في واحدة من آخر محاولات تغيير مجرى الحرب في أفغانستان، اتفق الجنرال باتريوس، قائد القوات الأميركية وقوات حلف الناتو، مع الرئيس الأفغاني كرزاي، على تأسيس قوة دفاع قبلية محلية، موازية للجيش الأفغاني الرسمي، تشارك في القتال ضد طالبان. فكرة تشكيل ميليشيات أفغانية ليست جديدة، وقد برزت تحت تأثير النجاح الذي حققته قوات الصحوة، التي وظفها باتريوس أثناء قيادته لقوات الاحتلال بالعراق في 2008-2009، لوضع حد لتصاعد المقاومة العراقية للاحتلال، ومواجهة مجموعات القاعدة في مناطق الأكثرية السنية، وقد واجه المشروع من البداية معارضةً صريحةً من كرزاي، الذي رأى أن السياسة الأميركية ستوسع من نطاق فوضى السلاح والعنف في البلاد، حتى إن أسهمت في خفض معدلات خسائر قوات الناتو. ويؤشر الاتفاق الأخير بين الطرفين إلى أن باتريوس نجح أخيراً في إقناع كرزاي، أو الضغط عليه، للقبول بالفكرة، بعد إجراء تعديل شكلي على المشروع يؤكد وضع هذه الميليشيات تحت سيطرة وزارة الدفاع الأفغانية. الحقيقة، أن الحرب الأميركية– الدولية في أفغانستان تمر بفترة عصيبة، والأرجح أن فكرة ميليشيات القبائل لن تغيّر كثيراً في مجريات الحرب. وربما كان كرزاي هذه المرة على حق؛ فميليشيات القبائل ليست إلا انبعاثاً جديداً للوردات الحرب والعصابات المسلحة التي عاثت في البلاد فساداً خلال سنوات الاقتتال والفوضى الأهلية التي فصلت بين الانسحاب السوفييتي في 1989 وفرض طالبان سيطرتها على معظم أفغانستان في 1996. ثمة خلافات كبيرة وجوهرية بين الوضع العراقي والوضع في أفغانستان؛ ويصعب نقل تجربة الصحوات العراقية بفعالية إلى المسرح الأفغاني. لم تولد الصحوات في العراق بقرار أميركي، وإن عمل الأميركيون بعد أن رأوا إنجازاتها في توسيع نطاق عملها وتوفير الدعم الضروري والحماية الرسمية لعناصرها. كانت الصحوات نتاج الجدل الذي لم يحل قط في صفوف قوى المقاومة والعشائر العراقية حول ما إن كان خطر إيران على العراق يفوق خطر الاحتلال الأميركي، ونتاج تعديات القاعدة البشعة على مجموعات المقاومة الأخرى والعشائر والبنى الاجتماعية العراقية التقليدية. مثل هذه الشروط لا تتوفر في أفغانستان؛ فليس للقاعدة دور يذكر في الساحة الأفغانية، ولا يرى الأفغان خطراً يذكر من التدخل الإيراني أو الباكستاني في شؤون البلاد. والمقاومة الأفغانية موحدة تحت قيادة طالبان والملا عمر بصورة لم يعرفها العراق في أية مرحلة من مراحل الاحتلال؛ إضافة إلى أن الأفغان لا يعانون الانقسام العميق، الذي جعل أغلب شيعة وأكراد العراق يرون في الاحتلال مخلصاً، وأغلب سنته يعارضون الاحتلال. والأهم أن طالبان ليست قوة مسلحة وحسب، بل تمثل شريحة واسعة من الشعب الأفغاني، لا يضم البشتون فقط، الذين هم أكثرية الشعب الأفغاني، بل وقطاعات ملموسة من الطاجيك والأوزبك. وليست هذه هي مشكلة الحرب في أفغانستان الوحيدة؛ فبعد مرور شهور على قرار زيادة عدد القوات الأميركية في أفغانستان، يبدو أن إستراتيجية إيقاع الهزيمة بطالبان أوتحجيمها قد فشلت. ثمة تصاعد ملموس في هجمات طالبان، يفوق معدلات نشاطها العسكري في 2009، الذي اعتبرته طالبان أفضل الأعوام منذ سقوط نظامها وبداية الاحتلال الأجنبي في خريف 2001. والنتيجة الطبيعية لنجاحات طالبان كان ارتفاع معدلات الخسائر في صفوف القوات الأميركية والقوات الحليفة بشكل غير مسبوق. كما أن المناطق التي استهدفتها عمليات عسكرية أميركية وبريطانية واسعة، من أجل تطهيرها من قوات طالبان وضمها إلى مناطق نفوذ قوات الناتو وحكومة كرزاي، لا تلبث أن تشهد عودة سريعة لمجموعات طالبان وإدارتها القضائية والسياسية؛ مما يقوض ثقة السكان في قدرة القوات الأجنبية أو قوات كرزاي على حسم الموقف لصالحها. والمعضلة، من وجهة نظر أفغنة الحرب، أن نجاحات طالبان تتحقق في ظل التقدم الهائل في تدريب وتهيئة قوات الجيش والأمن الأفغانية الرسمية التابعة لحكومة كابل، والتي يفترض أن تقود الحرب ضد طالبان بعد انسحاب القوات الأميركية والأجنبية الأخرى ابتداءً من العام القادم. والمؤكد، طبقاً لتقارير أميركية، أن نسبة كبيرة من الجيش الأفغاني الجديد تفتقد الولاء للجيش وحكومته، وأن عدداً من عناصر هذا الجيش تربطها صلات وثيقة بطالبان. أما وضع قوات الأمن فأسوأ بكثير. هذه بلاد واسعة، وتعقيداتها الداخلية والإقليمية أكبر بكثير مما ظنت إدارة بوش الابن عندما أخذت قرار الحرب على حكومة طالبان بعد أحداث سبتمبر 2001. كانت الحرب خطأ بالتأكيد، وكما في العراق، أعطت واشنطن السيطرة الفعلية في الدولة الأفغانية الجديدة لحلفائها من طاجيك وادي بانجشير، ولقوى الأقليات السياسية الأخرى، الأوزبكية والشيعية؛ مع تمثيل هامشي وغير فعال لكتلة الأكثرية السكانية البشتونية. إقليمياً، عزلت باكستان، التي ترى أن المجال الأفغاني يمثل ساحة موت أو حياة إستراتيجية لها، عن الشأن الأفغاني لسنوات طوال، وفتحت أبواب كابل للنفوذ الهندي. خلال فترة قصيرة، ارتد قرار الحرب غير الصحيح وغير المبرر، وسياسة ما بعد الحرب، الخرقاء وقصيرة النظر، بعودة متسارعة لطالبان وصعود متسارع لنفوذها، ليس فقط كقوة عسكرية، بل أيضاً كرد على الخلل في موازين الداخل السياسية وفي الموازين الإقليمية. على نحو من الأنحاء، وبفعل الانتقادات المتكررة التي وجهتها حملة أوباما الانتخابية لإدارة بوش وتركيزها على العراق على حساب أفغانستان، أصبحت الحرب في أفغانستان حرب أوباما وإدارته. وسرعان ما اتخذ الرئيس قرار زيادة تعداد القوات في أفغانستان، مع الوعد بأن يبدأ الانسحاب من أفغانستان في صيف 2011. المنطق الذي أسس لسياسة أوباما أن زيادة القوات، حتى إن لم توقع هزيمة ساحقة بطالبان، فستؤدي إلى إضعافها بشكل ملموس، وإلى تعزيز سلطة حكومة كرزاي، وإفساح المجال بالتالي للتوصل إلى حل سياسي لا يصطدم بالمصالح الأميركية ولا يؤدي إلى إطاحة نظام الحكم الذي أقيم بعد الاحتلال. تواجه هذه السياسة الآن صعوبات جمة، إن لم نقل إنها قد أخفقت بالفعل ولم يعد هناك من بدائل حقيقية وجادة لإنقاذها. هذه لحظة بالغة الحرج والحساسية في الوضع الأفغاني، وعلى الأميركيين ودول الناتو الأخرى الشريكة في الحرب أن تختار فيها بين سيناريوهات لم يعد من الصعب رسم ملامحها الرئيسة. استمرار الحرب بلا نهاية لم يعد بمقدور الولاياتالمتحدة ولا الشركاء الآخرين، وخلال عام من الآن سيبدأ انسحاب القوات الأجنبية، بغض النظر عن استعداد الجيش الأفغاني أو ما إن كان الانسحاب سيكون كاملاً. وسيخلق بدء الانسحاب مناخاً إستراتيجياً وسياسياً ومعنوياً جديداً، يصب بالتأكيد لصالح طالبان واتساع نطاق قاعدتها الشعبية. يمكن أن يبدأ الانسحاب بالطبع في ظل تسوية سياسية، تقوم على التفاوض المباشر والجاد بين الأميركيين وحركة طالبان، تسوية تؤسس للسلم وولادة نظام حكم جديد، وتستجيب وإن بشكل جزئي للمصالح الأميركية التي لا تمس استقلال البلاد وكرامتها. ويمكن أن يبدأ الانسحاب بمعزل عن مثل هذه التسوية السياسية، ويترك الأفغان لمصيرهم. في مثل هذه الحالة، ستغرق البلاد في خضم حرب أهلية، تفاقم منها التدخلات الإقليمية المتعارضة، وتعود أفغانستان بالتالي مرتعاً لقوى الإرهاب ذات الاهتمامات الإقليمية أو العالمية. الخيارات واضحة، على أية حال، وليس ثمة غموض كبير يحيط بها. العرب القطرية 2010-07-22