فتح بحث تحقيقي ضدّ المنصف المرزوقي    أريانة: غلق المصب العشوائي بسيدي ثابت    مدنين: حجز أكثر من 11 طن من الفرينة والسميد المدعم وحوالي 09 أطنان من العجين الغذائي    عاجل/ تفاصيل مقترح وقت اطلاق النار الذي وافقت عليه حماس    حالة الطقس هذه الليلة    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة 'سينما تدور'    لأول مرة في مسيرته الفنية: الفنان لمين النهدي في مسرحية للأطفال    وزير الداخلية يلتقي نظيره الليبي اليوم في تونس    الحمامات: القبض على إمراة أجنبية رفقة رجل تونسي وبحوزتهما أنواع مختلفة من المخدّرات    وفاة مقدم البرامج والكاتب الفرنسي برنار بيفو    رياض دغفوس: لا يوجد خطر على الملقحين بهذا اللقاح    زين الدين زيدان يكشف عن حقيقة تدريبه لنادي بايرن ميونيخ الألماني    المتحدثة باسم الهلال الأحمر: ان لم يتوفّر للمهاجر الأكل والخدمات فسيضطر للسرقة.. وهذا ما نقترحه    الكاف: برنامج للتسريع في نسق مشاريع مياه الشرب وتدعيم الموارد وايجاد حلول للمشاريع المعطلة    بمناسبة اليوم العالمي لغسل الأيدي: يوم تحسيسي بمستشفى شارل نيكول حول أهمية غسل الأيدي للتوقي من الأمراض المعدية    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنّان بلقاسم بوڨنّة.    التحديث الجديد من Galaxy AI يدعم المزيد من اللغات    عاجل : القاء القبض على السوداني بطل الكونغ فو    التيار الشعبي : تحديد موعد الانتخابات الرئاسية من شأنه إنهاء الجدل حول هذا الاستحقاق    تصنيف اللاعبات المحترفات:أنس جابر تتقدم إلى المركز الثامن.    كرة اليد: المنتخب التونسي يدخل في تربص تحضيري من 6 إلى 8 ماي الجاري بالحمامات.    فيديو/ تتويج الروائييْن صحبي كرعاني وعزة فيلالي ب"الكومار الذهبي" للجوائز الأدبية..تصريحات..    النادي الصفاقسي يتقدم بإثارة ضد الترجي الرياضي.    مدنين: استعدادات حثيثة بالميناء التجاري بجرجيس لموسم عودة أبناء تونس المقيمين بالخارج    بداية من مساء الغد: وصول التقلّبات الجوّية الى تونس    تعرّض أعوانها لإعتداء من طرف ''الأفارقة'': إدارة الحرس الوطني تُوضّح    الرابطة الأولى: البرنامج الكامل لمواجهات الجولة الثالثة إيابا لمرحلة تفادي النزول    نسبة التضخم في تونس تتراجع خلال أفريل 2024    سليانة: حريق يأتي على أكثر من 3 هكتارات من القمح    الفنان محمد عبده يكشف إصابته بالسرطان    جندوبة: تعرض عائلة الى الاختناق بالغاز والحماية المدنية تتدخل    عاجل/حادثة اعتداء تلميذة على أستاذها ب"شفرة حلاقة": معطيات وتفاصيل جديدة..    الفنان محمد عبده يُعلن إصابته بالسرطان    العاصمة: القبض على قاصرتين استدرجتا سائق "تاكسي" وسلبتاه أمواله    عاجل/ حزب الله يشن هجمات بصواريخ الكاتيوشا على مستوطنات ومواقع صهيونية    مطالب «غريبة» للأهلي قبل مواجهة الترجي    مصادقة على تمويل 100 مشروع فلاحي ببنزرت    جندوبة .. لتفادي النقص في مياه الري ..اتحاد الفلاحين يطالب بمنح تراخيص لحفر آبار عميقة دون تعطيلات    ثورة الحركة الطلابية الأممية في مواجهة الحكومة العالمية ..من معاناة شعب ينفجر الغضب (1/ 2)    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة السابعة    إسرائيل وموعظة «بيلار»    «فكر أرحب من السماء» بقلم كتّاب ((شينخوا)) ني سي يي، شي شياو منغ، شانغ جيون «شي» والثقافة الفرنسية    زلزال بقوة 5.8 درجات يضرب هذه المنطقة..    عمر كمال يكشف أسرارا عن إنهاء علاقته بطليقة الفيشاوي    أنباء عن الترفيع في الفاتورة: الستاغ تًوضّح    منافسات الشطرنج تُنعش الأجواء في سليانة    القيروان ...تقدم إنجاز جسرين على الطريق الجهوية رقم 99    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنّان بلقاسم بوڨنّة    أهدى أول كأس عالم لبلاده.. وفاة مدرب الأرجنتين السابق مينوتي    جمعية مرض الهيموفيليا: قرابة ال 640 تونسيا مصابا بمرض 'النزيف الدم الوراثي'    حقيقة الترفيع في تعريفات الكهرباء و الغاز    مختصّة في أمراض الشيخوخة تنصح باستشارة أطباء الاختصاص بشأن أدوية علاجات كبار السن    غدًا الأحد: الدخول مجاني للمتاحف والمعالم الأثرية    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة متأنية في وثيقة بابا الفاتيكان عن الوجود المسيحي في الشرق الأوسط
نشر في الفجر نيوز يوم 13 - 10 - 2010

أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه واهتدى بهداه.
وبعد؛ فهذه قراءةٌ سريعةٌ ومتأنيةٌ في الورقةِ الَّتي أعدَّتها حاضرة الفاتيكان لتكون ورقةَ عمل لمجتمع الأساقفة (السينودس) التى ستبدأ في روما يوم الأحد 10 تشرين الأول / أكتوبر 2010 ، بالاحتفال الرسمي بالقداس الإلهي برئاسة الحبر الأعظم، والمتعلقة بالوجود المسيحي في الشرق الأوسط.
مع أن لنا ملاحظات كثيرة على السياسة العامة للكنيسة الغربية الكاثوليكية حيال الإسلام بخاصة وحيال الشرق الأوسط بعامة ، خصوصا وأن البابا بنديكيت السادس عشر كانت له مواقف جد مسيئة للإسلام وللنبي ، وادعاءات خاطئة حول النبي وحول ما زعمه من انتشار الإسلام بالسيف، وكان للأمة وعلمائها موقف واضح حيال الافتراءات التي تم ترويجها آنذاك.
صحيح أن الحبر الأعظم حاول تبرير موقفه والادعاء بأنه كان ينقل ما قاله غيره؛ إلا أن ذلك كان موقفا غير مقبول من البابا، وقد تم بيان ذلك في حينه.
كما أن تاريخ الكنيسة الكاثوليكية وقيادتها بزعامة البابا أوربان الثاني وخلفائه للحملات الصليبية على العالم الإسلامي ، وما أحدثته هذه الحملات من تخريب وتدمير وما خلفته من كوارث ومآس في البلاد التي احتلها الصليبيون ، والتي أصابت سكان البلاد الإسلامية جميعا بمن فيهم النصارى من بلاد الإسلام، كل ذلك حفر في الذاكرة الشرقية عموما والذاكرة الإسلامية بوجه خاص آثارا سلبية عميقة ، تحتاج إلى جهد حقيقي من الكنيسة الكاثوليكية إذا أرادت تبييض صحائفها المليئة بالدماء والأحقاد.
كما أن موقف الكنيسة الغربية الكاثوليكية من العدوان الصهيوني الهمجي على الأرض العربية في فلسطين هو موقف ضعيف متخاذل ، يقر للمغتصب بما اغتصبه، ويدعو الضحية للتسليم بمنطق القوة، والرضوخ للواقع، والتعايش بسلام (هكذا) مع جيرانهم (هكذا) اليهود، وأما المذابح الجماعية التي ارتكبتها العصابات الصهيونية إبان الاحتلال الصهيوني سنة 1948م ، ثم إبان الاجتياح الصهيوني سنة 1967م ، ثم في الاجتياح الهمجي لبيروت، ثم في العدوان الوحشي على الجنوب اللبناني ثم على غزة، فقد كان رد فعل الكنيسة الكاثوليكية الغربية ضعيفا لا يتناسب مع بشاعة الجريمة ، وبدا في بعض تلك الأحداث كما لو كان إبراء للذمة، أو ذرا للرماد في العيون. وكل ذلك يتنافى مع الموقف الأخلاقي المبدئي الذي ينتظر من أكبر هيئة دينية في أوربا والعالم المسيحي تحمل رسالة المحبة والسلام للعالم.
ثم كان موقف الكنيسة من المحافظين الجدد الذين أشعلوا ما سموه حربا صليبية جديدة ضد العالم الإسلامي موقفا مترددا، وكان ينتظر من أكبر الكنائس أن تعلن بصوت عال موقفا قويا وصارما ، وأن تقود حملة أخلاقية قوية في الاتجاه المضاد، تبرهن بها على حقيقة الموقف المسيحي الداعي إلى السلام والمحبة بين الشعوب، وترفع الغطاء الديني المسيحي عن الغزو الأمريكي غير الأخلاقي لأفغانستان والعراق .
ثم كان موقف الكنيسة الكاثوليكية الغربية محبطا إزاء السياسات والمواقف الغربية الاستعمارية والاحتكارية ضد ما سمي بالعالم الثالث، وبخاصة الشعوب الإسلامية.
كل هذا وغيره ترك بلا شك آثارا سلبية في نفوسنا نحن الشرقيين تجاه الكنيسة الكاثوليكية ، تحتاج إلى تصحيح من الحبر الأعظم والكنيسة الكبرى.
ولعل هذا ما دعا رجلا وطنيا مثل العماد ميشيل عون (وهو كاثوليكي لبناني) إلى توجيه رسالة دعا فيها «الكرسي الرسولي لممارسة الضغط على الكيان الصهيوني لوقف تهويد القدس»، متمنياً على الفاتيكان «تعميم ثقافة الانفتاح لا التخويف والاقتراب لا الابتعاد». وقال العماد عون في رسالته: إن «المشرقيين ينتظرون من الفاتيكان وبما يمثله من سلطة روحية وقف محاولات أبلسة الدين الإسلامي، وأن تتم الدعوة إلى النظر للاسلام بجوهره ونصه الديني، لا من خلال مجموعات تكفيرية يرى المسلمون أنفسهم أنهم ضحاياها ولا تمت إلى دينهم بصلة، لأن تعميم مفهوم الارهاب الإسلامي سيؤدي إلى مزيد من عدم الإستقرار والى صراع حضارات لا نهاية له الا التدمير الذاتي للعالم» .
في ضوء هذه الحقائق وفي ضوء الآمال العقودة على الفاتيكان في إعادة تقييم موقفه من الشرق، واتخاذ مواقف أكثر انسجاما مع حقيقة الأديان عموما ، ومع رسالة المحبة والسلام التي جاء بها السيد المسيح عليه السلام؛ تأتي هذه القراء المتأنية للورقة الوثيقة التي قدمها الحبر الأعظم للمناقشة في اجتماع الأساقفة (السنودس) في روما في العاشر من أكتوبر 2010 ولمدةأسبوعين.
وقد تضمَّنت هذه الورقةُ عدةَ نقاطٍ إيجابية، مثلما تضمنت كثيراً من الأخطاء والمغالطات العلمية والتاريخية والواقعية التي يمكن أن نعدَّها سلبياتٍ كان يجب على من أعدَّ الورقة أن ينتبه إليها.
وفي البداية فإن هذه الورقةَ قد تعرضتْ للتعديل عدَّةَ مرات، ونحن في هذه القراءة المتأنية سنعتمد على الورقة الأخيرة الصادرة عن حاضرة الفاتيكان في يونيو /حزيران 2010 إبان زيارة البابا لقبرص، باعتبارها آخرَ ما صدر، وهي الموجَّهة إلى الأساقفة للمناقشة في اجتماعهم المشار إليه في أكتوبر 2010م.
أولا: نقاط إيجابية في الورقة:
1 – عند الكلام في المقدمة عن انعقاد هذا الاجتماع تتكلم الورقة عن المسيحيين في الشرق الأوسط وطلب مشاركتهم في هذا الاجتماع فتقول:
«نطلب شفاعة الشهود الشهداء من أبناء الأراضي المقدسة، ونعتمد أيضا على شفاعة الطوباوية مريم العذراء، وخطيبها القديس يوسف، أسرة الشرق الأوسط، حيث نما ابن الله في أرضه. نطلب إليهم أن يواصلوا حضورهم القريب الروحي، لحماية كنائس الله المقدّسة في الشرق الأوسط، التي تواصل مسيرتها المقدّسة بين أفراح السماء ومصاعب الدنيا».
وبعيدا عن وصف المسيح بابن الله (حيث لا نقبلُ بذلك ولا نُقِرُّه) فإنَّ اتجاهَ الكنيسة في روما إلى الشرق الأوسط بحُسْبَانه مهدَ المسيحِ وباعتبار المسيحيين فيه على نفس درجة مسيحيي أوربا هو اتجاهٌ جيدٌ للكنيسة الكاثوليكية، ولعلَّ فيه تلميحاً إلى الخطأ التاريخي الذي ارتكبته الكنيسة الكاثوليكية قديماً بإعلان الحرب الصليبية على الشرق بمسلميه ومسيحييه، ولعلَّ في ذلك أيضا بدايةً للتراجع عن الخطإ المستمر الذي ترتكبه الكنيسة (الغربية) باعتماد مبدأ التبشير بالمسيحية بين مسيحيي الشرق، باعتبارهم ليسوا مسيحيين حقيقيين. ولعل هذا الفهمَ لو صحَّ يُمهِّد لتصالحٍ تاريخيٍّ بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية، يكون له أثره الجيد على السلام العالمي.
ولعلَّ مما يؤيدُ هذا ما جاء في الفقرة رقم (5) من الورقة عند الحديث عن هدف السينودس، حيث قالت الورقة:
«يجب تقوية الشركة على كل مستويات الكنيسة الكاثوليكية فى الشرق الأوسط، بدءًا من كل كنيسة ذات الحكم الذاتي.
ومن البديهي أنه يجب تقوية روابط الشركة أيضا مع باقي الكنائس والجماعات الكنسية، أي الكنائس الأرثوذكسية العريقة، والجماعات الكنسية التي نشأت من الإصلاح.
والشركة موجَّهة أيضا إلى كل الناس ذوي الإرادة الصالحة، بمن فيهم المسئولون على المستوى الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي والسياسي «.
ونأمل أنْ يُتَرْجَمَ مثلُ هذا الكلام أعمالاً على أرض الواقع وتعاوناً عمليّاً يزيلُ آثارَ القرونِ الممتدةِ من التسلُّط والعدوانِ الغربي على الشرق.
وفي هذا الصدد فإننا نُثَمِّن ما ورد في الفقرة رقم (80) من الدعوة إلى الحوار بين الكنائس المختلفة كوسيلة جوهرية لتخطِّي سوء الظن، ثم تقول الورقة في لفتة مؤثرة:
«ونظرا لما كان فى التاريخ من عدم تفاهم، من الضروري العمل على تطهير الذاكرة، محررين النفوس من الأحكام المسبّقة المختلفة، بقبول الواحد للآخر، عاملين معا للأمور المشتركة».
ثم تقول في الفقرة (84):
«ويمكن تحسين العلاقات مع إخوتنا المسيحيين غير الكاثوليك أيضا عن طريق الأنشطة المُتاحة محليا، مثل الاشتراك في الأخوّيات التى تقبل الأعضاء بصرف النظر عن انتمائهم الطائفي. ومع الإدانة الحازمة للاقتناص الذي يستخدم وسائل لا تتفّق مع الإنجيل، يلزم التكرار أنه اليوم أكثر من كل وقت صار من الضروري تطهير الذاكرة، مما يساعد كل المسيحيين على أن يثبّتوا أنظارهم للأمام وإلى فوق، على الرب الذي يجذب الجميع إليه».
2 – في الحديث عن هدف السينودس تقول الورقة في الفقرة رقم (4): «في منطقة يتعايش فيها منذ قرون مؤمنون من الديانات التوحيدية الثلاث، من المهم بالنسبة إلى المسيحيين أن يعرفوا جيدا اليهود والمسلمين، حتى يستطيعوا التعاون معهم في المجال الديني والاجتماعي والثقافي لخير المجتمع كله.
إن الدين – بالأخص للذين يعبدون الله الأحد يجب أن يصير دوماً أكثر فأكثر عاملا للسلام والوفاق والالتزام المشترك في تنمية القيم الروحية والمادية للإنسان والجماعة».
وهذا كلامٌ رائعٌ فيما يجب أن تكون عليه العلاقةُ بين الأديان الثلاثة (الإسلام والمسيحية واليهودية)، وقد قال الله تعالى في القرآن العظيم ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[آل عمران/64] .
إنَّ هذا الحديثَ عن اشتراكِ الجميعِ في تنميةِ القيمِ الروحيةِ والإنسانيةِ والاجتماعيةِ لما فيه خيرُ الجميعِ يمثِّل عنواناً جيداً لوحدةٍ إنسانيةٍ نرجوها، ويُبشِّرُ بأن الكنيسةَ تريدُ أن تنفُضَ يديْها من التراثِ الصليبيِّ القائمِ على استبعادِ الآخَرِ واستعبادِه والسيطرةِ عليه، لتعود إلى صفاء المسيح عليه السلام الذي أحبَّ الخيرَ للجميع.
كما تؤشر الورقة بهذه العبارة إلى رغبة في إعادة النظر في موقف الكنيسة الكاثوليكية من الإسلام باعتباره دينا يدعو إلى السلام والمحبة والتعاون الإنساني ، بعد أن كانت كلمات البابا غير الموفقة حول النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحول الزعم بأن الإسلام انتشر بالعنف؛ قد ألقت بظلال كئيبة على علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالمسلمين.
وكذلك فمن الجيد أن الورقة تدعو المسيحيين للتعايش مع الغالبية المسلمة في بلاد الشرق الأوسط، وأن يدركوا أن رسالتهم هي «أن يكونوا »شهودا حقيقيين» للمسيح القائم من بين الأموات، والحاضر فى كنيستة بقوة الروح القدس، فى البلاد التي وُلدوا ويعيشون فيها، والتى تتميّز ليس فقط بتطوّر اجتماعي وسياسي، وإنما للأسف أيضاً بالصراعات وعدم الاستقرار«.
وهذه – فيما أفهم- دعوة للمسيحيين في بلاد الشرق الأوسط لأن يكونوا مواطنين مندمجين مع إخوانهم من الغالبية المسلمة في هذه البلاد، لا أن يكونوا مرتبطين بأي أجندات أخرى لا تخدم بلادهم التي ولدوا ويعيشون فيها، ولا متخندقين في أفكار سامة وخاطئة تمنعهم من التواصل الإيجابي مع مواطنيهم المسلمين.
ومع أن هذا الكلام ليس فيه جديد فيما يتصل بأغلب المسيحيين في الشرق الأوسط المعروفين بانتماءاتهم الوطنية؛ إلا أن صدوره عن الكنيسة الغربية الكاثوليكية يعد تطورا جيدا يحاول تصحيح الصورة الذهنية عن الإسلام والمسلمين، ويقطع الطريق على من يحاولون المتاجرة بالورقة المسيحية وبورقة الأقليات في الساحة الدولية.
3 – بعد ذلك تتحدث الورقة في الفقرة (22) عن «أزمة في الدعوات، أسبابها عديدة:
- هجرة العائلات.
- وانخفاض نسبة المواليد.
- وانغماس الشباب في بيئة تضاد القيم الإنجيلية أكثر فأكثر.
- كما أن نقص الوحدة بين أعضاء الاكليروس يشكّل عائقا فعليا وشهادة مضادة، لا يدعو الشباب إلى اختيار الحياة الكهنوتية.
- وكذلك فإن التكوين الإنساني والروحي للكهنة، والرهبان والراهبات غير مُرض أحيانا. لذا هناك حاجة رئيسية فى الاكليريكيات، إلى وجود مرشدين روحيين ممتازين يعيشون مع الاكليريكيين».
إن الأسباب المذكورة أسباب منطقية وواقعية، باستثناء السبب الثالث الذي نرى أن فيه مبالغة إذا قصد به أن البيئة المسلمة تضاد التسامح والتعاون وتنمية القيم الروحية والأخلاقية. أما إذا قصد الإشارة إلى انغماس الشباب في بيئات العلمانية والتحرر الجنسي والإباحية وغيرها مما تسعى قوى كثيرة لفرضه على المجتمعات الإسلامية، فهو كلام صحيح، ويمثل أحد التحديات أمام المؤمنين بالله من جميع الأديان؛ للوقوف صفا واحدا لمواجهة هذه الموجة المادية الإلحادية العاتية.
4 – ذكرت الورقة أن المسيحيين في الشرق الأوسط هم جزء من النسيج الوطني في الدول التي يعيشون فيها، وعليهم أن يعمِّقوا انتماءَهم لهذه المجتمعات، وإن بالغت الورقة في الادعاء بأن الطائفية تدمغ بعمقٍ العقلياتِ والسلوك، فتقول الورقة في الفقرة (24):
«بالرغم مما يوجد بينها من اختلافات، فإن مجتمعاتنا العربية والتركية والإيرانية تتسم بخصائص مشتركة: ففيها تسود تقاليد وأسلوب الحياة التقليدي، لا سيما فيما يخص الأسرة والتربية. والطائفية تصبغ العلاقات بين المسيحيين، وبينهم وبين غير المسيحيين، وتدمغ بعمق العقليات والسلوك. والدين كعنصر للهوية، ليس هو فقط عاملا للتمييز، بل يمكن أيضا أن يكون سبب انقسام، وأن يُستخدم لخلق الانغلاق والعداوة. لذلك يحسن أن نذكر بأن المسيحيين هم «مواطنون أصليون» وأنهم ينتمون حتما وقانونا إلى النسيح الاجتماعي، وإلى الهوية ذاتها لبلادهم الخاصة، وفي اختفائهم خسارة للتعددية التي ميزت دائما بلاد الشرق الأوسط. وغياب الصوت المسيحي سيسبب إفقار المجتمعات الشرق أوسطية».
إنه لحري بالمؤمنين بالله أن يتنادوا ليكونوا صفا واحدا في الدعوة إلى التسامح والتعاون المشترك وتنمية القيم لروحية والإنسانية، ومواجهة الاستقطاب في الأمة، والوقوف أمام محاولات إشعال الفتن الطائفية وخلق العداوات بين أبناء الوطن الواحد، وهو ما دعا إليه القرآن الكريم أهل الكتاب ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾[آل عمران/64] .
5 – تتحدث الورقة عن خطورة الانطواء على الذات والوقوع في فخ الخندقة، فتقول في الفقرة 28:
«ويكمن الخطر في الانطواء على الذات والخوف من الآخر. فيجب في الوقت نفسه تقوية إيمانية وروحانية مؤمنينا، وتدعيم الرباط الاجتماعي والتضامن فيما بينهم، من دون أن نقع في حالة الخندقة (الجيتو)».
شيء جيد أن تلح الورقة في مواضع كثيرة على اندماج المواطنين المسيحيين في مجتمعاتهم، وأن يتجنبوا الانزلاق إلى الخندقة والعيش في (جيتوهات) يسهل معها اغترابهم عن الواقع الذي يعيشون فيه، وتخويفهم من المجتمع الذي يضمهم، ويسهل التحول إلى التطرف ويشجع على إساءة الظن وعلى التوتر المستمر بين أبناء البلد الواحد.
وأذكر هنا بأن النبي محمدا ^ لما دخل المدينة كتب أول دستور يحفظ وحدة الأمة متعددة الأديان، أعطى فيه لكل المواطنين في المدينة من مسلمين ويهود وغيرهم ذات الحقوق، وجعلهم جميعا شركاء في الدفاع عن المدينة ضد أي عدو، وحافظ النبي ^ على التطبيق الصحيح والكامل لهذه الوثيقة (الدستور)، حتى إنه مات ودرعه مرهونة عند أحد اليهود من الأوس، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ^ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ (البخاري). وقد كان بإمكانه ^ أن يشتري ما يريد من أحد تجار المسلمين أو أن يستسلف أحد الميسورين من المسلمين وهم كثر، ولكنه كان يقدم صورة عملية تطبيقية لما يجب أن تكون عليه العلاقة الطبيعية بين أبناء البلد الواحد وإن اختلفت أديانهم.
6 – تتحدث الورقة بعد ذلك عن الأسرة وتنميتها والدفاع عن قيمها، فتقول الورقة في الفقرة (29):
«تعمل الكنيسة في المقام الأول على تنمية الأسرة، وعلى الدفاع عن القيم التي تحميها اليوم من الأخطار المختلفة التي تهدد قداستها واستقرارها. وفي الإطار الديموغرافي (السكاني) الحالي، تشجع الكنيسة أيضا العائلات الكثيرة العدد».
وهذا الكلام المتكرر عن أهمية الأسرة وقيم الأسرة واستقرار الأسرة هو أمر مهم، وهو أحد القواسم المشتركة بين المسلمين وغير المسلمين، والتعاون في هذا المجال لمواجهة قيم الرذيلة والإباحية والشذوذ بكل صوره يجب أن يكون محل تنسيق وتعاون على كل المستويات؛ لصد الهجمة الشرسة على الأخلاق والقيم الفاضلة، والآمل معقود على الهيئات الدينية الكبرى في ترجمة هذا إلى واقع عملي تطبيقي.

7 – تتحدث الورقة عن الدور الاجتماعي والخيري الذي يجب أن تلعبه الكنيسة في المجتمعات الشرق أوسطية، فتقول في الفقرة (30):
«يظهر عمل الكنيسة لصالح الخير العام واضحا وجليا، بفضل أنشطتها الخيرية، التي تهتم ليس فقط بالمسيحيين، وإنما أيضا بالمسلمين وباليهود. ويتحقق ذلك سواء بالمساعدة السخية الآتية من محبة الكنيسة في العالم كله، وسواء من المساعدة الملموسة من الكنائس المحلية. وفي هذا الإطار، فإن الخدمة الرعوية في مجال الصحة تمس جانبًا متميزًا لإبراز دور المسيحيين في المجتمع».
هذا الحديث عن خدمة الكنيسة للمجتمعات أمر جيد، ما لم يكن مقدمة لإغراء المواطنين المسلمين أو غير الكاثوليك لترك دينهم، كما كان طوال حقب التاريخ البعيد والقريب، ومن ثَمَّ يكون سببا في إثارة الفتن في المجتمعات.
إن على الكنيسة أن تعمق في أبنائها حب العمل الخيري خالصا لوجه الله، ولخدمة الأوطان بعيدا عن أجندة التبشير والتنصير وإغراء الناس بترك دينهم، حتى يكون هذا العمل إسهاما حقيقيا في نهضة المجتمعات، وفي تعميق المواطنة في نفوس المسيحيين؛ لا سببا في إثارة الفتن الدينية والطائفية في المجتمع.

8 – تتحدث الورقة عن الاحتلال الإسرائيلي وتبرير بعض الأصوليين المسيحيين له كسبب لوضع المسيحيين في المنطقة في وضع حرج، فتقول الورقة في الفقرة (32):
«إن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية يجعل الحياة اليومية صعبة، في حرية الحركة، وفي المجال الاقتصادي، وفي الحياة الاجتماعية والدينية (البلوغ إلى الأماكن المقدسة مرتهن بموافقات عسكرية، تمنح للبعض وتمنع عن غيرهم، لدواعي أمنية). بالإضافة إلى ذلك تبرر بعض الجماعات الأصولية المسيحية الظلم السياسي الواقع على الفلسطينيين، استنادًا إلى الكتاب المقدس، مما يجعل وضع المسيحيين العرب أكثر حرجًا».
هذا كلام جيد، يستدعي أن تعلن الكنيسة وفي كل مناسبة وبكل وضوح إدانتها لهذا الاحتلال البغيض، وتبرؤها من كل من يدعمه استناداً إلى تفسيرات خاطئة للكتاب المقدس، ويجب ألا يكون لدى الكنيسة أدنى تردد في إعلان ذلك بكل قوة وفي كل وقت؛ حتى يتأكد انعزال الفئات الأصولية المتساوقة مع المشروع الصهيوني والداعمة لظلمه على حساب الحقوق العربية والإسلامية، وينكشف انفصال موقفها الشائن وغير الأخلاقي عن موقف الكنيسة الرسمي.
9 – من أفضل العبارات الواردة في الورقة تلك العبارة الواردة في الفقرة (36):
«إن السلام والعدالة والاستقرار في المنطقة، شروط ضرورية لتنمية الحقوق الإنسانية في الشرق الأوسط».
ومن المهم أن يكون لدى الكنيسة ما تقدمه في هذا الصدد، كالإعلان الواضح عن أن هذه الشروط لن تتحقق إلا بزوال الاحتلال الإسرائيلي الذي هو السبب الرئيس لعدم الاستقرار في المنطقة، ودعم الديمقراطية التي تتيح للشعوب أن تختار بمحض إرادتها من يحكمها ويعبر عن تطلعاتها وآمالها، ودعوة العالم الغربي إلى تشجيع الاستثمار الغربي في المنطقة، بعيدا عن أي أجندات سياسية غربية استعمارية.
10 – بعد أن أشارت الورقة إلى أن الهجرة المسيحية من الشرق بدأت قرب نهاية القرن التاسع عشر لسببين رئيسسن هما السياسة والاقتصاد، تكلمت عن تزايد الهجرة بسبب الصراع العربي الإسرائيلي ، فتقول الفقرة رقم (43 و44):
«وقد تزايدت هذه الهجرة اليوم، بسبب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وعدم الاستقرار الذي أحدثه في المنطقة كلها. في حين أن الوضع الاجتماعي المهدد في العراق، وعدم الاستقرار السياسي في لبنان، قد زادا من هذه الظاهرة.
وفي السياسات الدولية غالبا ما تتجاهل محافلها الحضور المسيحي، والضحية الأولي لذلك هم المسيحيون. وهذا هو أحد الأسباب الكبرى للهجرة. فيجب التحرك في هذا المجال. والكنيسة مدعوة إلى الدخول فيه بكل ما تملك من وسائل وأشخاص، من أجل فائدة الجميع».
هذا تحليل جيد لبعض أهم الأسباب للهجرة المسيحية وغير المسيحية باتجاه الغرب.
وربما كان من المناسب لدى ذكر هذا السبب أن تعلن الكنيسة الكاثوليكية عن اتخاذ موقف أخلاقي واضح تجاه الاغتصاب الصهيوني لأرض فلسطين، وتجاه الدعم الغربي لهذا الاغتصاب ، وتجاه التدليل الغربي الزائد لإسرائيل ومساعدتها على تحدي كافة القرارات الدولية والعبث بكل المواثيق الأممية.
كما كان من المهم للغاية التنديد بالاحتلال والعدوان الأمريكي على العراق، والذي تسبب في كل تلك الجرائم العرقية والطائفية التي أودت بحياة ملايين العراقيين ودفعت أكثر من خمسة ملايين عراقي إلى الهجرة واللجوء إلى الدول الأخرى.
كما أن من المناسب جدا أن تشرح الورقة بوضوح وتفصيل المقصود بتدخل الكنيسة بكل ما تملك من وسائل وأشخاص، وما إذا كان هذا التدخل لمساندة الدولة في ضمان حقوق كل مواطنيها، أم هو لضمان حقوق المسيحيين فقط، أم هو لحساب أجندات سياسية غربية ، على حساب الحقوقو الوطنية.

11 – اعتبرت الورقة أن من أهم أسباب الحد من الهجرة وعي المسيحيين بمعنى حضورهم في أوطانهم، فتقول في الفقرة رقم (46) :
«هناك جانب آخر من شأنه أن يحد من الهجرة: أن يصير المسيحيون ابتداء من الرعاة أكثر وعيا بمعنى حضورهم، وبضرورة التزامهم بالحياة العامة، والآن فكل واحد في وطنه هو حامل رسالة المسيح لمجتمعه. ولابد من حمل هذه الرسالة أيضا في الضيقات وفي الاضطهاد».
إن تقرير معنى المواطنة والالتزام الوطني لدي النصارى في البلاد الإسلامية شيء مهم حتى يشاركوا إخوانهم المسلمين في عملية النهوض بالأوطان، ولا يتخندقوا وينعزلوا عن المسار العام، ولا يعمقوا في نفوس الأجيال التالية شعور الاغتراب في أوطانهم، ولعل هذا هو ما أكدت عليه الورقة في الفقرة (61) التي نصت على أنه:
«يجب على المؤسسات والحركات الرسولية ذات البعد العالمي، أن تتأقلم أكثر فأكثر دائما، مع العقلية ومع الإطار الحياتي، اللذين تقدمهما لهم التقليد الكنيسة والبلد اللذين يستضيفانها، ويوصي البعض بأن تندمج هذه المؤسسات، وكذلك الجمعيات الرهبانية ذات الأصل الغربي، في التقليد الشرقي وأن تتغذى من روحانية الشرق. ليحرصوا دائما على العمل في شركة مع الأسقف، وأن يتعمقوا في معرفة تقاليد وثقافة البلد، وبالأخص لغته».
لا شك أن هذه النظرة المعتدلة من الكنيسة الغربية الكاثوليكية إن تمت ترجمتها فعليا في أرض الواقع ستكون ذات مغزى جيد، بدلا من النظرة المتعالية والمتكبرة التي عُرِفت بها على مرِّ التاريخ، ومن المهم أن يستجيب المسيحيون في الشرق الأوسط لهذا الاندماج مع مواطنيهم والتعاون مع إخوانهم في نهضة الأوطان، كما كان الحال في مراحل عديدة من تاريخنا، وأن يكون ارتباطهم بالأجندة الوطنية فقط؛ لا بأجندات خارجية.
12 – وجهت الورقة إلى ضرورة إعداد الشباب المسيحي لتحقيق التعاون والسلام بدلا من الصراع ، فتقول في الفقرة (69):
«ونظرا لوجود انقسامات عديدة على أساس الدين، أو العصبيات العائلية أو السياسية، يجب تكوين الشباب على أن يتخطوا هذه الحواجز والعداوات الداخلية، وأن يروا وجه الله في كل إنسان، ليتعاونوا معًا ويقيموا مدينة مشتركة ترحب بالجميع، ويجب أن يركز التعليم المسيحي على ذلك، وخاصة في مدارسنا الكاثوليكية، التي تعد الشباب لبناء مستقبل، يقوم لا على الصراعات وعدم الاستقرار، بل على التعاون والسلام».
إنه أمر جيد أن تدعو الكنيسة إلى تربية الشباب على التسامح والتعاون، وعدم النظر إلى الآخر باعتباره عدوا، وعلى ضرورة المشاركة المجتمعية في بناء المستقبل للوطن الذي يضم الجميع ويسع الجميع.
وشتان بين هذه الدعوة الراقية وبين تلك الدعوة التي استنفر بها البابا أوربان الثاني جماهير المسيحيين في أوربا للقضاء على المسلمين باعتبارهم كفارا، وباعتبار قتلهم قربة إلى الرب، وذلك فيما أسموه بالحرب الصليبية التي استمرت زهاء قرنين من الزمان ، ارتكب فيهما الصليبيون فظائع وحشية يندى لها جبين الإنسانية، وذلك تحت راية المسيح عليه السلام والصليب، ونحن نعلم أن المسيح عليه السلام من كل هذا براء.
ولعل الكنيسة الكاثوليكية أدركت هذا الخطأ، وتحاول أن تسعى في إصلاح هذه الخطيئة التاريخية، ونرجو أن تكون هذه الدعوة إلى التسامح والتعاون بدل الصراعات والحروب مقدمة لتعاون إنساني مشترك، يفتح صفحة جديدة من العلاقات بين الغرب والشرق، إذا صدقت النيات.
13 - تتحدث الورقة عن الأسباب المنطقية لضرورة الحوار بين المسيحيين والمسلمين، فتقول في الفقرة( 95-96):
«تجد علاقات الكنيسة الكاثوليكية بالمسلمين أساسها أيضا في تصريح المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في عصرنا، الذي يؤكد: «تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الأحد، الحي القيوم، الرحمن والقدير، فاطر السموات والأرض، الذي كلم الناس».
وعلى هذا الأساس تمّت، فى السنوات التالية للمجمع، لقاءات عديدة بين ممثلي الديانتين، على مستويات مختلفة.
وفى هذا الصدد، فالبرنامج الذى حدّده قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر، في بداية حبريته، يحمل مغزى عميقا. ففي لقائه مع ممثلي بعض جماعات المسلمين فى ألمانيا قال: إن الحوار الديني والحوار بين الحضارات، بين المسيحيين والمسلمين، لا يمكن أن يكون مجرد خيار عابر. إنه في الواقع ضرورة حيوية، يتعلق عليها مستقبلنا إلى حدّ كبير.
هناك أسباب عديدة للحوار بين المسيحيين والمسلمين:
- فمن جهة، نحن بصفتنا مواطنين لبلد واحد ووطن واحد، نتقاسم اللغة نفسها والثقافة عينها، كما أفراح بلداننا وآلامها.
- ومن جهة أخرى، بصفتنا مسيحيين، نعيش من أجل مجتمعاتنا، كشهود للمسيح والإنجيل.
- وفي زيارته للأراضي المقدسة، أشار قداسة الباب بنديكتوس السادس عشر إلى سبب آخر، بقوله «بالرغم من أصولنا المختلفة، لنا جذور مشتركة...
نشأ الإسلام في وسط كانت فيه اليهودية، وكذلك فروع مختلفة من المسيحية: مسيحيون من أصل يهودي، ومسيحيون من أصل أنطاكي، ومسيحيون من أصل بيزنطي. وتظهر كل هذه الأوضاع في التقليد القرآني. لذلك لدينا أمور عديدة مشتركة منذ البداية، وكذلك في الإيمان بالإله الأحد. لذا من المهم أن يكون هناك من جهة، حوار ثنائي- مع اليهود ومع المسلمين، ومن جهة أخرى، حوار ثلاثي».
وباستثناء عبارة «وتظهر كل هذه الأوضاع في التقليد القرآني» التي نرفضها رفضا قاطعا باعتبار أن القرآن منزل من لدن رب العالمين، وليس هو من كلام النبي محمد ^، ولا هو متأثر بغيره من الكتب أو الثقافات. باستثناء هذه العبارة فهذا كلام جيد يؤسس -إن تمت ترجمته عمليا على أرض الواقع- لإقامة تعاون إنساني رائع يدعو إليه الإسلام ويحض عليه القرآن ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ الآية. [آل عمران/64].
14 - ثم تتجه الورقة مرة أخرى للتأكيد على وجوب تجذر المسيحيين الشرقيين في مجتمعاتهم والمشاركة مع مواطنيهم المسلمين في تنمية القيم الفاضلة وخدمة المجتمع الذي ينتمون إليه، فتقول الورقة في الفقرة (97-98) :
«إن المسيحيين مدعوون إلى التجذر في المجتمعات التي هم أعضاء فيها، بصورة حقيقية متزايدة دائما، وإلى عدم الانعزال في جماعات مغلقة (جيتو) فهذا موقف دفاعي وانطواء على الذات، تتميز به الأقليات.
يلح عدد كبير من المؤمنين على أن المسيحيين والمسلمين مدعوون إلى العمل معا لتنمية العدالة الاجتماعية، والسلام والحرية، والدفاع عن الحقوق الإنسانية، وعن قيم الحياة والأسرة.
ومن أجل ذلك نقترح مراجعة الكتب المدرسية، خاصة كتب التربية الدينية، لتنقيتها من كلام الأحكام المسبَّقة والنمطية على الآخر. ومن الأمور الأساسية أيضا أن يقوم الشباب بأعمال مشتركة، بين المسيحيين والمسلمين، لخدمة المجتمع، وأن تقوم صداقة حقيقية بينهم. بذلك يظهر الدين كعامل ترابط لا انقسام».
هذا كلام جيد إن قُصِد بكتب التربية الدينية الكتبَ التي وضعها بعض المؤلفين، وذكروا فيها إساءات إلى الديانات، لكن إن قُصد بذلك التعرُّضُ لآيات القرآن وللصحيح من أحاديث النبي ^، والدعوةُ لإهمالها؛ فهذا هو الخطأ بعينه، فإن حقائق القرآن والسنة كفيلة بتحقيق التقارب المنشود، لكن لا بأس من مراجعة بعض التفاسير والتأويلات الشاذة التي يمكن أن يكون أصحابُها جانبوا الصوابَ في فهم آيات القرآن العزيز.
15 – في الفقرة رقم (99) تدعو الورقة إلى تَفَهُّم ما جاء في الإسلام مما هو مشترك مع المسيحية ، ومن ثَمَّ الحوار القائم على احترام كل طرف للآخر ، لا على تبني أي طرف لعقائد الطرف الآخر، فتقول الورقة:
«إن حوار (الحق في المحبة) لا يقوم في تبنِّي دين الآخَر، بل في محاولة الفهم المتبادل لوجهة نظر الآخر، مع معرفة أن عقائدنا مختلفة اختلافا عميقا. ويقود حوار الحق في المحبة هذا، إلى معرفة متبادلة، ويخلق مساحة من الحرية والاحترام. ونفس هذا الحوار في الحق، يحثّنا على تقدير كل ما هو إيجابي فى ديانة وأخلاقيات الإسلام، وبنوع خاص الإيمان الراسخ بالله، وإلى احترام قناعاته».
هذا كلام جيد، ولو تم تطبيقه لرأى المنصفون أن كل ما هو في الإسلام إيجابي وجدير بأن يكون مشتركا إنسانيا وأخلاقيا لجميع البشر.
ثم هو حوار يؤسس لعلاقات إنسانية لا تقوم على التكبر الغربي والرغبة الغربية في احتواء الآخر المسلم بأي شكل، بل على النِّدِّيَّة واحترامِ الآخر وثقافته وقناعاته الدينية والأخلاقية، وهو ما دعا إليه الإسلام في مجادلة أهل الكتاب، فقد قال الله تعالى ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾ [العنكبوت/46-47].
16 – من الإيجابيات المهمة في الورقة التأكيد على خطورة الحداثة التي جاءت بالإلحاد وإنكار القيم الأخلاقية، والدعوة إلى المشاركة بين المسيحيين والمسلمين لمحاربة هذه الشرور وبناء مجتمع أكثر عدلا وتضامنا، فتقول الورقة في الفقرة (105-106):
«والحداثة خطر للمسيحيين أيضا. فمجتمعاتنا هي أيضا مهددة بتغييب الله، وبالإلحاد والمادية، وأكثر من ذلك النسبية وباللامبالاة. إنه من الضروري أن نتذكر مكان الله في الحياة المدنية وفي الحياة الشخصية، وأن ننقطع أكثر للصلاة كشهود للروح القدس، الذي يبني ويوحد. فتلك المخاطر، مثلها مثل التطرف، تستطيع بسهولة أن تدمر عائلاتنا، ومجتمعاتنا وكنائسنا.
على المسلمين والمسيحيين أن يشتركوا في مسيرة واحدة، هنا الواجب المزدوج بأن نحارب شرور مجتمعاتنا، سواء كانت سياسية، أو قانونية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو أخلاقية، وأن نسهم في بناء مجتمع أكثر عدلا، وتضامنا وإنسانية».
ما أجدر هذا الكلام لو تمت ترجمته عمليا أن يحقق السلام للمنطقة وللعالم، وإن الكنيسة –بل كل الهيئات الدينية والإنسانية والوطنية- مطالبة باقتراح وتطبيق برامج عملية وتدريبية للمسيحيين لتحقيق هذا الكلام الرائع في الواقع.
17 - قبل الختام تدعو الورقة المسيحيين إلى الانفتاح وترك التعصب ، فتقول في الفقرة (114) :
«فواجبنا في مجتمعاتنا هو أن نربّى على الانفتاح وندعو إليه، وليس على التعصب. وإنما يجب أن نطالب، بالوسائل السِلمية، أن تعترف السلطات المدنية بحقوقنا المشروعة كذلك».
إن انفتاح المسيحيين على مواطنيهم المسلمين بشكل طبيعي من أكبر الضمانات لحماية الوحدة الوطنية، وتحقيق حلم النهوض المشترك، وإن التسامح وتجاوز التوتر والانفعال غير المدروس حيال كل شائعة لهو أكبر حائط صد ضد كل الذين يريدون تعكير صفو العلاقات التاريخية الطيبة بين أبناء الشعب الواحد؛ للوصول إلى مآربهم من إضعاف الأمة، وإشغالها عن معركتها الأساسية في النهوض والتقدم في أسباب الحضارة الحديثة، حتى تظل إرادة الأمة وقرارها رهينة للرضا الغربي الاستعماري.
فعلى كل من المسلمين والمسيحيين في بلداننا أن يدركوا أنهم جميعا ركاب سفينة الوطن التي تحملهم جميعا إلى المستقبل، وعليهم أن يحافظوا مشتركين على سلامتها من الخرق أو العطب؛ لأن سفينة الوطن إذا غرقت غرق كل من عليها، أما إذا أخذ العقلاء على يد الداعين للفتنة والمثيرين للأحقاد فستنجو السفينة بمن فيها.

18 – وأخيرا فإن الورقة تعيد التأكيد على أهم أسباب التوتر في منطقة الشرق الأوسط وتدعو المسيحيين للتمسك بقيم المسيحية، فتقول في الفقرة (118):
«لقد صرنا بقية صغيرة بفِعل التاريخ. ولكننا نستطيع أيضا بسلوكنا أن نصبح اليوم حضوراً يُحسَب له حساب. فمنذ عشرات السنين، وعدم حسم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وعدم احترام القانون الدُولي، وأنانية القوى العظمى، وعدم احترام الحقوق الإنسانية، تسبّبت في اختلال التوازن بالمنطقة، وفرضت على شعوبها حالة من العنف، تهدّد بأن توقِعهم فى اليأس. فنتج عن ذلك هجرة أهالي المنطقة، ولاسيما المسيحيين.
أمام هذه التحديات، وبدعم من الجماعة المسيحية في العالم كله، فإن المسيحيين في الشرق الأوسط مدعوون إلى أن يضطلعوا بدعوتهم، في خدمة مجتمعهم. وسيكون ذلك عنصرا رئيسيا لحضورنا وشهادتنا في بلداننا».
والسؤال المطروح: ترى كم السنين ستبقى تلك القوى العظمى (المسيحية في أغلبها) أنانية لا تحترم الحقوق ولا القانون الدولي، وتمارس الضغوط على الضحية العربية، وتدلل الجاني الإسرائيلي، وتحافظ على أسباب التوتر، وتهمل الحقوق الإنسانية لشعوب المنطقة؟ وما هو الدور الذي تدعو الكنيسة مسيحيي الشرق الأوسط للاضطلاع به في هذا المجال؟ وما أبرز ملامحه وتفصيلاته، وما هي المساعدة الحقيقية التي ستقدمها الكنيسة الكاثوليكية في هذا الصدد؟.
تلك كانت أهم النقاط الإيجابية في هذه الورقة، والتي يمكن البناء عليها لتحقيق تعاون إنساني يحقق الخير لهذه البشرية التي طحنتها الحروب والأزمات والكوارث.
ولكن الورقة في ذات الوقت تضمنت نقاطا سلبية ربما تطيح بكل الإيجابيات التي أَشَرْتُ إليها، بل إن الفقرة الواحدة لَتَحْمِلُ الشيءَ ونقيضَه، فتدعو إلى التعاون والحوار وفي ذات الوقت تدعو إلى التدخل الخارجي لمساعد الكرازة (التبشير بالإنجيل).
وعلى كل حال سأنتقل لبيان السلبيات والمغالطات التي تضمنتها الورقة، بإيجاز يناسب المقام، وبنفس الهدوء والتأني الذي قدمت به الإيجابيات.
مغالطات ونقاط سلبية في الورقة:
1 – بعد أن ذكَّرت الورقة في المقدمة بما تعرض له المسيحيون الأوائل من اضطهاد وأنهم كانوا يعملون في ظروف معاكسة تماما قالت:
«إن الوضع الراهن في الشرق الأوسط يماثل، في كثير من الأوجه، الوضع الذي عاشته الجماعة المسيحية الأولى في الأراضي المقدسة»
وهذا ظلم بيِّنٌ للحقيقة، فشتان بين البيئة التي ظهر فيها المسيح والحواريون حيث كان الاضطهاد اليهودي والروماني على أشده، وبين البيئة المتسامحة التي يعيش فيها المسيحيون في الشرق الأوسط مع المسلمين الذين يعلنون ليلا ونهارا أنهم يؤمنون بعيسى رسول الله وروح الله وكلمته، مثلما يؤمنون بموسى كليم الله وبسائر الأنبياء جميعا.
وأريد هنا أن أذكر بأن الفتح الإسلامي لمصر كان هو البداية لاستقرار المسيحيين، وأن الفاتح العظيم عمرو بن العاص هو الذي أرسل إلى بطرك النصارى المصريين الأب بنيامين ليعود من مخبئه لقيادة شعبه وتوجيه رعيته.
وواقع اليوم ينطق بأن النصارى في البلاد الإسلامية هم أصحاب السهم الوافر في نيل حقوقهم الدينية، وأنهم لا يتعرضون لشيء من الضغط أو القهر لكونهم مسيحيين، وأن ما قد ينزل ببعضهم من بعض الأنظمة المستبدة فإن مواطنيهم المسلمين يصيبهم مثله بل أكثر منه، ولا ذنب للشعوب ولا للإسلام كدين في هذه المظالم.
2 – بعد حديث مختصر عن تاريخ المسيحية في الشرق الأوسط وتحت عنوان (الأصل الرسولي والدعوة الرسالية) تتحدث الورقة عن ضعف المسيحية وإمكانية اختفائها من الشرق الأوسط، وتقدم الكنيسة الكاثوليكية نفسها باعتبارها منقذا، كما كان الحال طوال التاريخ (على حد قول الورقة)، وكأن الكنيسة الشرقية غير موجودة أو غير قائمة بدورها في رعاية شعبها، حتى صار في حاجة إلى تدخل الكنيسة الكاثوليكية. تقول الورقة في الفقرات 19 – 21:
«ومن المؤكد أن ضعف المسيحية حيث ولدت، وكم بالأكثر تلاشيها، هو خسارة للكنيسة الجامعة. إننا نحمل هنا مسؤولية كبيرة: ليس فقط أن نحافظ على الإيمان المسيحي في الأرض المقدّسة، ولكن بالأكثر أن نحافظ على روح الإنجيل عند هذه الشعوب المسيحية، وفي علاقاتهم مع غير المسيحيين، وأن نحافظ لديهم على «ذاكرة الأصول» حية.
وحيث أنها رسولية، تقع على عاتق كنائسنا رسالة خاصة، في حمل الإنجيل إلى العالم أجمع كما كان الحال طوال التاريخ.
إن لم تعمل الكنيسة من أجل الدعوات، تكون مهددة بالاختفاء. ومن الأساسي أن يكون الكهنة في اتصال مباشر بالعائلات المسيحية، وأن يقدّموا لها الدعوة بوصفها عطية من الله».
أرى في هذا الكلام إهداراً لدور الكنائس الشرقية وعلى رأسها الكنيسة الأرثوذكسية ، وأرى فيه استمراراً غير مقبول للوصاية التي تضعها الكنيسة الكاثوليكية الغربية لنفسها على المسيحيين في العالم، وأرى فيه دعوة لاستمرار التبشير بالكاثوليكية بين مسيحيي الشرق، بما يبقي حالة الريبة والشك قائمة بين الكنائس الشرقية والكنيسة الغربية، وفي هذا مناقضة لروح التعاون والتقارب التي أشرت إليها في الإيجابيات قبل ذلك.
3 – تحدثت الورقة فيما بعد عن الإسهام فيما أسمته (العلمانية الإيجابية) لمواجهة ما تسميه (الصيغة الثيوقراطية) بزعم أن ذلك يسمح بمزيد من المساواة بين المواطنين مختلفي الديانات، فتقول الورقة في الفقرة (25):
«مبدئيا يجب على الكاثوليك أن يعملوا على تقديم أفضل مساهمة، في تعميق مفهوم الدولة «العلمانية الإيجابية»، بالاشتراك مع باقي المواطنين المسيحيين، وأيضا مع المسلمين المفكرين والمصلحين، وبذلك سيساعدون في تخفيف الصيغة الثيوقراطية «الحكم باسم الله» لبعض الحكومات، مما يسمح بمزيد من المساواة بين المواطنين من مختلف الديانات، ويعمل على تنمية ديموقراطية سليمة، علمانية إيجابية، تعترف اعترافا كاملا بدور الدين، حتى على مستوى الحياة العامة، مع كامل الاحترام للتمييز بين كل من النظام الديني والنظام الزمني».
ولنا باختصار عدة وقفات مع هذه الفقرة:
أ – هي محاولة من الكنيسة للتدخل في الشؤون السياسية الداخلية للدول وهو أمر مرفوض من كل وطني جملة وتفصيلا. ويعارض ما جاء في الورقة (الفقرة 43) من أن هدف السينودس هو رعوي محض، ولا يتناول القضايا الاجتماعية – السياسية للبلاد إلا بطريقة غير مباشرة.
ب – فيها خلط بين المفهوم المسيحي الغربي وبين المفهوم الإسلامي لصلة الدين بالسياسة، فالصيغة الثيوقراطية هي إفراز الكنيسة الكاثوليكية تاريخيا، أما الإسلام فلا يعرف هذه الصيغة على الإطلاق، وليس في الإسلام من يحكم باسم الله أو وكيلا عن الله، بل الحاكم في الإسلام شخص عادي اختارته الأمة بمحض إرادتها، ولها حق عزله متى شاءت، ولها حق مراجعته في كل أعماله ومحاسبته على كل أخطائه، باعتبار أنه متعاقد معها على رعاية مصالحها وفق القواعد التي تؤمن بها؛ لا وفق هواه، ولا يعرف الإسلام تلك العصمة التي ادعاها بابوات الكنيسة لأنفسهم.
والحكومة في الإسلام حكومة مدنية وليست حكومة دينية، والدين بالنسبة لها هو مصدر تشريعاتها ومرجعيتها في القوانين والنظم التي تحكمها، والاجتهادات البشرية في فهمه وتطبيقه لا عصمة لها، بل هي قابلة للمراجعة والتمحيص، علما بأن الدين الإسلامي قد ترك مساحة جد واسعة للاجتهاد والابتكار البشري فيما يتعلق بشؤون الدنيا، وفي الحديث عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ^ قَالَ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» (صحيح مسلم).
ولم يفرض الإسلام آراء علمية في العلوم الكونية كما فعلت الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى، ومن ثم فلا معنى للقول بتخفيف الصيغة الثيوقراطية، لأن هذه الصيغة ليست موجودة أصلا.
ج - إن أفضل ما يحقق المساواة بمعناها الصحيح بين المواطنين من مختلف الديانات هو المنهج الإسلامي الذي حافظ على الوجود المسيحي في هذه المنطقة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، شهد المنصفون بأنهاكانت أعدل الفترات التي عاشوها كمسيحيين.
د - إن الاعتراف الكامل (على حد قول الورقة) بدور الدين الإسلامي (على وجه التحديد) في الحياة العامة لا يمكن تصوره مع العلمانية التي تُنَحِّي الدين عن مجال الحياة العامة، وخصوصا فيما يتصل بالحكم والتشريع، ولهذا فالورقة متناقضة تماما حين تدعو إلى العلمانية، وتفترض في ذات الوقت الاعتراف الكامل بدور الدين على مستوى الحياة العامة.
4 – تتناول الورقة الحديث عن العراق بصورة فيها كثير من التدليس والمغالطات، فتقول الورقة في الفقرة رقم (32):
«وفي العراق، أطلقت الحرب العنان لقوى الشر في البلاد، فيما بين التيارات السياسية والمذاهب الدينية. فتسببت في وقوع ضحايا من بين جميع العراقيين، وكان المسيحيون من بين الضحايا الرئيسيين لأنهم يمثلون أصغر وأضعف الجماعات العراقية. وحتى اليوم، لا تبالي السياسة الدولية بالأمر».
ولنا مع هذه الفقرة عدة وقفات:
أ – تناست الورقة الإشارة إلى أن الحرب المشار إليها إنما قادها جورج بوش بجيوش الحلف الأطلسي المسيحي بزعم أن الرب أمره بذلك، وتحت ما سماه هو (حرب صليبية) وإن عاد وحاول التخفيف من هذا اللفظ وزعم بأنه كان زلة لسان، بناء على نصائح مستشاريه الذين تنبهوا إلى ما يمكن أن تسببه هذه التسمية من حساسية تاريخية لدى شعوب المنطقة.
والكنيسة لا شك أنها تذكر تماما أن الجيوش المسيحية الغربية إنما قادها بوش إلى هذه المعركة دون أن يكون له أدنى سند أو مشروعية أو حتى غطاء من الأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي طواه تحت جناح السياسة الأمريكية.
ب – الزعم بأن المسيحيين كانوا من بين الضحايا الرئيسيين لكونهم أصغر وأضعف الجماعات العرقية زعم غير صحيح ولا واقعي. والواقع يصرخ بأن الفتنة المذهبية التي أشعلها الغرب بقيادة أمريكا في الداخل العراقي كان أكثر ضحاياها من المسلمين، وأن أكثر من أربعة أخماس المهاجرين واللاجئين العراقيين جراء الحرب هم من المسلمين.
ج – مرة أخرى تتجاوز الكنيسة دورها الذي حددته لنفسها وتدعو الورقة للتدخل في العراق، حين تقول: إن السياسة الدولية لا تبالي بهذا الأمر، يعني بأمر الاضطهاد المزعوم للمسيحيين، وكأنها تدعو بذلك إلى تدخل دولي آخر لإنقاذهم، وهذا ما لا يمكن قبوله من الكنيسة بأي حال.
د – كان الظن بالبابا أن يقود تحالفا يدعو وبمنتهى القوة إلى إنهاء الاحتلال الأمريكي الغربي للعراق، وإلى تعويض الشعب العراقي عن المآسي والكوارث التي سببها هذا العدوان الأمريكي الغربي، والذي ستمتد آثاره لأجيال كثيرة تالية، ولكن الورقة مرت على الأمر وكأنها لم تصك آذانها صيحات الضحايا وفظائع الاحتلال في أبو غريب وغيره من السجون، ولا آهات الثكالى والأرامل واليتامى، ولا أنهار الدماء النازفة في هذا البلد المسلم ظلما وعدوانا.
5 – من أخطر ما في الورقة من المغالطات تلك التي تتعلق بالحالة المصرية، حيث تدَّعي الورقة أن حياة المسيحيين معرَّضةٌ لصعوبات خطرة، وترد ذلك إلى تصاعد ما تسميه بالإسلام السياسي، وتغلغل ما تسميه الأسلمة في المجتمع المصري، فتقول الورقة في الفقرة (34):
«وفي مصر، فإن تصاعد الإسلام السياسي من جهة، ومن جهة أخرى انعزال المسيحيين عن المجتمع المدني، لأسباب بعضها اضطرارية، يعرض حياتهم لصعوبات خطرة. أضف إلى ذلك، أن هذه الأسلمة تتغلغل أيضا في العائلات، عن طريق وسائل الإعلام والمدارس، فتغير العقليات التي تتأسلم دون أن تعي ذلك».
ولنا وقفات مع هذه العبارات:
أ – لا يعرف الإسلام ما يسمى بالإسلام السياسي، فالإسلام هو الإسلام، وهو دين واضح شامل ينتظم حياة المسلم جميعا، ولا يكون المسلم مسلما صحيحا ما لم يلتزم بالإسلام كما جاء به النبي محمد .
ب – إذا كانت الورقة تدعو لفهم طبيعة المجتمعات الشرق الأوسطية واحترام العقائد فكيف يتحقق هذا مع التدخل في دين الآخر (المسلم) ومحاولة عزل جانب من الإسلام بزعم أنه جانب سياسي وليس دينيا.
ج – إذا كانت الورقة تعترف بأن الأغلبية في الشرق الأوسط تدين بالإسلام فما معنى الخوف من الأسلمة؟ وهل يُطْلَب من المسلمين أن يتخلوا عن أسلمة حياتهم في الوقت الذي تدعو فيه الورقة الأقلية الكاثوليكية إلى التبشير بالمسيحية في هذه البلاد؟!
د – من المغالطات الواضحة الادعاء بتغلغل الأسلمة عن طريق وسائل الإعلام والمدارس، فالواقع يشهد بكل جلاء أن معظم وسائل الإعلام تتبنى خطا علمانيا تغريبيا هادما للقيم الإسلامية ومصادما لكثير من المبادئ الإسلامية، والنظام الحاكم يبذل غاية جهده للتضييق على المظاهر الإسلامية العادية، بل ويجتهد في تفريغ المدارس من المدرسين ذوي الميول الإسلامية بتحويلهم إلى وظائف إدارية... إلى غير ذلك من مظاهر التغريب والعلمنة في وسائل الإعلام والتعليم.
6 – في الفقرات 37-39 تقدم الورقة صورة مغلوطة للحرية الدينية، ودعوة للتدخل الدولي من أجل ما دعته الورقة (احترام الحرية الدينية وحرية الضمير)، فتقول الورقة:
«وفي الشرق، عادة ما تعني الحرية الدينية حرية العبادة. وبالتالي فهي لا تعني بعد حرية الضمير، أي حرية أن يؤمن الشخص أو لا يؤمن، أن يمارس ديانة سرًا أو علنا بدون أية عقبة، وبالتالي حرية تغيير الديانة، إن الديانة في الشرق، عادة ما تكون اختيارا اجتماعيا بل قوميا، لا اختيارًا فرديا. فتغيير الديانة يعتبر خيانة تجاه المجتمع، والثقافة، والأمة المبنية أساسا على تقليد ديني.
إن الاهتداء إلى الإيمان المسيحي يُنظر إليه كنتيجة لاقتناص مغرض، وليس لاقتناع ديني حقيقي. وغالبا ما تمنعه قوانين الدولة بالنسبة إلى الشخص المسلم. والمسيحي أيضا يلاقي ضغوطا ومعارضة، وإن كانت أخف، من جانب العائلة أو العشيرة، بيد أنه يظل حرًا في تغيير الديانة.
وفي بعض الحالات، لا يتم الانتقال إلى الإسلام عن قناعة دينية، إنما لمصالح شخصية، خاصة للتخلص من الالتزامات إزاء مشاكل عائلية، وأحيانا قد يتم ذلك تحت ضغط الاقتناص الإسلامي.
إن حوارا صريحا يجب أن يتناول هذا الموضوع للتوصل إلى مواقف مشتركة، تحترم حقوق كل إنسان، وحرية ضميره الكاملة أيا كانت ديانته.
ويدعو البعض إلى اتخاذ مبادرات سياسية ودينية دُولية، و أيضا الإلحاح على الرؤساء السياسيين لاحترام الحرية الدينية وحرية الضمير».
ولنا مع هذا الكلام عدة وقفات:
أ – في الفقرة الأولى خلط بين مفهوم الحرية الدينية وبين التلاعب بالدين، وفيها غمز لحد الردة في الإسلام، والحقيقة أن الإسلام قد قرر الحرية الدينية في أكثر من آية، منها قول الله تعالى ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾[الكهف/29] وقوله تعالى ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة/256] ، وقوله تعالى ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس/99] وقوله تعالى ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ [يونس/108] وقوله تعالى ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الإسراء/15] وقوله تعالى ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ . وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [النمل/91، 92] إلى غير ذلك من الآيات القرآنية. فإذا اهتدى الإنسان إلى الحق وعرفه واقتنع به وآمن به فلن يرجع عنه، ولن يخرج من النور إلى الظلمات.
لكن لما كان بعض الكارهين للإسلام من أهل الكتاب حريصين على تشويه الإسلام وتهوينه في النفوس، فقد كانوا يعلنون الدخول في الإسلام وهم عازمون على إعلان الردة عنه، حتى يصيبوا المسلمين بالبلبلة والحيرة فيرتدوا عن الدين ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ . يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ . يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ . وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ [آل عمران/69-73] ولذلك فقد قررت الشريعة حد الردة منعا لهذا التلاعب اليهودي، وقطعا لدابر الاستهزاء بآيات الله، واعتبرت ذلك من الخيانة العظمى التي تجب محاربتُها بغير هوادة.
ب – إن الخروج من الإسلام إلى غيره من الأديان يُعَدُّ ردةً وكفرا، ولا يُعَدُّ الخروجُ من غيره إليه كذلك؛ لأن الداخل في الإسلام لا يكفر بموسى وعيسى عليهما السلام، بل يؤمن بهما مع إيمانه بمحمد ^، فلا يصح إسلامُ المرء إلا بالإيمان بجميع الأنبياء والرسل وعلى رأسهم أولو العزم محمد وموسى وعيسى وإبراهيم ونوح عليهم صلوات الله وسلامه. فأما الخارجُ عن الإسلام إلى اليهودية أو النصرانية فمُرْتَد؛ لأنه كفر بما كان يؤمن به فقد كفر برسالة محمد ، وهو بهذا خائن لدينه ومجتمعه، لأن الإسلام لا يخيره بين الإيمان بمحمد أو الإيمان بغيره من الأنبياء، أما اليهودية والنصرانية ففيها كفر بمحمد .
ج – من هنا يكون صحيحا أن العودة عن الإسلام إلى النصرانية أو غيرها هي بالفعل نتيجة لاقتناصٍ مُغْرِض، وليست اهتداءً كما تزعم الورقة ولا عن اقتناع حقيقي، بخلاف مغادرة اليهودية أو النصرانية إلى الإسلام فهي تقدم إلى الأمام، وليست كفراً باليهودية أو النصرانية، ولذلك لا تكون إلا عن اقتناع كامل، وإذا حصل ذلك تحقيقا لمصالح شخصية (كما تدعي الورقة) فهو إسلام غير مقبول، وصاحِبُه يُعَدُّ منافقاً كافرا، ومن أجل أمثال هؤلاء الذين يتلاعبون بالدين ويظهرون الاقتناع بغير ما في نفوسهم؛ ليرجعوا عن هذا الإعلان بعد تحقيق غاياتهم وأغراضهم النفعية؛ لأجل هؤلاء وأمثالهم شرع حد الردة، حتى لا يدخل إلى الإسلام مَنْ يدخل إلا وهو مقتنع به غاية الاقتناع.
د – إن مصطلح (الاقتناص الإسلامي) الذي أوردته الورقة ذو إيحاءات فاسدة بأن المسلمين يتحايلون ويمكرون بغير المسلمين ليدخلوهم إلى الإسلام، رغما عن أنوفهم أو تحت إغراءات أو ضغوط وعنف يمارسونه عليهم، وهو ما تكذبه حقائق الإسلام ووقائع التاريخ القريب والبعيد. ويشهد التاريخ والواقع أن هذا هو ما تقوم به الكنيسة الكاثوليكية سواء مع المسلمين أو مع النصارى من المذاهب الأخرى، وأن هذه العبارة من جنس ما تقوله العرب «رَمَتْنِي بِدَائِهَا وانْسَلَّتْ».
ه - ما يدعو إليه البعض من ممارسة ضغوط (تسميها الورقة إلحاحا) على الرؤساء السياسيين هو خروج بالكنيسة عن دورها الذي رسمته لنفسها، وهو تدخل سافر ومرفوض في الشؤون الداخلية لدول الشرق الأوسط، ولن تكون نتائجه إلا إيقاد الفتن وإشعال الحروب في المنطقة، وهو لعب بالنار، نرجو ألا تتورط فيه الكنيسة التي ترفع شعار المحبة والسلام.
7 - ثم تتعرض الورقة للحديث عما تسميه (الإسلام السياسي) و(إسلام الأصول) الذي يستخدم شعار (الإسلام هو الحل) في إشارة إلى الإخوان المسلمين، مدعيةً أن أصحاب هذا الشعار لا يتورعون عن استخدام العنف، وداعية إلى الاصطفاف والتوحد بين المسيحيين واليهود والمسلمين لمواجهة هذا التيار، فتقول الورقة في الفقرات 41- 42:
«إن تصاعد الإسلام السياسي، اعتبارا من 1970، هو ظاهرة بارزة تؤثر على المنطقة، وعلى وضع المسيحيين في العالم العربي. ويشمل هذا الإسلام السياسي تيارات دينية مختلفة، تريد أن تفرض أسلوب حياة إسلامي على المجتمعات العربية، والتركية والإيرانية، وعلى كل الذين يعيشون فيها، من مسلمين وغير مسلمين. وتعتبر هذه التيارات أن سبب كافة الشرور هو الابتعاد عن الإسلام، فالحل إذاً هو العودة إلى إسلام الأصول. ومن هنا ظهر شعار: «الإسلام هو الحل» ولتحقيق هذا الهدف، لا يتورع البعض عن استخدام العنف.
تشكل هذه التيارات المتطرفة تهديدًا للجميع، المسيحيين واليهود والمسلمين، وينبغي علينا أن نواجهها معًا».
وتعود الورقة لتكرير هذه المغالطات مرة أخرى في الفقرة (109-110) التي تنص على ما يلي:
«لا توجد علمانية في الدول ذات الغالبية الإسلامية، باستثناء تركيا. فالإسلام هو عادةً دين الدولة، والمصدر الرئيسي للتشريع، الذى يستلهم الشريعة. أما عن الأحوال الشخصية )الأسرة والميراث(، فتوجد في بعض البلاد شرائع خاصة للطوائف المسيحية، ومحاكمهم الكنسية مُعتَرف بها، وأحكامها نافذة.
وفي بعض البلدان، الدولة إسلامية وتطبّق الشريعة، ليس فقط في الحياة الخاصة، بل أيضاً في الحياة الاجتماعية، حتى على غير المسلمين، مما ينتج عنه تجاهل حقوق الإنسان.
أمّا بالنسبة إلى الحرّية الدينية وحرّية الضمير، فإنهما مجهولتان بوجه عام في الإطار الإسلامي، الذي يعترف بحرّية العبادة، ولكن ليس بحرّية الدعوة إلى دين غير الإسلام، وكم بالأحرى تَرْك الإسلام. علاوة على ذلك، فبتصاعد التطرف الإسلامي، ازدادت الهجومات على المسيحيين تقريبا في كل مكان».
ولنا مع هذه العبارات عدة وقفات:
أ – ليس في الإسلام ما يمكن تسميته الإسلام السياسي والإسلام غير السياسي، فالإسلام شيء واحد ، دين شامل ينتظم أمور الحياة جميعا ويفتي في كل شأن من شؤونها، كما سبق بيانه.
وفيما يتعلق بالحياة الاجتماعية فهو لا يفرض الشريعة على غير المسلمين، بل القاعدة الشرعية في هذا «اتركوهم وما يدينون» ولهذا فإن الشريعة تعطي النصارى الحق في تنظيم أمورهم الاجتماعية وفق ما جاء في كتبهم المقدسة، ولا تتدخل في ذلك على الإطلاق، إنما تُخْضِع النصارى مثل سائر المواطنين للقانون العام المستند إلى الشريعة الإسلامية فيما لم تنص عليه كتب النصارى المقدسة، والورقة تعترف بأنه توجد في بعض البلاد شرائع خاصة للطوائف المسيحية، ومحاكمهم الكنسية مُعتَرف بها، وأحكامها نافذة.
ب – أن عموم التيار الإسلامي السائد وفي القلب منه الإخوان المسلمون ليس من أهدافهم فرضُ شيءٍ ما على الناس وإكراهُهم عليه، بل هم دعاةٌ يدُلُّون الناس على الصواب، ويبيِّنون لهم الحقائق، ويدعونهم إلى الهدى، ويكشفون لهم عن جمال الإسلام وعما يقدمه أسلوب الحياة في ظله من أسباب السعادة، وهم لا يريدون ولا يملكون إجبار أحد على شيء مما يدعون إليه.
ج – وإذا كان البعض قد استخدم العنف فهم قلة قليلة لا تعبر عن مجموع الأمة ، ولا عن مجموع التيار الإسلامي، وقد أدان الإسلاميون – وأولهم الإخوان المسلمون- هذا التوجه، وكشفوا عن مخالفته لحقيقة الإسلام ومنهج النبي ^ في التغيير، وكان الإخوان –بفضل الله- أحد أهم عوامل محاصرة هذا الفكر ومنع انتشاره بين جمهور الصحوة الإسلامية، بشهادة كل المنصفين.
د – الدعوة إلى الاشتراك في مواجهة ما أسمته الورقة (التيارات المتطرفة) بدعوى تهديدها للجميع هي خطأ فادح، فضلا عن كونها تمثل تدخلا مرفوضا في الشؤون الداخلية، وهي كفيلة بإشعال نار فتنة كبرى في المنطقة وفي العالم.
ه - الأفكار المتطرفة لا تمثل تيارا عاما في الصحوة الإسلامية ، وإنما هي نتوءات متفرقة هنا وهناك، يلفظها الجسد الإسلامي، وتتكفل بمواجهتها ومحاصرتها المؤسسات الإسلامية الرسمية وغير الرسمية، وعلى رأسها الأزهر الشريف والإخوان المسلمون، ومحاولة إدخال اليهود والنصارى على هذا الخط جديرة بإفشال كل هذه الجهود المخلصة، وإعطاء مصداقية لهذه الأفكار بين الشباب، وربما أدت إلى تحول جمهور كبير من الأمة من رفضها إلى التعاطف معها ومساندتها.
8 – بعد أن أشارت الورقة إلى الصراع الصهيوني الفلسطيني وإلى عدم الاستقرار في العراق ولبنان كأسباب طبيعية للهجرة ، عادت لتذكر أسبابا أخرى لا وجه لاختصاص النصارى بها، فقالت الورقة في الفقرة (44) :
«في الكثير من بلدان الشرق الأوسط، نجد أن تقييد الحرية الثقافية والدينية، وعدم تكافؤ الفرص والحقوق، والإمكانية المحدودة للمشاركة بفاعلية في الحياة السياسية، هي الأسباب الهامة لهجرة المسيحيين».
والحقيقة أن هذه الأسباب ليست أسبابا لهجرة المسيحيين فقط، بل لهجرة المسيحيين والمسلمين، فالأنظمة المستبدة الجاثمة على صدور شعوب المنطقة لا تنطلق في تضييقها على الشعوب من منطلق ديني مطلقا، بل إن كل منصف يرى أن التضييق الأكبر من هذه النظم المستبدة يقع على التيارات الإسلامية التي لا تغادر مجموعة منها سجون الظلم والاستبداد حتى تحل مجموعة أخرى محلها، والتي تُقْصَى أمنيّاً عن كل مواقع القيادة والتأثير على المستوى الرسمي والشعبي، بل إن كثيراً من القوانين في المجالات المختلفة وُضِعتْ خِصِّيصا لمنع وصول هذا التيار إلى المواقع القيادية، ومن ذلك قوانين تعيين العمد والعمداء، وقوانين النقابات والعمل الأهلي، وقوانين الطوارئ، وغيرها من القوانين سيئة السمعة، بل اندفعت بعض النظم المستبدة إلى تغيير الدساتير وإلغاء كافة ضمانات نزاهة أية عملية انتخابية للحيلولة دون وصول التيارات الإسلامية إلى البرلمانات والمجالس المحلية.
بل يقف الأمن في النظم المستبدة بالمرصاد لكل من يرتبط بالتيار الإسلامي، وذلك بالمنع من الوظائف، والمنع من السفر، والاعتقال المتكرر، مما يدفع كثيرا من شباب التيار الإسلامي للهجرة ومغادرة البلاد.
وهذا الذي يتم مع التيار الإسلامي لا يحصل عشر معشاره مع المسيحيين، و لا حتى المتطرفين منهم.
9 – فيما يتصل بالعلاقة باليهود فإن الورقة بعد أن تتحدث عن استعدادها الطيب في هذه العلاقة مع الإخوة الأكبر، تتناول موقف الكنيسة من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فتقدم موقفا سياسياً، لا موقفا أخلاقيا مبدئيا، إذ تُقِرُّ حقَّ الغاصب في تَمَلُّك ما اغتصبه، وتدعو الشعب المغصوبة أرضه للقبول بالواقع الظالم، وهو موقفٌ كنا نتمنى على الكنيسة التي ترفع راية العدل أن تصححه، بل أن يكون لها دور في مساعدة الشعب المظلوم على نيل حقوقه. تقول الفقرة رقم (89) من الورقة :
«وتتأثر العلاقات اليهودية المسيحية بالصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. وفي هذا الصدد عبر قداسة البابا بوضوح عن رأي الكرسي الرسولي، أثناء زيارته الرسولية للأراضي المقدسة، في حفلي الترحيب. فقد قال في بيت لحم، يوم 13 أيار/ مايو 2009: «السيد الرئيس، إن الكرسي الرسولي يؤيد حق شعبكم في وطن فلسطيني ذي سيادة على أرض أجداده، وطن آمن وفي سلام مع جيرانه، داخل حدود معترف بها دوليا».
وفي خطابه في مطار بن جوريون تل أبيب، يوم 11 أيار/مايو 2009، أعرب عن أمنيته «أن يستطيع الشعبان أن يعيشا في سلام، كل في وطنه، داخل حدود آمنة ومعترف بها دوليا».
فإذا كان البابا يعترف للرئيس الفلسطيني بأن الأرض أرض أجداده ، فكيف ساغ له أن يتحدث عن شعبين يعيشان في سلام كل في وطنه؟ وهل يمكن أن يقسم الوطن ليكون بعضه لأصحابه وأكثره لمغتصبيه؟ .
لقد كان جديرا بالبابا وبالكنيسة أن يكون الموقف من هذه القضية موقفا أخلاقيا لا موقفا سياسيا، أن يكون موقفا مبدئيا مع أصحاب الحق، لا يقبل بالاغتصاب ولا يقر مغتصبا على جريمته.
10 - بعد كلام جيد عن دواعي الحوار بين المسيحيين والمسلمين تعود الورقة مرة أخرى للمغالطة حين تصر على أن عدم الفصل بين الدين والسياسة في الإسلام هو ما يسبب الصعوبات في هذه العلاقة ، فتقول الورقة في الفقرة (96) :
«هناك أحيانا أو غالبا صعوبات في العلاقات بين المسيحيين والمسلمين، خاصة بسبب أن المسلمين لا يفصلون بين الدين والسياسة، مما يجعل المسيحيين في وضع حساس وكأنهم ليسوا مواطنين، في حين أنهم مواطنو البلاد قبل مجئ الإسلام بكثير. إن مفتاح النجاح للتعايش بين المسيحيين والمسلمين يتوقف على الاعتراف بالحرية الدينية وبحقوق الإنسان».
ولنا وقفات مع هذا المقطع :
أ - إن عدم الفصل بين الدين والسياسة ليس هو المسؤول عن أية صعوبات في الشرق الأوسط، بل إن الفصل بينهما هو السبب الرئيس لكثير من الصعوبات التي تواجه المسيحيين قبل المسلمين؛ لأن الإسلام هو الذي يعترف لغير المسلمين بالاحتكام إلى شرائعهم الخاصة في أمورهم الشخصية، كما يدعو إلى برهم والإحسان إليهم، ولا ينظر إليهم قط على أنهم مواطنون من درجة أدنى.
ب - إذا كان الإسلام قد قرر لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي التحاكم إلى شرائعهم في شؤون الأسرة والأحوال الشخصية فذلك لأن شرائعهم لا تتضمن في الواقع غير هذا ، وبذلك يصبح المسيحي المتحاكم إلى شريعته في هذه الشؤون منسجماً مع عقيدته تماما، وليس عليه بعد ذلك أدنى حرج في أن يتحاكم إلى أية شريعة أو قانون في المجالات الأخرى؛ إذ لا تعارض لذلك مع العقيدة المسيحية، فلماذا لا يكون هذا القانون هو القانون الذي ارتضته الأغلبية المسلمة والذي يعبر عن انسجامها أيضا مع عقيدتها، وبذلك يحل السلام الاجتماعي .
ج - كان على كاتب الورقة أن يدرك أنه في الوقت الذي لا يتأثر فيه إيمان المسيحي وعقيدته حين تُطَبَّق الشريعةُ الإسلامية، فإن مما يبعث القلق العارم في نفوس الأغلبية المسلمة أن يتم التحاكمُ إلى غير شريعتها المعبرة عن إيمانها وعقيدتها. ومن ثَمَّ فكما أعطى الإسلامُ للأقلية المسيحية أن تمارس دينها كما في كتبها المقدسة كاملا غير منقوص، فإن على هذه الأقلية أن تقبل بأن تمارس الأغلبية دينها أيضا كاملا غير منقوص .
ولما كان من غير المنطقي أن تستورد هذه الأقلية قانونا تحتكم إليه في غير ما ورد في كتبها المقدسة، ولما كان مستويا عندها أن يكون هذا القانون الذي تحتكم إليه في غير ما ورد في كتبها المقدسة قانونا إسلاميا أو غير إسلامي؛ فإن منطق المواطنة الصحيح أن تقبل بالقانون الإسلامي الذي يريح مشاعر الأغلبية ويتوافق مع إيمانها ومعتقدها.
د – لهذا لا نرى أي مناسبة لما ورد في نهاية الفقرة (96) من القول :
«إن مفتاح النجاح للتعايش بين المسيحيين والمسلمين يتوقف على الاعتراف بالحرية الدينية وبحقوق الإنسان».
فإن الإسلام يعترف بهذه الحرية الدينية وبحقوق الإنسان على أكمل ما يكون ، وهذا سِرُّ بقاء النصرانية واليهودية في البلاد الإسلامية كل تلك القرون، التي لم يحصل في يوم من الأيام لها تطهير أو إبادة على النحو الذي مارسته الكنيسة الكاثوليكية مع المسلمين في الأندلس وفي الحروب الصليبية في الشام وفلسطين، أو الذي مارسته الكنيسة الأرثوذكسية الصربية مع البوشناق المسلمين في البوسنة والهرسك.
11 - بعد أن ذكرت الورقة كلاما جيدا عن وجوب المشاركة المجتمعية للمسيحيين مع مواطنيهم المسلمين تعود الورقة لنفس المغالطة المتكررة الزاعمة بأن عدم الفصل بين الدين والسياسة في الإسلام هو العائق أمام هذا الاشتراك، فتقول الورقة في الفقرة (101) :
«ولكن العالم الإسلامي لا يفرق بسهولة بين الجانب السياسي والجانب الديني، وهذا ما يتسبب في ضرر كبير لكنائس منطقة الشرق الأوسط، لأن الرأي العام الإسلامي يتهم فعليا الكنيسة بأية خيارات سياسية للدول الغربية».
والحق الذي لا يماري فيه منصف أن الرأي العام الإسلامي (هكذا على إطلاقه) لا يتهم الكنيسة على النحو الذي تذكره الورقة، ولكن الرأي العام الإسلامي يرى أن المنطقة يتجاذبها مشروعان متصارعان : أحدهما ذو توجه غربي علماني يتبنى الخيارات الغربية حتى لو تصادمت مع دين الأمة وعقيدتها وتاريخها، وحتى لو أدى هذا التبني للمشروع الغربي إلى التنازل عن الحقوق والثوابت، ويتبنى الآخر مشروعا وطنيا قوميا نهضويا، منطلقا من دين الأمة وتراثها وكرامتها، ومستمسكا بثوابت الأمة وحقوقها التاريخية والجغرافية، وداعيا إلى الندية؛ لا إلى التبعية في التعامل مع كافة الدول والمشروعات على الساحة الإقليمية والدولية.
وكلا المشروعين يشترك في حملهما مفكرون مسلمون ومسيحيون، وصحيح أن المشروع العلماني المتغرب يستوعب أكثر المسيحيين في الوقت الذي يستوعب المشروع الوطني القومي أغلب المسلمين، لكن لا يمكن القول بأن المشروع الأول مسيحي، وأن المشروع الثاني إسلامي، فهذا ظلم للحقيقة وتزييف للواقع.
ومما يجدر ذكره أن لجوء كثير من المفكرين المسيحيين للمشروع الأول ناتج عن تصاعد ما يسمى (الإسلاموفوبيا) التي يروج لها كثيرون، وأخشى أن تكون هذه الورقة مما يروج لهذه الفكرة الفاسدة.
وإن على إخواننا المسيحيين أن يقرؤوا تاريخ هذه الأمة بإنصاف، والمشاركة المسيحية الكبرى في صنع الحضارة الإسلامية؛ ليتأكدوا من صحة المقولة التي رفعها الوطني الصادق الأستاذ مكرم عبيد «أنا مسيحي ديانة ومسلم حضارة».
12 – إن من أخطر ما جاء في الورقة لهو الدعوة الصريحة للتدخل الأجنبي في بلاد الشرق الأوسط لدعم التبشير ، حيث تقول الورقة في الفقرة (11):
«إن الكرازة (يعني التبشير) بالإنجيل في مجتمع مسلم، يمكن أن تتمّ فقط من خلال حياة جماعاتنا، ولكنّ الأمر يتطلب أن يتمّ ضمانها أيضا بتدخّلات خارجية مناسبة».
إن هذه الفقرة كفيلة وحدها بنسف كل ما جاء من إيجابيات في هذه الورقة، والدعوة إلى ضمان تدخلات خارجية لدعم التبشير هي عودة واضحة إلى حالة الحروب الصليبية البغيضة، ولا أدري كيف مرت هذه الفقرة على الذين صاغوا هذه الورقة.
وفي الختام فإن من الواضح أن الورقة –فيما يبدو- ليست من صياغة شخص واحد، ولكن تشارك في صياغتها عدد من الكتاب، ولذلك ترى كثيرا من التناقض فيها، فترى في بعض فقراتها الدعوة إلى الحوار مع المسلمين وضرورة تفهم الإسلام وإدراك أن المسيحيين يعيشون وسط أغلبية مسلمة لها عاداتها وتقاليدها التي يجب تفهمها، والدعوة إلى الاندماج في المجتمعات الشرق الأوسطية، وترى في فقرات أخرى التخويف المتكرر غير المبرر من تطبيق الإسلام .
على كل حال فإننا نضع هذه القراءة الهادئة المتأنية بين أيدي المدعوين إلى السينودس من الأساقفة ، لعلها تكون مدخلا مناسبا لفهم بعض حقائق الإسلام وإدراك الواقع الحقيقي في منطقة الشرق الأوسط .
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران/64].
والله أكبر ولله الحمد، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد الرحمن البر
أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر
وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.