أثارت "مجلة الدوحة" في عددها الأخير وهو العاشر في عمر المجلة قضية من أهم القضايا التي تواجه الفكر العربي والتي لها علاقة وثيقة باللغة العربية وتطورها وقدرتها على مواجهة تحديات العصر وقضايا المستقبل. القضية هي الصراع أو التدافع العنيف أحيانا والخافت أحيانا أخرى بين الفصحى واللهجات المحكية المنتشرة في كل الأقطار بين القبائل العربية المترامية الأطراف. وتقول المجلة في تقديمها لهذا الملف: إن الحكاية طويلة وخطيرة ربما. فمع ان لغتنا الفصحى ليست سوى محكية قريش، كما هو ثابت تاريخيا، فإن الصراع بين الفصحى والمحكية يتجدد باستمرار، وكأن كل تعثر يصيب العقل العربي يحول الفصحى إلى شماعة، يعلقون عليها كل الانتكاسات والخيبات. وتشير المجلة بقصد إلى أنشط الدعوات للمحكية في عصرنا الحالي في تلميح ما إلى دور المستعمر في إثارة هذه النعرة. فقد كانت هذه الدعوة إلى العامية مشهورة خلال القرنين الماضيين خاصة في مصر ولبنان وأيضا في المغرب العربي (تونس والجزائر). وقد وضع الألماني ولهم سبيتا في عام 1880 كتاب "قواعد العربية العامية في مصر" وجاء بعده ويليام ويلكوكس ليقرر في عام 1893 " ان سبب عدم تحقيق المصريين للاختراعات أنهم يؤلفون ويكتبون بالفصحى" وتتالت الدعوات والاضافات المصرية من أحمد لطفي السيد وسلامة موسى وعزيز أباظة وغيرهم من أجل محكية مسيطرة، وأحيانا بالحرف اللاتيني. وفي لبنان نشطت الدعوات المشابهة حيث برزت أسماء كثيرة لعل أبرزها سعيد عقل وأنيس فريحة ويوسف الخال. لكن المحكية، كنظرية لغوية تعثرت وقاومها كثيرون...وتتساءل المجلة لماذا إذا الايغال في الاحتفال بالمحكية واهمال الفصحى ؟ ومن الواضح حسبما تشير "الدوحة" إلى ذلك أن ثمة اعتبارات هي بالتأكيد غير لغوية، تقف وراء كل هذا، بينها العرقي والسياسي وغيرهما. صراع محتدم الكاتب مصطفى الولي أكد في دراسته المعنونة ب"عدة أخوات لأم واحدة" أن المكتبة العربية تزخر بالمؤلفات التي تعالج مسألة اللغة العربية، واللهجات العامية وعلاقتها بالفضحى، فقد بلغ عدد المؤلفات التي تهتم بهذا الشأن، أكثر من مئتين واثنين وعشرين كتابا حتى نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، من بينها أربعة وعشرون، ألفها مستشرقون أوروبيون. ويشير الكاتب إلى ان الصراع سيتواصل بين الأدباء والمفكرين وسيظل محتدما ويبدو أنه لن يتوقف، سيما وان اللغات المحكية في البلدان العربية هي الأكثر شيوعا في حياة الناس اليومية، مقارنة مع اللغة الفصحى. فالثانية توجد في الكتب والمعاهد والجامعات، وفي الوثائق الرسمية، بينما الأولى هي التي تملأ الزمن الأكبر من حياة الناس اليومية، في الشارع والمنزل، كما في الدراما التلفزيونية والسينما، وعلى خشبات المسارح.. على قلتها وانحسارها للأسف. كما يؤكد الكاتب على هوة الخلاف بين وجهتي النظر اللتين تتبادلان تهمة التخلف والجهل على العامية التي تنشر التفرقة أو على الفصحى العاجزة، فإنه أيضا يشير إلى ان المشكلة ليست عربية بامتياز فاللاتينية أيضا عايشت ما يشبه الصراع والتشظي. ويقول مصطفى الولي في زبدة دراسته إن المسألة تبدو أعمق من صراع بين فصحى وعامية، وان هناك حاجة أكيدة لتطوير العربية، كتابة ونحوا، بما يستوعب غنى المحكيات لفظا وتعبيرا، والفصحى ذاتها يمكن لها أن تحتمل تباينات من اقليم عربي إلى آخر، بما يعزز مكانة اللغة والشعوب التي تنطق بها. ومن جهته ذهب علي بن ابراهيم الدرورة من السعودية إلى القول في مقال بعنوان "في خمسة آلاف سنة" أن هناك جذوراً قديمة لمسألة اللهجات، خاصة وان الخليج العربي مثلا مر بعديد الحضارات القديمة كالآشورية والسمورية، والفينيقية والحيثية والهيلينية...ولاننسى أن مجتمعات الخليج حتى اليوم هناك من يتكلم بلغات غير العربية كالشحوح في الإمارات والمهريين في سلطنة عمان، وهناك كثير من المفردات الوافدة من سواحل افريقيا. وكتب الكاتب العراقي فاضل الربيعي عن "الدلالات الهائمة" متحدثا عن اختلاف الكلمات بين اللهجات وما تمثله من غموض ومشاكل بين الأقوام والأقطار. ويتساءل الكاتب: لماذا العرب دونا عن الاوربيين لا يملكون معجما لتاريخ الكلمات. لسانيات أما الكاتب اللبناني نادر سراج فيقول ان علوم اللسانيات أسهمت على مدى قرن ونيف من الزمن في استجلاء معالج لهجاتنا العربية المعاصرة، وفي تأطيرها ضمن منظورها العلمي، وفي اخضاعها لآليات عملها من اعتماد التحقيقات الميدانية لجمع المدونات اللغوية إلى تصنيف معطياتها وتحليلها واستقراء نتائجها، في محاولة لدراستها وفق المناهج الوصفية الحديثة. وفي إطار هذا التوجه ثمة من يعتبر أن علم اللسانيات في مختلف فروعه النظرية والتطبيقية ينزع في الغالب إلى ايلاء المنطوق أسبقية على المكتوب، ويهتم من ثم بدراسة المحكيات العربية المعاصرة التي يفرد لها حيزا ملحوظا ضمن مناهجه وتعاليمه. وغاص الكاتب في الدراسات اللسانية المتعلقة باللهجات وما تثيره من أسئلة واشكاليات. كما ينقل عن ابراهيم أنيس تعريفه اللهجة في الاصطلاح العلمي الحديث "بأنها مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة. وبيئة اللهجة هي جزء من بيئة أوسع وأشمل تضم عدة لهجات، لكل منها خصائصها..." وفي دراسة بعنوان "فصحى تدرجت ودارجة تفصحت" يذهب الكاتب الليبي الدكتور علي فهمي خشيم إلى أن العربية المحكية أصبحت خليطا من التأثيرات القديمة والاستعمارية ومنها الدخيل العبري والسرياني واللاتيني. أما الحديث ففيه التركي والفرنسي والانجليزي والايطالي والاسباني. ويشير في دراسته إلى اهمية ما يقدم على الشاشة من أعمال بالعربية الفصحى حتى ولو كانت مترجمة. ويقول : هل يمكن ان نسمع ونرى مسلسلات عربية تقدم لنا بلغتنا المشتركة بدلا من هذه اللهجات المحلية... ويتحدث الكاتب المغربي الدكتور جميل حمداوي في نفس القضية عن الاتصال والانفصال بين اللغتين العربية والامازيغية التي مازال يتكلمها البعض في المغرب العربي ويطالب بها آخرون كثقافة وهوية. أما سليمان الحكيم من مصر فيتحدث عن " اللهجة العجينة" مؤكدا ان اللهجات المحلية في بيئة معينة هي الأكثر والأسرع تجاوبا مع الظروف المحيطة من اللغة الأم، ذلك أن اللهجة المحلية هي لغة التفاهم والتواصل بين الناس في حياتهم اليومية، فتدفعهم الحاجة لذلك التواصل إلى توليد الألفاظ أو التعبيرات التي تواكب الظروف من رحم اللغة الأم. فيأتي اللفظ الجديد وليدا يحبو بين الناس ويشب عن الطوق بالاستعمال والتداول، فينشر ويذيع حتى تصبح له السيادة التي أوجدتها الاجة إليه في لغة التفاهم بين بني البشر. ويقدم الكاتب أمثلة عجيبة على العجين اللغوي ومنها كلمات مثل "يهجص" أو هجاص وهي في الأغلب مأخوذة من كلمة "هاجس في العربية. أما كلمة "زرجن" أي تصلب وتشدد فهي بمعنى القضيب الذي يفيد الشدة والصلابة. أما فلان صهين أي أنه تغافل أو تظاهر بالنسيان، وهي مأخوذة من السهو في العربية... قضايا وتفريعات عديدة تطرحها مسألة التدافع بين الفصحى والعامية أو المحكية وهي تدل في أحد جوانبها على غنى اللغة العربية وقدرتها على التأقلم والتواصل مع العصر والتأثيرات الخارجية، ولكنها تطرح أيضا معضلة التواصل والوحدة اللغوية والخوف من انصهار الفصحى في فوضى اللهجات حتى تتشظى وربما تختفي. هواجس لا تقف عند هذا الملف فهي قضية أمة لا بد للمفكرين والفقهاء والأدباء من مختلف الأقطار ان يدلو فيها بدلو. تاريخ النشر:يوم الأحد ,27 يُولْيُو 2008 12:50 أ.م. الشرق