يُثار جدل حول الإسلام في أمريكا والغرب،عموما،غير مسبوق في تصاعد وتيرته واتساع دائرة المنشغلين به وتنوع أغراضه،وهو جدل،في مجمله- للأسف-يسيء للإسلام ويُرسخ عنه صورة نمطية متجنية تتعمد التخويف منه وربطه بالتخلف والإرهاب والسخرية من معتنقيه الذين يبلغ عددهم أكثر من مليون ونصف المليون من سكان المعمورة... فالإسلام متهم بأنه إيديولوجيا عقائدية تعوق الديموقراطية ولا تتلاءم معها ومحرض على الإرهاب و»الصراع بين الحضارات»،كما يذهب إلى ذلك «صاموييل هنتنجتون» أحد أبرز علماء السياسة الأمريكيين،إذ يقول،مثلا،في خلاصة استنتاجات ضمنها الفصل الأخير من كتابه:» الموجة الثالثة-التحول الديموقراطي في القرن العشرين»: «...إلا أن الإسلام يرفض أيضا التمييز بين المجتمع الديني والمجتمع السياسي.من ثم المشاركة السياسية مرتبطة بالانتماء الديني.والإسلام في دولة مسلمة ينص على ضرورة أن يكون من يتولى الحكم مسلما تقيا وأن تكون الشريعة هي القانون وأن يكون للعلماء صوت حاسم في مراجعة السياسات الحكومية وتعديلها. ونظرا لأن شرعية الحكومة وسياساتها تنبع من العقيدة الدينية والممارسة الدينية فهي تختلف تماما مع متطلبات السياسة الديموقراطية...» ثم يمضي فيقول حاسما:» ومن الناحية التطبيقية يمكن القول انه ليس هناك دولة إسلامية احتفظت بنظام سياسي ديموقراطي لمدة طويلة...والدولة العربية الوحيدة التي قام بها شكل من أشكال الديموقراطية هي لبنان...وما ان أصبح المسلمون أغلبية وبدأوا في التأكيد على وجودهم،انهارت الديموقراطية اللبنانية...» وواضح أن هذا المفكر السياسي وقع ضحية مناخ متحامل على الإسلام مدعوم بمعضلة تخلف المسلمين فاستعصت عليه القراءة العلمية النزيهة التي تليق بكبار المفكرين، لذلك نستشعر في تقييماته ارتباكا وتذبذبا وحيرة... ينسحب هذا السلوك المستفز إزاء المسلمين على ما تقوم به،مثلا،منظمة «أوقفوا أسلمة أمريكا» من حملات صريحة في مناهضتها للإسلام،وما يقوم به-لنفس الغاية-ما يُصنفون في أمريكا،ضمن المفكرين وناشطي المجتمع المدني مدعومين بوسائل إعلام رهيبة مثل روبرت سبنسر ومايكل سافدج ودانيل بايبس ورئيس منظمة «مركز الحرية» ديفيد هورويتز...والقائمة تطول. ومن اللافت في مثل هذا الجدل وغيره تحوله من المنابر الفكرية والحملات الدعائية المناهضة للإسلام إلى أفعال وقوانين وسلوكيات يعمد فيها الغرب المتحضر إلى تشريع ميز عنصري جديد إزاء مواطنيه المسلمين من قبيل الحق في الشغل بالامتناع غير المبرر عن توظيف المسلمين والإخلال بمبدإ المساواة بينهم وبين غيرهم في سائر المعاملات اليومية بدءا بإجراءات المرور في المطارات،ومرورا بالاعتداءات المتكررة التي تستهدفهم ومعالمهم الدينية ووصولا إلى ما يصل إلى الاستحالة في نيل موقع مستحق لباحث أو خبير مسلم في مخابر البحث العلمي ذات الحساسية الخاصة... أما إذا ما ألقينا نظرة على دول القارة الأوروبية فوضع المسلمين شبيه لما هو عليه في أمريكا،وهو،غالبا ما يكون إفرازا لحالة التخويف من الإسلام «الإسلاموفوبيا»-وهي تسمية متحاملة غير محايدة تحولت لمصطلح خبيث يُروج له،ولا يستنكف حتى المسلمين من تسويقه...- في الغرب المتحضر تضايق من بناء مسجد وحظر لبناء صومعة شرعه استفتاء شعبي (في سويسرا)،واستهجان لمظهر المسلمين والمسلمات حتى في لباسهم وتقاليد زواجهم...وتجريم لما لا يروق للذوق بمقاييس غربية التي لم تعد مؤسسَة على «نعمة الاختلاف»،كما كانت وهي ترسي عليها البناء الحضاري الحديث الذي حقق التفوق الغربي...ولا عجب إن تقرر،غدا،ملاحقة الفرائض الدينية الإسلامية بادعاء أنها «متخلفة» لا تنسجم مع روح العصر أو أنها تحمل إشارات مبطنة تُحرض على الإرهاب. والحقيقة أن الانشغال بالموقف الغربي المعادي للإسلام ليس لأنه الأكثر إساءة بل لأنه الأكثر إيذاء من غيره في إفريقيا والهند وروسيا والصين وحتى في دول إسلامية،فضلا عن أن الغرب بحكم تفوقه الحضاري وهيمنته يتحمل مسؤولية أخلاقية وتاريخية متقدمة في تأمين التعايش الإنساني والثقافي والعقائدي العالمي أكثر من غيره،خصوصا في البلدان التي يُعشش فيها الفقر والجهل والتي تعصف بها الفتن والآفات بما يجعلها هي الأخرى ضحية نظام عالمي سيء الآداء... إن التسليم بتفوق أمريكا والغرب،عموما،وسعي الشعوب النامية إلى الاستفادة من هذا التفوق،لا يعني البتة استسلام هذه الأخيرة لإرادة الأولى في التجني على قيمها وموروثها الثقافي وعقيدتها الدينية،ولذلك نتفهم ونقدر الحذر من الإساءة للبوذية،مثلا،واحترام طقوس اليهود واليابانيين والصينيين والهنود...كما أنه لا يمكن تبرير الإساءة للإسلام مهما كانت الذرائع والتعلات،وفي مقدمتها ذريعة هذا البعبع الذي يُسمى ب «الإرهاب»...إذ الإرهاب في أسبابه وأدواته ليس بضاعة إسلامية،بل إفرازا من إفرازات الحضارة الغربية،التي،رغم إبداعاتها الرائعة،وقعت في فخ «الكيل بمكيالين» واعتدت،عن قصد أو دون وعي-نتيجة الاستعلاء والاستكبار والغرور-على كرامة الشعوب ذات الثقافات العريقة-بدءا بتشريعها للاستعمار،بالأمس القريب،والاحتلال،حاضرا،(العراق وأفغانستان) ووصولا إلى ما ارتاحت إليه من عزفها لهذه المعزوفة النشاز التي تُسميها»الإسلاموفوبيا» أو «الإرهاب الإسلامي»... لا فرق بين أمريكي وآخر غير أمريكي إن اعتدى على آمنين،تحت تأثير الخمر أو المخدر أو الهوس أو الشذوذ أو الإحباط واليأس،مهما كانت الديانة أو الولاء الإيديولوجي ومهما كان الموقع على هذه اليابسة...والمعالجة يجب أن تتجه إلى العلة التي دفعت إلى فقدان السيطرة وبالتالي الإجرام في حق الآمنين وذلك بالتصدي لها أو التداوي منها أو التقليص من دوافعها...وإذا كان هناك إرهاب يقترف بمظلة إسلامية فإن العلة ليست في الإسلام،إنما تكمن بالأساس في حالة الإحساس بالغبن والظلم والقهر الذي ينتج عنه سلوك يائس متوحش... تُرى هل يصحو التفوق الحضاري الغربي على ما يشكوه من علل الهيمنة والغرور والمكابرة فيعالجها ويُتيح الاستفادة من أسباب تفوقه التي لا تكمن في العداء للإسلام ولا يجب أن تكون كذلك... ولعل الانتصار لبناء معلم ثقافي إسلامي «مساكن قرطبة» بمدينة نيويورك،بالقرب مما يُسمى ب «الموقع صفر» الذي كان يضم مركز التجارة العالمي والذي استهدفته هجمات 11سبتمبر 2001 (من ضحاياها مسلمون) يفتح بارقة أمل على أن القوى المؤمنة بالتعايش بين الديانات والثقافات ما تزال فاعلة ومؤثرة،ما دامت قد استطاعت،في أتون الحقد الأعمى على الإسلام،أن توحي أن الذي سقط،في الموقع صفر، هو نتيجة حقد معزول،وأن الذي سيُشيد،على بعد أمتار منه هو معلم إسلامي يدعو إلى التسامح و»الإسلاموبيس»-إسلام السلام-كما تدلل عليه العقيدة الإسلامية منطوقا وقيما. جمعة الشاوش كاتب ومحلل سياسي تونسي الصباح التونسية 17/08/2010