أول تعليق من عميد المحامين على "أزمة المهاجرين"    عاجل - إغلاق محل لبيع منتجات لحوم الخيول في بن عروس    محيط قرقنة يُقصي الترجي من سباق كأس تونس    وجيهة الجندوبي :'' ايتها الوطنية رجعلنا المسلسلات المكسيكية والكويتية خاطر كرهتني في وجهي الحقيقة''    وكالة التحكم في الطاقة: نحتاج استثمارات ب 600 مليون دينار لتخفيض الاستهلاك الطاقي في البلديات    وزارة الفلاحة تؤكّد أهميّة استعمال التقنيّات الرقميّة لإرساء تصرّف ذكي ومستدام في المياه    تطاوين: الشرطة البلدية تُنقذ طفلين من الموت    بورصة تونس أول شركة تتحصل على شهادة الأيزو 22301    أبطال أوروبا: تشكيلة بايرن ميونيخ في مواجهة ريال مدريد    غياب الحفناوي عن أولمبياد باريس: الناطقة الرسمية باسم جامعة السباحة توضّح    كأس الكاف :الزمالك يحتج على تعيين حكمين تونسيين في النهائي ضد بركان    باب بحر: القبض على متورّط في عمليات سرقة    بين المنستير وصفاقس: الاحتفاظ بشخصين والقبض على منظمي "حرقة" ووسطاء    كيفاش تتحصل على منحة العائلات المعوزة ؟    معهد باستور: تسجيل ما بين 4 آلاف و5 آلاف إصابة بمرض الليشمانيا سنوياّ في تونس    90 % من الالتهابات الفيروسية لدى الأطفال لاتحتاج إلى مضادات حيوية    سليانة: تسجيل جملة من الاخلالات بكافة مراكز التجميع بالجهة    منزل تميم: تفكيك شبكة مختصة في سرقة المواشي    نجيب الدزيري لاسامة محمد " انتي قواد للقروي والزنايدي يحب العكري" وبسيس يقطع البث    البطولة العربية لألعاب القوى: ريان الشارني يتوج بذهبية سباق 10 الاف متر مشي    التونسي أيمن الصفاقسي يحرز سادس أهدافه في البطولة الكويتية    الأعلى انتاجا.. إطلاق أول محطة توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية    سيارة Chery Arrizo 5 الجديدة تصل إلى تونس    إنقاذ فلاّح جرفه وادي الحطب بفوسانة..    انطلاق اختبارات 'البكالوريا البيضاء' بداية من اليوم الى غاية 15 ماي 2024    حجز كمية مخدّرات كانت ستُروّج بالمدارس والمعاهد بحي التضامن..    هام/ تسميات جديدة في وزارة التجهيز..    عاجل : قضية ضد صحفية و نقيب الموسقيين ماهر الهمامي    أريانة :خرجة الفراشية القلعية يوم 10 ماي الجاري    قصر العبدلية ينظم الدورة الثانية لتظاهرة "معلم... وأطفال" يومي 11 و12 ماي بقصر السعادة بالمرسى    دورة جديدة لمهرجان الطفولة بجرجيس تحتفي بالتراث    وزيرة الإقتصاد في مهمة ترويجية " لمنتدى تونس للإستثمار"    بطاحات جزيرة جربة تاستأنف نشاطها بعد توقف الليلة الماضية    عاجل/يصعب إيقافها: سلالة جديدة من كورونا تثير القلق..    قوات الاحتلال الصهيوني تعتقل 8640 فلسطينيا بالضفة الغربية منذ 7 أكتوبر الماضي..    بطولة مصر : الأهلي يفوز على الاتحاد السكندري 41    جرحى في حادث اصطدام بين سيارتين بهذه الجهة..    الاقتصاد في العالم    جريمة شنيعة: يطعن خطيبته حتى الموت ثم ينتحر..!!    بأسعار تفاضلية: معرض للمواد الغذائية بالعاصمة    قبل لقاء الأهلي والترجي: السلطات المصرية تعلن الترفيع في عدد الجماهير    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الاربعاء 8 ماي 2024    تراجع عدد أضاحي العيد ب13 بالمئة مقارنة بالسنة الماضية    مدعوما بتحسن الإيرادات الخارجية: ميزان المدفوعات يستعيد توازنه    هزة أرضية بقوة 4.7 درجات تضرب هذه المنطقة..    "دور المسرح في مواجهة العنف" ضمن حوارات ثقافية يوم السبت 11 ماي    جيش الاحتلال يشن غارات على أهداف لحزب الله في 6 مناطق جنوب لبنان    لأجل غير مسمى.. إرجاء محاكمة ترامب بقضية "الوثائق السرية"    محرز الغنوشي: رجعت الشتوية..    سحب لقاح "أسترازينيكا" من جميع أنحاء العالم    رئيس جمعية مالوف تونس بباريس أحمد رضا عباس ل«الشروق» أقصونا من المهرجانات التونسية ومحرومون من دار تونس بباريس    مصر: تعرض رجال أعمال كندي لإطلاق نار في الإسكندرية    بعض مناضلي ودعاة الحرية مصالحهم المادية قبل المصلحة الوطنية …فتحي الجموسي    المهديّة :ايقاف امام خطيب بسبب تلفظه بكلمة بذيئة    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة "سينما تدور" (فيديو)    متى موعد عيد الأضحى ؟ وكم عدد أيام العطل في الدول الإسلامية؟    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    العمل شرف وعبادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تغلغل المتدينين في الجيش الإسرائيلي: تبعات وتداعيات:صالح النعامي
نشر في الفجر نيوز يوم 06 - 02 - 2011

تعكس المعطيات المتواترة التي تصدرها شعبة القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي حجم وعمق تغلغل أتباع التيار الديني الصهيوني في المؤسسة العسكرية، لدرجة أنهم باتوا يشكلون حوالي 60% من الضباط في الوحدات القتالية، على الرغم من أن تمثيلهم في تعداد السكان لا يتجاوز 15% (1)، وتؤكد المعطيات أن عدد الضباط المتدينين في ألوية المشاة المختارة قد زاد خلال العقدين الماضيين عشر مرات (2). وأضحى رجالاتهم يتنافسون أيضاً على قيادة الأجهزة الاستخباراتية ذات التأثير الطاغي على دوائر صنع القرار في الكيان الصهيوني.
فما هي العوامل التي أسهمت في تمكين المتدينين من الهيمنة على المواقع القيادية في الجيش الإسرائيلي؟ وما الوسائل التي اتبعوها في تحقيق ذلك؟ وما تأثيرات هذا الواقع على أوضاع إسرائيل الداخلية والصراع مع العرب؟
يسعى هذا التقرير للإجابة على هذه الأسئلة، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام، نتعرض في القسم الأول لموقف التيارات الدينية اليهودية في إسرائيل من الخدمة العسكرية، والظروف التي مهدت لتغلغل التيار الديني الصهيوني في الجيش وتمكنه من الهيمنة على عدد من المواقع القيادية في الجيش بشكل يفوق بكثير الثقل السكاني لهذا التيار، وفي القسم الثاني سنناقش الآليات التي اتبعها لتحقيق هذا الهدف، وفي القسم الثالث سنتعرض لتداعيات هذا الواقع على الصعيد الداخلي وعلى مستقبل الصراع مع العرب.
موقف التيارات الدينية اليهودية من الخدمة العسكرية
تختلف مواقف التيارات الدينية اليهودية من الخدمة العسكرية تبعاً لاختلاف موقفها من الفكرة الصهيونية، فالتيارات الدينية الأرثوذكسية المتزمتة والتي يطلق على أتباعها بالعبرية "حرديم"، ترفض أن يتم تجنيد أنصارها للخدمة العسكرية بحجة الحاجة للتفرغ للدراسات الدينية، وإن كان السبب الحقيقي يتمثل في رفضها الفكرة الصهيونية ذاتها، حيث أنها اعترفت بإسرائيل واندمجت في نظامها السياسي بحكم الأمر الواقع، لكن مرجعياتها اعتبرت أن إقامة كيان لليهود قبل نزول المسيح المخلص "كفر وزندقة" (3).
وقد وظفت الأحزاب الحريدية ثقلها السياسي لإلزام الحكومات المتعاقبة بإعفاء أتباعها من الخدمة العسكرية. لكن وفي المقابل، فإن تيار الصهيونية الدينية الذي أسسه الحاخام إسحاق كوك كان شريكاً مؤسساً في الحركة الصهيونية، حيث أن المسوغ "الفقهي" الذي حكم موقف هذا التيار من الفكرة الصهيونية هو فتوى الحاخام موشيه بن نحمان في القرن الثاني عشر بأن: "استيطان أرض فلسطين فريضة تعدل فرائض التوارة الثلاثمائة والستين، لأنه سيعجل بظهور المسيح المخلص" (4). من هنا فقد اندمج أتباع التيار الديني الصهيوني منذ تأسيس الكيان الصهيوني في مؤسساته، وضمن ذلك الانخراط في الخدمة العسكرية.
صعود المتدينين في المواقع القيادية في الجيش
على الرغم من انخراط أتباع التيار الديني الصهيوني في مؤسسات الكيان الصهيوني، إلا أن تمثيلهم في الجيش ظل حتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي متدنياً جداً، حيث أن الضباط المتدينين كانوا يشكلون 2% من عدد الضباط، في الوقت الذي احتكر فيه العلمانيون، وتحديداً أبناء القرى التعاونية "الكيبوتسات" المواقع القيادية في الجيش؛ وحتى مطلع التسعينات من القرن الماضي لم يحدث أن تبوأ ضابط متدين رتبة لواء، باستثناء الحاخام الرئيس للجيش (5). فإذا كانت الأمور على هذا النحو، فما الذي أدى إلى قلب الأمور رأساً على عقب، على هذا النحو السريع والمفاجئ. نحن هنا سنتعرض لعاملين رئيسيين وراء هذا التحول:
1- تراجع حوافز العلمانيين
أدت الأزمة الاقتصادية الخانقة التي مرت بها إسرائيل منتصف الثمانينات من القرن الماضي إلى تعزيز مظاهر النزوع لتغليب المصلحة الشخصية والفردية على المصلحة العامة لدى القطاعات العلمانية، وهو ما وجد تأثيره في تراجع كبير ومتواصل في حوافز الشباب العلماني للانخراط في الوحدات المقاتلة. ومما عزز هذه التوجهات شعور العلمانيين بالغبن جراء عدم المساواة في توزيع عبء الخدمة العسكرية، فضلاً عن أن الأزمة الاقتصادية حالت دون تمكين الكيان الصهيوني من منح الجنود والضباط مزايا مالية لإغرائهم بالبقاء في صفوفه. في نفس الوقت، فإن ما شهدته نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من تعاظم الجهود التي بذلت لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، والتي بلغت ذروتها بالتوقيع على اتفاقيات التسوية مع كل من منظمة التحرير الفلسطينية والأردن قد ولد انطباعاً عاماً لدى العلمانيين بأن المخاطر على وجود الدولة قد تراجعت بشكل كبير، الأمر الذي يستدعي الانصراف للاهتمام بمسارات شخصية في مجالات أخرى غير المجال العسكري. وقد تعزز هذا الميل بتراجع مكانة الجيش الإسرائيلي في ظل عهد التسويات السياسية، حيث أخذ المزيد من النخب تشكك في وجاهة مسوغات تقديس الجيش بوصفه "اللبنة الأساس في بناء الأمة اليهودية". وقد تزامنت هذه التطورات بطرح أفكار تتعلق بالجيش تعد "ثورية" في ذلك الوقت، حيث برز من داخل المؤسسة العسكرية من دعا لإعادة النظر في الفلسفة التي أسست لبناء الجيش، بحيث يتم تحويله من "جيش الشعب"، الذي تؤدي فيه القطاعات السكانية المختلفة الخدمة الإجبارية، إلى "جيش مهني" يقتصر على المحترفين، كما هو الحال في الجيش الأمريكي (6). ورافق ذلك كله تراجع كبير طرأ على منظومة القيم الإسرائيلية في نسختها العلمانية، حيث لم يعد من المسلم به تحمل تبعات التضحية من أجل الدولة وتكبد آلام الثكل، وغيرها من القيم. ومما لا شك فيه أن ترك العلمانيين المسارات القيادية في الجيش قد أحدث فراغاً سارع أتباع التيار الديني الصهيوني لسده، وهو ما لاقى ترحيباً شديداً من قبل المستوى السياسي وهيئة أركان الجيش التي كان على رأس أولياتها العمل على سد النقص الكبير في عدد الشباب المتطوعين للخدمة في الوحدات الميدانية المقاتلة التي تضطلع بالأعباء القتالية (7).
2- الرغبة في التأثير على صنع القرار
إن كان التوقيع على اتفاقيات التسوية قد قلص حوافز العلمانيين للخدمة في الجيش، فإن هذا الحدث كان له تأثير معاكس تماماً لدى المتدينين، الذين اعتبروا أنهم سيكونون ضحية أي تقدم في العملية السياسية والتفاوضية، حيث أنهم هم الذين يقودون المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية وقطاع غزة والمشاريع التهويدية في القدس، علاوة على أنهم يشكلون أكثر من 65% من المستوطنين في الضفة الغربية والقدس (8). ناهيك عن المنطلقات العقائدية التي تثير حماس المتدينين لعمل كل ما في وسعهم من أجل إحباط التسويات السياسية للصراع التي يفترض أن تقترن بالانسحاب من أراض تعتبر حسب الخطاب الديني "أراض يهودية محررة". وقد اعتبرت المرجعيات الدينية أن التغلغل في الجيش وتبوء المواقع القيادية فيه سيؤدي إلى تمكينهم من التأثير بشكل كبير على دائرة صنع القرار في إسرائيل بشكل يخدم التوجهات العقائدية للتيار الديني الصهيوني. لقد حثت المرجعيات الدينية أتباعها على الانخراط في الوحدات القتالية تحديداً لأنها تدرك أن السيطرة على المواقع القيادية في الجيش يمنح هذا التيار القدرة على التأثير على المجتمع (9).
وقد أقر الجنرال إليعاز شتيرن، الرئيس السابق لشعبة القوى البشرية في الجيش، وهو أحد أتباع التيار الديني الصهيوني، أن الرغبة في التأثير على مجريات الأمور في الكيان الصهيوني هو السبب الأبرز الذي يفسر اندفاع التيار الديني الصهيوني للتطوع للوحدات المقاتلة في الجيش (10).
ولقد أدركت مرجعيات التيار الديني الصهيوني أن عوائد اختراق الجيش "الإيجابية" لا تمنح هذا التيار القدرة على التأثير على دائرة صنع القرار أثناء الخدمة العسكرية فقط، بل تمكنهم من التأثير على الحلبة السياسية الداخلية بشكل كبير بعد تسرحهم من الخدمة العسكرية كجنرالات وضباط كبار في الاحتياط، إذ أن الأحزاب السياسية في إسرائيل تتنافس على استقطاب الجنرالات المتقاعدين ل "تطعيم" قوائم مرشحيها للانتخابات بهم، فيصبح هؤلاء نواباً في الكنيست ووزراء في الحكومة، علاوة على أن الكيان يمنح الجنرالات المتقاعدين الأولوية لرئاسة الشركات الحكومية وشبه الحكومية وشغل الشواغر في السلك الدبلوماسي، وهذا يشكل مصدراً هائلاً للتأثير على دوائر صنع القرار في الكيان الصهيوني.
وسائل التغلغل: التعبئة والتأهيل
أتبع التيار الديني الصهيوني وسيلتين أساسيتين لضمان تغلغل أتباعه في الجيش وتبوء المواقع القيادية فيه، وهما: التعبئة الدينية الخاصة، وابتداع مسارات تعليمية تؤهل الشباب المتدين للخدمة العسكرية.
التعبئة الدينية
حرصت المرجعيات الدينية على إصدار الفتاوى التي تحث على التطوع للخدمة في الوحدات المقاتلة، واعتبار هذه مهمة دينية "مقدسة"، يتوجب على جميع أبناء التيار القيام بها. فقد أصد الحاخام مردخاي إلياهو الزعيم السابق للصهيونية الدينية في إسرائيل فتوى مطلع التسعينات تعتبر التطوع في الوحدات المقاتلة في الجيش: "واجبا على كل متدين قادر، وأن التخلف عن هذا الواجب يعد معصية للرب وتجاوزاً لدرب أنبياء إسرائيل والصديقين على مر العصور"، في الوقت الذي اعتبر فيه الحاخام إبراهام شابيرا "الخدمة العسكرية والروح القتالية مهمة جماعية يفرضها الرب بهدف قيادة المشروع الصهيوني" (11). ولا مجال هنا لاقتباس أقوال الكثير من الحاخامات الذين حثوا على التطوع للخدمة في الوحدات المقاتلة.
مسارات تعليمية دينية عسكرية
اتفقت قيادة الجيش الإسرائيلي ومرجعيات الصهيونية الدينية على بلورة مسارين تعليميين لتأهيل الشباب المتدين للخدمة العسكرية، يضمنان من ناحية استثمار الطاقة الكامنة في الشباب المتدين، ومن ناحية ثانية عدم المس بفرص تحصيل الجنود العلوم الدينية، لذا فقد تم إنشاء نوعين من المؤسسات التعليمية الخاصة لتحقيق هذا الهدف، يتم تمويلها من قبل الجيش، دون أن يكون للمؤسسة العسكرية حق التدخل في مناهج التعليم في هذه المدارس التي تحددها وتشرف على تدريسها المرجعيات الدينية ذاتها.
المدارس الدينية العسكرية التمهيدية: يطلق عليها "يشيفوت ههسدير"، وتم الشروع في تدشينها أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وقضى الاتفاق بين الجيش والمرجعيات الدينية أن يواصل الطلاب في هذه المدارس تلقي تعليمهم الديني في الوقت الذي يؤدون الخدمة العسكرية، على أن يتم تدشين وحدات قتالية متجانسة خاصة بطلاب هذه المدارس، بحيث يخدم الجنود ثمانية عشر شهراً، تقسم على ثلاث مراحل، يخدم الطالب ستة أشهر في الجيش، ثم يتفرغ بعد ذلك لدراسة العلوم الدينية ستة أشهر أخرى، وبعد ذلك يعود للخدمة العسكرية لمدة ستة أشهر، وهكذا دواليك.
الأكاديميات الدينية قبل العسكرية: أقيمت أول أكاديمية دينية عسكرية عام 1996، ويمنح الجيش طلاب هذه الأكاديميات تأجيلاً من الخدمة العسكرية لمدة عام ونصف، حيث يتفرغون خلالها للعلوم الدينية، وبعد انتهاء هذه الفترة يخدمون ثلاثة أعوام، مثل سائر الجنود، وفي وحدات مختلطة يشاركهم فيها الجنود العلمانيون. ويمتاز هذا النوع من المؤسسات التعليمية بقدرة استقطاب الطلاب بدرجة أكبر بكثير من المدارس الدينية التمهيدية. وقد مثل ظهور هذه الأكاديميات نقطة تحول فارقة في عدد المتدينين الذين يتجندون للوحدات المختارة.
ويشرف على هذين النوعين من المدارس حاخامات، عادة ما يكونوا من خريجي الوحدات المختارة في الجيش، علاوة على مناهج التدريس التي تركز على التوراة والتلمود والأدب ألتلمودي.
ومما لا شك فيه أن كلاً من التعبئة الدينية والمسارات التعليمية الخاصة قد أسهمتا في تعاظم حوافز الخدمة في الوحدات المقاتلة في الجيش لدى الشباب المتدين، حيث أنها وصلت إلى 90% من إجمالي الشباب المنتمي للتيار الديني الصهيوني، في حين انخفضت الحوافز لدى الشباب العلماني إلى أقل من 48% (12). ومن المعطيات ذات الدلالة حقيقة أن عدد القتلى من الجنود الذين قدمتهم مستوطنة "عيلي" المتدينة والتي يبلغ تعداد سكانها ألف نسمة يساوي نفس عدد الجنود الذين قدمتهم مدينة "تل أبيب" معقل العلمانية الإسرائيلية والتي يبلغ تعداد سكانها مليون نسمة (13). وهذا منح أتباع التيار الديني الصهيوني احتراماً كبيراً في نظر عامة الجمهور الإسرائيلي، ولقي استحساناً كبيراً لدى قيادة الجيش التي وجدت في الشباب المتدين مخزونا احتياطيا جديدا من الضباط المشحونين أيدلوجياً، وعزز في المقابل ثقة أتباع هذا التيار بأنفسهم ومنحهم الشعور بأن لهم الحق في التأثير على السياسات العامة للدولة.
تداعيات تغلغل المتدينين في الجيش الإسرائيلي
من المتوقع أن يترك تغلغل المتدينين في الجيش الإسرائيلي تأثيرات مستقبلية كبيرة وهامة سواءً على صعيد الداخلي أم على صعيد الصراع مع العرب، وسنتعرض لأهم التأثيرات المتوقعة لهذا التغلغل.
تهديد النظام السياسي
تبوء المتدينين المواقع القيادية في الجيش الإسرائيلي ينذر بتهديد جدي وخطير للنظام السياسي الإسرائيلي، حيث أن الضباط والجنود المتدينين الذين ينخرطون في الجيش يكفرون بقيم "الديمقراطية" والانتقال السلمي للسلطة، وتحظى التعاليم الصادرة عن المرجعيات الدينية والحاخامات باحترام أكبر لدى الضباط والجنود المتدينين من الأوامر التي تصدرها قيادة الجيش، ويطلب الحاخامات من طلابهم من الضباط والجنود رفض الأوامر الصادرة عن قادتهم العسكريين في حال تعارضت مع تعاليم التوراة والتلمود (14). وهذا ما حدث أكثر من مرة، فقد أعلنت مجموعة من الضباط في لواء الصفوة "كفير" أنها لن تنفذ أي أوامر تصدرها قيادة الجيش بإخلاء النقاط التي أقامها المستوطنون بدون تصريح من الحكومات الإسرائيلية (15). ويتم تربية الضباط والجنود على رفض قيم الديمقراطية، فالحاخام إلياكيم ليفانون الذي يدير إحدى المدارس الدينية التمهيدية، قال: "الديمقراطية تضر بالواقع وتقود إلى خيارات غير حقيقية، ولذا يتوجب تجاوز حدود وأطر الديمقراطية، والالتزام فقط بالتوراة على اعتبار أنها تمثل الحقيقة المطلقة" (16). ومن الواضح أنه إذا كانت أبسط قواعد الديمقراطية تقوم على خضوع المستوى العسكري لتعليمات الحكومة المنتخبة، فإنه لا توجد أية ضمانة أن ينفذ الجيش تعليمات الحكومات الإسرائيلية في حال زاد تمثيل المتدينين في هيئة أركان الجيش. ولعل الذي يدلل على حجم قلق العلمانيين من تغلغل المتدينين في الجيش، هو ما قاله الجنرال شلومو غازيت، الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية بأن "الجنود المتدينين يذكرونني بالولاء المزدوج للضباط في الجيش النازي" (17).
إعادة صياغة النخب الإسرائيلية
على الرغم من أن النخب العلمانية لازالت تهيمن على المؤسسات الأكاديمية وتسيطر على المشهد الثقافي والإعلامي، وتضطلع بإدارة معظم المرافق الاقتصادية، إلا أنه منذ مطلع القرن الحالي حدث تراجع واضح وكبير في حجم سيطرة العلمانيين على هذه النخب لصالح المتدينين، وهذا لا يرجع فقط لتنامي دور الأحزاب الدينية وزيادة تأثيرها، بل بشكل أساسي بفضل العدد الكبير من كبار الضباط المتدينين الذين يتسرحون من الجيش ويتم استيعابهم في المرافق المدنية المختلفة. ويكفي أن المرء الذي يجلس الآن أمام شاشات التلفزة الإسرائيلية، ليتابع البرامج الحوارية التي تبحث القضايا المختلفة، يفاجأ بالعدد الكبير من المتدينين من أكاديميين وباحثين وكتاب رأي ومديري مرافق اقتصادية الذين يشاركون بشكل لافت في الجدل العام، وذلك بخلاف ما كانت عليه الأمور قبل عقدين من الزمان. وتكمن أهمية هذا التطور في أنه يمنح المتدينين الفرصة للتأثير على الرأي العام الإسرائيلي ودفعه لتقبل المنطلقات الأيدلوجية لهذا التيار من القضايا المطروحة. وضمن أسباب أخرى، يعتبر هذا أحد العوامل التي تقف وراء انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف والغلو.
إحباط التسوية: السلام والمستوطنات
من الواضح أن تعاطي إسرائيل مع مشاريع التسوية التي تطرح لحل الصراع مع العرب، وتحديداً مع الفلسطينيين، ستتأثر إلى حد كبير بتنامي تأثير المتدينين على الجيش. فعلى سبيل المثال، يفترض أن يشتمل أي اتفاق تسوية للصراع مع الفلسطينيين على إخلاء مستوطنات يهودية من الضفة الغربية، ومن الواضح أن كل المؤشرات تدلل على أن إخلاء المستوطنات سيواجه بردة فعل عنيفة من قبل أتباع التيار الديني الصهيوني، وضمنهم آلاف الضباط والجنود. وهذا بالضبط ما حدا بوزير القضاء الإسرائيلي الأسبق يوسيف لبيد أن ينصح رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت بعدم التعاطي بجدية مع المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، على اعتبار أن إخلاء المستوطنات يمكن أن يؤدي إلى حرب أهلية داخل إسرائيل، وتفكك الجيش (18).
وتلعب النخبة العسكرية دوراً هاماً في صنع القرارات السياسية، حيث أن الحكومات في إسرائيل تتخذ قراراتها بشكل عام في ضوء التوصيات التي تقدمها الهيئات القيادية في الجيش بوصفها جهات مهنية، ونادراً ما تتجاهل الحكومات توصيات الجيش. وهناك أكثر من مؤشر على أن التوصيات التي يقدمها الجنرالات المتدينون والتي تتعلق بالتسويات السياسية تتأثر بمواقفهم الأيدلوجية، وهناك بالفعل من شكك في موضوعية التوصيات التي يقدمها الجنرالات المتدينون. فعلى سبيل المثال اتهم الوزير السابق، يوسي ساريد، الجنرال يعكوف عامي درور، الذي ينتمي للتيار الديني الصهيوني، والذي كان يرأس لواء الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية ب "فبركة" التقييمات من أجل إقناع حكومة إيهود براك عام 2000 بأنه لا طائل من التسوية مع سوريا ولبنان، وذلك انطلاقاً من اعتبارات أيدلوجية وليس اعتبارات مهنية (19). علاوة على ذلك، فإن انتقال الجنرالات المتدينين للعمل السياسي بعد تسرحهم من الخدمة العسكرية سيزيد من تأثير التيار الديني على صنع السياسات العامة في الكيان الصهيوني.
الاستلاب لخيار القوة
أن تغلغل المتدينين في الجيش الإسرائيلي لن يدفع فقط إسرائيل لنبذ سبل تسوية الصراع بالطرق السلمية، بل أنه سيدفع الكيان الصهيوني للتوسع في ممارسة قمع الفلسطينيين واستسهال شن حروب على العرب. ولقد تربى الضباط والجنود المتدينون على تقديس القوة والسجود لها والإيمان بتأثيرها في حسم الصراع مع العالم العربي، وقد قال الحاخام شلومو أفنير الذي كان مديراً لواحدة من أهم المدارس الدينية العسكرية: "الحرب هي مأساة للفرد، إلا أنها ليست نعمة للأمة"؛ في حين حث الحاخام يهودا أميتال، الذي كان يوصف بالاعتدال، على شن الحروب قائلاً: "تولد الحرب عملية التطهير والتصفية والتنقية وتنظف مواطني إسرائيل" (20). من هنا فإنه نجاح المتدينين في السيطرة على المزيد من المواقع القيادية في الجيش سيعزز فقط ميل إسرائيل لشن مزيد من الحروب ضد العرب، والتوسع في استخدام القوة المفرطة وغير المتناسبة. في نفس الوقت، فإن هناك علاقة واضحة بين تعاظم تأثير المتدينين على الجيش وبين ميله لاستخدام القوة المفرطة ضد المدنيين الفلسطينيين والعرب. فقد أدت زيادة ثقل المتدينين الكبير في المواقع القيادية في الجيش إلى فتح أبواب الجيش أمام غلاة المتطرفين من الحاخامات الذين اشتهروا بإصدار الفتاوى التي تدعو إلى قتل المدنيين الفلسطينيين. وخلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة سمح الحاخام الرئيس للجيش بتوزيع نشرات تتضمن فتوى للحاخام شلومو أفنير تدعو لقتل المدنيين الفلسطينيين رجالاً ونساءً وأطفالاً وحتى البهائم (21). وهناك مؤشرات كثيرة أن بعض الجهات داخل المستوطنات التي تتولى تنفيذ الاعتداءات ضد الفلسطينيين، مثال جماعة "فتية التلال"، التي تقوم باجتثاث أشجار الزيتون وتسمم آبار المياه الإرتوازية في الضفة الغربية تضم عدداً من الجنود المتدينين في الجيش (22). يتضح مما تقدم إن مواصلة المتدينين تغلغلهم في الجيش الإسرائيلي يؤذن بحدوث تحولات كبيرة في المشهد الإسرائيلي الداخلي، وينذر بحقبة قاسية من المواجهة بين العرب والكيان الصهيوني.
_______________
باحث في الشؤون الإسرائيلية
الهوامش
1- صحيفة الشرق الأوسط،26-11-2010.
2- النسخة العبرية لموقع صحيفة هآرتس، 15-9-2010، إضغط هنا.
3- لاكوير، زئيف، تاريخ الصهيونية(تولدوت هتسيونوت)، القدس، دار شوكن،1977، ص365.
4- عايش، سائد، اليهودية الأرثوذكسية، رسالة ماجستير غير منشورة، الجامعة الإسلامية بغزة، 2008،ص124.
5- صحيفة يديعوت أحرنوت،5-7-2001.
6- بيري يورام، " النخبة العسكرية الجديدة في إسرائيل: لماذا يعتبر فهم النخبة العسكرية أمراً مهماً؟ "، قضايا إسرائيلية، مجلد 7، عدد 29، 2007، ص 50-67.
7- على الرغم من أن الخدمة العسكرية في إسرائيل إجبارية على كل من يبلغ الثامنة عشر من عمره، إلا أنه يتم منح المجندين الحرية المطلقة في اختيار الوحدة العسكرية التي يرغبون في الانضمام إليها، فهناك وحدات ميدانية ذات طابع قتالي، وهناك وحدات غير قتالية.
8- صحيفة معاريف، 12-1-2006.
9- بيري يورام،مرجع سابق.
10- مقابلة مع الجنرال إليعازر شتيرن في إذاعة صوت الجيش الإسرائيلي صباح 12-5-2010.
11- صحيفة هتسوفيه، 5-8-1995.
12- شاحاك، إسرائيل، ميزفينسكي، نورتون، الأصولية اليهودية في إسرائيل، ترجمة إسماعيل الفقعاوي، خانيونس( فلسطين)، مكتبة القادسية للنشر والتوزيع،2003،ص122.
13- معاريف،15-9-2006.
14- موقع " واي نت " الإخباري العبري، 15-12-2009، إضغط هنا.
15- موقع " واي نت " الإخباري،18-12-2006، إضغط هنا.
16- موقع "واي نت "، 14-10-2010، إضغط هنا.
17- شيلغ، يائير، " المتدينون الجدد – نظرة راهنة على المجتمع الديني في إسرائيل "، ترجمة سعيد عياش، رام الله، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2002 ، ص89-90.
18- معاريف، 14-7-2006.
19- يديعوت أحرنوت، 13-5-2004.
20- شاحاك، ميزفينسكي، مرجع سابق، ص87.
21- هآرتس، 26-1-2009.
22- صحيفة الرسالة ( غزة )، 23-11-2010.
مركز الجزيرة للدراسات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.