ما زال الكثير من أفراد النخبة المثقفة العربية، والكثير من أطراف الحركات القومية العربية، يتساءلون عن الأسباب الحقيقية التي قادت الى سقوط بغداد، وبالتالي انهيار مؤسسات الدولة الشمولية العراقية، وتحولها ما بين يوم وليلة، الى أثر بعد عين! وكان الاعتقاد السائد عندما استلم حزب البعث السلطة في العراق في انقلاب 17-30 تموز (يوليو) 1968 أن العراق يمر بمرحلة الانتقال الى التبلور كدولة مركزية جديدة في العالم العربي، حيث تمتلك القيادة السياسية الحاكمة فيه إرادة التحول هذه، وتعمل في اتجاه التبلور هذا. هذا الاعتقاد ليس جديداً على الساحة العربية، إذ ساد اعتقاد مماثل في عقد السبعينات حول إمكان الجزائر، باعتبارها بلداً منتجاً للنفط، تجنيد إمكاناتها المالية في سبيل تسريع عملية التصنيع الثقيل، غير أن الطبقة الحاكمة قامت ببناء نموذج هش من التصنيع، وعاجز عن توفير القدرة على الامتصاص والتخليق التكنولوجيين لمواجهة تحديات التحديث. غير أن مضمون تبلور دولة مركزية عربية إقليمية، يتطلب توافر بعض المقدمات والشروط المميزة لكي تنخرط، وتستمر هذه الدولة في استراتيجية صراعية مع الأطراف الإقليمية والدولية، باعتبار أن قيامها يشكل تهديداً مباشراً لمصالح الولاياتالمتحدة، وإسرائيل على حد سواء. والحال هذه، ان الدولة العراقية الشمولية التي قامت بالفعل، لم تكن بالنموذج المعياري المطلوب، لأن الشكل المهيمن فيها هو مؤسسات نخبة حزبية ضيقة، أو مؤسسات نظام عقائدي على طريق النظم الشمولية السوفياتية. فمع وصول صدام حسين الى قمة السلطة في 1979، برزت هيمنة التكريتيين. وجاءت حرب الخليج الثانية في 1991 لتعزز من مواقعهم داخل النظام الذي غلب عليه الطابع العسكري والأمني، حيث جاء صدام بأقربائه وأصهاره والذين يضمن ولائهم المطلق له. وشكل نزع السياسة عن الشعب الطريقة الضرورية بنيوياً لضمان استمرار سيطرة الدولة الشمولية على المجتمع في إ طار وظيفتها داخل التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية الطرفية، حيث كانت تقوم بحرب أهلية كامنة بل بحرب أهلية صريحة على أفراد الشعب العراقي الذي لا يتكون من «مواطنين أحرار ومتساوين» في نظرها. وفي الوقت الذي كانت فيه مثيلات هذه الدولة الشمولية في المنظومة السوفياتية والأوروبية الشرقية تنهار، لم تدرك القيادة العراقية جدياً تغير بيئة العالم باتجاه الانتقال التدريجي نحو الديموقراطية. وكانت عملية تغول هذه الدولة على المجتمع وعسكرته نتيجة طبيعية لتهورها ومغامراتها العسكرية من خلال حروبها الإقليمية، التي مهدت الطريق لقدوم الاستعمار الأميركي الجديد للمنطقة. وقد أفضت طريقة صدام حسين في التعاطي مع الجيش العراقي الى الإجهاز على روح التماسك بين صفوف عناصره ووحداته، فتم تفتيت وحدته. ولأن الثورات الأوروبية قادتها البورجوازية الصاعدة، وارتبطت بظهور الرأسمالية وتطورها في مراكز النظام العالمي وأطرافه على حد سواء. لكن البورجوازية في عالمنا العربي ليست طبقة منتجة وبالتالي ليست طبقة قائدة. ولذلك ارتبطت مباشرة بالاستراتيجية الشاملة للإمبريالية والنظام الرأسمالي العالمي، وفق معادلات الجغرافية السياسية الخاصة بكل قطر، فبنت الدولة القطرية المحكومة بقانون التجزئة والتبعية، والمتجاوبة مع التقسيم الامبريالي للعمل كما أقرته اتفاقية سايكس بيكو، بين الامبرياليات المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. وقد عمق هذا المأزق العربي وواكبه تأسيس الكيان الإسرائيلي في قلب العالم العربي. وأخطر ما تعانيه الأمة العربية الآن تلازم عمليتي التهميش والتفتيت وتكاملهما اللذين هما من أبرز خصائص النظام الدولي الجديد، نظام الهيمنة الأميركية التامة. وهكذا، فإن المشروع القومي العربي الذي هو خيار الأمة التاريخي الاستراتيجي، لم يتأسس على مفهوم الديموقراطية بكل منطوياتها المعرفية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهنا يكمن سبب الانهيار. * كاتب تونسي الحياة 18/04/08