قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    مهرجان «بريك المهدية» في نسخته الأولى: احتفاء بالتّراث الغذائي المحلّي    عمر الغول.. الولايات المتحدة تريد قتل دور مصر بالميناء العائم في غزة    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ ليبيا: اشتباكات عنيفة في الزاوية.. وهذه حصيلة الضحايا    عاجل/ صفاقس: انقاذ 52 شخصا شاركوا في 'حرقة' وإنتشال 4 جثث    عاجل/ ضبط 6 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم في 4 ولايات    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    اتحاد الفلاحين: ''أسعار أضاحي العيد تُعتبر معقولة''    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    عضو بمجلس هيئة الانتخابات: لا يمكن تجاوز هذا التاريخ كأقصى موعد للرئاسية    الإنتخابات الرئاسية: إلزامية البطاقة عدد 3 للترشح..هيئة الإنتخابات تحسم الجدل    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    الوطن القبلي.. صابة الحبوب تقدر ب 685 ألف قنطار    بقلم مرشد السماوي: كفى إهدارا للمال العام بالعملة الصعبة على مغنيين عرب صنعهم إعلامنا ومهرجاناتنا!    في إطار تظاهرة ثقافية كبيرة .. «عاد الفينيقيون» فعادت الحياة للموقع الأثري بأوتيك    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    عاجل : مسيرة للمطالبة بإيجاد حلول نهائية للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء    محيط قرقنة مستقبل المرسى (0 2) قرقنة تغادر و«القناوية» باقتدار    فقدان 23 تونسيا شاركو في عملية ''حرقة ''    الحشاني يُشرف على اجتماع لجنة القيادة الاستراتيجية بالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي    وزارة الصناعة : ضرورة النهوض بالتكنولوجيات المبتكرة لتنويع المزيج الطاقي    القيمة التسويقية للترجي و الأهلي قبل موقعة رادس    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    نهائي دوري ابطال إفريقيا: التشكيلة المتوقعة للترجي والنادي الاهلي    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    طقس اليوم: أمطار و الحرارة تصل إلى 41 درجة    ضمّت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرا في السينما العربية في 2023    قانون الشيك دون رصيد: رئيس الدولة يتّخذ قرارا هاما    جرجيس: العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    نحو 20 بالمائة من المصابين بمرض ارتفاع ضغط الدم يمكنهم العلاج دون الحاجة الى أدوية    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    داء الكلب في تونس بالأرقام    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    كمال الفقي يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    حفل تكريم على شرف الملعب الإفريقي لمنزل بورقيبة بعد صعوده رسميا إلى الرّابطة الثانية    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تونس بين واقع علمانيّتها وبين تأكيد هويتها المسلمة
نشر في الفجر نيوز يوم 23 - 03 - 2011

قد يكون من المبالغة إرجاع الصدام السياسي والفكري المتصاعد حاليا في تونس حول مسألة العلمانية إلى التحركات الأخيرة لحزب التحرير الإسلامي المحظور والمطالب بحكم الخلافة أو بمحاولات حركة النهضة الإسلامية المكثفة للتعبئة الشعبية بعد إقصائها من المشهد السياسي في تونس لعقدين من الزمن تقريبا.
وتتعالى أصوات في تونس حاليا محذرة من خطر انتشار الفكر السلفي المتشدد الذي قد يهدد ما حققته تونس وعلى أكثر من نصف قرن من حداثة، إلى درجة وصفها بالدولة العلمانية رغم أن الفصل الأول من دستورها "المعلّق" والذي تم وضعه العام 1959، لم يفصل دينها الإسلامي عن الدولة.
فما الذي يحرك كواليس هذا السجال الذي لم يعهده المجتمع التونسي المسلم ذو الأغلبية السنية الساحقة المتبعة لواحد من أكثر المذاهب الإسلامية اعتدالا وهو المذهب المالكي، والذي لا يعاني من معضلة الطوائف أو تنوع العرقيات؟ ولماذا انصب اهتمام مختلف الأطراف السياسية والفكرية في تونس على مسألة العلمانية في وقت يفترض أن يتهيأ فيه هؤلاء للانخراط سياسيا في مرحلة جديدة من الصيرورة التاريخية التونسية تؤسس لقيام نظام ديمقراطي بعد تجربة سابقة من نظامي الشمولية والسلطوية؟

تتوالى وتيرة المظاهرات المنادية لتطبيق العلمانية في أقاليم عديدة من تونس منذ الإطاحة برأس النظام السابق زين العابدين بن علي وإعلان "فراره" يوم 14 يناير الماضي في كنف غموض لم تُكشف أسراره إلى اليوم، لتظهر على الساحة التونسية مؤخرا وفي اتجاه عكسي تحركات مضادة لهذه المظاهرات في شكل احتجاجات شعبية كتلك التي انتظمت مؤخرا في ولاية صفاقس المعروفة بأهميتها الاقتصادية بالبلاد التونسية تناهض العلمانية، هذا من دون اعتبار منابر التحاور الإلكترونية التي كثر فيها في الآونة الأخيرة النقاش إلى حد الصراع وتبادل الشتائم حول مسألة العلمانية، ليتطور الأمر أيضا إلى اتخاذ منابر المساجد للتهجم على العلمانيين وقد ذهب بعضهم إلى حد نعت المنادين بالعلمانية بالملحدين.
وقد كشف سبر آراء قامت به مؤخرا إذاعة خاصة تونسية "موزاييك إف إم" حول تطبيق العلمانية في تونس، أن 63.6% من المستطلعين على موقعها قالوا "لا" للعلمانية في تونس التي ينص الفصل الأول من دستورها المعلق على أن "تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها."
وتم إصدار دستور تونس بعد ثلاث سنوات من استقلالها عن الاستعمار الفرنسي عام 1956 ليلغي بالتالي أول دستور عرفته المنطقة العربية أصدرته تونس عام 1864 في عهد الملكية العثمانية.
ومن خلال جرد مئات التعليقات التي اطلع "إسلام أون لاين" على مضمونها على صفحات مجموعات مختلفة على موقع "فيسبوك" الإلكتروني الذي يعتبر الوسيلة اللوجستيّة الأساسية التي اعتمدتها الثورة التونسية للإطاحة بالرئيس السابق، يلاحظ أن أغلبية المتدخلين ليست لهم دراية بمفهوم العلمانية أو "اللائيكية" معتبرين أن كل المنادين بالعلمانية ملحدون ويخططون لاقتلاع الإسلام من الهوية التونسية. كما ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك وطالبوا بقتل كل من ينادي بالعلمانية، حسب مقاطع فيديو .
ويبدو أن النقاش حول العلمانية في تونس خرج عن مساره الفكري ليصبح ورقة سياسية تستعملها مجموعات مختلفة لها أغراض سياسية بالأساس في محاولة منها لتكوين قاعدة شعبية أكبر، تمهيدا لمشاركتها في الانتخابات المقبلة لاختيار أعضاء المجلس التأسيسي الذي سيشرف على عملية وضع دستور جديد لتونس يتلاءم مع التحول السياسي الذي عرفته تونس بعد اندلاع الثورة التونسية يوم 17 ديسبمر الماضي بعد حرق محمد البوعزيزي نفسه، لتتوج وفي أقل من شهر بالإطاحة برمز الحكم السلطوي السابق والذي حكم البلاد على امتداد 23 سنة منذ عزله سنة 1987 الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة مؤسس الدولة التونسية الحديثة.
وكان رئيس الجمهورية التونسية المؤقت فؤاد المبزع أعلن يوم 3 مارس الحالي عن تنظيم انتخابات لتشكيل مجلس تأسيسي لصياغة دستور جديد للبلاد وذلك في اقتراع عام في 24 يوليو المقبل. كما أقرّ إلغاء الدستور الحالي للبلاد وتعليق العمل به معتبرا إيّاه "غير صالح للمرحلة الحالية ولا يستجيب لمتطلبات الشعب التونسي".
كما يتوقع أن يشهد هذا الشهر صياغة مشروع قانون انتخابي بمشاركة أطراف سياسية ونقابية واجتماعية وذلك في موعد أقصاه نهاية شهر مارس الحالي، حسب ما أعلنه الرئيس المؤقت الذي يفترض أن يواصل رئاسته لتونس إلى حين الإعلان عن نتائج الانتخابات العامة قبل خريف العام الحالي.
عودة مفكري تونس
وحسب بعض المراقبين فإن المصالح السياسية لبعض الأطراف جعلتهم يغضون الطرف عن لخبطة الشارع التونسي بخصوص مبدأ العلمانية ومفهومها والتي تُعرف اختصارا بفصل الدّين عن الدولة.
وتُتّهم هذه الأطراف بتعمدها الإبقاء على هذه الضبابية في الشارع التونسي بغية استقطاب أكبر قاعدة من الشارع التونسي ولجوئها إلى مجاراته بحسب تطلعاته من تأييده للعلمانية أو رفضه لها.
وقد لوحظ في الآونة الأخيرة أن النخبة التونسية المفكرة والمثقفة المعروفة باستقلاليتها السياسية والتي تم تغييبها عن المشهدين الإعلامي والسياسي خلال العقدين الماضيين، بدأت بعد الثورة تسجل حضورها بكثافة في المشهد الفكري والسياسي في تونس وإن حافظت على استقلاليتها، في محاولة منها لرفع اللبس والمغالطات في هذه النقاشات حول مفهوم العلمانية ودورها معتبرين أنها منظومة مدنيّة غير مرادفة للإلحاد والكفر كما يسعى البعض إلى الترويج، حتى أن منهم من أيّد إرساء هذه الفكرة في تونس على غرار المفكر والباحث التونسي في الشؤون الإسلامية محمد الطالبي صاحب مؤلفات عديدة بالعربية والفرنسية حول قضايا ومسائل إسلامية، الذي اعتبر أن "الإسلام القرآني، لا السلفي، علماني في حد ذاته"، معتبرا "أن النموذج التركي هو الملائم لتونس"، مؤكدا على أن "السيادة هي للشعب وأن الشعب هو من يشرع"، مضيفا "أن السلفية والديمقراطية لا يلتقيان". كما اعتبر "أن الأمة هي من تحكم مصيرها وليس المدعوين بالعلماء"، حسب فيديو تم تسجيله بمناسبة الجدل حول العلمانية في تونس .
في المقابل، يرى الأكاديمي والمفكر التونسي يوسف الصدّيق، المتخصص في القضايا الحضارية والباحث في المسائل الدينية عموما والإسلامية خصوصا، أن خصوصية الدين الإسلامي لا تتطلب منظومة العلمانية على غرار الديانة المسيحية التي جاءت لطبيعة الديانة المسيحية بالأساس القائمة على حلقة الوسيط بين الخالق والمخلوق بخلاف الدين الإسلامي القائم على العلاقة المباشرة بين الطرفين، حسب مقال كتبه حول السجال السياسي في تونس بعد الثورة.
يشار إلى أن هذا الباحث الأكاديمي أبدى اهتماما بعد الثورة التونسية بالحياة السياسية، حيث أنشأ "جمعية اليقظة والالتزام بحماية الثورة التونسية ومناعتها" كما أعلن عن خطته، حسب ما نشرت صحيفة "الصباح" التونسية مؤخرا، لصياغة "مشروع توطئة" مقترحة للدستور التونسي الجديد والتي اعتبرها أهمّ و«أقدس» من الفصول والقوانين الدّستوريّة ذاتها ولا يمكن أن تطالها التّعديلات.
كما أكّد هذا المفكر التونسي الذي صدرت له مؤلفات عديدة باللغتين العربية والفرنسية وتمت ترجمتها إلى لغات عدة، أنه لا مجال " للنكوص عن مكونات الهويّة الحضارية للدولة التونسية (الإسلام دينها والعربيّة لغتها) أو عن الحريات العامة والفردية أو عن مكتسبات الحداثة "، حسب المصدر ذاته.
يشار إلى أن المفكّر يوسف الصديق أعلن خطته للترشح لعضوية المجلس التأسيسي بصفة مستقل خلال انتخابات 24 يوليو المقبل، حسب فيديو ا.
من جهتها ترى د.ألفة يوسف الباحثة التونسية في الحضارة الإسلامية، والمثيرة للجدل بسبب جرأتها في طريقة طرحها لمسائل دينية وصاحبة مؤلفات دراسية عديدة على غرار "تعدد المعنى في القرآن" أن "جوهر الإسلام هو الحرية المسؤولة...والاجتهاد المنفتح والنظر في مقاصد التشريع هما السبيل الأمثل"، حسب تعليقات لها على صفحتها على "الفيسبوك" في إطار الجدل الدائر حاليا حول مسألة العلمانية في تونس. وتستند الباحثة الأكاديمية في هذا الإطار إلى عدد من الآيات كريمة من القرآن الكريم على غرار :
"وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (الكهف الآية 29)، و " فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ- لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ" (الغاشية الآيتان 21،22)، و"وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين" (يونس الآية 99).
ورقة سياسية
سياسيا، يلاحظ أن السجال الدائر حول مسألة العلمانية أصبح مجالا للمزايدات حول مدى وطنية التيارات المتخالفة وأساسا بين التيارات ذات الخلفية الإسلامية وبين تلك ذات الخلفية اليسارية، ومدى قدرتها في الدفاع عن الإسلام!
ويعتبر بعض المراقبين أن المحامي الشيخ عبد الفتاح مورو، القيادي في حركة النهضة الإسلامية، نجح إلى حد كبير، وبفضل قدرته الخطابية المتميزة وحنكته السياسية، في استقطاب جماهير من أوساط شعبية لمساندته بخصوص رفضه تطبيق العلمانية و اعتمادها في دستور ما بعد الثورة التونسية، معتبرا أنه لا مجال لإلغاء بند الهوية الإسلامية للتونسيين من الدستور التونسي الجديد، مؤكدا في المقابل على قيمة التسامح وعدم التشدد مع غير المتدينين التي عرف بها التونسيون، وعلى دعمه لمنظومة الحرية الشخصية، وذلك في خطبة ألقاها مؤخرا بإحدى المساجد في تونس والتي كان لها صدى كبير بين التونسيين على موقع "الفيسبوك".
في المقابل، فإن هؤلاء المراقبين يتحفظون على اعتماد المناضل في حركة النهضة عبد الفتاح موور، منابر المساجد لأغراض سياسية وأيضا تعمّده ترك المعجبين به يتخبطون في فهمهم الضبابي للعلمانية واعتبارهم إياها ضربا من الكفر، وهي طريقة جعلت من عبد الفتاح مورو محتكرا لمقام المدافع عن الإسلام في تونس، حسب هؤلاء المراقبين.
يشار إلى أن الحديث يدور في تونس حاليا حول خبر إقصاء عبد الفتاح مورو من حركة النهضة، حيث أن قائمة الأسماء التي تم تسليمها من حركة النهضة لوزارة الداخلية للحصول على ترخيص لم تتضمن اسم الشيخ عبد الفتاح مورو. وحسب تصريحات لعبد الفتاح مورو فإن الأسباب الحقيقية وراء خلافه مع قياديي حركة النهضة تكمن في عدم صدور أي موقف واضح من القيادة حيال أعمال عنف نسبت إلى الحركة في بداية تسعينيات القرن الماضي وخاصة فيما يُعرف بحادثة "باب سويقة" وعدم شجبها.
من جهته، انخرط رئيس حركة النهضة المفكر الإسلامي الشيخ راشد الغنوشي بدوره في الجدل القائم حاليا حول العلمانية، حيث يعتقد أن العلمانية ليست معادية في حقيقة الأمر للدين، وهي تنص على أن تكون الدولة محايدة تجاه الأديان مشيرا إلى أن هناك في المقابل علمانية معتدلة وأخرى متطرفة، لكنه لم يعلن صراحة عن موقف حزبه حيال مسألة العلمانية.
ويلاحظ مراقبون في هذا الصدد أن الشيخ راشد الغنوشي تراجع عن أفكار كان قد صرّح بها في السابق لتلفزيون "المحور" بخصوص العلمانية عندما اعتبر المرتدين في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه "أول حركة علمانية مسلحة".
استقطاب
من جهتهم، وفي محاولة منهم لاستقطاب الرأي العام، يعمل العلمانيون حاليا على تنظيم ندوات وحلقات نقاش حول مزايا العلمانية، كما ذهب بعضهم إلى التخطيط لتنظيم تظاهرة ضخمة بداية أبريل المقبل ينادون فيها بحرية المواطنة التونسية في لبس الحجاب وإلغاء المنشور الذي صدر منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة بخصوص منع لباس ما يعبّر عنه في تونس ب"الزي الطائفي" في المؤسسات الحكومية.
يشار إلى أن مدرّسة تونسية كانت قد كسبت دعوى قضائية عام 2008 رفعتها عبر المحكمة الإدارية بسبب منعها من لباس الحجاب في مؤسسة تعليمية تونسية.
في مقابل هذا الجدل، يرى بعض المراقبين الإعلاميين والمفكرين أن تونس في غير حاجة لمثل هذا الجدل الذي قد يشغل الناخبين عن الاستعداد للمشاركة في عملية التحول إلى الديمقراطية، معتبرين أن مثل هذا السجال قد يلهي الشارع التونسي أيضا عمّا يحدث في الكواليس السياسية حول الشأن الداخلي وأيضا الخارجي، وخاصة ما يتعلق بما يحدث في ليبيا حاليا.
ويعتبر هؤلاء أن تونس قطعت شوطا كبيرا في تطبيق مبادئ "العلمانية" في حقيقة الأمر حيث أن النموذج التونسي أسس دولة مدنية، لكنه لم يلغ بند "دينها الإسلام" من دستورها.
كما يرجعون بالذاكرة إلى أن الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة، الذي قاد في بدايات نضاله في ثلاثينيات القرن الماضي حركة ضد محاولات الاستعمار الفرنسي إفقاد التونسيين هويتهم، لم يعمل على إلغاء الفصل المتعلق بالديانة الإسلامية في الدستور الذي أشرف على وضعه، على الرغم من أنه محسوب على الحداثة الغربية ومعروف بانحيازه الشديد للغرب، هذا من دون اعتبار قرارات إصلاحية اتخذها، اتسمت بالجرأة الفائقة كتلك المتعلقة بإلغاء تعدد الزوجات والتي يعتبرها تونسيون من المكاسب الاجتماعية التي لا يمكن التفريط فيها.
ومن المفارقات أن الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، المعروف بنظرته الاستشرافية، كان مقاتلا شرسا ضد رغبات أوروبية بتحويل تونس إلى دولة "لائيكية" حيث أوضح في أحد تصريحاته لقناة فرنسية أن "تونس ليست دولة لائيكية لكنها تقدمية"، مضيفا أن "الإسلام في جوهره ديمقراطي قائم على المساواة وحرية الأفراد" ومؤكدا على أن "الإسلام سبق أفكار جان جاك روسو في آرائه حول حرية الفرد ومساواته مع الآخر" ومستشهدا بموقف وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". ويأخذ الإسلاميون على بورقيبة أفكاره ومواقفه التي يعتبرونها تحررية جدا خاصة تلك المتعلقة بالمرأة.
والملاحظ أن تونس ذات الأغلبية المسلمة الساحقة (نحو 99%) لا ترزح تحت عبء مشاحنات الطوائف ولا يوجد فيها ديانات أخرى ذات وزن شعبي، حيث لا يتعدى عدد اليهود في تونس مثلا الألفي تونسي ويقترب عدد المسيحيين في تونس من هذا العدد، وهو ما يجعلها غير معرضة لصدامات طائفية أو عرقية.
وحسب استقصاءات "إسلام أون لاين" فإن مؤيدي العلمانية هم من سارعوا بإطلاق صرخة فزع منذ فبراير الماضي، وبالخصوص بعد تحركات ميدانية متشددة قام بها منتسبو حزب التحرير الإسلامي وبعد الترخيص لحركة النهضة الإسلامية بالنشاط السياسي، وهو ما دفع الناشط الحقوقي صالح الزغيدي، أحد مؤسسي الجمعية التونسية للدفاع عن العلمانية، إلى القول في تصريحات صحافية على خلفية هذه التطورات إنه "لا ينبغي المبالغة فيما يحدث في تونس بخصوص تحركات الإسلاميين السياسيين، ولكن لا يجب التغاضي عن خطورتها"، معتبرا أن هذه التطورات "قد تخلق الحيرة وعدم الاطمئنان بين التونسيين".
يشار إلى أنه وحسب الفصل الثامن من الدستور التونسي الذي تم تعليقه إلى حين إعداد دستور جديد، "لا يجوز لأي حزب أن يستند أساسا في مستوى مبادئه أو أهدافه أو نشاطه أو برامجه على دين أو لغة أو عنصر أو جنس أو جهة".
ويرجّح بعض المراقبين أن يتم الإبقاء على بند "دين تونس الإسلام" في الدستور الجديد لأن خصوصية المجتمع التونسي لا تقتضي اللجوء إلى العلمانية، كحال تلك الدول التي يوجد فيها طوائف، كما يعلق أحدهم بالقول: إن العلمانية أو اللائيكية جاءت نتيجة ثورة الغرب على الكنيسة في حين أن ثورة التونسيين اندلعت ضد الحكم الاستبدادي، وهم يطالبون بإرساء الديمقراطية وتكريس مواطنتهم في كنف التعايش السلمي بين مختلف الأطياف السياسية والتسامح الاجتماعي.
وحسب المراقب الإعلامي التونسي والكاتب عادل بن عبد الله الذي يدافع أيضا عن إبقاء الفصل الأول من الدستور، في تصريحات له ل"إسلام أون لاين" إنّ المواطنة التي يطمح إليها التونسيون بعد ثورتهم، لا يمكن أن تتوافق في فلسفتها ولا في مقاصدها مع تحكيم المرجعية الدينية في إدارة المجال العام". ويرى في المقابل أن "المواطنة لا تنفي المرجعيات الدينية ولكنها لا تجعلها هي الأساس في بناء الحوار العام من ناحية القضايا و المفاهيم".
المرحلة المقبلة ستكون حاسمة في تونس، وقد يواصل هذا البلد على نهج الحداثة الإصلاحية النموذجية الذي تمتد جذوره إلى أعلام إصلاحية مدنيّة يفتخر التونسيون لطالما افتخر التونسيون بهم، من أبرزهم المصلح خير الدين باشا أيام العهد الملكي في تونس، بالإضافة إلى الأعلام الذين كان لهم دور في الاجتهادات الإسلامية وعلى رأسهم العلامة الطاهر بن عاشور الذي يصادف أن يكون جدّ من سيشرف على وضع دستور جديد للبلاد التونسية، الباحث القانوني عياض بن عاشور الذي هو أيضا ابن العلاّمة الفاضل بن عاشور.
الأكاديمي عياض بن عاشور المتخصص في القانون العام والنظريات السياسية الإسلامية يترأس حاليا "هيئة تحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" التي ستعمل على إيصال الثورة التونسية إلى بر الأمان. هذا القانوني المحنّك لم يخف رأيه عندما أعلن في أحد البرامج التلفزيونية أنه مع المحافظة على الفصل الأول من الدستور "المعلّق" والذي ينص صراحة على أن الإسلام دين الدولة في تونس.
عائشة بن محمود*
إسلام أون لاين- الدوحة
* كاتبة إعلامية تونسية من أسرة "إسلام أون لاين"
عائشة بن محمود


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.