سجن سنية الدهماني .. يتواصل    رقم مفزع/ من 27 جنسية: هذا عدد الأفارقة المتواجدين في تونس..    تونس تفوز بالمرتبة الأولى في المسابقة الاسكندنافية الدولية لزيت الزيتون    رئيس الحكومة في زيارة ميدانية للشمال الغربي للبلاد التونسية    مع الشروق .. إدانة... بنصف الحقيقة    الجم: أثناء تأدية عمله: وفاة عون «ستاغ» بصعقة كهربائية    قيس سعيّد يترأس جلسة عمل حول مشروع تنقيح هذا الفصل..    تنبيه/ تحويل ظرفي لحركة المرور ليلا لمدة أسبوع بهذه الطريق..    هل فينا من يجزم بكيف سيكون الغد ...؟؟... عبد الكريم قطاطة    فقدان 23 تونسيا في'حَرْقة': ايقاف 5 متهمين من بينهم والدة المنظّم واحد المفقودين    التضامن.. الإحتفاظ ب3 اشخاص وحجز كمية من المواد المخدرة    الليلة: سحب عابرة ورياح قوية والحرارة تتراوح بين 16 و26 درجة    عاجل: وسائل إعلام رسمية: انتخابات الرئاسة في إيران ستجرى في 28 جوان    تنظيم أيام كندا للتوظيف بتونس يومي 19 و20 جوان المقبل    مدير عام ديوان تربية الماشية: النحل يساهم في ثلث غذاء الإنسان    والي بن عروس: فخور ب"دخلة" جماهير الترجي وأحييهم ب"عاطفة جيّاشة"    التوقعات الجوية لهذه الليلة    نابل: وفاة شاب واصابة 10 أشخاص في حادث خطير    أغنية لفريد الأطرش تضع نانسي عجرم في مأزق !    عروض ثريّة للإبداعات التلمذيّة.. وتكريم لنُجوم الدراما التلفزيّة    وزيرة التجهيز تؤكد على جهود تونس في تحقيق التنمية بالجهات وتطوير الحركة الجوية بالمطارات الداخلية    الافريقي يرفض تغيير موعد الدربي    بودربالة يوجه الى نظيره الايراني برقية تعزية في وفاة إبراهيم رئيسي    وزارة التربية: هذه هي الانشطة المسموح بها بالمؤسسات التربوية خارج أوقات التدريس    إضراب عن العمل بإقليم شركة فسفاط قفصة بالمظيلة    الهلال الأحمر الإيراني يكشف تفاصيل جديدة حول تحطّم المروحية الرئاسية    أبطال إفريقيا: الكشف عن مدة غياب "علي معلول" عن الملاعب    وزيرة السعادة تحافظ على مركزها ال9 في التصنيف العالمي    تقرير يتّهم بريطانيا بالتستر عن فضيحة دم ملوّث أودت بنحو 3000 شخص    تزامنا مع عيد الاضحى : منظمة ارشاد المستهلك توجه دعوة لقيس سعيد    سيدي بوزيد: تواصل فعاليات الدورة 15 لمعرض التسوق بمشاركة حوالي 50 عارضا    نحو الترفيع في حجم التمويلات الموجهة لإجراء البحوث السريرية    الشاعر مبروك السياري والكاتبة الشابة سناء عبد الله يتألقان في مسابقة الدكتور عبد الرحمان العبد الله المشيقح الأدبية    فظيع: غرق شخص ببحيرة جبلية بجهة حمام بورقيبة..    تونس : أنواع و أسعار تقويم الأسنان    النادي الإفريقي: اليوم عودة التمارين إلى الحديقة .. ومعز حسن يغيب عن الدربي    اشادات دولية.. القسّام تتفاعل وإعلام الكيان مصدوم...«دخلة» الترجي حديث العالم    هام/ هذه نسبة امتلاء السدود..    الأولمبي الباجي أمل جربة ( 2 1) باجة تعبر بعناء    موعد تشييع جثمان الرئيس الإيراني    انطلقت أشغاله الميدانيّة: التعداد السكاني دعامة للتنمية الاقتصادية    تونس تقدم التعازي في وفاة الرئيس الايراني    دول إفريقية مستعدّة لتنظيم عودة منظوريها طوعيا من تونس    بينهم زعيم عربي.. زعماء دول قتلوا بحوادث تحطم طائرات    هذه أول دولة تعلن الحداد لمدة 3 أيام على وفاة الرئيس الايراني..#خبر_عاجل    عاجل/ وفاة رئيس ايران تنبأت به الفلكية ليلى عبد اللطيف قبل شهرين..وهذا ما قالته..!!    استدعاء ثلاثة لاعبين لتشكيلة البرازيل في كوبا أمريكا واستبدال إيدرسون المصاب    تحذير من موجة كورونا صيفية...ما القصة ؟    القصرين : الوحدات العسكرية تشارك أبناء الجهة احتفالاتها بالذكرى ال68 لإنبعاث الجيش الوطني التونسي    نهائي "الكاف": حمزة المثلوثي رجل مباراة الزمالك ونهضة بركان    المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بسيدي بوزيد تستعد للموسم الثقافي والصيفي 2024    4 تتويجات تونسية ضمن جوائز النقاد للأفلام العربية 2024    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البدايات الأولي للفكر العربي الإسلامي
نشر في الفجر نيوز يوم 17 - 08 - 2008

الموالي لعبوا دوراً متزايداً في الحضارة العربية الإسلامية
البلورة الأولي للعقيدة والحضارة العربية الإسلامية لم تتم في ظروف سلمية أو هادئة أو وردية
علي كل مؤرخ محترف يحترم نفسه ألا يتحزب بشكل مسبق لأقوال ممثلي السلطة من الفقهاء والمؤرخين ولا لممثلي المعارضة
نعترف للسلطات الأموية أنها بينما كانت تواجه المعارضة بقوة السلاح أو بالحرب الكلامية فإنها راحت تشكل إدارة مركزية فعالة للدولة
الفقه بالمعني الفعلي للكلمة لم يتشكل خلال القرن الأول للهجرة إنما في القرنين الثاني والثالث
مفهوم المذهب في الإسلام لم يبتديء بفرض نفسه إلا في منتصف القرن الثاني الهجري
العرب شعروا بالحاجة إلي تجميع أكبر قدر ممكن من المعارف لمساعدتهم في فهم النص القرآني بشكل أفضل وتفسيره واستنباط الشرائع والأحكام منه

يستخدم اركون ثلاثة مصطلحات للدلالة علي الآليات العقلية والاجتماعية التي تحكمت بتطور الامة بين عامي 632 - 850 هذه الامة التي كانت قد أسستها تعاليم النبي وأعماله.
هذه المصطلحات هي: النزعة البراغماتية أو الذرائعية العملية، ثم الاجتهاد، ثم التثاقف مع التراثات الأخري من فارسية قديمة أو هندية أو بالاخص يونانية. كانت الأمة في البداية لا تزال هشة وفي ذات الوقت صاعدة قوية لا يمكن تدميرها. فهي تستمد قوة وجودها من ارادة الله والايمان به ولكن كان ينبغي عليها ايضا ان تعتمد علي عزائم اعضائها من اجل انجاز مهمتها أو رسالتها.
ثم يردف اركون قائلا بما معناه: في البداية كان المؤمنون هم عبارة عن عرب فقط. ولم يكونوا قد تجاوزوا بعد عصبياتهم القبلية الرازحة التي لا تقل صلابة ورزوحا عن جفاف الصحراء اللامتناهية. ثم حصلت الفتوحات بشكل مبكر جدا وكللت بالنجاح بشكل هائل يفوق كل التصورات. وعندئذ راح الإسلام المرتبط بالعروبة اولا يمتد بانتشاره لكي يشمل بلادا جديدة ذات حضارات قديمة وعريقة كمنطقة سوريا- فلسطين، والعراق، وايران. وعندئذ دخل ابناء الشعوب المفتوحة في دين الله افواجا وشكلوا ما دعي آنذاك بطبقة الموالي.
وبما ان هؤلاء كانوا ينتسبون إلي حضارات أعرق وتراثات ثقافية ومؤسساتية أقدم من حضارة العرب في الصحراء فانهم راحوا يلعبون دورا متزايدا في هذه الحضارة الإسلامية الآخذة بالتشكل والتبلور.
ولكن هذه البلورة الاولي للعقيدة والحضارة العربية الإسلامية لم تتم في ظروف سلمية أو هادئة أو وردية. وانما تمت في اجواء مضطربة هائجة وفي صراع محموم ودموي علي الخلافة والسلطة. فثلاثة من الخلفاء الراشدين لم يموتوا بشكل طبيعي وانما قضوا قتلا: عمر، عثمان، علي. وهذا اكبر دليل علي حجم الخلافات السائدة آنذاك. كما انه دليل علي ان الوعي الجماعي الإسلامي كان في حالة بحث عن توازن جديد.
وقد تعقد هذا التنافس بين الفئات المختلفة بعد دخول أبناء الشعوب المفتوحة علي الخط. ثم تركز الصراع علي المشكلة السياسية- اللاهوتية الكبري: أي مشكلة الامامة أو الخلافة. من هو الأحق بها؟ علي هذا السؤال سالت الدماء أنهارا.. وهنا يمكن للمؤرخ وعالم الاجتماع ان يتوقف طويلا عند الاسباب العرقية اوالقبلية والاقتصادية والتاريخية التي دفعت بأغلبية من الانصار إلي تشكيل معارضة لخلافة ابي بكر.
ولكن الشيء الذي يلفت الانتباه هنا هو ان البواعث العميقة التي دفعت بحزب الشيعة الذي تشكل آنذاك والذي عارض هذه الخلافة ايضا قد عبرت عن نفسها عن طريق معجم لغوي ديني ومحاجات دينية صرفة وليست قبلية أو اقتصادية أو عشائرية.. فمعظم القرارات التي اتخذها الخلفاء الثلاثة الاوائل، أي ابو بكر وعمر وعثمان، نوقشت أو انتقدت أو رفضت من قبل حزب الشيعة، أي شيعة علي أو انصار علي، باسم سنة النبي بالذات.
وهذا يعني ان الاعتراض كان دينيا محضا وان حزب علي كان يعتبر ان هؤلاء الخلفاء انحرفوا عن نهج النبي المؤسس: أي محمد. من هنا خطورة الصراع بين السنة والشيعة، وهو صراع اخترق القرون ولا يزال متفجرا حتي هذه اللحظة. وخطورته عائدة إلي انه لاهوتي عقائدي وليس اقتصاديا أو حتي سياسيا والا لهان الامر. ومعلوم ان اخطر انواع الصراعات في التاريخ هو الصراع العقائدي الديني.
ثم يردف اركون قائلا: ويري المستشرق جوزيف شاخت الذي ركز دراساته علي الإسلام الاولي ان مصطلح سنة النبي لم يكن يدل علي المبادرات والاقوال الشخصية التي يتخذها أو يلفظها النبي والتي جمعت في كتب الحديث وانما علي طريقته المعتادة في الاحالة إلي القرآن. وفي مثل هذه الحالة فان تثبيت كلام الله كتابة شكل صدمة عنيفة لبعض المؤمنين الاوائل المرتبطين بعمق برسالة محمد. لماذا؟ لانهم وجدوا ان هذا الجمع ينحرف عما سمعوه من محمد بخصوص نص القرآن أو بعض الآيات والسور أو علي الاقل بعض المقاطع.
وبالتالي فقد شعروا بان هذا الجمع الرسمي شكل نيلا لا مرجوع عنه من الحقيقة الخالدة لكلام الله. لهذا السبب فان الصراعات السياسية التي اندلعت بين المسلمين الاوائل حول تشكيل النسخة الرسمية للمصحف في عهد عثمان وما تلاه لا ينبغي ان تنسينا الخلافات الدينية التي سببها نفس الحدث. فالمسألة لم تكن سياسية فقط وانما كانت دينية وبالدرجة الاولي.
واكبر دليل علي ذلك ما حصل للصحابي ابن مسعود الذي كان متألما جدا مما حصل لمصحفه. ولكن السلطة فرضت نسختها الرسمية علي الجميع وحرقت كل النسخ الأخري كما هو معروف. ونلاحظ ان المماحكات الجدالية التي ولدها هذا الحدث سرعان ما هيمنت عليها الاعتبارات التحزبية للسلطة القائمة.
ولذا فان مؤرخ الافكار الذي يهمل ربط الوقائع المثبتة بواسطة الوثائق التي وصلتنا عن تلك الحقبة بالنوايا الفعلية للمتصارعين يميل إلي التقليل من اهمية البعد الديني للمعارضة الشيعية. هذا الموقف الذي يتبناه العديد من المستشرقين ألحق ولا يزال يلحق حتي الان ضررا كبيرا بالدراسة الموضوعية الخاصة بالدين الإسلامي.
فهم يصدقون أقوال مؤرخي السلطة اكثر مما يجب. ومعلوم ان التاريخ في كل الامم يكتبه المنتصرون لا المهزومون. ان هذا الموقف يؤدي إلي اعتبار المواقف التي اتخذتها الفرق المعارضة وكأنها منحرفة، شاذة، متطرفة، من خلال نعت اصحابها بالغلاة. انظر الموقف الرسمي من الخوارج مثلا أو بعض الفرق الشيعية. فلكي يسفهوهم ويحطوا من قدرهم ألصقوا بهم هذه التهمة. نقول ذلك علي الرغم من ان الخوارج ليسوا كلهم أزارقة وانما معظمهم من الاباضية الذين لا يمكن نعتهم بالغلاة.
وبالتالي فان اركون يوجه التحذير التالي إلي كل من يريد ان ينخرط في دراسة تاريخ الإسلام: عليه ان يشك في كل المصادر الإسلامية القديمة والحديثة عندما يتصدي لدراسة التاريخ العقائدي للإسلام. فهي كلها مكتوبة من وجهة نظر الفرقة المنتصرة سياسيا وبالتالي فليست موضوعية في سردها للاحداث وانما متحيزة بالضرورة. عليه ان يكون حذرا جدا في استخدامه لهذه المصادر التي تتحدث عن كيفية انقسام الامة إلي عدة فرق في الزمن الاول.
فهي تنطلق من المنطلق اللاهوتي التالي: وحدها فرقة السلطة هي الصحيحة وبقية الفرق خاطئة، وحدها هي الناجية وبقية الفرق في النار. ولكن هذا لا يعني ان عليه ان يصدق كل ما تقوله الفرق المعارضة التي اضطهدت علي مدار التاريخ سواء اكانت شيعية ام خارجية.
لا ينبغي ان نصحح خطأ سابقا بارتكاب خطأ آخر. وانما عليه ان يأخذ ما تقوله عن تلك الاحداث الحاسمة بعين الاعتبار ويقارن بين رواياتها وروايات كتب السلطة الرسمية السنية من اجل التوصل إلي الحقيقة الموضوعية إلي اقصي حد ممكن. وهذه هي مهمة كل مؤرخ محترف يحترم نفسه. لا ينبغي باي شكل ان يتحزب بشكل مسبق لاقوال ممثلي السلطة من الفقهاء والمؤرخين ولا لممثلي المعارضة. ينبغي ان يتحزب للحقيقة الموضوعية ولها فقط. ولكي يتوصل اليها ينبغي ان يضع أقوال جميع الفرق الإسلامية دون استثناء علي محك المراجعة والنقد والتمحيص.
بعد ان قلنا ما قلناه سابقا ينبغي ان نعترف للسلطات الاموية انها في الوقت الذي كانت تواجه فيه المعارضة الشيعية والخارجية بقوة السلاح أو بالحجج والحرب الكلامية فانها راحت تشكل ادارة مركزية فعالة للدولة.
وأدي ذلك لاحقا إلي توفر الظروف الملائمة للبلورة العقائدية للإسلام. وهي بلورة سوف تضغط علي التطورات اللاحقة لفترة طويلة. عندئذ تشكل إسلام رسمي سوف يدعي بالمذهب السني لاحقا. وراح يغتني بالمعايير والقواعد والقوانين والنصوص والمفاهيم الدقيقة قليلا أو كثيرا وذلك علي الاصعدة الثلاثة التالية: صعيد الشريعة، وصعيد العلوم الادواتية، وصعيد الاسس النظرية. فلنفصل القول في كل هذه الاشياء علي التوالي.
بدايات الشريعة وكيف تشكلت تاريخيا
شكلت ابحاث المستشرق غولدزيهر التي وسعها لاحقا وأضاف اليها وأكدها خلفه المستشرق الآخر جوزيف شاخت ثورة كوبرنيكية في مجال الدراسات الإسلامية الخاصة بالشريعة وكيفية بلورتها وتشكلها الفعلي. وهنا ايضا نجد ان الابحاث التاريخية الرائدة تزعزع اليقينيات الاكثر رسوخا في الوعي الجماعي.
فالصورة التي قدمها عن الموضوع مؤلفو كتب اصول الدين واصول الفقه في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي هي في الواقع استرجاعية اسقاطية وغير تاريخية. لماذا؟ لانهم يعزون إلي الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة ميزة ممارسة الاجتهاد واستنباط الاحكام الشرعية والتعاليم الفقهية الدينية من القرآن والحديث في حين ان ذلك لم يحصل إلا لاحقا وبفترة طويلة.
وبالتالي وعلي عكس الصورة الشائعة والراسخة في الجهة الإسلامية فان الفقه بالمعني الفعلي للكلمة لم يتشكل طيلة القرن الاول للهجرة وانما في القرنين الثاني والثالث: أي بعد موت النبي والصحابة بزمن طويل. فطريقة أداء العبادات طيلة كل الفترة الاولي والقواعد التي تتحكم بالعلاقات الاجتماعية أي المعاملات كانت تخضع لقرارات خاصة يستلهمها المسؤولون السياسيون والدينيون من قانون العرف العربي السابق علي الإسلام والذي كان لايزال حيا حتي بعد ظهور الإسلام بزمن طويل.
فالإسلام لم يجبّ كل شيء بين عشية وضحاها كما نتوهم. كما وكانوا يستلهمونها من القانون الروماني البيزنطي الذي حكم سوريا لعصور طويلة ومن القانون التلمودي اليهودي ومن القانون الكنسي للكنائس الشرقية ومن القانون الفارسي الساساني. بمعني آخر فان الامويين طبقوا علي الناس نفس القوانين التي وجدوها في البلاد المفتوحة وذلك بانتظار ان يتبلور القانون الإسلامي نفسه.
وكان القضاة المعيّنون من قبل ولاة بني أمية يقضون بين الناس كما يشاؤون ويشتهون ويطبقون عليهم كل هذه الاعراف والقوانين السائدة أو يستخدمون عقلهم ورأيهم الشخصي في اطلاق الاحكام. بالطبع فكانوا يأخذون بعين الاعتبار روح القرآن وحرفيته بالاضافة إلي القوانين الدينية الأخري المعروفة.
ولكن ليس من السهل ان نحدد بدقة تأثيرات كل هذه القوانين والاعراف علي ما سيصبح الشريعة لاحقا. كل ما نعرفه هو ان تفكير القضاة والاختصاصيين الاوائل بالتشريع كان يمارس ذاته طبقا لخط مرن ووضعي عملي لا لاهوتي ديني. وضد هذا الخط المرن والواقعي العملي سوف ينهض فقهاء المرحلة العباسية ومنظّروها.
والواقع ان عملية رد الفعل ابتدأت منذ القرن الثاني الهجري أو الثامن الميلادي. فالمحدثون أو أهل الحديث الذين كانوا منتشرين في الامصار والمراكز الإسلامية الكبري كالكوفة والبصرة والمدينة ومكة راحوا يقومون بمعارضة عنيفة وفعالة اكثر فاكثر ضد الاعراف العربية القديمة والتراثات الحية المذكورة آنفا والتي كانت المذاهب الإسلامية الاولي قد حاولت دمج قوانينها ومكتسباتها التشريعية.
وفيما بعد راح أهل الحديث الظافرون يعرضون عملهم كرد فعل ضروري علي المقولات الوهمية لأهل الرأي والمتمثلة بمذهب ابي حنيفة. فأهل الحديث لا يثقون برأي الانسان ولا بعقله وانما فقط بالنص الديني. واكبر مثل عليهم الحنابلة. ولذلك فانهم يكرهون الحنفية.
ثم يردف محمد اركون قائلا: في الواقع ان مفهوم المذهب في الإسلام لم يبتديء بفرض نفسه إلا في منتصف القرن الثاني الهجري أو الثامن الميلادي. فأبو حنيفة الذي مات عام 150هجرية/ 767 ميلادية، والاوزاعي(157- 774)، ومالك بن أنس (179 - 795)، وآخرون عديدون كلهم كانوا في البداية عبارة عن مجرد معلمين متواضعين لمجموعات لا تزال مرتبطة بالتراثات الحية السابقة علي الإسلام في الكوفة ودمشق والمدينة. ولكن طرأت عدة عوامل اجتماعية وسياسية ودينية أدت إلي تخلي الفقهاء الاوائل عن هذا الفكر القضائي والتشريعي الوضعي بشكل تدريجي. وفي ذات الوقت راحت المذاهب تتشكل وتحل محلها بزعامة الائمة المجتهدين.
ينبغي القول بان الشافعي(204 - 820) لعب دورا كبيرا في هذه العملية. ففي رسالته الشهيرة راح يبلور الاسس الخاصة بعلم جديد هو: علم أصول الفقه. ولم ينفك هذا العلم يغتني عن طريق الاحتكاك بالعلوم النظرية أو العقلية كعلم الكلام والفلسفة. ومعلوم ان هذين العلمين الاخيرين انطلقا في نفس الفترة وراحا يحتلان مكانتهما في الساحة الإسلامية علي الرغم من معارضة الحنابلة أو أهل الحديث الذين يمثلون التيار المحافظ أو التقليدي في الإسلام. وسوف يتجلي لنا محتوي هذا البحث عن أصول الفقه وأهميته عندما ساتحدث عن الحركة الفكرية ايام العباسيين الاوائل.
العلوم الادواتية أو القرآنية
يري اركون انه بموازاة الفعالية التشريعية التي لا تنفصل عن الفعالية الادارية الخاصة بتسيير أمور الدولة وشؤون القضاء شعر العرب المسلمون بالحاجة إلي تجميع اكبر قدر ممكن من المعارف من اجل ان تساعدهم في فهم النص القرآني بشكل افضل وتفسيره واستنباط الشرائع والاحكام منه. وهكذا راحوا يهتمون بدراسة علم النحو والصرف والمعاجم وفقه اللغة وممارسة علم التاريخ علي الطريقة البدائية للوعاظ أو القصّاص الشعبيين.
وبالاضافة إلي كل ذلك فان التفسير القرآني راح يتطور في اتجاهين متباعدين ومختلفين اكثر فاكثر. فمن جهة كان هناك اولا أتباع التفسير الحرفي والظاهري الذي تبناه الحنابلة والظاهريون واصبحوا من أتباعه الاكثر تحمسا وتماسكا. ومن جهة اخري كان هناك اولئك الذين يريدون اختراق قشرة اللغة الخارجية لكي يتوصلوا إلي المعني الاولي أو الاصلي الحقيقي.
من هنا نشأت كلمة تأويل باللغة العربية فهي تعني اعادة الدلالات إلي أصولها الاولي المخفية في الداخل أو الباطن. ومن هنا نتج ايضا التفسير الباطني للقرآن. وهذه التقنية في فك رموز القرآن ومعانيه سوف تشهد لدي الشيعة وبخاصة لدي الاسماعيلية الباطنية تطورات مبتكرة وغنية.
ينبغي العلم بانه خلال القرنين الاولين فان الفعالية التفسيرية راحت تحصل وتتوسع داخل مناخ فكري يهيمن عليه جمع الحديث النبوي. وهذا علم أدواتي ومولّد لعلوم اخري في نفس الوقت. كل ما يخص حياة النبي أو السيرة النبوية، والظروف التي نزل فيها الوحي أي اسباب النزول، واعمال الصحابة، والصدر الاول كلما زاد الابتعاد عنه، اصبح مادة للبحث المتحمس إلي اقصي الحدود من اجل ضربه للاجيال التالية كمثال وقدوة حسنة ثم من اجل غايات تحزبية ايضا.
وهكذا راحت البلورة العقائدية للمذاهب الإسلامية والصراعات السياسية تعبر عن نفسها فقط من خلال كتب الحديث الضخمة جدا والمجموعة علي هذا النحو. وفي ذات الوقت راح تصور معين عن الشهادة يفرض نفسه وكذلك عن الوثيقة وفي نهاية المطاف عن ممارسة كتابة التاريخ يفرض نفسه علي المؤلفين العرب والمسلمين. فالعنعنة كما يقال اصبحت تقنية التأليف الاساسية ليس فقط بالنسبة للحديث النبوي وانما ايضا بالنسبة لمختلف انواع العلوم.
قال فلان عن فلان عن فلان الخ..وهكذا راح المحدثون يحورون الماضي ويزينونه إلي حد انهم خلعوا القدسية ليس فقط علي النبي وانما ايضا علي ما يدعي بالسلف الصالح معطين الامتياز والاولوية لاسلوب الرواية بصفتها منهجا لمعرفة الماضي.
ولكن المحدّثين، أو جامعي الحديث النبوي، اذ غلّبوا هيبة النصوص البشرية علي التفكير الحر المستقل فانهم ساهموا في الحد من التأثير القارض أو المدمر للتيارات الفكرية الاجنبية علي الإسلام.
والواقع ان العديد من المؤلفات المبتكرة والافكار الجديدة راحت تتخذ اسلوب الحديث وتقنيته لكي تفرض نفسها في الساحة الثقافية العربية الإسلامية وتأخذ المشروعية. ولكن هذا النجاح الذي حققه كتبة الحديث كان يحمل في طياته بذورا سلبية ضارة. فبسببه راحت آفاق الفكر العربي الإسلامي تضيق وتتقلص وتظلم بل وتنغلق كليا احيانا.

الأحد17/8/2008
الراية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.