أن يدشن رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون الاثنين الماضي مسجد «الإحسان» بإحدى ضواحي باريس، حيث يعيش حوالي 28 ألف مسلم، وأن يشيد فيون بالإسلام في فرنسا، ويقول إن «حقيقة إسلام فرنسا اليوم» تتمثل في «إسلام سلم وحوار» وإنه دين «اعتدال» يمارس في ظل احترام «مبادئ الجمهورية» فهذه بلا شك خطوة كبيرة، ورسالة إيجابية جدا من مسؤول فرنسي كبير بل من الحكومة الفرنسية للجالية المسلمة، الأمر الذي أثار حنق اليمين المتطرف، وتحديدا الجبهة الوطنية بزعامة جان ماري لوبن، التي زعمت أن ذلك يخدم توجه أسلمة فرنسا، وأشارت في بيان لها إلى أنه «مر زمن طويل لم يدشن أحد أكبر مسؤولي الدولة مكان عبادة، ويعود إلى عهد الإمبراطورية الثانية (1852-1870)». البعض ربط بين خطوة فرانسوا فيون وبين مناقشة البرلمان الفرنسي مشروع قانون يحظر ارتداء النقاب في الفضاء العام بعد أسبوع، ورأى في ذلك نوعاً من التهدئة لخواطر للجالية المسلمة وإبعاد شبهة استهدافها بهذا المشروع. لكن يظهر أن الأمر أكبر وأبعد من ذلك، وأن خطوة الحكومة الفرنسية قصدت توجيه رسائل لأكثر من جهة، أولها الجالية المسلمة، مضمونها من جهة الاعتراف بأهميتها وبدورها في البلد وبأنها جزء من النسيج الاجتماعي الفرنسي، ومن جهة أخرى دعوتها لفتح نقاش داخلي حول كيفية تمثل الإسلام ومبادئه بشكل لا يتصادم مع الواقع الفرنسي أو «مبادئ الجمهورية»، وكان هذا واضحا في كلمة فيون خلال افتتاح المسجد عندما قال في إشارة إلى المتمسكين بالنقاب: «بتقمصهم صورة حالكة ومتعصبة، يمثل الأشخاص الذين يخفون وجوههم بدعوى عقيدتهم، هم بوعي أو من دونه، أعداء إسلام فرنسا الذي تساهمون في بنائه»، وفي هذا دعوة مبطنة للجالية المسلمة إلى أن تجيب بنفسها على سؤال سبق أن طرحه «اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا» في اجتماعه السنوي ال27 «ما معنى أن تكون مسلماً في فرنسا؟» وهذا السؤال يستحق العناء والتفكير والاجتهاد من نخبة الجالية بمساعدة علماء المسلمين المعروفين بحكمتهم ووسطيتهم لقطع الطريق على المتربصين شراً بالجالية المسلمة، والسعي لترشيد تدينها واندماجها بشكل إيجابي وفاعل. وثانيها لليمين المتطرف وللإعلام الذي يُمعن في التركيز على مظاهر سلبية ومعزولة لبعض أفراد الجالية المسلمة وتصويرها وكأنها حالة عامة، فضلا عن تصوير مظاهر التدين ورموز الإسلام وكأنها أسلمة لفرنسا من قبيل بناء المساجد والمآذن، وهذا جزء من مخطط يميني متطرف يجتاح أوروبا ويعمل على زرع الخوف من المسلمين، لكن ولحسن الحظ هناك وعي بخطورة هذا التيار وخطوة رئيس الحكومة الفرنسية المذكورة ربما تعكس هذا الوعي، وكذلك دعوة برلمانيي مجلس أوروبا الأسبوع الماضي سويسرا لتعليق القانون الذي يحظر بناء المآذن معتبرين ذلك إجحافا وتمييزا بحق المسلمين، ومعارضتهم فرض حظر تام لارتداء النقاب وذلك في ختام جلسة مناقشة حول «التيار الإسلامي المتشدد وكره الإسلام»، حيث أقرّ برلمانيو أوروبا بالإجماع نصاً يطالب ب «عدم فرض حظر تام لارتداء النقاب أو ملابس دينية أخرى، بل حماية حرية الخيار لدى النساء بارتداء لباس ديني أو لا»، و «بالحرص على أن تتوافر للنساء المسلمات الإمكانات نفسها للمشاركة في الحياة العامة وممارسة نشاطات تربوية ومهنية». إن تدشين رئيس الوزراء الفرنسي مسجد «الإحسان» بقدر ما يمكن تفسيره على أنه خطوة مهمة في اتجاه محاصرة وباء العداء للإسلام أو ما يعرف ب «الإسلاموفوبيا»، ومشاعر معاداة المسلمين أحياء وأمواتاً (مهاجمة القبور وكتابة شعارات نازية عليها)، يمكن تفسيره كذلك بأنه نوع من المصالحة مع الجالية المسلمة (حوالي ستة ملايين نسمة) وتجسيد لرغبة الحزب الحاكم في استعادة المبادرة، وسحب البساط من اليسار والاشتراكيين على وجه التحديد وزعيم حركة «جمهورية متضامنة» دومينيك دوفيلبان الذين انتقدوا بقوة فتحه النقاش حول ما يعرف ب «الهوية الوطنية» والتوجه للغة الإجبار بدل لغة الحوار في حل عدد من القضايا، واعتبروه نوعا من التضييق على المهاجرين بشكل عام وعلى الجالية المسلمة بشكل خاص. باختصار، يمكن القول إن تدشين مسجد «الإحسان» بحضور رئيس الحكومة الفرنسية فرانسوا فيون خطوة سياسية تعكس رغبة الحزب الحاكم «الاتحاد من أجل الحركة الشعبية» في تحسين صورته السياسية لدى شريحة مهمة من الشعب الفرنسي، وتجاوز النتائج المأساوية التي حصل عليها في الانتخابات المحلية والجهوية، والاستعداد للانتخابات البرلمانية مقبلة ومعركة الانتخابات الرئاسية التي يظهر أنها انطلقت مبكرا، والبعد السياسي في الخطوة المذكورة لا ينقص من شأنها وأهميتها، ويدعو الجالية المسلمة للتفاعل معها بإيجابية لأنها في كل الأحوال اعتراف بكونها مكوناً أساسياً من مكونات المجتمع والشعب الفرنسي، ولا يمكن تهميشها، وأن صوتها له تأثيره وقيمته خاصة إذا تم توحيده وتنظيمه بشكل جيد وبنّاء. العرب القطرية 2010-07-01