حديثو عهد بالجراحات الصادمة الأولى – في ستر وفي خير كثير يسدله علينا فقرُنا لله ثمّ فقرُنا لبعضنا البعض، فلّمّا جاءت الدنيا تطاول البعض على الآخر، حتّى ما بات في لغتنا ما يجرّئ السامع على تنسيبنا إلى الإسلاميين!... ولعلّك إن لاحظت لبعضهم ملاحظة أو حاولت تعديل معوجّ جوبهت بالحديث عن الظروف النّفسيّة، وما خلّفته من تشوّش في التوجّه...، وعندي أنّ المؤمن الصادق والمسلم الحقيقي لا يُنزل نفسه العيادات النّفسية، فهي محلاّت الفاشلين والمذبذبين والمتردّدين... ومنها يأتي الخلط وفيها تنتهك الأعراض وتكشف الستر... أرأيتم إلى طبيب لا يداوي إلاّ بكشف ما ستره الله على "مريضه"؟!.. أنسيتم أنّ المؤمن يرى بنور الله، وأنّ من ستر مسلما ستره الله عزّ وجلّ يوم القيامة، فكيف يستر مسلما ويكشف عورات زوجه حتّى إنّهم ليتكلّمون عمّا يحدث وراء الحجب فوق الخشب (الطبيب وهي، وحدهما فيما لا يحقّ حتّى للزوج الاطّلاع عليه! حسبنا الله ونعم الوكيل) أو أهله بحجّة أنّ هذا الطبيب لا يداوي إلاّ بالكشف؟!... أسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية والمعافاة الدّائمة في الدنيا والآخرة، كما أسأله ألاّ يسلّط علينا بذنوبنا السفهاء، وسبحان الله العظيم ما أحلم سيّدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد قال لعمر رضي الله عنه لمّا استأذنه في ضرب عنق ابن سلول المنافق: دعه... لا يتحدث الناس أنّ محمدا يقتل أصحابه!... الدّنمارك في 15 يونيو 2010