تذكر وزيرة الخارجية الامريكية السابقة مادلين أولبرايت في مذكرتها للرئيس المقبل بأنها فوجئت حين قالت في خطاب جماهيري لها بأن الاحتلال الامريكي للعراق أكبر كارثة سياسية في تاريخ امريكا؛ فقوبل الخطاب بعاصفة تصفيقية من الجمهور، وحين سألت لماذا التصفيق وجدت أن الجمهور يصفق لإدراك السياسيين هذه الحقيقة متأخرين عنه لسنوات، وهو الذي كان يحذر ويسير في المظاهرات المليونية في شوارع امريكا وغير امريكا احتجاجاً ورفضاً للحرب. هذه الحادثة لرئيسة الدبلوماسية الامريكية السابقة تظهر أن بوصلة الشعوب لا تخطئ، ويغلط من يظن يوماً من السياسيين وصناع القرار في عالمنا الفسيح أنه أفهم وأشد وعياً وإدراكاً بمصالح الشعوب والأمم من الشعوب ذاتها؛ فالشعوب التي خرجت ونددت بكل الاحتلالات السابقة التي لم تجلب سوي الخراب والدمار علي الأمم هي نفسها الشعوب التي عارضت قرارات السياسيين الذين أدركوا متأخرين خطأ قراراتهم التي لا تزال الشعوب تدفع ثمنها باهظاً. هنا تأتي الحالة التركية التي يظن من خلالها المدعي العام التركي يالشيتيكايا بأنه حريص علي أمن واستقرار تركيا، ويسعي إلي ارتداء خوذة وبوسطار الجنرال التركي العاجز الآن عن القيام بانقلاب عسكري ضد حزب العدالة التركي ذي الشعبية الكاسحة، يعجز لأن الانقلابات التركية كلها والتي وقعت بذريعة الحفاظ علي النظام الكمالي الإجرامي بحق تركيا وحق المنطقة؛ إنما وقعت في ظل حكومة هشة شعبياً وتفتقر إلي دعم الشعوب، ولذلك تدخّل الجيش، بخلاف الواقع الآن، ولذا يسعي القضاء التركي إلي الانقضاض علي حكومة شعبية بمستوي العدالة التي تتمتع ب60% من أعضاء البرلمان التركي، ولديها رئيس ورئيس وزراء، وبالتالي في حال قررت المحكمة حظر الحزب فهذا يعني حرمان الرئيس ورئيس الوزراء وأكثر من سبعين عضواً برلمانياً من العمل السياسي لخمس سنوات مقبلة. وما ان قررت المحكمة العليا التركية الموافقة علي النظر في القضية حتي انهارت الليرة التركية بنسبة 13% من قيمتها، واندفعت رابطة الصناعيين الأتراك (معقل الجناح العلماني المتشدد) إلي التحذير من مغبة النظر وإقرار القضية، كون ذلك سيخضّ الاقتصاد التركي، لكن العلمانيين والاستئصاليين في القضاء التركي والمؤسسة العلمانية لا يهمهم شيء من ذلك ما داموا ينظرون إلي مصالحهم الآنية والشخصية بغض النظر عن مصالح تركيا التي ارتقت إلي مستوي لم يسبق له مثيل في ظل حكم العثمانيين الجدد. العجيب في الأمر أن القضاء التركي الذي ينبغي أن تكون مهمته تسيير وتسهيل الحركة في تركيا يتولي عرقلة العمل السياسي، فضلاً عن عدم احترام إرادة الشعب. ما يقوم به القضاء التركي في هذه الحالة ولا سيما إن اتخذ قراراً معادياً لحزب العدالة، شبيه بانقلاب عسكري، بحجة الدفاع عن العلمانية، ضارباً بعرض الحائط اختيارات الشعب، الذي ينبغي أن يبقي أسيراً للماضي ولأنظمة لم يخترها بنفسه، ويظل محكوماً من قبل أصحاب المقابر، وكأن هذا القضاء يظن أن الشعب التركي قاصر ولا بد من كفيل وراع له، عبر ديمقراطية يشرف هو عليها. القضية باختصار هي أن الدوائر العلمانية المتطرفة تدرك أنها بدأت تخسر شعبياً ومؤسساتياً لصالح حزب العدالة، وبالتالي مستعدة كما يقال لأن تقاتل ذباب وجهها، بالإضافة إلي السعي إلي القبض علي الهواء والحراثة في البحر. علي الجانب الآخر نري القضاء الباكستاني الذي ناكف المؤسسة العسكرية، فأقال الجنرال سابقاً برفيز مشرف رئيس المحكمة العليا افتخار تشودري؛ لوقوفه إلي جانب القوي الديمقراطية والشعبية في البلد، وناكف العسكر وزعيمهم، وأرغم علي الإقامة الجبرية، لكنه ظل شامخاً فالتفّت حوله رابطة المحامين الباكستانيين في انتفاضة عُرفت بالمعاطف السود ضد القوي الشمولية في باكستان، ليسطر القضاء والمحامون ملحمة ديمقراطية فريدة من نوعها، ويتحول القضاء إلي مغناطيس جذبٍ لكل القوي المناوئة للاستبداد والشمول، ويغدو كمخلّص حقيقي للشعب من براثن الاستبداد والفساد. افتخار تشودري تحول إلي رمز، أليس الأجدر بالقضاء التركي أن يتعلم من الدرس القضائي الباكستاني، ويدرك معه أن البرلمان أقوي من كل المحاكم؟ فالبرلمان يستمد قوته وسلطاته من الشعب الذي هو مصدر السلطات في الأنظمة الديمقراطية، وليس القضاء الذي يستمد صلاحياته وسلطاته من قوانين بائدة لا علاقة لها بممثلي الشعب والحراك الاجتماعي والسياسي الحاصل في البلاد. علي القضاء التركي أن يدرك أن وظيفته هي تسهيل السلاسة في الحكم، وليس وضع تركيا في حرب مع نفسها، وأن يكفّ عن لعب دور الجنرالات والعسكر في العقود الماضية، وأن يعي أن البرلمانيين هم ممثلو الشعب وان البرلمان هو مصدر السلطات وليس مطرقته. كاتب من سورية القدس العربي 18/04/2008