بعد أزمة الكلاسيكو.. هل سيتم جلب "عين الصقر" إلى الدوري الاسباني؟    آخر ملوك مصر يعود لقصره في الإسكندرية!    قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    قيس سعيد: الإخلاص للوطن ليس شعارا يُرفع والثورة ليست مجرّد ذكرى    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    تعزيز الشراكة مع النرويج    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأجانب في بلاد الفايكنج قصص قصيرة :زكية خيرهم الشنقيطي
نشر في الفجر نيوز يوم 27 - 09 - 2008


الأجانب في بلاد الفايكنج
قصص قصيرة
زكية خيرهم
القصة الصفحة
العاصفة.................................... 1
الثلج الأحمر................................ 8
ضاعت أنالينا............................... 15
حذاء الرئيس............................... 21
كريستيانيا.................................. 26
الصقر المتوحش.............................. 31
الأسود الناصع.............................. 36
هذا البلد وطني.............................. 41
حرية … حرية …......................... 50
إعاقة................................... 58
صراخ الصمت............................. 65
الكعك.................................... 72
بكاء ملك.................................. 77
هيفاء سابقا................................. 81
قطار الحرية................................ 87
اقتلوا الجوال................................. 90
منحتموني الغدر فسقيتكم السم............... 98

العاصفة
رجعت أنا وزوجتي من العمل متأخرين. منهكين ورغم ذلك دخلنا سويا إلى المطبخ، نهيأ أكلا سريعا ،ونسمع في نفس الوقت حصاد اليوم من الأخبار. كان الجو عاصفا، ظل هكذا ساعات قليلة بدت كأنها الدهر كله. صوت الرياح القوية كأنه أزيز كل نحل العالم تجمع في المنطقة . حافلات مالت عن طريقها، وأشجار تكسرت أغصانها أو انقلعت من جذورها. هدوء مطبق بمنطقة (هاوجسون) التي أصبحت وكأنها خالية من السكان. برد محمل برذاذ ثلجي، لم أكن معتادا عليه طوال السنوات التي قضيتها في المنطقة. نظرت من خلال النافدة إلى قمة الجبل، خيل إلي أن هذه الريح ستظل محملة بالثلوج إلى ما لا نهاية. ليلة ولا ككل الليالي، شديدة البرد والثلج والظلام. عاصفة واقفة بشموخ وعناد على تلك الصحاري البيضاء. تشعل نارها على سعف الثلج وصوتها الوحشي منبعث من كل الجهات. تهيل على ضفاف النفس خوفا ورهبة معلبة في الصدور.
هدأت العاصفة، كنت حينها وزوجتي نأكل وجبة العشاء ونسمع حصاد اليوم من الأخبار. أخبار عن العاصفة في منطقتنا. فجأة انقطعت الكهرباء. أوقدت زوجتي الشموع. لم تصدق أن ليس هناك تلفاز يشغلني عنها. فتحت فاها وبدأت في الكلام من غير توقف وأنا أنظر إليها من حين إلى آخر، متظاهرا بالاستماع إليها ولو أن نصف كلامها كان يخرج من أذني الثانية. طال حديثها فشردت بعقلي أتخيل هذه المرأة التي جمعني القدر بها لتكون شريكة حياتي وتكون جهاز الراديو الذي لا يطفئه عاصفة ولا يعرف انقطاعا كهربائيا. جهاز خاص فقط بأخبار الفيتنام ومشاكل الفيتنام واقتصاد الفيتنام والسفر إلى الفيتنام. لعنت الساعة التي سافرت فيها إلى الفيتنام وتزوجتها هناك. كنت أنظر إلى شفتيها تتحرك وتتمطط وأحيانا تبتعد عن بعضها ثم تنطبق بشدة وأحيانا ترتخي، وأنا أتحدث في نفسي لا أسمع ماذا تقول!!
عجبت من أناس يحبون الكلام، يجترون الكلام، يشربون الكلام، بطنهم يستوعب كل الكلام ، أو ربما كل الكلام لم يلفظوه بعد ....!!
كلام، كلام، يخرج من فمها، يتطاير في الهواء، تستنشقه، تزفره، يدخل أذني، يقضمها، ينزل على رأسي يشقها وغالبا ينزل على معدتي ويؤلمها.
حسبي الله في زوجتي التي من يوم أن تزوجتها وأذني لا تعرف الاستراحة من سماع الكلام. يا إلهي كم كنت مفتونا ب (تي فو) سحرتني بادئ الأمر بشرقيتها وأنستني (كاريانا) المتعجرفة، المتكبرة. (كاريانا) التي تخلت عن أنوثتها وجعلتني أنفر منها رغم جمالها الأخاذ. طلقتها وها أنا الآن ضائع بين سحر الشرق وجمال الغرب. كل منهن يتباهى من أعالي أنوثة مجهولة وأنا بينهن وحدي على شجرة الحلم طال انتظاري على كالحات الدروب وبين الكلام والفلسفات مازلت أبحث عن السحر والجمال الحقيقيين في كل منهما.
- حبيبيتي( تي فو)، اسمعيني من فضلك.
ما زالت تتحدث ولم لا؟! فهي لم تفرغ من الكلام. ضربت بقبضة يدي على المائدة، قفزت من محلها ، اصفر وجهها أكثر مما هو عليه.
- نعم، حبيبي.
- سأسافر إلى تونس.
- ماذا .....! وتتركني لحالي!؟
- أنت لست وحدك! الكلام معك في كل مكان. في المطبخ، في الصالون، في غرفة النوم. كما أنني سأمكث فقط أسبوعين من الزمن لأمضي عقود شركتنا مع شركة تونسية.
- لكن، لماذا أنت بالذات الذي اختاروك يا (طوماس)
- لم يختاروني، أنا الذي اخترت نفسي. سأذهب إلى النوم الآن. تصبحين على خير.
- تصبح على خير حبيبي.
تركتها وذهبت إلى غرفة النوم، فارا إلى السرير، مستنجدا بوسادتي، كنت أسمعها تغني في المطبخ وتنظفه وأحيانا تتحدث لحالها.
ضحكت بامتعاض ضحكة خرجت من قلب سئم الكلام، كره الكلام، فأصبحت أتمنى أن أكون أصما علني أوفر على أذني كلاما وكلام.
بعد يومين، سافرت إلى تونس، وفي الحقيقة لم يكن هناك عمل ولا عقود ولا شركات ، وإنما فقط أريد أن استلقي على رمال مدينة (جربة)، تلك المدينة الجميلة بطبيعتها، وبرمالها وبحرها، أشجار النخيل ، رمال ممتدة وشمس دافئة. استلقيت على الشاطىء، وضعت نظارات سوداء ودهنت جسمي بمرهم ضد أشعة الشمس ثم أغمضت عيني.
- يا الله !! ما أجمل الدفء والهدوء وما أجمل الحرارة والسكون! ما أجمل البحر والرمال وما أجمل النخيل والبعد عن ( تي فو)...!!
ابتسمت وأغمضت عيني وجريدتي على صدري أستمتع بصوت الأمواج التي تتكسر على الشاطئ. أفيق في كسل مع الفجر الرطيب والشمس خجلى من وراء الأفق رانية إليّ، تنشر أشعتها على جسدي فتسري حرارة دفئها في كل مساماتي. تلفني أشجار نخيلها بثوبها الزاهي فنسيت كلام زوجتي ونعمت بسكون صمتها... تضمني على مهل وتمشي على ساقين من شمس والعصافير من حولي تزغرد على نغمات أمواج البحر التي تحضن الشاطئ ثم تنام على صدر الرمال.
أغمضت عيني، أريد أن أحس وأشم وأتذوق كرم الطبيعة. كم هي كريمة عندما تجود بسخاء! أحسست بنشوة، برعشة، بسعادة تملأ قلبي رقة وابتسامة. لا أعرف لماذا تذكرتها وهي هناك، شرسة غاضبة، باردة، تلسع من دون رحمة، تزمجر ، تحطم، تكسر. ها هي الآن عاشقة، جميلة تزين الحياة، تضفي عليها جمالا بسحر هضابها الحسن وبرموش غابتها كلوحة من ظلال. تغدي الروح وهي هادئة، تنعش الفؤاد، تروي العين وتطفئ العطش كالشراب الزلال.
فجأة أسمع صوتا يقول لي باللغة الإنجليزية:
- Hi ....do you speak English?
عدلت جلستي ورددت السلام محييا.
- نعم، هل من مساعدة؟
- لا فقط أريد الترحاب بك في مدينتنا. اسمي سمير. إن أردت أية مساعدة فأنا رهن الإشارة.
شكرته، أخذت جريدتي وبدأت أتصفحها. اختفى سمير وما هي إلا لحظات حتى رجع، وفي يده قنينتين من عصير الليمون. مد إلي واحدة. لم أطلب منه ذلك. كي لا أحرجه أخذتها شاكرا. تطلع يمنة ويسرة ثم قال لي بصوت منخفض:
- هل تحب النساء؟ أعني هل لديك رغبة في النساء؟ يمكنني أن أهيأ لك ما تريد وحسب ذوقك.
ضحكت قائلا في نفسي " هربت من (تي فو) وسمير يريد أن يحضر لي (تي فوات).
- لا يا صاح ، شكرا. أنا لا أحب النساء.
نظر إلي بدهشة. ارتبك، بدّد بصره، اقترب مني أكثر وقال بصوت هامس:
- طيب إن كنت لا تحب النساء يمكنني أن أذهب معك ولكن، بشرط تسقيني قنينة من الوسكي.
- تذهب معي إلى أين ؟ ولماذا أسقيك قنينة وسكي؟
احمر وجه سمير.
- لأنني لا أستطيع إلا وأنا سكران.
- تستطيع ماذا؟
بعدها استوعب عقلي البطيء الفهم لكثرة امتلاءه بالكلام.
ضحكت عاليا قائلا بلغتي:
اللهم ( تي فو ) وكلام (تي فو) عن هذا السمير وقنينة الوسكي.
ذهبت إلى المطار، استقليت طائرتي إلى النرويج، إلى بيتي، إلى زوجتي التي فاجأها رجوعي السريع . وضعت حقيبتي في المطبخ، جلست حول المائدة، وضعت إبريق القهوة على الطاولة. جلسنا نحتسي القهوة، لم تسع (تي فو) الفرحة لرجوعي وبسرعة فتحت فاها الكبير، ثم انطلقت في الكلام وأنا أستمع إليها إلى أن سمعت شيئا وقع بشدة على الأرض، تلته صرخة مدوية. قفزت من مكاني.
- ما هذا يا تي فو؟
توقفت( تي فو) عن الكلام. قفزت من مكانها مسرعة كالبرق إلى الطابق الفوقي حيث الحمام. لحفتها ، فتحت غرفة الحمام فإذا بأمها عارية مستلقية على الأرض ونصف جسمها أزرق أحمر من جراء الوقعة. غطتها (تي فو) بسرعة بمنشفة. أما أنا فكنت كالمخدر بلا جسد ولا روح. كلماتي معتقلة في سري كأنني أسلمتها للموت. ماذا تفعل حماتي هنا؟! إنها أكثر كلاما من ابنتها. هل ستقضي عندنا شهرا بأكمله كعادتها كل سنة. لكن لم يمر على مجيئها إلا أربعة أشهر. يا إلهي كيف سأتحمل ثرثرتها وانتقاداتها شهرا كاملا!
ألف (سمير) ولا( تي فو) وأمها.
ماما: هل أنت بخير؟
نعم، الحمد لله لم يتكسر ضلع من أضلاعي.
نظرت إلي وقالت: سمعت صوتك، نهضت من الحمام بسرعة لأراك وأسلم عليك فوقعت على الأرض.
قلت بامتعاض: حماتي، عزيزتي، لديك شهرا كاملا لكي تسلمي علي وتحدثيني عن ألف ليلة وليلة بالفيتنام.
عدلت جلستها على أرضية الحمام، رفعت عينيها تنظر إلي وقالت مبتسمة: هذه المرة جئت للسكن معكم إلى الأبد. وأنت يا (طوماس) وراءك عمل كبير. ستذهب إلى إدارة الأجانب وتقدم طلب إقامتي، ثم لا تنسى أن تخبر صديقك المحامي، ما اسمه؟ تحاول أن تتذكر ....
المحامي الذي زارك بالبيت السنة الماضية، ترفع يديها ملوحة، المحامي الذي أعجبه طبخي. هل تذكر؟ و(تي فو) أيضا فتحت فاها موجهة كلامها إلي أيضا: حبيبي (طوماس) ستنام أمي بالغرفة المجاورة لغرفة نومنا. سنأتي بالخزانة التي في المستودع لتضع ملابسها. كم أنا سعيدة يا (طوماس) ...
أختلط كلام (تي فو) بكلام أمها وسط بخار الحمام المتصاعد وأصبح ينزل على رأسي هذه المرة ليس كالرشاش وإنما كقنابل( الميركافا). لم أخرج من الحمام وكيف لي أن أفعل و(تي فو) وأمها مازالا يتحدثان في آن واحد.

الثلج الأحمر
في تلك البقعة من الكرة الأرضية، يشمّ ُ الإنسان رائحة الجفافِ والفقرِ والجوع... ويسمع جرس الإنذارِ ... إنذار الموتِ ... الموتُ الذي سببته كل مخلفات الجهل وقساوة الطبيعة. أرضُ ُ جرداء أصبحت عاقرا لانقطاع المطر عنها. حروب من الداخل وأخرى من الخارج، السكان جائعون، أميون، متمردون، ناقمون على الطبيعة، حاقدون على الحياة ...
انتشر بعضهم كالغبار الذي تقذفه الرياحُ من غير رحمة إلى البلدان المجاورة والبعيدةِ أيضا. كان إسماعيلُ وفاطومة من ضمن من ساقتهم الأقدارُ من ذلك القحطِ إلى النرويج، حيث الطبيعةُ الخلابة ُ وحيث النعيمُ والرغدُ بكل أنواعهِ والسلام و الغنى ... وكلّ ُ شيء .... منحتهم الدولة حق اللجوء الإنساني وعاشا في جنة من الطمأنينة وهدوء البال، بعدما كانا في جهنم الحرب والجوع والقتل والبطش والإغتصاب ... إغتصاب الأجساد باختلاف جنسها وأعمارها... أجساد رخيصة ... محتقرة ... لا تساوى شيئا ...
لم يكن اسماعيلُ مؤهلاً لعمل أي شيء في النرويج لكثرة الأمراض النفسيةِ والعضوية التي قدِمَ بها من ذلك الوطن اللاوطن ... ولم يستطع بطبيعة الحال استيعابَ لغة البلد. أما زوجتُه فكانت مثقلة ً بثلاثةِ أولاد مع أنها لم تتعدى العشرين من عمرها. التقى بها (رجب) وهي في دكان ب(جرولاند) تشتري الخضر. تبادلا التحية وتلك الأسئلة التقليدية التي أمست جزءا من حوارنا، نتعاطاها بدون ملل عندما نلتقي ببعضنا، بمن لم نره منذ مدة طويلة أو قصيرة. كيف حالك ... كيف حال الأولاد ... كيف حالك مع الدنيا ...ماذا تعمل..أين تسكن..هل أنت مرتاح في البلد..
ستة أشهر مرت منذ أن رآها آخر مرة. وكأنها كبرت عشر سنوات ... صوتُها أكبر من سنها. أحس بكثير من المرارة في أحرفها وألمٍ عميقٍ في كلماتِها التي كانت تخرجُ رُغما عنها، محدثة حشرجة في حلقها. كان ينظر إليها خلسة من أخمص قدميها حتى رأسها وكأنه يحاول الإجابة على أسئلة محظورة. تتوقف عيناه على يديها، عروقُ ُ خضراء متورمة على ظهر كفها، يظهر على أطرافها تجعدات لا تبرز عادة سوى على يد عجوز داست عليها حوافر الأيام من غير رحمة. سألها بعفوية وسذاجة.
- كيف حال زوجك أما زال كسابق عهده ... أما زال يضربك؟
أطرقت من غير أن تنبس ببنت شفة. شعر ذلك الشاب بالندم لطرحه ذلك السؤال. كان يتألم إذ كان يحبها كثيرا، لكن والدها رفضه بسبب شجاره مع أبيه. حقد عليه لحقده على أبيه. كان الشاب يعشقها لذكائها وخلقها وهدوئها ورزانتها وعفتها. مد إليها بطاقة عنوانه ثم قال:
- إن احتجت أي شيء يا أختي فلا تتردي للإتصال بي.... الله معك.
غادرها وتركها تنظر إليه وعيناها مغرورقتان، محدثة نفسها: كم هو جميل ووسيم، كريم وشهم ... كنت سأكون زوجته لولا أباه الذي كان يتشاجر مع أبي. لماذا ندفع نحن الأبناءَ الثمن! بلعت ريقَها ورجعت إلى شقتِها الصغيرة.
- لماذا تأخرت أيتها الوغدة؟ تركت لي أطفالك ... سأجن ... خذيهم عني وهيئي الطعام لأنني جائع. أفهمت ماذا قلت؟
وضعت فاطومة كيس الخضار في المطبخ ثم أخذت الأطفال إلى الغرفة الثانية ... أخرجت اللعبة الوحيدة التي يملكها أطفالها لتنهي صراخههم وضجيجهم، لكن ذلك لم يزدهم إلا صراخا أكثر. كل يريد اللعبة له. هوت عليهم بالحزام وأقفلت عليهم الباب، ثم توجهت لتهيء الطعام. لم تبال ببكائهم ... أو ربما كانت تبالي... فاكتفت بدموع تنهمر كالنزيف من قلبها. لو تزوجت رجب لما كانت حياتي جحيما هكذا! كانت تهيء الطعام بعصبية وضعت الماء يغلي لطبخ المكرونة وبينما تقطع اللحمَ كانت تفكر في رجب، ذلك الحبيب الأول ... لماذا يا ربي قدري هكذا ... لم تكمل كلامها وبلا شعور هوت بالسكين على سبابتها التي بدأت تنزف. لم تحس بالألم في تلك اللحظة بقدر ما كانت تتألم وتتحسر ناقمة على قدرها الذي وضعها في هذا الوضع.
أما زوجها فكان يجلس على الأريكة العتيقة التي أصبح لونها يميل إلى السواد لكثرة الأوساخ ... السعال لا يفارقه حتى وهو في لحظات نومه وهدوءه. يفتح علبة الدواء السائل المر المذاق ... لطالما كره أن يشربه ولكن لا مفر. نصيحة الطبيب له، توقفك عن تناول الدواءك معناه صحتك ستزدادُ سوءاً ... ابتسم بسخرية على أنفاسه المتجمدة والمتمردة، منذ متى كان يهتم بحياته؟ منذ متى كان يعتبرُ نفسَه، إنسانا له كيان ... وجدان ... مشاعر ....
بدأ يتطلعُ حواليهِ وهو يسعل ... ينظر إلى ديكور الغرفة الحزين ... جدران لا لون لها خالية من الصور عدا آية الكرسي التي كانت معلقة في وسط إحدى الجدران وقريبة من السقف. تلفزيون قديم ينطفئ غالبا وحده ولا يفتح حتى يضربه بخف رجليه. سجادة بنية اللون بالية مليئةُ ببقع الشاي والقهوة وفتات الخبز... كان يحرّكُ قدميه بعصبية ويشد على أصابعه محدثا طرطقات لا إرادية ويتزايدُ سعالُه ويهتز جسمُه النحيلُ الأسمر الذي ضاق ذرعاً بحمله معه أين ما حلّ. فجأة تدخل عليه زوجتُه مستاءة، حزينة ثائرة والدم ما زال يسيل ساخنا من سبابتِها. غضب بركاني بداخلها، لم تستطع أن تفجره خارجا خوفا من ردّة فعله. قالت خائفة ُ ُ بنبرة مستاءةٍ منخفظةٍ ومتحفظة:
- أريد أن اشتري حفاظا للطفل.
- ألم أقل لك استعملي خرَقا من الثوب لأن ذلك يُوفّر علينا نقودا كثيرة.
اقتربت منه وكأنها تريد أن تنقض عليه، ثم ابتعدت خوفا من أن يفترسَها بضربه كالعادة وقالت:
-لم أر نقوداً كل ما تدخره من نقود تحوله لأهلك. هذا المال حقي وحق أطفالي. أليس في قلبك رحمة؟ أحتاج إلى غسالة كهربائية أيضا.
لم يكن يؤلمها الجرح بقدر ما ألمها تطلع رجب إلى تجاعيد يديها بشفقة وحزن.
وقف مُزمجرا وبدأ يلُوحُ بكلتا يديه ووجهه يكادُ يلتصق بوجهها واللعاب يتطاير من فمه، صارخا غير مبالٍ بالنزيف في أصبعها، فالدم صار منظراً مألوفا تعود على رؤيته في وطنه.
- منذ متى كنت تغسلين بالآلات الكهربائية؟ منذ متى كنت تتحدثين عن يديك وحساسية جلدِك؟ من غيرّك أيتها القحبة؟ هل تعتقدين أنك ستفلتين من يدي. إن النرويج ايتها النساء أعطتكن حقا أكثر مما لكُنّ. مثلك أيتها الغانية لا يليق بها إلا قطع الرأس بالساطور. هل تعتقدين أن وجودَك بهذا البلد سيحميك مني؟ لا والله! لا أحد في هذا العالم يستطيعُ ذلك. هل فهمت. غادرت فاطومة إلى المطبخ تندب حظَها. أما هو فجلس على أريكته يزمجرويسب ويلعن ... لا يعرف بمن يبدأ لعنته... بوطنه المليء بالانقلابات والمذابح والمرض والفقر والتعذيب، أو يلعن النرويج التي ظن نفسه سيجد فيها ضالته من الراحة والهدوء والإستقرار وسينعم بهدوء واسترخاء دون أن يقطعَ نومَه صوتُ القنابل والقذائف التي كانت تنهال على مدينته ليلَ نهار ... كان يحلم أنه سيأكل بهدوء وسيعمل بهدوء ... وربما وفر بعضُ المالِ ليرسلُه لوالديهِ واهله في وطنه. كلّ شيء كان حُلما فقط ... حلما يؤنس به نفسَه. كان ينظر إلى نفسه فيراها هي أيضا مجرد حلم ، طالما يتوق للتهرب منه ومن أطيافِه وساديتِه التي تطارده في صحوه ومنامه، لائذا بهوة سحيقة وحصينة ضد قدرِه المعلق في سماء العدم، وآمالاُ تسبح في ماض وحاضر ومستقبل غامض، خوفِ من المجهول، ماض ومستقبل لم ير فيهما حبا ولا حياة ولا وطناً... بداخلي فراغ ... ليس فيه شيئ ...
تطلع إلى باب الصالون، وذهب بفكره إلى زوجته، وأولاده الثلاثة. نزلت قطرات ساخنة من عينيه، وهطل وابل من التساؤلات التي لم يجد لها حل ... تساؤلات كانت تنزل على عقله محدثة له صداعا حاداّ في رأسه ...
بلدي ... وطني ... لو كان لي وطن .... مثل النرويج، لما جئت إلى النرويج ... لو كان ببلدي سلام .... لما كنت على ما أنا عليه الآن ...
ضحك عاليا ضحكا ممتزجا بالبكاء ... حروبنا ... وجوعُنا ... وفقرنا ... وذلّنا... وتخاذلنا ... قتلنا ونحن أحياء ... أينفع العيش بعد هذا الموت الذي نعيش فيه ...
تطلع إلى نفسه وكأنه يفحصها أو كأنه يريد أن يتأكد من ذلك الجسد العليل الذي يلبس روحه المريضة، المستاءة، فوجد الاثنان عليلان، سقيمان ... ماتت روحه وتبعها الجسد. عرف أخيرا أن هذا الجسد قد أنهكه المرض، واستوطنته جرثومة خبيثة ... هذا الجسد آن له أن يستريح من حياة الذل والدونية والوحدة... وحدة في كل مكان ... منذ هروبه وأهله وتسللِه إلى النرويج ... إلى أوسلو.
زوجتي ... أولادي ... ما ذنبُهم ... ما ذنبي أنا؟ إنه ذنب القدر الذي يعطي بسخاء بعض الناس ويحرم الآخرين بقسوة. تمر أيامنا وشهورُنا وسنينُنا ونحن لا نجد الراحة ... كيف لنا أن نعيش ونحيا وكل من حولنا يمقتنا ويمقت وجودنا؟ حثالة ألقت بنا خارج بلادنا . كرهت نظرات الإستعطاف والشفقة ونظرات التأفف والإستياء.
صراخ الأطفال مازال يرج تلك الشقة ُ الصغيرة ... وصراخُ برأسه مازال يقع عليه بدون رحمة كالضرب بالمطرقة. وقف متجها إلى المطبخ ليرى لماذا زوجته لم تهدىء من بكاء وصراخ الأطفال. فإذا به يسمعُها تتكلم هاتفيا. تبكي وتشكي إلى رجب ذلك الذي كان يحبها يوما ويحلم ببيت وأطفال معها. تطلب منه أن يساعدَها في إيجاد حل لها ولزوجها الذي أصبحت الحياة مستحيلة معه. أظلمت الدنيا في عيني إسماعيل ... لم يعد في باستطاعته أن يميز بعقله وبعينيه وببصيرته شيئا. كل شيء صار أسوداً. يداه ترتجفان كباق جسمه، كله أصبح يرتجف روحه وعقله ، بل كل الشقة ترتجف من حواليه. فتح باب المطبخ الذي كان نصف مغلق واتجه إلى الجارور وأخرج ساطورا. كانت زوجتُهُُ في تلك اللحظة ألقت بسماعة التلفون على الأرض من صعقة المفاجأة ... تسمرت رجلاها في الأرض... حمل إسماعيلُ السماعة فإذا به يسمع صوت رجب ... " حبيبتي سأبذل كل ما في وسعي لمساعدتك ومساعدة الأولاد. فقد إسماعيل صوابه وقال بصوت مرتفع:
- سأريحك وأريح الأولاد وأريح نفسي ... أليس هذا الذي تريدين؟ ألا تريدين أن تخلدي للراحة؟ هوى على رأسها بالساطور ثم أسرع إلى حيث الأولاد وهوى عليهم بساطوره لكل واحد منهم ضربة واحدة، فأصبحوا طريحين أرضاً والدماءُ تسيل كالنهر، يمشي بتثاقل والندم ينزف روحه المنتزعة التي تحتظر من علة الزمن... ثم ألقى بنفسه من النافدة فلون بدماء مأساته الثلجَ الأبيضَ فصار أحمرا.

ضاعت أنالينا
خيوط الشمس المشرقة تداعب الأشجارالمكسوة بالثلج. بياض الثلج لامع يمتد على تلك البيوتِ الخشبية المطليةِ بلون عسلي غامق، و نوافدها الكبيرةِ الزجاجية الشفافة تُظهر جمالَ وأناقة َالبيوت النرويجية ، وعشقَ سكانها للورود الدائمة الخضرةِ حتى في فصل العواصفِ والثلوجِ. رائحة الدخان تتصاعد من المدافئ توحي إليك أن الحياة نابضة بتلك الضيعة الصغيرة غرب النرويج. دق جرسُ الكنيسة، كانت عائلة (أندرسن) تتوسط بيتَ الله في احتشام ووقار وسيدة رائعة البهاء واقفة بقرب زوجها ببدلته الأنيقة السوداء، يتحدثان مع المدعووين وبعد لحظات جلس كل شخص في مكانه.
وقفت أنالينا أمام القسيس بقامتها الهيفاء وشعرها الأشقرِ الطويلِ، تحدّق في جدران الكنيسة ، تحاول قراءة ما هو مكتوب على الجدران من أزمنة قديمة بخطوط مزخرفة من الصعب قراءتها وهي حول رسومات كنسية غامضة، تحتاج إلى خبير لفك طلاسمها . ترتدي فستانا أبيض طويلا، كانت يوماً ما أم جدتها تلبسه يوم تمّ تعميدها . بدت لي أنالينا للحظة كآلهة الجمال والحب بوقفتها الملوكية وشموخ رأسها أمام القسيس. وبينما أسترق النظرَ إليها، رأيتها أبهى عذوبةً من النهار الطالعِ على قريتها في فصل الربيع، حيث يسعى الفلاحون مع مواشيهم على أديم الأرض المرصعة بالحقول والخضرة والماء والطيور، وأغنيات الصباح الصداحة، وحكايات العشقِ والمحبين. بدأ القسيس طقوسه ليعمدها. كانت تبدو مرهقة والوسن يطرزعينيها بالذبولِ. تشعرُ وكأنها على تخوم الفراغ أو قريبة من حافة هاويةٍ لا قرار لها. سأحدثه وأسأله بوضوح وبساطة ومن دون خجل. لن أدعه يصطادني . سئمت من السباحة في بحر غامض فوقه سماء ضيقة، لم أعد أبصرُها كاملة ومزركشة بالنجوم. لن أتعمد مادمتَ لا تريد أن تشرحَ لي هذا المثلث الغامض.
شهق كل من في الكنيسة وبدأت همهمات وهمسات تتداخل فيها الخرافة بالحقيقة والوهم بالواقع، تسبح في فضاء التخمين لحل ألغاز كنسية ، اعتاد المؤمنون منهم على أخذها على محمل اليقين دون مناقشتها ودون أن يفهموها.
- ابنتي هذا سر لا يناقَش ولا يشرح، علينا الإيمان به لأنه عقيدتُنا.
- إنني أبحث عن الحق و لن أؤمن به إلا بعد قناعتي الكاملة . لا أريد الغرق في الفراغ الذي تمارسونه كلكم. أنا أبحث عن الحقيقة التي توصلني وكل من حولي للعيش بسلام ، أما هذا الفراغ اللامرئي لن يوصلني إلا للضياع.
غادرت أنالينا بكل هدوء القسيس الذي ظلّ واقفا مندهشا من هذه الصدمة التي لم يصادفها طوال عمله الكنسي ، حيث عمّد ألاف من الشباب والصبايا ، وكلهم يستمعون له إيمانا أو تأدبا أو خجلا ، إلا هذه المتمردة أنالينا التي هزت قناعاته الكنسية، دون أن يتمكن من غرس هذه القناعات في عقلها ، فإذا هو في مأزق أمام الحضور، متخوفا أن ينتقل تمرد أنالينا إلى غيرها . وعندئذ لا فائدة للماء الذي بسلطانيته الفضية ، ولا لكؤوس النبيذ المعتق التي يتجرعها المصلون ، معتقدين أنها تجلب لهم الراحة والطمأنينة ، اعتمادا على ما قرأوه منذ الصغر (قليل من النبيذ ينعش القلب) . أصوات تمتد من هنا وهناك في الكنيسة، تمتزج ببعضها، تتلاحم، تنصهر وبخارها يصعد إلى السقف مشكلا همهمات و همسات وشوشات ، حول ما فعلته المتمردة أنالينا ، وعائلتها تغرق في بحر من الخجل والحرج أمام القسيس والأصدقاء الذين جاءوا خصيصا لحضور مراسم التعميد التي تنتظرها العائلات المؤمنة ، فهي تأتي مرة واحدة في العمر.
من باب الكنيسة خرجت أنالينا بهدوء، خطاها تخترق ثرثرة الكائنات، تجرها بعيدا عن منفى الفلسفات. رحلتها لم تكن سهلة وحقيبتها مجنونة تتشابك فيها أسئلة تهدهدها الظنون. عذابها نار يجلد روحها، ودربها طويل يبحث عن الجواب..."هل سأحرث هذا الكون البور بنفسي؟" . تسير ومازالت في طريقها تخطو على أشواك البحث عن الحقيقة وتتعثر فوق صخور ضياع لا حدود له. فهل يطلع بعد العتمة نورالفجر؟! ذهبت أنالينا عند شهود (يهوه) تبحث عن الحقيقة، تتحرى الكون وترسمه حسب منطقها. لم تكن تراه إلا رماديا. مكثت إثنتا عشرة سنة تشتغل معهم وتبشر مثلهم. سافرت من بلد لآخر ولم تجد في ذلك الدين ما يشفي غليلها. فتنة في الظنون ودعوة للجنون، تتأرجح بين ثنايا الضلال، تغدو تائهة ضائعة، لا تعرف إلى أين ومن ستقصد.
سافرت إلى الهند والصين حيث تعرفت على البوذيين والهندوسيين، تأثرت بطقوسهم الروحية التي ترقى بالإنسان إلى عالم المثل. عندما يحل الليل، تفيق لتجاهربأسئلتها اللامتناهية . في عينيها أهازيج البحر وثورتَه. عيونٌ غامضةٌُ كالبحر، تستعذب خلوتهَا، تمدّ ُ الكونَ شراعاً وترحل بأفكارها في ملكوت الأشياء وتفسرها كيفما تشاء . تمادت في زهدها تتأمل ما بين السماوات وما فوقهما، ذلك الفضاء المليء بالأسرار، تعدّ ُ خطاها حين تعود من غيبتها متشحة بالشوق وتبحث بعينيها الغارقتين عن الحب. تساقطت الأعوام عليها كأشباح الموت. كل شيء تركته وراءَها ، أهلها وعشيرتها. وضعت الدنيا بما فيها في كفيها وغربلتها فتسربت من بين أصابعها رماداً وهي هناك تصلي. تمنت لو تستطيع قراءة ما في الغيب من أسرار الحب والموت. كل الجهات مطوقةٌ بالغموض ، ورغم ذلك ظلت تبحث عن زاوية للصمت تلوذ بها، وعن جهة هادئةٍ تركن إليها. ما عاد قلبها يحتملُ غربتها البعيدة عن الأهل. لم يعد الغيمُ يظللُ قلبها ليقيهِ الإصطلاء بنار الحياة ولا زرقةُ السماءِ تصفي روحها. قررت أن تشد الرحال أو تحترق كالفراشة في نار عابسة. قررت أنالينا أن ترجع إلى النرويج، وفي طريقها إلى وطنها تعرفت على شاب علماني، كان يجلس قربَها في الطائرة. أحبته، تزوجت به، تأثرت بفكره وفلسفته في الحياة . أنجبت منه طفلتين ثم سافرت لأول مرة عند أهلها غرب البلاد.
كان يغمر فؤادها الشوق للقاء والديها بعد هذه السنين الطويلة. غادرتهم فتاة يانعة، متمردة وهاهي الآن صارت أُمّاً وفي طريقها إلى أهلها تسترجع الماضي، تتذكر حالها وهي صغيرة تلعب بين المروج وتشكل صوراً وأشكالا ثلجية. تتذكر عندما كانت ترشق أباها بكرات الثلج وتلك الضحكات التي كانت تخرج بصدق. ذرفت عينيها الدموع، ارتعش قلبها، كم ستكون الفرحة مسكونة بالحزن والفرح بعد غيبتها الطويلة. حتما أمي ستنفجر بكاء للقائي. كانت الطريق طويلة وكأن ليس لها نهاية وأخيراً وصلت عائلة (أنالينا) الصغيرة إلى منزل الوالدين. لم يتغير شيئ، مازالت الضيعة كماهي ومازال سكونها رفيقا لها كما ان باب بيتنا مازال على شكله. كل شيء مازال على حاله. رنت الجرس، تتطلع لزوجها، ترتبك، تشد على اصابعه، تحدث طرطقات، تتطلع لإبنتيها وتبتسم.
فُتح الباب. لم يكن اللقاء حاراً كما كانت تنتظر . دخلت (أنالينا) إلى المنزل غير منتظرة الإستئذان، تبعها أطفالها أما زوجها فكان واقفا أمام الباب الذي ظل مفتوحا والأم تنظر بعينين حزينتين ساخطتين إلى ابنتها وتارة تسرق النظر إلى ذلك الزوج الأسمر مشمئزة.
- كنا نترقب منك كل شيء إلا اعتناقك الإسلام والزواج بأجنبي من هناك.
أضاف الأب:
-إننا في غاية الحزن والغضب.
- لكن يا أمي أنا سعيدة ،سعيدة جدا في حياتي الزوجية.
- انهم ارهابيون يا ابنتي. يضربون النساء ويفرضون عليهن الحجاب في لبسهن وعقلهن ويختنون البنات. يتزوجون أكثر من امرأة ويدفنون جثثهن بالأرض تاركين الرأس عارياً.
انفجرت الأم تبكي.
- كفى يا أمي! كل ما تقولينه عبارة عن هراء وافتراء. انظري إلي ماذا يعيب لباسي؟ هل ابنتي مختونتين؟ حرام عليك. جئتكم لأعرفكم على أرحامكم.
اقتربت الأم من ابنتها محدقة في عينيها، مزمجرة وشرر من الغضب يتطاير.
- لقد وضعت حدا بيننا، وضعت حدودا لا يستطيع أحدنا اختراقها. لم تعودي منا ولن نكون مثلك. انفجرت باكية . ضمّها زوجها إلى صدره وفي نفس الوقت ينظر إلى ابنتيه بحزن صامت . أما انالينا فقد اصابها الذعر من موقف اغتيل فيه الأمل للسلام. التفتت إلى زوجها الذي كان يختنق في شحوبه المقطب بالخجل، يخلع حزنه وصمته محبطا لا يستطيع الدفاع عن النفس في تلك اللحظة الحرجة الصادمة له ولزوجته.
قال الأب:
- كفى ما حدث قد حدث. ابنتنا رجعت إلينا بعد طول الغياب. علينا أن نفرح بها ونحتفل.
ابتعدت الأم من زوجها نافرة، تتكلم وتثرثر وسط هيجان عاصف ، تتأرجح بين الإستسلام والكبرياء .
- لا ابنتنا لم ترجع إلينا. لقد أصبحت من أتباع المتعصبين المتخلفين. لقد صارت منهم يا (أرلنغ)، أصبحت واحدة من حريمهم. ضاعت ابنتي ... ضاعت أنالينا.
كانت أنالينا تشد بكلتي يديها على كتفي بنتيها اللتين كانتا تبكيان لبكاء أمهما. وقالت بحزن وحسرة:
أنتم ترونهم إرهابيين، متطرفين وهم يرونكم أيضا مشركين وضالين. الكل يظن نفسه هو الأصح والموعود بالجنة. لقد أسأتم فهم العقيدة ورفعتم راية الصهيل الملتهب ضد بعضكم، يحيل خلفه جهنما من اللهب المتأجج والكره المستديم. كلّ يحرّف حسب رغباته ونزواته وكل يريد احتكار الله الواحد له. أنتم الضائعون يا أمي ولست أنا. لا أريد أن أتيه معكم في جهلكم وتعصبكم، إلا أنني اخترت بعقلي كيف أتواصل مع خالقي وأتعامل مع غيري رغم اختلاف الدين أواللون. بالحب الحقيقي الذي في إنسانيتي اطمئن قلبي.
أمسكت يدي ابنتيها، التفتت إلى زوجها الذي كان متجمدا في مكانه مشدوها من تلك الحفاوة والترحاب. رحلت أنالينا عن عائلتها، وأغلق والداها الباب.

حذاء الرئيس
وأخيرا أخيرا جاء فصل الشتاء بلياليه الطويلة السوداء وبفجره النائم الكسول... بهدوئه ... بسكونه .... ببرده القارس... بنهاره القصير. وحبيبات الثلج تتطاير كالغبار، تحمل رائحة الثلج و تدخل أنفي، فأحس بأوجاع في كل مكان في جسدي. أحس بعطش إلى الشمس و بشوق إلى الحرارة. فصل طويل يتسرب في عروقي لدرجة أن روحي تصبح باردة ... متجمدة ... و ما إن يأتي ذلك الصيف القصير وتلك الشمس القطبية، شمس منتصف الليل، حتى أحس أن روحي ستزهق أو زهقت. يذكرني هذا الفصل القصير بشمس وطني، بدفء حرارته، بحرارة ناسه، بطبيعته المتنوعة، بجباله وصحرائه وهضابه وسهوله...
آه! كم أتذكرك يا وطني عندما يأتي الصيف في النرويج. وكم أتوق إليك عندما يحل البرد هنا، ويغطي أسلو رداء أبيض من الثلج، كما يغطي قلبي بخمار أسود من الحزن عليك يا وطني ...!! أاقسو عليك أو على نفسي... ؟! أاكرهك أو أكره نفسي...!؟ تركتك كارها والرجوع إليك مستحيل... ابكي عليك كل يوم، وأبكيك كل صباح حين أغادر بيتي إلى عملي. أرثيك للثلج وللأشجار... ماكان الثلج يحس بي ... وما كانت الأشجار لتسمعني...
ها هو عيد الميلاد اقترب موعد مجيئه، وبعده مباشرة، تأتي سنة جديدة، ويليه عيد ميلاد آخر... وسنة أخرى، وبيني وبينك مسافات مستحيلة يا وطني. ضحكت عاليا غير مبالية وأنا أمشي بين شوارع أسلو، غير مكترث للاكتظاظ الهائل: سيارات ... قافلات ... ترامواي ....تمشي باستمرار في الشوارع على مدار الساعة. ترى الناس في كل مكان. في المطاعم، في البارات، في المحلات.... محلات مليئة.. مكتظة... طوابير طويلة ... الكل ينتظر دوره لدفع ثمن هدية عيد الميلاد. الكل يريد أن يفاجئ حبيبه ... صديقه .... أخاه .... ابنه ... زميله في العمل... زوجته ... الكل ينتظر تلك الليلة التي يلتقي فيها الأهل والأحباب... ....
من سأفاجئ ... ولمن سأشتري هدية ... لمن سأعطيها.....؟ ومن سيفرحني ولو لسويعات قليلة..!؟
مازلت أمشي إلى أن دخلت مركز ( أوسلو سيتي). سمعت عجوزا تقول لزوجها، وفي يدها أكياس من الهدايا: " عيد الميلاد من دون سقوط الثلج ليس عيدا"
ضحكت في نفسي..." فليتأخر أو لا يأتي على الإطلاق يكون أحسن."
مررت بمركز (جينريوس) وقعت عيناي على دكان شرقي مليئ بالأكسسوارات والملابس العربية ... انشرح صدري .... فسرح عقلي إلى يوم العيد، في وطني. لمحت فساتين نسائية شرقية، فتخيلت أمي وأخواتي يرتدينها، وهن يحمن في البيت كعادتهن .... ينظفنه ... يزينه ويصنعن الحلوى بمناسبة العيد ... إقتربت من الدكان ... دخلته .... شممت رائحة جميلة ليست بغريبة علي.... جعلت روحي تطير إلى وطني ... تبعت الرائحة، وكلما اقترب إلا والرائحة تزداد عطرا وشذى... وعندما وصلت إلى منبع تلك الرائحة، وقعت عيناي على علب البخور، فحملني عبق عطرها إلى المسجد يوم العيد في وطني. يا إلله! ماذا أرى...!! علب الحلوى ... حلوى (جبان كلبان) ... الحلوى التي كان الكبار يعطونا إياها يوم العيد ... سبع وخمسون سنة مرت، ومازلت كما انت يا جبان كولوبان ... لم تتغيري أبدا ... سأشتريك وأوزعك على الأطفال هنا ... سأوزعك كما يوزع بابانويل هداياه ... أكيد إن الأطفال هنا لايعرفونك ... لكنهم سيحبونك، لأنك (حلوى) وهم (أطفال)...)...
اشتريت العلبة، واشتريت معها قناع بابا نويل ... وضعته على رأسي وكلما أشاهد طفلا صغيرا ... أخرج من العلبة قطعة أمدها له، وأقول له جبان كلوبان وسنة سعيدة ... يبتسم الطفل ويجيبني: شكرا... فرغت العلبة قبل أن أغادر المركز التجاري ... ولم يعد هناك شيئ أوزعه.... يجب أن أذهب إلى إحدى المقاهي في محطة القطار، علني أجد أحدا أعرفه وأدعوه ليحتسي معي فنجان قهوة... وفي طريقي إلى المقهى، أرى شجرة عيد ميلاد كبيرة تصل السقف ومزينة بالأضواء... وحشدا من الناس على شكل دائرة وأسمع صوتا مرتفعا ينادي من يشتري ... إنه المزاد... استغربت لأول مرة أرى مزادا بمحطة القطار. اقتربت من الحلقة ودفعني الفضول أن أتوغل بين المتجمهرين لأرى ماذا يباع.
ملابس نسائية وأحذية للمشاهير في النرويج وصاحب المزاد يرفع صوته عاليا لكي يسمعه الجميع حاملا بيده ميكرفون وعيناه تبرقان بفرح العيد ... بفرح اقبال الناس عليه ... كل يريد أن يشتري من خصوصيات المشاهير، والنقود سيرصد لمساعدة الأطفال "هناك"....بدأ صوت البائع في المزاد يعلو وفي يده حذاء لإحدى الممثلات النرويجيات. حذاء جميل يليق بصاحبته... حذاء داس السرايا والقصور.... حذاء دخل أرقى الحفلات وشارك في أجمل المهرجانات... حذاء ينم عن أناقة صاحبته وغنجها. يتطلع البائع إلى الناس ... ثم يتطلع مرة أخرى إلى الحذاء يتغزل به وبصاحبته، و يضيف.... يا ما دخل هذا الحذاء قصر الملك، وربما حظي بدعسة من حذاء الملك..
ارتفعت الأسعار، كل يزيد في السعر إلى أن حظيت به امراة في الخمسينيات. ثم حمل بيده حذاء رجاليا وابتسم وهو يتطلع إلى الحذاء. حول نظره للحشد وابتسم ثم فتح فاه صارخا:
حذاء رئيس الوزراء.... من يشتري حذاء الرئيس... 500 كرونة ... يتطلع إلى الناس مرة أخرى ولكي يزيد في السعر قال: يا ما وقع الرئيس أهم القرارات وهو يلبس هذا الحذاء. نطق واحد من الجمهمور 600 كرونة، تطلع البائع مرة أخرى إلى أعين الناس يتفحص اهتمامهم، وأضاف : حذاء الرئيس... هذا لبسه عندما وقعت معاهدة أسلو... علت أصوات من هنا وهناك والأرقام تتطاير من شتى الجهات بتلك الحلقة: 750 كرونة.... 900 كرونة.... 1500 كرونة ... 2000 كرونة، ثم توقف الجمهور عن الكلام أما البائع فنظر مرة إلى الحذاء وقال: حذاء يدخل البرلمان كل يوم والقصر الملكي كل يوم خميس ... حذاء يعرف صاحبه السلام وينادي بالسلام ... توقف عن المدح ..... نطق واحد نرويجي: كم رقم الحذاء؟
أجاب المزادي: 42
وقال النرويجي 2000 كرونة
قفزت من مكاني صارخا ثلاثة ألاف كرونة.
بدأ الكل يتطلع إليّ و حماسي المفاجىء غير مبالية بأحد إلا بالحذاء ... دفعت الثمن ثم انصرفت وفي طريقي إلى بيتي كنت أتمعن في الحذاء. تطلعت إلى يميني وشمالي ... اختلس النظر إن كان أحد ينظر إلي... خلعت حذائي... لبست حذاء الرئيس... أحسست بزهو ... وبخطوات غير خطواتي... أمشي وكأني طائر على بساط الريح ... تخيلت حالي في قصر الملك أناقشه مشاكل الرعية... تخيلت حالي مدعوا في القصر، للاحتفاء بملك من الملوك غير المغضوب عليهم ولا من الضالين... تخيلت نفسي ... تخيلت نفسي أوقع معاهدات السلام من الشرق إلى الغرب ... أدعو إلى التحالف الإنساني... تخيلت نفسي أرقص مع ابنة الملك..
شعرت بنقمة عليك يا وطني .... أرى فيك بقايا عمري وأوهامي... عن شعب ينام حتى الصبح بسلام
آه عليك يا وطني ...! هناك المرء يمنع من الإقتراب من بيت الرئيس، والا يقاد بسلاسل من حديد ويرمى في سجون الصحراء للكلاب والعنقاء.... منعتني أرى رئيسي... لكنني هنا ألبس حذاءه، ضحكت عاليا وأنا مازلت أمشي.... في طريقي إلى بيتي، أخطو بزهو و في رجلي حذاء الرئيس....وكدت أن أهتف عاليا: بالروح بالدم نفديك يا حذاء الرئيس!!!. متذكرة هذا الهتاف الأبدي في أوطان العرب..نفس الهتاف ولكن بدون كلمة حذاء....
كريستيانيا
الطقس بارد والمدينة مغطاة برداء أبيض ناصع، يبرق بريقا جميلا مع أشعة الشمس. وقف (غريب) بأعلى منطقة ب(هولمن كولن). رفع عينيه إلى السماء يبحث عن غيمة أو سحابة أو ربما أمنية تتحدر عبر سماء من الحلم. سرح ببصره المحتار إلى فضاء المدينة. وجوه متعددة الألوان، بعضها تشع حيوية، أخرى ترتعش بجنون، وجوه هشمتها تجاعيد لزمن طويل من الغربة والأسى، للبعد عن الوطن ووجوه ممسوحة من الملامح ممسوخة لاتعرف هويتها.
من تلك التلة كان (غريب) يفترش قلقه المضطرب، على بساط الثلج، يجوب حذرا على أعقاب الزمن الذي أجهض أحلاما، ولوث رغبات. آمالا مزقتها انفجارات الوعود المبتل بالسراب وأخرى التهمتها أمواج سحبتها تيارات لتنتهي في بطون حيتان "الخلاص". نزلت قطرات شاحبة على وجنتي غريب اللتين أصابهما الجفاف. قطرات تحترق حسرة وترتعش بالجنون لذاكرة الماضي والحاضر الذين يجمعهما حضوره المدثر بالوجع القديم والخوف من الآتي. كان يلملم هدوء سكونه المفتعل في صمت، جاثيا وكأنه يصلي لحلم مخنوق، يبحث فيه عن سكينة تمسح عن روحه دموع المنفى وشرود العزلة القاتلة. تطلع إليها والحزن يرشفه، تصنع ابتسامة تفضح استياءه المتراخي على جسده المثقل بلا شيء . أحس أنها تعيش فيه كل يوم ويعيش فيها. تسجنه بسحرها الغامض. هي كريستيانيا التي أوقعت الكثيرين في حبها وتضاربت آراء عشاقها بالمد والجزر، هناك من ذاب في كأس ثمالة عشقها فرمى حقيبة الماضي بكل ما فيها من متاع وآخر أحبها بصدق فأعاد بها اختلاق نفسه. آخر أحبها بأنانية لم يكن يريد إلا إشباع غرائزه التي كانت مقموعة في زمن ومكان، فانتهت خطواته متسكعة بتثاقل في شارع الفشل. آخر أحبها كبديلة تنسيه الحب القديم الفاشل فصار يرثي الحب الأول الذي اغتاله الظلم هناك وأبعدته المسافات، وأصبح يصب جام غضبه على كريستيانيا التي احتوته دون تفكير ولا ميعاد، لتطوي الأيام سنين حياته معها فيتركها فجأة ويختفي من حيث أتى يوما مقطوعا شريدا، ليرجع مرة أخرى إليها مرغما نادما نافرا من ذلك الماضي الذي لم يتحرك. تذكر غريب كل شيء وهو واقف في تلك التلة، بين الأشجار ينظر إليها ولا يعرف إن كان سيوصل رسالته إليها وهو الذي حاول كغيره الوصول إلى قلبها. يحاول أن يكشف لها عن شيء، أن يصور لها إحساسه بصدق، عن ذلك العصفور الجريح الذي جاء طائرا لها يوما تاركا عشه الذي لم يعد يأويه بعد أن هشمته الصقور. صمت هنيهة دون تفكير وكأنه جسد بلا روح أو روح بلا جسد. أتعبه المشي مرغما عبر مسافات الترحال بلا أمل للوصول إليها رغم أنه معها الآن وفي هذه اللحظة بالذات واقف على التلة بين الكون والوجود وثرثرة الرياح. يمدّ يديه إليها لتفتح له المغلق، ليعرف المجهول. ينجلي طيفها أمامه بوضوح، تقترب من بعثرته فوق الثلوج، تضمه كما العادة بكل رفق وحنان. يشعر بحرارة يديها التي تنبضان بالحب عبر المدى. أما هو فترك رأسه ساكنا على صدرها يبكي الغياب والحضور، ولوم وعتاب يعانقان ظمأ الشوق في جنة الجرح ليضمد ما تبقى من أمل.
ما أروعك يا كريستيانيا وما أجملك! قد تظنين أنني أجاملك لكن، هكذا تراك عيني. لم أحبك أول لقائي بك. كنت باردة جدا وبرودك كان يشل جسدي ويجمد روحي. لكن، مع مرور السنين وعشرتك وجدت نفسي أحبك يوما بعد يوم. بقدر ما أفهم لغتك أشعر بالانجذاب إليك أكثر وصرت لا أستطيع الإستغناء عنك. كريستيانيا، لا أحب في الدنيا سواك. أنت عروسي وملاكي، قمري وشمسي. أحببتك بدون وعود ولا قيود، أشعر معك بالوجود، بالحرية، بالصدق، بالود. لا أبالي ما سيقولون عني وعنك ولا تهزني الظنون. مازال رأسه ساكنا في تجويف صدرها يتكلم كمن يهدي. وجدت فيك حضنا وقلبا كبيرا وجدت نفسي فيك وأورقت روحي التي كانت مكبلة يوما ولساني الذي كان يوما مقطوعا انطلق فصاحة. ظلت صامتة، قطب غريب، لم يعجبه ذلك السكون المتصدع يتهاوى على نزيف ألمه. اسمعي كريستيانيا كم كنت أظن أن حلمي سيتححق معك بوقوفك بجانبي، بتشجيعي وكنت أظن أننا سنبني معا أسرة تنشأ على المحبة. احترام عاداتك ولغتك وفكرك ونظرتك للحياة واحترام عاداتي وقناعاتي. كنت أعتقد أن روحينا ستنصهر ببعضها وتذوب في سماء الحب. لكن، أحسك وكأنك تنفرين مني أحيانا. لماذا؟ ألم تسألي نفسك يوما لو لم أحبك وارتاح إليك لما كنت هنا معك؟ ألم يقل لك ضميرك أن سفينتي تعبت من الإبحار ومصارعة الأمواج الكاسرة على كل الجهات.!!
دمعت عيني غريب ورغم تلك القطرات التي اندرفت على خديه ابتسم وكأنه يلتمس منها عذرا لأنانيتها، مدركا أهمية الهدوء الذي يشع مشاعرا مجنونة. يتأملها كأنه يصلي في خشوع أو يبحر في دعاء. التزم الصمت هنيهة، محاولا فك العقد التي تتمايل في عقله. ألست أنا الذي أحببت كريستيانيا ...؟! ألست أنا الذي لجأت إليها لتضمني إلى صدرها؟ لقد أحببت واحدة قبلها سابقا، ومن أحببت كانت العلاقة بيني وبينها مبنية على الإرتباط بالإنتماء. تعلمت أن أحبها منذ طفولتي وتعلمت أن أخلص لها وأن أعشقها وأضحي من أجلها. كلامنا ولغتنا واحدة. إلا أن كلانا يسبح في فضاء خاص به. أما كريستانيا فإنني أرى فيها وداعة شفافة ووفاء أبيض. كريستيانيا احتوتني بينما الأولى طردتني وكريستانيا وهبتني السلام بينما الأولى شنت حربا في روحي وفي عقلي. كريستيانيا وهبتني الأمان بينما الأولى وهبتني الغدر وعدم الإطمئنان. آه يا كريستيانيا! لا أطلب منك شيئا إلا أن تفهمينني. قهقه عاليا في ذلك الفضاء والدموع تدرف من غير توقف.
أما هي فكانت هادئة غامضة يغريها ذلك الصمت المفعم بالتأمل والإنصات الحالم إليه وكأنها تكتشف أعماقه. إسمعي كريستيانيا، سئمت إبحار سفينتي مصارعا أمواج بحرك، أتمايل بين تياراتي وتياراتك، أيجب أن أنسلخ عن ذاتي لكي ترضي عني؟! أقول لك صراحة أنا أنا !! لن أكون مثلك ولن تكونين أنت مثلي، لكن، لم لا نتعايش في وئام؟ هل أنا مخطئ نحوك حين يستعصي علي فهمك؟ أحسك تغضبين مني لأنك لا تريدين فهمي. تعالي كريستيانيا ، ضعي يديك في يدي ولنأخذ من بعضنا الجمال فقط لأن غير الجمال ليس من شيمتك ولا من شيمتي، إلا أن القدر هو الذي يلعب فينا.
أحس بحنانك اتجاهي. نعم وإلا ما حضنتني بذراعيك وآويتني بحبك. قلبك كبير أعرف ذلك وحبي كبير حاولي أن تلمسيه. هب نسيم بارد بذلك الفضاء. ارتعش غريب و انكمش على نفسه محاولا تدفئته، يمسح رذاذ الثلج من على وجهه.
ما أجمل بياضك الناصع وما أجمل برودك! أصبحت أحسه دفئا، أتصدقين؟
سمع حفيف الأشجار وصوت كالصدى،الجمال والحب موجودان لكن، كل ينظرهما بطريقته. نعم، كل منا يراهما بطريقته. لقد تعبت روحي بحثا عليهما يا كريستيانيا. اكتشفت بعضا منهما فيك ومازلت أحاول إكتشافه كله. من ناحيتي أحاول جهدي ولا تظنين أنني لا أفعل. ربما سيأخذ الأمر شيئا من الوقت. إن لم نستطع فأبناؤنا قد يحققون ما لم نستطع نحن تحقيقه، أليس كذلك؟ لكن، أقول لك شيئا واحدا فقط، بداخلي ألم وحزن قديمان، أحاول التخلص منهما باحتضانك بكلتا يدي، ألم راسخ أبى الزمان أن يمحوه كما أبى عقلي النسيان. أضغط على نفسي، أحاول التغلب عليه، أمثل الفرح وأتصنع الضحك. أضحك، أقهقه يصيبني هيستيريا الضحك إلى درجة الجنون، أستمر ضاحكا، يتحول ضحكي إلى بكاء.
هل ينفع الكذب على النفس يا كريستانيا ؟ وإن نفع هل يمكن لنا تصديقه ؟
لكن، أرى النور مشتعلا على طول الطريق، رغم الظلام ورغم السحاب.

الصقر المتوحش
منذ صغري وأنا ساخط على الوضع … ساخط على الأفكار التي تتطاير من حولي وتؤذي ألعابي وممتلكاتي. منذ نعومة الطفولة وأنا أحس أن مكاني ليس هناك ولا أعرف أين. أذكر أنني كنت أضحك كثيرا … ساخرا على الهواء والسماء، ناقما على الرياح، حاقدا على العبرات. عبر، حكم، قيم، مثل، علم، إلا أنني كنت أشم التخلف والكبت. لا أعرف لماذا أنا بالذات أرى وأشعر وأحس، والباقي لا شعور له ولا إحساس. هل لأنني أختلف عن كل من حولي أو فقط أنفي الذي كانت حاسته قوية جدا. كان أخي يقول لي" ذا الانف الكبير" وبكثرة ما كنت أفكر وقعت كل خصلات شعري فلم تعد في رأسي إلا شعيرات يمكن للمرء أن يعدهم. نعم، هذه حقيقتي، حقيقة طفولتي. صدق أو لا تصدق. فأنا غير كل الأطفال، أختلف عن الكبار وناقم على الماضي والحاضر، متنبأ أحداث المستقبل. أخبرت عشيرتي عن علمي للأمور، فأخذوني على الصلب، لكن قدرة الخالق أحضرتني إلى النرويج. نعم، جاءت لجنة من أناس ذو عيون زرقاء وشعر أشقر، بياضهم ناصع فاقع، أخذوني في مركبة طائرة وحلقوا بي عاليا في السماء. مازلت تحت صدمة ذلك الصليب، أنظر من نافدة تلك الكوكبة الطائرة وفيما أرتب جزعي رأيتهم يلوحون بالعصي، تلك العصي كانت ستمزق أوصالي، كنت أحس فرحا عميقا بداخلهم تخلصوا من " نبي مزيف"، وأنا تخلصت من بلدتي الشاحبة الصدى ومن مخلوقات على شاكلة البشر وما هم ببشر. ها قد نزلت المركبة الفضائية في أسلو، في النرويج، لم أسمع بهذه البلدة قبل ولا بالدول السكندنافية. بل لم أكن أعرف أن هناك عالما آخر وأناسا آخرون غير شعبي. كنت أعتقد أن الأرض والحياة خلقت لي ولشعبي فقط إلا أنني الآن أصطدم بعالم آخر وشعب وعرق وثقافة أخرى، ولأنني أختلف عن شعبي تأقلمت وصرت واحدا من أهل البلد إلا أنني لست منهم.
تزوجت (فيجديس)، كانت جميلة ذلك الجمال الغاوي الذي يفرح به كل رجل من شعبي ، بياضا وطولا وشقارا، سبحان خالقها الذي أتم جمالها. مثقفة ذات فكر ووعي مثلي لكنها تريدني أن أقف معها في المطبخ وأساعدها. الله أكبر! صعقة نزلت على رأسي فذمته. أنا الرجل، أدخل إلى المطبخ؟! هذا ما تبقى أي مساواة هذه رجل في المطبخ! هذا ما كنت لأفهمه، طلقتها ولأنني أكره نساء بلدي السمينات، المعلوفات تزوجت (كريستيانيا) هيفاء، غراء كالقمر، طويلة كالنعامة، ناعمة كالفراشة وديعة كالحمل. لم تكن مثقفة ك(فيجديس) ولكنها تحب عمل البيت. حملت فطرت فرحا سأصير أبا لطفل سيكون ذكيا ،مفكرا، فيلسوفا مثلي وجميلا مثل أمه، هذا السعد كله. أنجبت ( كريستيانيا) طفلا ويا لخيبتي جميلا مثلي ومفكرا مثل أمه. بعد ست سنوات أصيب طفلنا بحمى فسافر إلى ربه . تأثرت زوجتي فأصبحت تدخن طلقتها . كيف أقبل امرأة تدخن كالرجل. ليست عندنا امرأة تدخن. تزوجت (بريت) تحب الفكر مثلي وتحب أيضا عمل البيت. وكانت أيضا جميلة. يكفي انها نرويجية. كان الحظ حليفي. امرأة تعمل داخل البيت وخارجه، لنا نفس الأفكار تقريبا ونفس الإهتمامات. عندما تأتي من العمل تدخل إلى المطبخ وتهيء الأكل وقبل أن تذهب للعمل ترتب البيت وتنظفه. امرأة بكل الكلمة من معنى. كل الأنوثة متوفرة فيها. تشبه أمي في تضحيتها لزوجها رغم أن أبي تزوج عليها. أنا لن أتزوج على (بريت) حتى وإن أردت لا استطيع في هذا البلد، ممنوع تعدد الزوجات.
لست كغيري لكي اتزوج على زوجتي. لكن من يفهمني؟! كم سعدت معها، كنت معها الرجل صارما ، صلبا وكانت هي المرأة الحنونة. أنا الآمر الناهي وهي المطيعة. كانت رائعة في أوج الذكاء إلا أن لها معجبين في العمل وهذا شيء لا يسكت عنه. هددتها بالطلاق فأجابت: ولماذا أنت لديك معجبات وزميلات وصديقات؟ هل اعترضت مرّة على ذلك؟ إنه حقك الطبيعي مادامت العلاقة مبينية على الإحترام؟
احترام! عليك أن تفهمي أنا الرجل ويحق لي أن أفعل ما أريد. هل فهمت؟
ضحكت ضحكة هيستيرية والدموع تسيل من عينيها، وقبل أن تفرغ من ضحكتها طلقتها. ولم لا؟ في بلدي ليست عندنا نساء على شاكلتها. وأخيرا لم أعد أطيق خلقتهن. تعبت من غنجهن وجبروتهن على الرجل. هذه العدوى التي ترعرعت في عقولهن فاصبحن كالصقر المتوحش. أنا لا أريد صقرا متوحشا. أنا أريد حملا وديعا، غزالة مدللة، أريد امرأة قوية، تتحمل عناء البيت والعمل كالبغل. أريد امرأة أليفة كالقط مطيعة وفية كالكلب. مازال تحت صدمة خيباته مع صقوره حتى قفز من أريكته التي كانت مليئة بالأوراق والكتب والجرائد وفتات الخبز. وجدتها، ابنة عمي (زهورة) هي التي فيها أغلب الصفات التي أريدها. نعم، إلى متى سأظل أبحث عن السراب والأوهام؟ أريد الحقيقة والواقع…
جاءت " الحقيقة" ابنة عمي ، تزوجتها فعشت واقعا ووقائع ليس لها مثيل. انتهى شهر العسل ولم يبق بيننا إلا شهورا وسنينا من البصل. شجار دائم، كل شيء لا يعجبها. كرهت الطقس وكرهت زميلاتي اللواتي اتعامل معهن. غيرتها فاقت الغيرة نفسها. بدأت تدرس لكي تظهر لي أنها ليست أقل منهن في العقل وتركت واجباتها الزوجية قصدا. طار عقلي، لم أعد أستطع تحمل تصرفات ليست من عادات نساءنا. هذه التصرفات التي تكون سببا قاطعا لضرب المرأة حتى ترجع إلى الصواب. لكن أنا المفكر، انا الفيلسوف. ليس اسلوبي الضرب أو القمع. ناديتها، جلست تحذق إلي بعينين مليئتين بالكره والنفور مني، أمسكت يدها.
حبيبتي، كنت ترويني بحبك وتغذيني أكل أمي. كنت عربيتي وعروبتي النادرة. كنت ذلك الوجه الدافئ في شتائي ، كنت عبقا وأريجا وشهدا، كنت ذلك الجواد الأصيل، ذلك الغزال الرشيق. من غيّرك يا ( يا زهورة) هل غيرتك نساء هذا البلد فصرت جافة كالصحراء، هائجة كالبحر باردة كالصقيع متجمدة كالثلج؟ أهذا فقط ما تعلمت منهن؟
أنت الذي تهلل بهن صباح مساء وتسبح بهن الليل والنهار وفي السر والعلن، يا من لا يحب إلا نفسه، يا من يجهل ما يريد، .يا طاووس نفسك ومفكر في جهلك وأستاذ على نفسك، أناني في طبعك .
صعق الزوج المفكر، فهو لم يسمع إهانات من سابقاتها، يسمعها من ابنة عمه. احمر وجهه المستدير ووقفت شعيرات رأسه القليلة ثم فتح فاه.
ليس لي كلام معك يا ناكرة الخير. أنت طالق وغدا على بلدتك. هناك مكانك تحت حر الشمس وفي قيظ الجهل ومجد التخلف وليس هنا في النرويج .
لا يا حبيبي مكاني هنا مع ابني الذي سيأتي قريبا وأنا من سأخلعك من حياتي يا من جعل من نفسه إله نفسه.
غادرت (زهورة) الشقة، تركته وحيدا وفمه مفتوحا، هل يلعن نفسه أم يرثيها؟ لملم روعه، انتشر في صخب شوارع أسلو، ينظر إلى المارة من النساء، محتجبات، متبرجات، عربيات، نرويجيات ، مسلمات، مسيحيات، هندوسيات ، بوذيات، يتطلع إليهن بتقزز، حاملا أمتعته من الكره، تدحرجه الصعود إلى لقاء الأرصفة، يثرثر مع نفسه،.يتأملهن، .يصرخ من فزعه وشجونه وأحلامه التي تهاوت فلم يعد للمفكر أملا في الزواج لا من شرقية ولا غربية. حزن لحظّه المشئوم معهن فعزم على أن يستغل فكره عله يخفف ذلك الحقد الذي يأكل أحشاءه . فما عادت له سيرة ولا فكر إلا نقد النساء ودمهن.

الأسود الناصع
ضاق العالم في عينيهابعد فشل حبها، فلم تعد تجرؤ على كسر الأبواب. حائرةٌ تحوم بتفكيرها حول حبها الضائع. أصبحت كالسكران تسكنه رياح تأخذه إلى جهة غير مكتشفة بعد. وحيدة لا تجد من تتوجه إليه بحزنهاا. تبكي شمسها التي غابت سريعا كلحظات شروقها ، وتنوح قمرها المعتل الذي تسمّر برمح نحيبها إلى سقف السماء. فؤادُها مكسرُُ... عيونها حبيسة ...فما من متنفس حتى في البكاء. حول مائدة بزاوية الديسكو كانت تجلس تحت ضوء احمر خافت جدا، تحوم بعينيها حول الوجوه السمراء التي تحتسي البيرة. كانوا ينظرون إليها بشهوة ونهم. إقترب منها أحدهم وبدأ يرقُص على نغم المطرب (يوسو ندور). أطرافُ جسمه تتمايلُ برشاقة بالغة مع الموسيقى. درجة الحرارةِ الكامنة بداخل صدرها تتجاوز بكثير درجة الحرارة عند منتصف أغسطس بالسينيجال. كادت عيناهُ تنزلقانِ عن جمجمته. يتأملُ عينيها التي تشبه عين الأيل القطبي وشعرَها الأشقرَ الكثيفَ الناعمَ كفرو الدب الأبيض. ينظر إلى ذلك الجسم الإسكيندينافي الممشوق الملتف حول قميص حريري وعينيه سفينة أحلام ...تجذبه مسافة قربها ... احمرار خدودها وزرقة عينيها ونهداها اللذان يشعان دفئا ولذة... يتبع بنظراته تلك اليدين الناعمتين التي تحمل إحداهما كأسا من البيرة.يتأمل العينين الحزينتين اللتين فتحتا له أبواب الشوق ، فانسكب ضياء ولعه في وهج الضحى وفي نسيم الفجر البديع بالبهاء ... أشرقت الحياة في عينيه وتفتحت كل الورود.
أقبلت عليه العصافيرتغرد مهنئة بحبه الموعود القريب ....تغرد ناطقة غناء بلا انتهاء لعشقه الذي يذوي الفؤاد ... لوجه بديع صبيح ...لقد احببتك للتو وفي الحين ... سألتجأ إليك وانتهي إليك ...أحس أني سأولد من جديد على ساعديك ... وأدخل قلبك ... أتربع على عرشه ... أرثه طيلة حياتي معك وأورثه لثمرات حبنا سأسرق القصيدة من مقلتيك واجعلها دستور عشنا الذي لن تهزه ريح عاتية ... فالهوى الذي في فؤادي لك فوق المعاني وفوق البيان ...
ابتسم لها وتقدّمَ ببطء نحوها. سأدخل لأول مرة في عاصفة الهوى ... سأخلع عن جسدي تعب البطالة وعن وجنتيَ شحوبَ الفقر. إنه السعدُ آت قريب. وجه عليه زهور القمر يطل علي، أرحب به عند ماء الأنهار ومنحدرات الشلالات ... وأغذي من حمرة خدَّيها روحي وأقطن في قلب ذاك البهاء. تطلعت إليه ... خجلت ... ابتسمت ... أطرقت عينيها اللتين ما فتئت تتألقان وترتبكان. أصبحت ملكتي يا ملكة الحسن والدلال. وقف أمامها ... سلم وعرف بنفسه ثم جلس بجانبها من غير أن يستأذنها.
- أنت الليلة ضيفتي.
كانت هي سعيدةُ ، وكان هو يحلم بين الهوى والسفر. هل تغادره وترحل عنه؟ لا مستحيل .. لن أدعها تجرحَ قلبي ... سبحان خالقِها الذي أتمَّ جمالها ... تنتعش في أجزاء الروح وتسري إلى أقصى الجسد. أمسك يدها. عضت ابتسامتَها بشفتيها... تمشي بارتباك إلى حلبة الرقص ... تتعثر ... تتغنج وخصرها كنهر ميال. عيون شديدة البياض تشع بريقا من تلك الوجوه السمراء . يصفقون وهي ومضيفها يتمايلان مع موسيقى الزولو. تلامست روحاهما فانصهرت ممتزجة ببعضها مشكلة قلبا وروحا واحدة. سافرا معا إلى بلدها، تزوجا وسكنا في عش يزهران فيه معا. رغبتهما دون حد، يسبحان معا في أودية عذبة تتمازج فيها الحقيقة والخيال.
زوجة جميلة ... أنيقة ... همسها دلال ... نظراتها مليئة بكل حنان ... تجمع كل ما في الأنثى من جمال فتان ... منفتحة على الأفكار ...متحررة من كل القيود والمعاني ...تٌسكِر بنغم نبرتها ... كل صباح تصحو عليه بالأحضان ... وهو يستلهم فرحا و شكرا لحياتهما الرغدة بالحب والمليئة بالإطمئنان ... كل ليلة يسافر بضم جسدها وفي كل صباح يستيقظ سعيدا ممددا عمره بالحب والحنان ...
مضت سنة واشتغل (ماغاسوبا) وكانت هي في إجازة الولادة. العمل دينه والجد عقيدته ومساعدة حبيبته في أشغال البيت ورعاية الطفل عبادته.
رن جرس الهاتف.
- وينكي ماغاسوبا.
- صار اسمك ماغاسوبا. نسيتيني ونسيت أيامَنا.
- أي أيام يا (طوماس)... ؟ أيام الغيرة اللامتناهية ومكائدك التي كانت تلاحقني لاهثة ...؟!
- كفى يا( فينكي) ... لا تكملي. ما حدث قد حدث. إنني أحببتك ومازلت.
- عن أي حب تتحدث ... عن أي نجم تغني ... لقد كنت أشدَّ حصانةً علي من نفسي ... أنا التي كنت أسوي هيأتي في مرايا حصارك وأزيد من جمالي للفوز بك وما كنت إلا طاغوتا في حياتي. كم حاولت أن أدخل إلى أعماق قلبك وأتبين ملامح وجهك ... لأني
كنت أعتقد أنك لي ... لكنني ما كنت أرى شيئا ... أجهل تفاصيل روحك ... شعور بالخوف يخالجني من عتمة طيفك ومن المجهول في حياتي معك وكل يوم كانت روحي تتآكل وتتضاءل... في داخلي وحش لطالما أحس بجوع إلى الأمان والإطمئنان معك ... وحش جريح يتألم من جرح ينزف مستعص شفاؤه فخارت قواه واختفى صوته وانينه، فبات يعدّ انفاسه الأخيرة على شللِ ِ تسلّل إلى جسده وخوف فطري يلبسه ...
- لا .. لا تقولي ذلك. لقد أصبح كل شيء هادئاً بعدك ... الفصول تزحف ببطء على روحي المعذبة لافتقادك وتزيدها ألما عندما يتوقف زحفها عند فصل الشتاء.
أنا فارسك الأول والأخير يا (فينكي) ... حبيبتي أعدك بتحقيق ما تريدينه مني حتى المستحيل ... أعدك بفستان أبيض طويل .... سئمت المشي في الطريق وحدي ... أبحث عنك ... لا أريد إلا أن أضع رأسي على نهديك وأطلق عنان بكائي كطفل صغير على ما سببته لك من أذى ... رغم شراستي وغلظتي كنت تلك اليد الناعمة البضة التي تمسك بي دائما حتى لا أهوي في حفر زلاتي ... تعالي نبدأ حياتنا وننسى الهموم وننسى الكدر .... دعيني احملك فوق ظهر عشقي وأطفو بك وأسبح بين مرتفعات أمواج حبي لك يا ملاكي ...
- كنت أحلم بك في ثورتي وسكوني. أحلم بك في كل الفصول. تركتني وحيدة كشجرة ترتجف في أرض جرداء.
- لننس الماضي، عودي إلي يا حبيبتي.
- بعد أن أصبحت أما...!؟
أحسَّ بأمل مستحيل اجتاحه ... يقضم أضافر أنامله ... تسيل دما ... ترتجف تلك الأصابع ... انينها لم يكن مسموعا في تلك اللحظة ....الوصول إليها مستحيل ... فكيف باسترجاع قلبها .. ملأت العتمة أوردته ... أنين يفيض من قلب سقيم بحبها ... لم يستطع أن يلملم جراح صمته التي تضاعفت بسبب بعدها... انفجر صارخا ... كاد صوته يخزق طبلة أذنها ... يهدر كالمجنون ... يحاول أن يبكي ....فيخرج صوته مختنقا .... يتمايل وسط حزنه وحسرته ... يضحك ضحكا كالبكا.....
- لقد أخذك مني الأسود اللعين وتركني أرتعش وأبكي وألفظ اسمك في كل دقة من دقات قلبي. خطفك مني وتركني غبارا تثيره تسكعاتي الفزعة، أبلع صرختي المرتدة بلطمة اليأس فتقف في حنجرتي كالشوكة. اسمعي نصيحتي. ارمي الطفل لأبيه، إنهم فصيلة السواد والتخلف ، ولنبدأ حياتنا من جديد.
- أنت من حول راحتي لعذاب ... وسحبت صوتي فأصبح يصرخ ولا يتكلم ....سلبت مني كل شيء جميل ... هجرتني من غير وداع ... كم من مرة سافرت من غير إذن، وكان هجرك دائما يباغتني مسجلا طعنة في قلبي فيذوب متوجعا ... يا من ترك قلبي كله جراح ... لا والله أنت السواد المظلم والرماد المندثر ... أنت المستنقع الذي يغط في قيلولة من جحيم. أما الأسود الذي تتكلم عنه فقد عرفني على الجانب الأبيض من الحياة...إنه الأسود الناصع...وأقفلت سماعة الهاتف.
هذا البلد وطني
الأجانب .... مأوى العجزة ... هلمليا .... هذا البلد وطني !
سكون رهيب في منطقة (هلمليا) ما عدا حبيبات ثلج بيضاء تتساقط من السماء ، وضوء الفجر يقترب ببطء مودعا بصمت ذلك الليل الشتوي من شهر فبراير. الأرض مكسوة ببياض ناصع حالم، والبيوت النرويجية الجميلة مازالت مرتديةَ كساءها الثلجي، غارقة في سباتها، ترى أضواءها بداخلها خافتة جدا. استيقظت (جمانة) بتثاقل من سريرها الدافء ، استحمت ولبست ملابسها في عجالة وأسرعت إلى موقف الحافلة. برد قارس . خليط من بياض الثلج ورمادية السماء المائل لونها إلى السواد يثير في النفس دهشة ووحشة. سكون ذلك الطقس البارد المبكر يسرب إلى نفسك أطيافا من الرهبة والوحدة ويجعل النفس تنزوي إلى ذاتها...
نظرت (جمانة) إلى ساعة معصمها الجلدية وبطرف كم المعطف أزالت عنها الثلج... لا يزال أمامها متسع من الوقت حتى يحين موعد الحافلة . تحدّق ببصرها صوب شقق جاراتها ... تضحك بامتعاض : لا أستطيع استيعابهن ولا فهمهن، كما لا أفهم كيف يعشن من غير عمل، إلا على ذلك الدخل الزهيد من الضمان الإجتماعي. ترى بعضهن وكأنهن زوجات رجال أعمال، مثقلاث بحلي تكون مصدر فخر وتيه على بعضهن وكل واحدة تتغنى بأمجاد وغنى مركز أهلها في البلد التي قدمت منه. يذهبن إلى المدرسة ثلاثة أيام في الأسبوع ليدرسن اللغة النرويجية خمس ساعات في اليوم ... وكأنها خمس سنوات في السجن ...
لا أستطيع أن أفهم شيئا ... (هداية) تقول لي لو كان لي الإختيار بين الذهاب إلى المدرسة أو أن يأخذ عزرائيل روحي لفضلت عزرائيل على المدرسة، لولا أصحاب الضمان الإجتماعي الذين فرضوا علينا الذهاب إلى المدرسة وإلا يقطعون عنا المساعدة. و(علية) عندما سألتها ابنتها: - ماما أريد أن أشتغل في مستشفى المسنين في نهاية الأسبوع هكذا أشتري ما أحتاجه.
انفجرت فيها أمها غاضبة والشرر يقدح من عينيها:
- ما هذا ... أنت ...؟! تشتغلين في تغيير الحفاظات ..! هذا جنون ...! هذا مستحيل ...!
- ماما كل البنات اللواتي يدرسن معي في الجامعة يشتغلن في ساعات فراغهن. العمل ليس عيبا وإنما تجربة في الحياة وفي نفس الوقت يعتمد الإنسان على ذاته ... إن النقود التي تعطيني إياها لا تكفي لشراء ما أحتاجه من أشياء خاصة ...
- خاصة ...!؟؟ ماذا تريدين ...؟ عندك كل شيء ... العطر والماكياج والملابس الفاخرة ... كل شيء نوفره لك ...
- ماما أريد أن أشتغل ....
- على جثتي يا (مرام) ... على جثتي ..... ما دمت حية لن تعملي في مستشفى المسننين ثم نظرت إلى (جمانة) وأضافت: هذا العمل المقرف الذي يقدمونه لنا نحن الأجانب في طبق من فضة. أرأيت يا (جمانة) بنات اليوم ....؟! لقد تعلمن من هذه (النرويج) الإستقلالية العمياء وعدم احترام الوالدين.
نظرت (مرام) إلى أمها وعيناها مغرورقتان بالدموع ثم انصرفت إلى غرفتها. لم تحتمل (جمانة) ذلك المشهد الهزلي ... المبكي ... شعرت بالخزي على حال الأجانب ... بالعار ... يداها باردتان ترتعشان ... أشعلت سيجارة بعصبية تدخنها ... تعض على عقبها كأنها تنتقم منها... صامتة وفي داخلها صراخ كالرعود. ماذا سأقول ... ومع من سأتحدث ... من سيفهمني .... الصمت أجدر في هذه المواقف. نظرت إليها (علية) وقالت:
- لماذا أنت عصبية؟ هل لأنك تشتغلين في مستشفى المسنين ...؟ اسمعي يا (جمانة) انا اعرف أن العمل ليس عيبا وأنا أعرف ...
- ماذا تعرفين ... ماذا تعلمين ... إنك لا تفقهين شيئا يا (علية) ... هل تعتقدين أني استحي من عملي في مستشفى المسنين ... لا والله بالعكس ... افتخر به لأنه عمل شريف نزيه وإنساني ... نقودي آتي بها من عرق جبيني ورأسي مرفوع. إنني أفضل تغيير الحفاضات عن أن أقف في مكتب الضمان الإجتماعي وأتوسل النقود وأنا في كامل الصحة والعافية وبمقدوري أن أشتغل. العمل في نظرك ليس عيبا بالنسبة لي .. لكنه عندما يتعلق الأمر بابنتك فهو عيب. لا أفهمكن أيتها الجارات المحترمات. (صبية) تفتخر وتتغنى بالماضي وبوالديها الميسورين في بلدها ... و(رقية) تفتخر بأصلها ونسبها ويسر اهلها بالبلد التي قدمت منه .... فلماذا جئتن إذا إلى هذا البلد وأحوالكن ميسورة هناك ... لماذا فضلتن مغادرة الوطن والأهل والأحباب والثراء وجئتن إلى بلد الثلج ... بلد الغربة ... إسمعي يا (علية)، سامحيني أقولها لك صراحة:
إن كنت سألوم أو أكره أحدا فأنت من سأكره وأمثالك ... ماذا أعطاك بلدك ماذا وفر لك أيتها الأميرة الحسناء ...؟ بالله عليك أخبريني .... أعطاك فقرا وجوعا وقمعا ... تعرفين لماذا؟ لأنكم لا تمشون إلا على هذا النحو. آه كم كنت مسكونة بالشوق والحنين يملأ قلبي إلى بلدي لكن بكائي وألمي عليه كان أعظم... تفصل بيني وبينه المسافات والحقب، آه أحس الأسى يقتلني والحسرة تأكل قلبي على وطني. الشعب المتعلم والمنتج لا يرضى الجهل وحياة مبنية على اللصوصية ... نحن يا (علية) لصوص ويملك أمرنا لصوص، قدمنا هنا متأففين ... ناقمين ... وعوض أن نسلك حياة إنسانية طبيعية ونستغل الفرص الخيالية من تعليم وعمل أصبحنا نمارس مهنة اللصوصية لأن اللصوصية تجري في دمنا ... نقعد في البيوت... ونتسكع في شوارع أوسلو كل يوم ونشتري بنقود قدمت لنا مساعدة بسبب عدم تأهيلنا أو تقاعسنا وتهربنا من العمل والمسؤولية، ثم نلوم أهل البلد ونتهمهم بالجهل والعنصرية. من العنصري والمتخلف يا علية .. نحن أم هم؟ كيف ستشتغلين مادمت أنت وصبية وفتية ورقية وسعدية وفتحية وهنية تفضلن أن يأخذ عزرائيل أرواحكن على أن تذهبن إلى المدرسة. هل تريدين أنت وحضرة جناب من مثلك أن تشتغلن في البرلمان أو في الشركات ... إشرحي لي هذا بربك وأنت لا تعرفين حتى أن تملي استمارة بخطك. والله أنتن السبب في كل ما يحصل في هذا البلد من تفرقة وعنصرية بين الشعبين النرويجي والأجنبي ...
مازالت (جمانة) تتذكر حوارها مع جاراتها حتى توقفت الحافلة. فتح السائق الباب وهو يضحك بصوت مرتفع. دخلت (جمانة) بسرعة لتتخلص من ذلك الصقيع، وقالت بعصبية:
- لماذا تضحك؟
فأجاب ضاحكا:
- أضحك عليك...
جحظت عينيها
- هل رأيتني أمشي عارية كالمجنون؟
- لا معاد الله! فقط كنت أبصرك وأنت تحركين يديك بانفعال وكأنك تتشاجرين مع أحد.
- صحيح والله! فعلا كنت أتشاجر...
- تتشاجرين مع من؟
- مع جاراتي المحترمات ... نساء الحسن والدلال والخلق المصان ...
بحلق عينيه ... توقف عن الضحك ... وقال بجدية مع شيئ من التحفظ والحزن على حالي:
- لم أر أحدا معك ....أمام محطة الحافلة ...
كان يظن أنني فقدت عقلي أو في طريقي إلى ذلك ... ولم لا فمرحبا بالجنون على أن أعيش مع أناس يدعون الذكاء والحكمة لكن دماغهم كبير في الحجم فقط كدماغ الحمار. نظرت إليه مبتسمة:
- لا تخف أنا لست مجنونة وإنما من حولي هم المجانين ...
ثم رويت له أسرار جنونها وتعاستها.
بعدها علا ضحكه مرة ثانية وقال:
- ما اسمك ..
- إسمي (جمانة) ... لا ينفع الحزن على مثل هؤلاء ... ثم أنك لايجب أن تكوني قاسية هكذا على الأجانب .. ليسوا كلهم حثالة كما تتدعين ... كما أن مثل هؤلاء الذين تتحدثين عنهم هم ضحايا التخلف الذي حملوه معهم من هناك ... أنظري وراءك ...وشاهدي من في الحافلة في هذا الصباح الباكر ... صباح يوم الأحد ... إسألي نفسك إلى أين هم ذاهبون ... إنهم مثلك ومثلي ... ذاهبون إلى العمل ... أنظري جيدا ...
- نعم ... نعم ... أعرفهم ... إنهم جيراني ...
- أرأيت؟ أكثر من خمسة وثلاثين راكبا، كلهم أجانب، استيقظوا باكرا مثلك متجهين إلى العمل. كانت تنظر إليه متأملة طريقة حديثه واستيعابه للأمور ... فتحت فمها صارخة:
- لا ... لا ... لا أصدق! أهذا أنت؟ مستحيل ... إنه أنت ... أليس كذلك؟
نظر إليها والضحكة لم تفارقه، مظهرة أسنانه البيضاء، مصطفة بانتظام، ناصعة كالثلج على ذلك الوجه الأسمر الداكن.
- مابك ... وما الأمر ...؟
- نعم ... نعم ... أتذكر ... أنت السائق الإفريقي (كيفي باري) الذي شاهدته في برنامج (روبنسن) ... نعم أنت هو ... بالله ما أجمل هذه الصدفة ... كم كنت سعيدة أرى أجنبيا يقطن في النرويج يشارك في إحدى البرامج المشهورة ويشارك مع مواطني البلد... أعجبتني شخصيتك كثيرا ..
- إسمعي يا (جمانة) أنا من جنوب إفريقيا ... عانيت الكثير أنا وأهلي ... الذل والفقر والعنصربة، تركتهم وسافرت إلى أمريكا. فوجدت أيضا العنصرية ومشاكل كثيرة. فقلت لنفسي يا (باري) هذا المكان ليس مكانك، جرب حياتك في مكان آخر. فكان النرويج البلد الذي راق لي، خاصة في ذلك الوقت كان هذا البلد يستقطب أمواجا كبيرة من الأجانب. في بداية إقامتي هنا، وجدت نفسي مضطرا لتعلم اللغة إن أردت الحصول على وظيفة. وفي فترة دراستي كنت أتلقى دعما من الضمان الإجتماعي. يدفعون لي أجرة البيت والطعام وأجرة المواصلات. هل تجدين يا (جمانة) هذه التسهيلات في دولنا؟ عشقت البلد وأصحاب البلد وتعلمت اللغة بسرعة فائقة، وحصلت على وظيفة بسهولة، وبمجرد ما توفرت لدي النقود اتجهت إلى الضمان الإجتماعي لأرد لهم كل قرش أنفقوه علي. قالت لي موظفة هناك بأن المساعدة التي قدموها إلي ليست سلفا ... قلت لها أريد التحدث إلى المسؤول فأنا لن أخرج من مكتبكم حتى أصفي ديني معكم. تعجبت الموظفة واندهشت لتصرفي الجنوني حسب رأيها. لكنني كنت أضحك في أعماق نفسي. وقفت من مكانها مرتبكة ثم نادت المسؤول الذي بدوره قدم إلي وقال مبتسما لا نريد منك شيئا، فنحن نساعد العاطل عن العمل حتى يجد عملا بعدها التوفيق كل التوفيق. صرخت في وجهه، أريد أن أرد لكم نقودكم ... هذه نقود الدولة وقد تساعدون بها غيري .. أنا شاكر لكم مساعدتكم لكنني الآن مصر على أن لا أبرح مكتبكم حتى تأخذوا نقودكم ... لن أخرج ... لن أخرج ولو أشهرتم في وجهي السلاح. كنت أتكلم معهم وعلى ملامح وجهي الإمتنان والشكر لهم والغضب أيضا لرفضهم قبول نقودي.
ضحك )كيفي باري( بصوت مرتفع وأضاف قائلا: انتفخ ريشي كالديك المستعد للهجوم، فابتسموا لي ابتسامة إعجاب ووافقوا على طلبي.
ضحكت (جمانة) بصوت مرتفع والدموع تسيل من عينيها:
- لا ... لا أصدق ... من أنت؟ قطعا مجنون وجنونك هذا جميل جدا ... لم أر قط في حياتي من يقوم بما قمت به.
ابتسم وقال:
- كنت أشتغل وأدفع لهم قسطا شهريا من النقود، حتى سددت كل المبلغ وعندما حصلت على الجنسية تقدمت للجيش. لم يجبرني أحد على ذلك. صرت أتمتع بكل حقوق المواطن النرويجي فأحسست أن النرويج وطني ... واحدا من هذا البلد، أتمتع بكل الحقوق، فلذلك دخلت التجنيد المدني لكي أقوم بواجبي كمواطن إفريقي نرويجي وأكون من الأوائل الذين يحمون البلد.
- من أنت يا (باري) ... هل أنت فعلا بشر أو ملاك أسمر قادم من السماء؟!
- لا أنا ملاك أسمر قادم من بيتي باكرا جدا لأقود الحافلة وألتقي بك أيتها المجنونة. ثم ضحك .. اسمعي يا (جمانة) هذه النكتة لقد حصلت معي ...
كان يتحدث إليها وكأنه يعرفها منذ سنوات ... ضحكته طوال الطريق ترقص على وجهه الأسمر الذي يشع طيبة وحيوية وذكاءا ونورا ...
كنت مرة في (ريما 1000) (محل لبيع المواد الغذائية.) أتبضع أغراضا للبيت.توقفت أمام ثلاجة اللحوم أحاول اختيار ما سأشتريه ذلك اليوم. أمسكت دجاجة مثلجة ... أنظر إليها وأتحدث في نفس الوقت إلى صديقي وزميلي (رولف مدلبو) . اقتربت مني امرأة مسنة وقالت بدهشة، أسمر يتكلم بطلاقة مثلنا؟! التفت إليها وانا أضحك عاليا كعادتي ثم قلت:
- ما رأيك يا سيدتي في هذه الدجاجة ...!؟ ببلدي نأكل لحوم البشر وأنا الآن جائع جدا جدا وبما أن أكل لحوم البشر ممنوع في بلدكم سلمت أمري لله واخترت هذه الدجاجة علها تسد جوعي ...
اختفت الإبتسامة عن محيا تلك المرأة المسنة وبدأت تقفقف وتتراجع إل الوراء والعكازة التي كانت بيدها وقعت على الأرض .. أما أنا وصديقي (رولف) كنا نضحك بصوت عال والزبائن ينظرون إلينا ويضحكون على ضحكنا.
ضحكت ( جمانة) فأضاف قائلا:
إضحكي يا (جمانة) إياك والحزن والأسى على الناس. فالناس صالح وطالح في كل زمان ومكان ... فمن له ضمير حي يعيش نزيها حرا طليقا سواء كان أسودا إفريقيا مثلي أو أبيضا نرويجيا مثل (رولف).
وصلت (جمانة) إلى مقر عملها ... فتح لها (باري) باب القافلة وقبل أن تغادره ضمته إلى صدرها بقوة وكأنها تودع عزيزا ثم انصرفت تضحك ضحكا مخلوطا بالبكاء ...
حرية … حرية …
حين يفاجئك مساء أوسلو في فصل الشتاء دون أن يطرقَ الباب ، يلون كلّ ركن في المدينة بظلامه الدامس، فتصبحَ كمحبرة سوداء ينتشر ظلامها الحالك واصلا قلبي الذي يرتجف من عاصفة ثلج مدججة بجحافل برد قارس يزيد غربتي وحدة ووحشة.عواصف قادمة من أعماق القطب فتملأ حجرتي صقيعا، وتتسرب إلى سريري قشعريرة فتصطك أسناني، فأقوم أجرّ رجليَّ إلى حانة محمود المغربي. أجلس في مكان لم أغيره منذ ثلاثين سنة.
بأي كاس سأطفىء ظمأ يشتعل في داخلي نحو فريسة أبحث عنها منذ سنوات تقترب من سبعة وعشرين. غبار الزندقة حجب الرؤية عن عيني سنين طويلة عند مفترق كل الطرق، فأصبحت كأمي أتخبط على غير هدى. كل ليلة اضع رأسي على وسادتي ...التي حشوتها أحلاما وآمالا كثيرة للعثور عليها عندما نضع رأسينا على وسادة ونحلم سويا في عش لا نافدة فيه لأتجسس على رائحة ما يطبخه الجيران.
سئمت من هذا المكان وسئم المكان مني ... لم أعد أطيقه. نفس الكراسي ... نفس الطاولات ... نفس الوجوه ... منذ كانت في طيف الشباب وهاهي الآن تطل على مقتبل الشيخوخة. لا أريد أن أنتهي عجوزا وحيدا.
- ماذا تريد أن تشربَ يا سيد فؤاد؟
- ولم هذا السؤال الغبي؟ البيرة كالعادة.
ذهب النادل مبتسما ليحضر طلبي. أما أنا فكنت اتأمله ... أذكر جيدا عندما جاء إلى هذه الحانة. شريدا، خائفا، هزيلا، جائعا، وحيدا، غريبا، من غير أوراق قانونية. ها هو الآن متزوج من نرويجية وانجب منها ثلاثة أولاد، كلهم يدرسون في الجامعة. كيف توفق هذا الوغد اللعين! تبا للقدر الذي يعطي لمن يشاء وما اشاؤه أنا يعتذر القدر عن أن يمنحه لي ولو في الأحلام. سبعة وعشرون عاما مرت كلمح البصر، وأنا مازلت أتسكع في شوارع أوسلو من خمارة لأخرى، ومن مطعم إلى آخر، ومن بيت دعارة لآخر، ومن فتاة شقراء إلى أخرى. سئمتهن كلهن، وسئمت تفتحهن الزائد عن الحدود، وسئمت تغنيهن بحريتهن الكاذبة، والمساواة ... اي مساواة واي هراء! متى إستوى الرجل بالمرأة؟ هذا ما تبقى أن ندخل إلى المطبخ ونغسل الأواني ونربي الأطفال وهن يتصعلكن خلف طاولات المكاتب.
جلس يستعيد سراب العمر ... يتشكك ... ثم ينزوي حيث رعشات الأمل تحارب اليأس في شفافية خاسرة ليلجم نزعات نفسه بجرعات كبيرة من البيرة. ها قد حان فصل الشتاء ببرده القارس وثلجه الزاحف على الجسد فيجعله متبلدا... جامدا ... من غير إحساس. لابد أن أتزوج من امرأة أستقر معها ... ندفء بعضنا ...ننجب أولادا وبناتا ... لا ... لا أولادا فقط. لا أريد البنات. سيضعن في هذه الحرية المفتوحة بلا حدود ... حرية الزندقة والصعلكة. يجب أن أتزوج امرأة عربية مسلمة. ولابد أن تكون مغربية من بلدي وأن تكون بدوية وليست مثل اللواتي يتسكعن في مدن المغرب. بنات المدن منفتحات... أريد بنتا من البادية. متحجبة، محتشمة، قانتة، صالحة، لا تعرف الصعلكة، كلهن صعلوكات، خاصة من يحسبن أنَّهن مثقفات. أي ثقافة وأي علم! جهل في جهل وظلام في ظلام ... تبرج وكحول وتغيير الرجال كتغيير ملابسهن الداخلية. قبحكن الله أيتها النساء في العالم كله. أريد امراة مثل أمي. هي الوحيدة في هذا العالم الطاهرة العفيفة. أمي هي التي ستجد لي زوجة صالحة مثلها. لابد أن أسافر إلى المغرب. غمرته فرحة عابرة حينما توقفت عاصفة أفكاره الهوجاء فجأة، أو أنه ظن ذلك...
سافر فؤاد إلى الدار البيضاء، يومها أراد أن يغني ... يرقص ... رجع أخيرا إلى الوطن بعد غيبة طويلة ... منذ زمن الشباب وهاهو الآن في الخمسينيات من عمره.... كل شيء تغير كتغير تقاسيم وجهه ... الآن يحس بشوق وظمأ شديدين لرؤية أمه، التي لم تسعها الفرحة لرؤية ابنها.
أخيرا ستكون له أسرة قبل أن تودع الحياة. إغروقت عيناه وهو مازال معلقا في سماء المطار .... بات الهواء مخنوقا بالبكاء الرابض على أطراف حلقه ... " لم هذه الأشواق تتفجر في قلبي فجأة ... شوق لأمي ... لوطني ... لهذا الهواء الساخن الذي يذيب ثلج سنين غيبتي...!" ركب فؤاد الحافلة من المطار إلى ضيعته ... كم كان مرعوبا في تلك اللحظة بالذات ... دموع تنزل من عينيه كالطفل خائفا أن تباغته أمه برأسها المطل من وراء الباب، فتلعن السهر والدمع ....وتلعنه ... بل تلعن أوراق العالم وأقلامه ....
يتطلع من خلال نافدة الحافلة ... آه ما أكثر الأشياء التي تركتها ورحلت ... كم كنت قاسيا مستبدا من غير قلب يحس ... وضع يده على صدره وكأنه يريد أن يتحسس إن كان لديه قلب كباقي الناس ....قلب ينبض فعلا ... يعزف أحاسيس جياشة لسمفونية تبتدىء من حافات الأزل البعيد.
كانت أمه تطل من النافدة ...تنثر نظراتها على اشعاعات الضوء الأول ... تنتظر ابنها بعد غيبته الطويلة وبعدما جفت مآقيها. فها هي الآن تشعر بطول الوقت في لحظات الانتظار ... لم يعد هناك خوف يحرسها من وحدتها ووحشتها ... عيناها تشعان بالفرح وهي تراه مقبلا من سحب يكسرها الرعد ... من جبال يغطيها الثلج ومن ليال تعثرت في نصفها النجوم. ضمته إلى صدرها بكل حب الأمهات... في لحظة بين الصمت والرجاء ... بين العتاب والبكاء ... بين الفرح والشكر لله الذي أرجع ابنها إليها لتطمئن على مستقبله العائلي قبل أن تغادر مسرح الحياة.
اختارت أمه الفتاة المناسبة، فتاة أحلامه ... أقام حفلة الزفاف ... لم تسعه الفرحة... لم يعد يفكر في شيء ... حتى أنه خجل من رغبته في البكاء. كان همه أن يبدو أنيقا أمام زوجته ذات الجمال الغاوي. اكتحلت عيناه بنور حداثة سنها ... صبية في السابعة عشر من عمرها .... غجرية لا حدود لفتنتها ... تنساب مع نبض الحياة ....مع خرير المياه المناسبة في الجداول ...مع ظل الأشجار ....
جاءت صاحبة الحسن والدلال والخلق المصان إلى النرويج ... إلى أسلو ... بهرها جمال الطبيعة، و أثارها لون أهل البلد الذين يشبهون الدمى بعيونهم الزرقاء كلون اليم في هيجانه. كل شيء يشع بريقا ... نظافة لم تعهد أن رأتها من قبل. لا حجارة ولا غبار ... لا حمير ولا أبقار ... لا قحط ولا جفاف ... سكنت مع زوجها في غرونلاند. أعجبتها المنطقة إلى حد الجنون ... أعجبها كل شيء فيها... ألوان الناس وأشكالُهم ... زيُّهم وضجيجُهُم ... أولادهم الذين يتسكعون بين الأزقة ... هذه هي الجنة وإلا فلا ... أين كنت أعيش أنا وإلى أين جئت ...؟! يا الله كم نحن لا نعرف شيئا عن العالم الآخر ...! إنه فعلا عالم لا يرى إلا في الأحلام....
أحست بزهو .... فرحة عارمة تجتاح روحها ... يستهويها منظر الثلج يتساقط بخفة وكأن أسرابا من الحمام خلعت عنها ريشها ونثرته في الفضاء ... هكذا سأبقى في ارتفاع دوما ... انا غير كل نساء ضيعتي وإلا لما اختارتني أم فؤاد زوجة لإبنها...
حبيبتي أعرف ان كل شيء جديد بالنسبة إليك وقد تشعرين بشيء من الغربة. لكن، لا تخافي اعرف هنا عائلات كثيرة ومحافظة من شتى الأجناس المسلمة. سأعرفك على عائلة مغربية. أعرفهم جيدا. ستساعدك الزوجة على التأقلم في هذا المجتمع. إنها امرأة محتشمة وبنت عائلة مثلك.
تعرفت (صابحة) على الزوجة المحتشمة، وساعدتها على التأقلم وأشياء كثيرة ... كثيرة جدا ... فأصبحت متفتحة ومنفتحة ... تعلمت اللغة ... وعرفت ما لها وما عليها حسب قانون البلد ...فأصبحت تتمتع بكل حقوق البلد الواقعية والخيالية أيضا، وذاقت طعم الحرية والتقدم والعصرنة، فخالت نفسها طاووسا لا مثيل له في الحسن والبهاء. وأن زوجها يكبر اباها بخمس سنوات ولا يتقن اللغة النرويجية. لم تعد صاحبة الحسن والدلال تطيق العيش معه. أصبحت حياتها معه تمزق أحشاءها الملتهبة، فأصبح يومها الذي تقضيه في البيت كبيرا بحجم البحر وأمست لياليها مؤلمة وأمرَ من حنظل نهارها. اعتصرتها الآلام، عش يملكه غراب عجوز يعجز عن منحها ما تريد ... تريد أن تسافر إلى الغرب والشرق عبر الفضاء واليم وترى مالم تره ولو في الأحلام ... تريد أن تخرج إلى مطعم مع زوجها وتجلس جلسة رومانسية تشعرها بأنوثتها ...تريد الصخب ...تريد المرح... تريده عندما يرجع إلى البيت أن يداعبها ويضحك معها ويحدثها ويضاجعها .لم تعد تتحمل روتينية حياته ...من العمل ... إلى البيت ... ثم إلى غرفة الإستقبال. انتظرته حتى رجع من عمله الأول في حياته بعد أن تزوجها... فتربصته كلبؤة جائعة مريضة ...
- أريد الطلاق.
- لماذا؟
- لم أعد أتحمل القرف الذي أعيش فيه. إنني اختنق. جارتي سافرت إلى الدانمارك وصاحبتها إلى تركيا وأنا لم أسافر حتى لزيارة أهلي، حرمت من لقائهم خمس سنوات منذ زواجنا. وليس بمقدورك أن تفعل شيئا حتى أن تخصب في أحشائي جنينا يؤانس وحدتي. إنني أختنق في قفص الدجاج هذا الذي يدعى بيتك.
- الآن أصبحت ترينه قفصا بعد أن كان في عينيك قصرا. لا والله سأرجعك من حيث أتيت. إلى الدجاج ... وإلى البراري الواسعة وإلى الحمير والبغال وإلى رعاية الأبقار يا قح ...
- لا تقلها وإلا ناديت لك البوليس.
- البوليس! أين البوليس؟ أعشق البوليس ... أموت في السجن ... أتوق إلى المشنقة ... يا عاصفة اللؤم .. يا ناكرة الخير ...يا رجس الشيطان ...يا وجه الشؤم ... يا مجلبة الهم ...يا يوم النحس ... إقترب منها كأسد جسور ... مكشرا عن أنيابه ... وهي تبتعد عنه بخطوات إلى الوراء ...تنظر إلى الغرفة الموصدة بابها .... وكأنها تبحث عن منفذ للهروب ....صمتها عميق .... صراخها حبيس .... ستائر شباك الشقة مرخاة ....ترتعد فرائصها ... لا من مغيث ينقذها ...تتمنى لو يرجع بها القدر سويعات لتعدل عما قالته ولترضى بحياتها معه ...
تتخيل نفسها صغيرة تلعب مع اطفال ضيعتها ... ترشق الدجاج بالحجارة .... تتخيل أمها تحلب الأبقار ... طعم الطاجين بالخضر والزيتون ... ذلك اليوم الأول الذي أتت فيه إلى عش زوجها ....شقتها النظيفة الصغيرة ....لباسها المختلف عن لباس الضيعة ...الماكياج المبعثر على خزانة صغيرة بغرفة نومها ... فساتين نومها الشفافة التي لم يعرف جلد جسدها طعمهم الحريري الناعم ... تنظر إليه بعينين ... نادمتين ... خائفتين ... جاحظتين ... مبللتين ...مرتجفتين ...عينان تصرخان بكل أنواع اللغات وبكل أنواع الأحاسيس ...بل بكل أنواع الخوف والندم. أما هو فكان يقهقه بصوت مرتفع ... ينظر إليها والدموع تفيض من صدره ... لا يعرف مصدرها ... تساؤلات تنطلق من أغوار غريزة ... سخيفة.... سحيقة... طبيعته الحيوانية تقلع سلوكه الحضاري ... تعمي عينيه... يقترب منها... مبرزا كل عناصر القوة من مخالب وأنياب وقرون وفي غفلة من ذلك الطقس الكئيب .... توقف الزمن على سريره ... توقفت أصابعه على خيوط طفولته ... وسراب شبابه الذي ما كان إلا هلاما من أطياف الضياع والكآبة... يتخيل طعام أمه من يد زوجته ... أكل بلده ...في غربته ... دفء زوجته رغم رداء الثلج الذي يلبسه ...تمناها لو لم تقل ما قالت ... لو عدلت عن الكلام ... يخطر بباله ليلة عرسه ... يتحسر على همه الموبوء من أول تاريخ وعبر كل صباح ... كان نبضه يغوص في الهذيان ... يستجدي أطيافا تمر من هنا وهناك ....كزوجته تماما ...فالعودة صارت مستحيلة .
في تلك اللحظات الحاسمة ... كانت تقول لنفسها خسرت جنتي بيدي ... لا أريد شيئا ... لا تقتلني ... أفضّل العيش معك ألف مرة على أن أعيش في ضيعتي بالمغرب ... لا أريد حرية ... ولا سفرا ... أريد فقط حياتي ... وأريدك في حياتي ... كل ذلك الحوار أبى الرعب أن يدعه يخرج من فمها لتنقذ حياتها من الهلاك ....كانت ترتجف ... ترتعد ... جسمها يتلاشى ويتساقط شيئا فشيئا وهي تحاول الإبتعاد عنه ... تحاول الهروب منه ... لكن كيف لحمامة مقصوصة الجناحين أن تفلت من براثن الصقر. وأطبق يديه المتجعدتين أخيرا على عنقها النحيل بكل قوة إلى أن جحظت عيناها وسافرت بروحها إلى عالم حريتها.:.

إعاقة
في لحظة تائهة من اللحظات وكأنني اسيقظت من غيبوبة التيه وفقدان الأمل في الحياة والخوف من الوحدة. زوجتي (مارغاريت) التي أحببتها بصدق ووفاء خمسة عشر سنة. أنجبت منها طفلا معاقا. لا يتكلم، لا يمشي ولا يتحرك. لكنه ابني وأملي في الحياة ولو أنه ليست لديه حياة.. أخذته مني وتركتني لحيرة الوحدة مرتابا، تحرقني الأيام في كل ثانية حتى أدمنت أوجاعي ولا أعرف كيف أموت. تركتني من غير سبب كالساقط في هاوية. أمشي على صمتي وأجراس من التساؤلات ترن في عقلي محدثة صخبا برأسي وتتخبط بي في كل الجهات. أدخل البارات أغيرها، علها تغير شيئا من حياتي. ابحث لعلّ صنارتي تصطاد من تدفء ليلة من ليالي الموجعة السرمدية. ما زلت أحوم بعيني أبحث وجوع شديد في روحي. أتسابق مع الوقت الذي يسبقني غريبا أجول ببصري المحير في ذلك البار. ضجيج الأصوات المرتفعة تفجر صوتا في قرارة نفسي الثكلى. وحدتي كالمد تصعد كالسحابة، كالدموع إلى العيون. قلبي يصرخ: "الزواج" وروحي تتوق إلى الزواج والغربة تنهش وحدتي وتجعلها تصرخ: الزواج! الزواج! الزواج! ليس سوى الزواج. فجأة تقع عيني على امرأة تشبه طليقتي (مارغاريت) جالسة في إحدى زوايا البار .. كنت أمعن فيها النظر. فسافرت في تلك اللحظة وعيناي تغرقان في ضباب من الأسى. رعشة البكاء انتابني كرجفة الطفل إذا خاف من البرق. رحت بعيدا وسرحت أفكاري في حياتي مع ( مارغاريت). لم أنس يوم طردت أصدقائي. حرمت علي لقاء أصدقائي ببيتي. أطبق على شفتي.
- لماذا فعلت ذلك؟ هل أنا بلا شخصية؟ ماذا سيقول عني أصدقائي؟ زوجته تتحكم فيه.
- أنا لا أتحكم فيك ولكنك أزلت الإحترام بيني وبينك. أنت لا تحترمني ولا تقدر تعبي. ابننا معاق يحتاج رعايتنا وجسدي يحتاج إلى الراحة. أنا لست مستعدة للطبخ وخدمة ضيوفك.
- لكننا نحن عندما نذهب إلى بيوتهم، زوجاتهم لا تهدأ دقيقة واحدة. يقدمن لنا الأكل والشراب والشاي. إنهن يحترن في كرمهن معنا.
- لا أريد ذلك الكرم. كما أنني لا أذهب معك عند أصدقاءك إلا في المناسبات. وهم يأتون عندنا يوميا لم يبق إلا أن يسكنوا معنا. ثم كيف تقارنني بزوجاتهم؟ كلهن قاعدات في البيت لا يشتغلن... لا ينتجن ... أما أنا فعلي مسؤوليات كثيرة ومسؤولية أكبر وهي ابننا. إن عدم مسؤوليتك لإبنك واستهتارك بحياتنا الزوجية ستكون سببا لفراقنا.
-إسمعي يا (مارغاريت) أنا لم أتزوج بك لكي تكوني كالرجل. غريب أمركن أنتن النرويجيات! تحاولن ان تتشبهن بالرجال وياليتكن تتصرفن تصرف الرجال.
- لا يا حبيبي. نحن لا نتشبه بكم ولكننا نقوم بما لا تقوم به أنت وأمثالك. قل لي ماذا تفعل انت وأصدقاءك؟ نصفهم بدون عمل ومن يعمل يرجع إلى بيته وهو على حافة صراخ الشهوة المجنونة ، يرتقب همسة أو حركة في البيت ختى ينفجر صارخا على زوجته وأبناءه. منتظرا الكل أن يخدمه في البيت لأنه المسكين كان في معركة جهادية بوظيفته طيلة النهار. إنني اشتغل خارج البيت وداخله واحتاج وقتا لراحة نفسي. هل تفهم؟
- أنت التي تفهمين يا متحضرة. أنت الرجل وأنا النعجة بين يديك يمكنك ذبحها وقتما شئت وكيفما شئت. إن الحياة معك مستحيلة. تحرمينني من ناسي و أهلي.
- لك الحق، الحياة بيننا مستحيلة. إذا لابد من الطلاق.
كم كان ذلك الليل وحشا ضاريا وكانت كلماتي شريدة وكانت هي السّوط الذي لا يرحم.
حاولت تغيير تلك التضاريس الوعرة بيننا لكنها شرّعت القوانين ضدي. تجاسرت وتآمر معها القانون ضدي. ما أتعس الرجل في هذا البلد وما أكبر تجبر المرأة هنا. أين رجولتي؟ أين شهامتي وسطوة كلمتي؟ ضاعت مع قانون هذا البلد الذي لا يخدم إلا مصالح المرأة. لعن الله ذلك اليوم الذي تزوجتك فيه أيتها الأنانية.
ما زال شريط حياته الدراميه مسافرا بعقله حتى وقعت عيناه على فتاة من وطنه. كانت تجلس وحيدة بالقرب من النافدة. خوفها ضائع في فضاء ذلك البار ، تسترق النظر وحسرة فوق جفونها وخوف واضح الملامح على سحنة وجهها. شعرت بانجداب إليها، بأحلامي تنبعث من جديد بعدما كانت مكلسة. هذه هي التي ستخلع أثواب ألمي وتزرع معي الأمل. ستكون شريكة حياتي وتطيعني كما يأمر الشرع. وتسهر على راحتي. ستفهمني قبل أن ألفظ كلماتي. ستحس بي قبل أن أعبر عن ذاتي. ستفهم كل لغاتي، يكفي أنها من وطني. توجه نحوها إستأذنها بالجلوس. نظرت إليه مبتسمة. شاحت بوجهها إلى النافذة ثم بدأت تتحدث من غير أن تلتفت إليه قائلة:
- إنني مثل هذه الغيوم الخفيفة التي تجرفها الريح حيث شاءت.
كان يمعن النظر إليها. يبحث عن شيء بداخلها. فتاة تتلألأ من شغف يتضوع منها الشذى ورذاذ السهر. هذه هي التي ستعوضني ماحرمت منه وسأمنحها الإقامة في البلد. لن أضيع بعد الآن أحلامي في الماء ولن أتعقب روائح الغرقى في بحر الحياة. كان جالسا يتحدث إليها كالمذهول لجمالها وسحرها، يهندس جملا وموضوعات، يردد كلمات مصاغة من لغات كثيرة، يحاول إيقاعها في الإعجاب به وكانت هي تلاطفه بجمل متكلفة وبابتسامة مزيفة. طريدة قدمت إلي من غير أن أبحث عنها. ستستقر أوضاعي، سأحصل على الإقامة، سأستنزف منه العملة... جئتَ إلي برجليك وأنا أرحب بك.
بعد منتصف الليل أخذها إلى منزله، وحيدين مع الخالق، واقفان منتصبان كحرف الألف واللام كعصفورين يطلان من شباك. عزفا كلمات على وزن قصيدة، أوقدت نورا في ذلك الظلام وتكالبت أشواقهما على متن عاطفة عاصفة بكل المفردات. معبرة عن حلم تحقق، عن خوف وأوجاع زالت.
تزوجنا ولم تمر سنة حتى حمَلت في أحشاءها ابننا. إبني هذا الذي سيأتي ليملأ حياتي حياة ويمدني وأخاه المعاق بنور الأمل ويظلل هذا العش بفضاء من السعادة. أحتاجه كما يحتاج المتجلد لحرارة النار ودفئها. أعطيه الحنان وهو كفيل بإعطائي الحب الحقيقي ويغطيني في ليالي الغربة بدثار أنسه.
حصلت زوجتي على إقامتها الأولى في البلد وأصبحت حياتي حياة بعدما كنت ميت أسير على قدمين. كانت جميلة، لبقة، ناعمة كريش النعام، شامخة كالنخلة. صمتها يغوص في بحر أحلامي، طيفها ينور لي لي سواد ليلي. بدّدت حزني وأبردت نار الوحشة في روحي وكنت افديها بروحي. خلال شهور زواجنا الأولى كنت عاشقا مجنونا مفتونا بها، كانت قمري وشمسي.تضحك وتلاعبني قائلة أصبحت أعرفك أكثر من معرفتك لنفسك.
- خبريني يا عرافة زمانك عن المسطور في قلبي. قصرك الذي لا يملكه سواك.
فاجأني همسها المسكون بشبح التخلي المنتظر.
- لا يا حبيبي قصري هذا يحتله معي ابنك المعاق(سامي). قريبا سيكون لنا ابنا يحتاج رعايتنا. أما (سامي) فله أمه النرويجية تتكفل به.
جحظت عيناي مستغرابا للؤم امرأة متدثرة بالقساوة والأنانية:
- ابني (سامي) لا يزورنا إلا يومين في الشهر. إنه لا يسكن معك. كما أنه أبني قبل أن أعرفك وله أم ترعاه كما أن الدولة أيضا ترعاه. فهو لم يأت عندنا لتتكفلي برعايته. ألا يحق لي أن أراه في بيتي مرة في الأسبوع.
- إسمع يا عزيزي، فرحك الوحيد بين يديك حتى هذه اللحظة. فلا تدعه يطير وإلا ندمت عمرك كله. لو أني مكانك لأخذت هذا التحذير مأخذا جديا. وإذا حدث وخذلتني فلم يمنعني شيء من لفظك خارج حياتي نهائيا. هل تفهم ما أقول؟
- وكيف لا أفهم يا معشر النساء أنتن ... أنتن العقارب ... أنتن الأفاعي السامة.... كيف لا أفهم أن جنسكن لا يستقيم إلا بالضرب والرّكل بالأرجل أوالقتل. أنتن لا تفهمن معنى المساواة. لذلك لا يليق بكن إلا اللا مساواة.
كنت أنظر إليها ساخطا، ناقما. تمنيت ألا أكون سمعت ما سمعت. تمنيت أن يكون ذلك التغيير المفاجىء كابوسا عابرا. لكنه كان حقيقة لإمرأة بشعة إنسانيتها رسمتُها بوهم خيالي، مصوّرا لها جمالا لم يكن إلا هُلاما شفيفا وراء السراب وحمى الصدمة تعرّى فجأة أمام بصيرتي ويخنق روحي التي تناثرت في الفراغ، فلم أعد أر أمامي إلا نعشا ودمعتي ترثي حبي ووفائي الذي طعن من جديد.
- الآن تفتحت بصيرتي بعدما كانت مغلولة ً بسلاسل حبك الزائف. كنت تأخذين النقود من حسابي وترسلينها إلى أهلك بدون علمي وأنا لا أسأل.
كنت أرى في عينيها السوداواين شرر حريقها المخبوء يتطاير، فيما راحت شفتاها تزمّ بتكلف وترتعش ارتعاشا خفيفا يشي بتصميم لا يقبل التراجع.
- أنت الرجل، أليس كذلك؟ ومن واجبك أن تنفق علي وتلبي كل طلباتي.
- وأنت ألست امرأة؟! أو ليس دورك أن تكوني منبع العاطفة والأمومة اتجاه ابني المعاق الذي يحتاج رعاية أكثر من الطفل العادي وهو لا يزورنا إلا أربعة مرات في الشهر!؟ تحرمينه من الأكل وتتمارضين. تلتزمين سريرك حتى يغادر.
- إنه ابنك وليس ابني وأنتَ من أحق باستقباله ورعايته. لن أكون خادمة لك وله أيضا. كما أن له أما ترعاه كما تفضلت.
كانت حامل في شهرها الثامن. ظانة أنها ربطت مصيري بالجنين الذي في بطنها وليس بمقدوري أن أنفيها عن حياتي وعن النرويج وأنا الذي أتوق لطفلنا أن يخرج إلى الدنيا ويملأ علينا الحياة سرورا وفرحا. تذكرت يوم لقائي بها في البار متشردة من غير أوراق قانونية خائفة، هاربة، جائعة. تذكرت فرحي وسعادتي على شيء كان فقط سرابا، راحت مرة أخرى مع سراب العمر. نظرت إليها. كان وجهها يقطر حقدا وغضبا وتسلطا واستحواذا وتملكا.
- سأندم، أليس كذلك يا ناكرة الخير.
ابتسمت بخبث وهي تتطلع إلي بتقزز ونفور.
- قبلتك رغما مُكرَهة لأنك ستمنحني إقامة في البلد وستأخذ مقابله إبنا سليما.
- أهذا الإبن الذي لم يخرج إلى الحياة بعد، هوالثمن لإقامتك. أهكذا أرواح البشر عندك رخيصة جدا؟! أهكذا روحي وروح ابني المعاق وروح هذا الجنين الذي كتب عليه أن يكون ابنا لأم معاقة الضمير. مكانك يا سيدتي ليس هنا. هنا في هذا البلد يعيش من يحسن التعامل مع نفسه أولا، ثم مع الآخرين، سأرجعك من حيث أتيت. إلى هناك حيث الإعاقة الحقيقية. أنت طالق.
أخذ سماعة التلفون، اتصل بالشرطة التي حضرت بعد دقائق لتأخذها إلى المطار.
كانت تصرخ بصوت عال: أنت الخسران أيها البشع. كيف قبلتك زوجا؟ أنت من سيندَم. افرح بابنك المعاق. أما أنا فلن أدعك تفرح يوما.نظرت إلى بطنها، ثم ضحكت ضحكة مجلجلة. أجحظت عيناها وكأنهما رصاص مصوبُُُُُ ُ لإختراق جسمه ليمزقه أشلاء.
- هذا ابني أنا وحدي. إعتبره من الآن لن يخرج إلى الوجود، لأنك لم تحظى برؤيته أبدا.
- جهلك، أنانينك، جشعك، تسلطك الذي لم تستطعي إخفاءه أخسرك الرهان.
سُفِرت إلى بلدها وبعد شهرين رن جرس التلفون.
- ألو ... أنا اخو طليقتك. أختي ستتزوج وهي مستعدة لتسليمك الطفل.
- هكذا بهذه السهولة تريد أن تسلمني الطفل بعدما هددتني بأن تحرمني منه.
- عفى الله عما سلف لقد نصحتها أن لا تحرمك منه خصوصا أنها ستتزوج قريبا.
تعجبت لهذا السلوك الإنساني الغير المعهود في تصرفاته وأخته. لكنني إغتنمت هذه الإنسانية الصادرة منهم وسافرت إلى الوطن فتفاجئت أن طليقتي لم يتقدم لها زوج على الإطلاق ولكنها تريد أن تتخلص من طفلها الذي خلق معاقا.
أخذت طفلي وفضلت أن أعيش مع ابني المعاق على أن أعيش مع امرأة معاقة في العقل والروح.
صراخ الصمت
منذ أن كنت طفلةً وأنا أصرخُ صامتة. صراخ في الليل وصراخُ في النهار يدوي في داخلي فقط . في أحشائي وقلبي و عقلي. إن بكيت جهرا ينهال عليّ الضرب بقوة. الضرب يلفظ أنفاسي من مسامات جلدي ويحطم أضلعي الواهنة فتتساقط عظامي المرتعشة رعبا وتتقطع أنفاسي في غياهب المجهول. لم أكن حينها أملك أحلاما كبيرة وربما حتى صغيرة. رغم أن كل اللواتي معي في الفصل يحلمن كما يشأن. (سوزان) تريد أن تصبح ممرضة و(كريستين) مهندسة معمارية و(إليزابيت) مراسلة صحافية و(هند) استاذة جامعية و(ليلى) اركيولوجية. كانت متعتي الكبيرة الجلوس بالشرفة رغم البرد القارس في فصل الشتاء. هناك كنت أتامل النجوم وكانت هي تراقبني طويلا. أتامل رقصها المتوهج عبر مساراتها اللامتناهية طيلة الليل وعندما تتعب تختفي، لتنام عند بزوغ الفجر وتتركني وحيدة بين براثن أحزاني التي أمست وميضا في الليالي الداجيات، واخزة قلبي بدون رحمة. بعد التأمل الطويل في تلك الليلة يتناوب النعاس والرعب على لحظاتي . أصبح لوني شاحبا. سألتني أمي:
- تبدين شاحبة نحيلة، أحبك قوية ومتوردة مثل ابنة قلت لها:
خالتك زينب.
- إنني أتحدث للنجوم، أروي لها حكاية الصراخ الصامت و هي تصغي إلي بإمعان. أحسها وكانها تقترب مني، أحاول عدها لكن ذلك مستحيل ...
ردت علي بابتسامة مصطنعة وجبينها مقطب:
- إنشاء الله تعدين النجوم ظهرا. هيا ساعديني. سيأتي الضيوف مساء.
- ماما، أم سمير وعائلتها ليسوا ضيوفا. إنهم يأتون كل يوم وكأنهم يسكنون معنا. لقد تعبت من لف أوراق العنب وحشو "الكبة" لجيش عرمرم ليس له حد ولا نهاية. إنني البليدة في الفصل.
وقفت سيارة أبو سمير أمام الباب ونزل من سيارته يتبختر في مشيته ويده اليمنى على كرشه المتدلية واليد الأخرى تداعب مفاتيح السيارة. أما زوجته فكانت تتعارك في مشيتها مع سمنتها المترهلة، تحاول إخراج علب الحلوى وصندوق الكولا الذي أحضرته لنا من الحدود السويدية النرويجية. أولادُهم الخمسةُ ظلوا واقفين خارجا مع إخوتي الذكور.
- تفضلوا مرحبا بكم.
دخل أبو سمير وأبي إلى غرفة الأولاد ، يستمعان إلى الموسيقى العربية عبر الإنترنيت، أما أنا وأمي وأم سمير كنا نهيء الأكل في المطبخ.
قالت أمي والفرحة ستطير من عينيها وكأنها لم تر حبيبة قلبها أم سمير منذ زمن بعيد.
- كيف حال أم وائل يا أم سمير؟
- بتسلم عليك.
- والله لم أرها منذ زمن بعيد.
- مشغولة بتوأميها.
- معقول! أم وائل أنجبت توأمين. سبعة أطفال الآن. ما شاء الله.
- شو بدو يعمل الواحد يا أم نداء في هذه الغربة! لا بد أن ننجب أطفالا كثيرين، يتعاونون مع بعضهم البعض. نحن لن نظل لهم إلى الأبد.
- إيه والله. مش مثل ديما. عامله حالها نشيطة ومثقفة ومتفتحة مثل النرويجيات. لم تنجب إلا طفلها الوحيد.
- يا حرام الصبي مثل اللقيط.
- إيه ... نسيت أقول لك. هل سمعت الخبر؟
- فتحت أمي عينيها بلهفة وابتسامة عريضة على شفتيها توحي بالشوق لمعرفة الخبر.
- أي خبر... شو في؟.
- بنت أم خليل، جاءها عريس من ألمانيا عنده ثلاث مطاعم في ميونيخ.
- شوبدها أحسن من هيك ... بتعيش أميرة منغنغة.
- موش بس هيك. أحسن تتزوج وإلا يحصل لها ما حصل لبنت أم عبيد.
- شو صار لبنت أم عبيد؟
- ليش ماعرفتي شو صار؟ صارت قصتهم على كل لسان.
- لقد كنا في ألمانيا عند بنت حماي. لو لم نسافر لما كنت قد عرفت الخبر - ماذا حصل لها؟
- لقد هربت من بيت أهلها وسكنت مع صديق إفريقي.
- ماذا؟! الله لا يعطيها العافية. ما هاتان الفضيحتان. فضيحة الهروب وفضيحة الحبيب الأسود. ما وجدت إلا الأسود؟ يا عيب الشوم يا زينة يا بنت أم عبيد. وماذا عن والديها المسكينين لقد مرغت وجهيهما في التراب.
- أبوها يهددها بالقتل. اقسم ألا يحلق شعر رأسه وذقنه حتى يجدها ويدفنها في التراب حية.
- يا حرام والداها، ماذا أذنبا في حقها حتى تفضحهم هذه الفضيحة. والله بنات اليوم لا يصلحن إلا للضرب.
نظرت إلي أمي وقالت بنبرة حادة، وكأنها تقول لي إياك أن تمشي على درب زينة.
- هيا بسرعة، إنهي حشو الكبة واقلي البطاطس تحركي ...وإلا ضربتك حتى يسيل دمك.
لم أنظر إليها، كنت أنجز ما قالت لي بسرعة فائقة، فقط لأنني أريد أن أغادرهما وأغادر المطبخ. كم تمنيت أن أغادر المكان كله. ليس مع صديق أو رجل أبيض أو أسود ولكن مع عزرائيل.
نظرت أم سمير إلى أمي وقالت بامتعاض واستياء:
- الضرب! ماذا تقولين يا امرأة. هنا في هذا البلد التعيس لا يسمح لنا أن نضرب أولادنا. إنه بلد الخبث والمكر، سيأخذونك إلى السجن حتما أو ينزعوا أولادك منك ويضعونهم بالبارنا فارن(مؤسسة لرعاية الأطفال المضطهدين من قبل أهاليهم).
وقفت أمي وكأنها دبابة مستعدة للقصف. وضعت يدها اليسرى على خصرها ورفعت يدها اليمنى إلى السماء تهدد بها قائلة:
- والله أضرب أولادي وأضرب ثم أضرب مثلما شئت هؤلاء أولادي وأنا حرة في تربيتهم.
كنت أنظر إليها بتقزز، ساخرة منها ومن أم سمير ومن نفسي كما تسخر منا الأيام، أكرههم، أرى أنهم معاقون، مرضى، جاؤوا غلطا وسيرحلون كما قدموا. كنت في أمس الحاجة إلى قهقهة مجلجلة، عالية، مدوية صارخة، ساخرة. انفجرت مني رغما، لكنها دوت محدثة ضجة داخلي فسحقته.
كنت أقلي البطاطس وأصرخ في داخلي،" أنت لست حرة يا أمي، جئت إلى بلد غير بلدك. مادام بلد الخبث واللاأخلاقيات، أمكثي في بلدك بلد الحضارات والقيم، بلد الأخلاق والمثل، بلد العدل والتقدم، بلد العفة والقانون." أخفضت أمي صوتها لكي لا أسمعها وقالت لأم سمير.
- الصيف القادم سنسافر إلى الوطن ونزوج ابنتنا. إنها الوحيدة بين الذكور ولا نريد فضيحة.
كنت أسمع حوارهُما الذي ينزل على قلبي كالسُّم ومن دون أن أشعر كانت يدي داخل المقلاة. صرخت إلى أن غط على قلبي من شدة الوجع. حملني أبي في سيارته إلى الإسعافات. كانت أسوا أيام في حياتي رأيت فيها النجوم ظهرا.
سافرنا إلى ضيعة والدي في العطلة الصيفية وانهال علي العرسان كالوابل. اختار أبي أحسنهم نسبا وحسبا وأُرغِمت على الموافقة. كنت أتطلع لزوج المستقبل أبحث عن شيء يوجد فيه منذ زمن بعيد. زمان طفولته. فلم أكن أر شيئا إلا أنني اقترنت برجل يرتدي قناعا سميكا ومخيفا. رجعنا إلى النرويج، منعت علي أمي أن أكمل دراستي. حصل زوجي على عمل في متجر بجرون لاند وتعلم جملا باللغة النرويجية، فتجبر واستكبر وأصبح يحاسبني على الكرونة الواحدة إن صرفتها.
أصبح ينتقد حياتنا في البيت وينتقد لباسي ولو أنه طويل ومحتشم، ينتقد احتفالنا بعيد الميلاد لأنها عادة من عادات الإفرنج، ينتقد أمي وإخوتي وأبي كان دائما في صفه. عادة في الصباح أشعر بالرغبة في النوم بعد طيلة السهر مع توأمي. ينهض للتأهب إلى العمل فيركلني برجليه لكي أستيقظ وأهيء له الفطور. في أي وقت يريد أشباع رغباته، ما علي إلا الطاعة والهرولة وإلا أركل بالرجل، فذلك جزء من الفروض الواجبة وإلا ينزل علي بالسب والنّعل. منعته يوما لأنني كنت مريضة، فلكمني وشتمني وكانت ليلتي سوداء حالكة، وعيني بلكمة يديه هالكة وشعري منفوش وأسناني الأمامية مكسرة والدم ينزل من أنفي وفمي. تركت توأميّ نائمين. تسللت إلى الحمام، لبست ملابسي وغادرت المنزل، أجري بين الأشجار، لم أستطع احتمال حالة الخوف . كنت مستعدة لأفعل كل شيء وأتخلى عن كل شيء لأجل خلاصي من التعذيب النفسي والبدني ورغم القلق على توأمي الذي يزيد من ارتباكي ومخاوفي، حكم علي القهر والذل، الهروب والتمرد من مرارة زواجي القسري. عراء في فكري، جوع في قلبي وضياع في روحي. غادرت المنزل أجري، أركض من وجع اللكمات على جسدي وضربات سددها القدر لي. جلست في الغابة أرتعد من شدة البرد والحيرة تنهال علي كوقع المطرقة.
كل شيء حولي أراه يتحول فجأة إلى أشباح مخيفة، بلعت ريقي وقد جفت حنجرتي من صرخة استغاثة صامتة. من أي طينة عجنوا ... يعيشون في خيال ووهم أفكارهم التي يعتقدون أنها سامية، يتغنون بالتقاليد وأذيال تخلفهم تجرهم إلى الهاوية. البرد يلتهم بشراهة حرارة جسدي. تكورت بجسمي الواهن، أحتضن قلبي المحطم وروحي المعذبة وأنفاسي المرتجفة، المتقطعة التي كانت تمر خائفة حذرة تتعثر على وجهي الشاحب. بحركة مثخنة بالجراح مسحت على جبيني المندرس بعصارات الشقاء، أحاول أن أهدأ من روعي لكن أحزان الليل تتوسدني إلى أن أشرق ضوء الفجر. شخصت ببصري نحو الأفق وغرقت في تأملاتي المنكسرة من خلف كواليس نفسي الممزقة يأتي صوت صامت مكتوم بداخلي، لن أدعهم يسلبون حقي في الحياة علي أن أصمد ... إنهم يصادرون أحلامي ... يلوثون روحي ... الثلج سيغطي كل الأسى بلونه الأبيض وسيمنحني ربيعا جميلا بعد الجفاف والقهر وجوع الروح وعندها ستمد لي الشمس يدها مصافحة ويغمر الفرح مساحة روحي الميتة لتنمو من جديد وتخصب ثمارا بالصيف"
تذكرت الضرب واللكم والركل فاطلقت ساقي أجري إلى أن وصلت إلى الشارع. أوقفت أول سيارة، أوصلتني إلى محطة القطار. لم تكن بيدي نقودا كافية، لكنني قررت رغم ذلك أن أغادر كل شيء وأمشي في قطار حياتي إلى آخر محطة في القطب الشمالي حيث الصقيع ... حيث البرد ... حيث الهدوء ... بعيدة عن الضجيج وعن الذل والضرب ..... بعيدة عن العبودية وعن الركل بالأرجل. في تلك المحطة الأخيرة سأجلس حول تلة من جليد أمسك بيدي الثلج وأضعه على اللكمات التي في جسدي ثم أمكث هناك إلى أن يبرد الدم الذي يفور في جسدي ويتجمد إلى الأبد. كلنا سنرحل، لكني كنت أود أن أرحل بطريقة أخرى.
الكعك
عشرة سنوات الروتين اليومي لأبي كريم من العمل إلى البار يلتقي برفاقه ، حيث المكان الذي يُفرغ كل واحد منهم ما في قلبه من آهات وأوجاع دفينة إزاء وطن مسلوب ، ويبقى الأمل في استرجاعه حلم يسكنهم في نومهم وفي يقظتهم، وعندما تلعب الكؤوس في الرؤوس يصبحون كالزجاج الشفاف ، فترى العيونُ تظهر ما بداخلهم من ألم وتتعاظم الأوجاع والجراح في أوصالهم وتزيد احتراقا في ساعات الليل يقظة وأحلاما . ملاذهم تلك السويعات التي يخلون فيها ببعضهم. يستقرئون على جبين الليل قصائد أوجاع ذلك الماضي وتجربةٌ حبِّ لعشق اسمه "الوطن" ذاك الذي أمسى في قلبهم حطاما. كل يحاول أن يسكبَ ما بداخله من حكايات مع الزمن الجلادِ ليصبح كبقايا الخمرِ الفائضة من الكؤوس الممتلئة، لعله يرمي عن كاهله ذلك الثقل الذي يحمله في روحه وجسده ، وعندما تلفظ القناني قطراتها الأخيرة ينهضون متثاقلين وهم يتعكزون على مؤخرة الليل متوسلين خطواتهم الهزيلة أن تجرجرهم إلى بيوتهم في أمان ليناموا من جديد على ذاكرة الماضي المعلق في سباتهم الذي يغطّ في لونه السرابي ولا يستيقظون إلا على رائحة الفطور المحتفلة بصباح يوم جديد، حيث يظل الأمل لعودة ولبداية أخرى. يجلس الواحد منهم مع زوجته مستوحشين الأهل و الأحباب آملين أن يرجعوا بأبناهم إلى الوطن عندما تتوفر لديهم إمكانيات مادية تحتاج إلى التقشف والتوفير. وطنهم هناك مرهون بين إنفعالات الصيرورة والبقاء مصارعا عواصف خارجية تهب بسموم رياحها حارقة اليابس والأخضر والعالم في سكون متصدّع لا يأبه بما يجري في ذلك الوطن ولمواطنيه في المنافي القريبة والبعيدة .
دعا أبو كريم ليلة كلّ أصدقائه ليشربوا على نفقته ، وبين صمت الكؤوسِ وضجيجِها وفكرةُ الخمرِ وجنونِها ، انفجرَ بركانهُ الرّابضُ في أعماق قلبهِ فكان في تلك اللحظة الراوي والمستمع . يروي تاريخه، معاناته وآهاته. تحدّث عن قصته التي طالما تردّد في البوح بها. قال لهم كل شيء حتى القصةَ الدفينةَ التي كانت مختفية وراء ستار ماض أليم. شرب حتى الثمالة فلم يعد هناك ما يفصلُ بين عقله و قلبه . فبدأ القلب يشكو العقلَ والعقلُ يملي على لسان أبي كريم الذي بدأ يقذف ُ كلمات قصته كالرصاص الملتهب. حقد دفينُ ُ يتملّكُهُ على ساديةِ أبيهِ التي صلبت روحه من غير أن تميتها.
- لن أنسى يا أصدقائي انفصال والدي عن أمي. وتسلط زوجته عليّ أنا وأختي . كانت تحرمنا من الأكل وتقفل عليّ باب الغرفة وتضربني حتى يغمى عليّ. أما أختي فكانت خادمتها المطيعة، تكافئها بالشتم واللكم وترسل عليها وابلا من التوبيخات تنزل على سقف منزلنا الصغير كالرعد. صرختُ في وجهها لتكف عن إلإساءة لأختي، شَكت لأبي فلحِقني بالمسدس ساعتين في شوارع المخيم ... تصوروا ....! أطلق علي حوالي أربعين رصاصة ، لولا عناية الله التي أنقذتني منه لكنت في خبر كان على يد من يسمونه والدي .
ضحك أبو كريم ضحكة مجلجلة يملأها حزن يَحرق قلبه ودموع تنهمر من عينيه لأول مرة في حياته ثم أضاف مُظهرا ابتسامة مصطنعة: وأنا في التاسعة من عمري أرسلني أبي لكي اشتري الشاي والسكر. وبينما صاحب الدكان يعدّ الأغراض التي طلبتها، وقعت عيناي على كعك طاجز رائحته تجعل الأمعاء تتحرك ومنظرها يجعل لعاب الجائع يسيل. كان الدكانجي مشغولا بتجهيز طلبي وكنت انا أراقبه بعيني بينما يدي تتسلل ببطىء حتى تمكنت من الكعك وبسرعة البرق أخفيتها داخل قميصي ولم أخرجها حتى وضعت زوجة أبي الشاي والخبز على الطاولة. أبصرني أبي فوقف بسرعة وكأن خبرا عاجلا استلمه من رئيس الفصيلة التي ينتمي إليها. كنت أراه طويلا ضخم الجثة. مازلت قاعدا حول تلك المائدة الصغيرة المستديرة. أنظر إليه وهو يزمجر واللعاب يخرج من فمه ويقع على وجهي وعيني وفمي المفتوح.
- من اين لك بالكعك يا ولد ... كيف حصلت عليها ... من أعطاها لك ... ولماذا .... ألم تخجل من نفسك ....؟ هل ينقصك شيئا يا عديم الحياء ... تساؤلات تنزل متتالية ... لم يترك لي الفرصة لكي اجيبه. أتدري ايها الغبي أن السرقة حرام ...؟ أتدري أن صاحبها تقطع يداه ...؟
أمسكَ بيدي وبدأ يركلني متجها بي إلى المحل الذي اشتريت منه الشاي والسكر، وكلما أحاول الوقوف يركلني برجليه طيلة الطريق وصوتي نحيل ينتحب إلى أن وقفنا أمام الدكان. فتح الدكانجي العجوز فاه مذعورا من منظري المختنق بالصراخ .
صرخ في وجه أبي:
أليس في قلبك رحمة؟ ماذا فعل لك الصبيُ لكي ينال منك كل هذا الضرب؟
-لقد سرق منك كعكا، وعليّ أن أربيه وأعلمه أن السرقة حرام.
وانهال باللكمات على وجهي ... وعنقي ... وظهري والدكانجي العجوز حزين يريد إنقاذي لكن كيف له أن يقترب من ليث جائع يأكل طريدته!!
- كف عن ضربه حالا.. ..أليس في قلبك رحمة؟ دعه يأخذ ما يشاء من الدكان.
لم يسمع أبي رجاء الدكانجي ولا توسّله. استمر في الضرب والشتم، صرخ الرجل في وجهه:
- أنا الذي أعطيته الكعك فلماذا تضربه؟
توقف أبي عن ضربي هنيهة، نظر إلى الرجل وقال له بامتعاض وخزي:
أنت لم تعطه الكعك، فلا تزيدَ الطين بلة. إن الله لا يحب السرقة ولا الكذب. قال كلامه ذاك وجرني إلى البيت كما يُجَرّ ُ الخروف المذبوح للسلخ. بمجرد أن رأتني أختي على ذلك الحال انفجرت باكية، مشفقة على منظري، فانهال عليها أيضا يضربها وزوجة أبي تنظر إلينا بشماتة. بالمناسبة يا إخواني، زوجة أبي صغيرة في السن، جميلة لباسها يختلف عن لباس أمي وعن كل نساء المخيم. تلبس الفستان فتراه عليها كنساء المجلات، يدور نسيج الفستان ملتصقا بخصرها وبطنها وفخديها، سادلا حتى ساقيها، عيناها فيهما نظرة غاوية متيمة وأبي يغرقها بكلمات الغزل بالليل والنهار. عندما كانت أمي معه كان ينهال عليها بالضرب المبرح منذ فقدت رجليها تحت لغم وتشوه وجهها. ولم تعد قادرة على القيام بأشغال البيت. ينظر إليها بتقزز ونفور فلم تعد تستطع المكوث معه . غادرت فأرسل لها ورقة الطلاق.
الساعة الثالثة والنصف صباحا، وأبو علي مازال ينفث ألمه الدفين وزمرته تستمع إليه في صمت إلى أن وقف ابنه أمامه ووشوش له في أذنيه. وقف أبو علي مذعورا ثم استأذن أصدقاءه وغادر إلى البيت. لاقته زوجته بالصراخ والبكاء.
- لماذا يا أبو علي؟ ماذا فعلنا لك حتى تمرغ سمعتنا في التراب. وأنا التي كنت أفتخر بك!؟ الشرطة يبحثون عنك. لقد انتهت حياتنا يا أبا علي ... انهيتها أنت...
بدأت تغصّ بالبكاء، ضمها ابنُها إلى صدره، ناظرا إلى أبيه باحتقار قائلا:
- لقد كشف البوليس مسروقاتِك التي كنت تخبئها بالمخزن.
لم يتحمل أبو علي نظرة ابنه ... شعر بالخزي والعار ... رياح وعواصف من الغضب هبت من روحه بعد طول السكون، فانهال على ابنه بالركل والضرب. كانت الأم تصرخ، سمع الجيران الصراخ فاتصلوا بمركز الشرطة، فما هي إلا دقائق حتى وقف البوليس أمام الباب.
وضع احد الشرطيين يدي أبي كريم في الاصفاد وقاداه إلى مركز الشرطة، وكان هو يصرخ في وجهيهما: طفولتي سُرِقت مني ... حياتي ... وطني ... لا أحد تكلم ... ماذا سرقت أنا؟ تلك الأثواب البالية والقطع الكهربائية؟! إنها ليست أكثر قيمة من الكعك.....!
بكاء ملك
عند خروجي من العمل في مساء يفترش القلق على جنبات خطواتي المتثاقلة من شدة التعب، كنت غاضبا حزينا حتى الثمالة. أسير متخبطا في المجهول وأفكاري تبحر مصارعة أمواج الإستياء التي أغرقت روحي في بحر من الأحزان. أجر جسدي المتهاوي على شطآن أوجاعي المتسكعة في شوارع أسلو ، أمشي بلا هدف ولا أعرف إلى أين؟ ضاعت أحلامي وأملي بين الرياح المجنونة التي رمتني من صحرائي عنوة إلى أحضان البرد والصقيع. لم أكن مستعدا أن أغادر وطني قسرا لأتواجد في وطن جديد بالنسبة لي في كل شيء ولأعمل في مجال التنظيف هذا العمل الشاق على جسدي الذي غادرته سنين الشباب والقوة فلم ييق منه إلا سنوات أتعبتها الاوجاع لا تتحمل العمل المضني. صراخ المسؤول في وجهي مازال يرن في أذني. "عندما تكون في العمل عليك أن تركز وتنسى كل شيء. مشاكلك الشخصية لا أريدها أن تزاحمك في عملك. هل فهمت؟ كم مرة قلت لك عندما تنهي من تنظيف المكاتب لا تنسى أن تسقي الزهور وترمي قمامة الأوراق التي تحت درج كل مكتب."
شعرت بالخجل من نفسي، من شاب في سن ابني الاصغر يصرخ في وجهي، لخطأ حصل مني عن سهو بسبب سهري ونهاري الذي يدمن ليلي. لكن لابد من انجاز بحثي العلمي الذي بدأته منذ كنت أعمل في مستشفى ومركز الأبحاث العلمية في وطني. وطني الذي مات فيه الضوء وصلب على جذع ديموقراطية "دموية" من غزو وخلع وشنق واغتصاب بكل الأنواع فخرجنا في ليلة عاصفة ترشف الرعب حيث طرنا وأبحرنا هروبا من القتل عن الهوية، فلا هوية تنفع ولا عقيدة تحميك، الكل مطارد تحت سقف سماء وطن ينزف.
أشعر بالاختناق وكأن اعصارا هب فجأة وعم الفضاء غبارا، أتذكر طلابي في الجامعة وحياتي الهنيئة مع أفراد عائلتي في بيت يحيطه روض من الجيران والأهل والأحباب. انسلخنا عنهم بل انسلخ الكل عن الآخر لننتهي في شرق الأرض ومغاربها و ليغرق بعض منا في مياه البحر ويرتاح. نحن كنا من المحظوظين لنرتاح ونستقر في شقة صغيرة تحيطها صحراء قاحلة من الجيران، لا يسلم عليك أحد ولا يطل عليك أحد. وكأنك نكرة أو أنهم هم النكرة. تلك الشقة التي يحتم علينا مغادرتها بعد سنتين من العقد الموقع من صاحبها، لنبحث من جديد عن شقة أخرى بدون جدوى. مفتاح شقتنا الجديدة ضائع في عتمة اليأس ونحن من غير كلل نتأمل بقعة ضوئية لترشف عنا همّ الانتظار.ألهذه الدرجة قدرنا يقسو علينا، أم نحن الذي بيننا خرابا وأجلسناه كرسي معتوها مليئا بالطرش لا يسمع هدير المياء إلى أن تقيأه الطوفان فصرنا ننعيه بعدما هربنا متنقلين من قارة إلى أخرى ودولة إلى أخرى وها نحن الآن ننتقل من شقة إلى أخرى. ألم يحن الوقت لتستقر أرواحنا من عناء الترحال؟
ضائعا أمشي بين شوارع أسلو ورأسي واحة مليئ بالأسى مفترشا أعماقي الخاوية وخطواتي على أرصفة الغربة تائهة بين الإنسانية والوفاء وبين القلق والجفاء أتعثر باحثا في فضاء تلك المدينة عن أمل يدثر وحشتي الخرساء إلى أن وجدت نفسي داخل حديقة "فروغنر" لأستيقظ فجأة على اخضرار الأشجار وزقزقة العصافير من فوق رؤوس التماثيل الضخمة. توقف تفكيري في تلك اللحظة ولم أعد أرى إلا عظمة مبدع تلك الأجساد الضخمة المصنوعة من البرونز. فجأة تبصر عيني رجلا مسنا يجلس وحيدا وبيده جريدة "الآفتن بوستن" كان ينظر إلى الشمس بابتسامة عاشق أو محب وكأنه يغازلها وأنا في وحدتي ومللي أستهوتني الرغبة للجلوس بقربه والتحدث إليه. توجهت نحو المقعد وجلست بجانبه، التفت إليه بين الفينة والأخرى، لم يعيرني الإنتباه وكأنه غير موجود أو أنا الذي لست موجودا. أخرجت كتابا من حقيبتي أتصفحه لأقتل مللي فإذا بذلك المسن يلتفت إلي ويحيني طالبا أن أعيره الكتاب للحظات. أعطيته الكتاب بفرح، لم أصدق أنني وجدت أحدا يقتل غضبي الذي بداخلي ولو بكلام عابر حول الطقس والشمس وزقزقة الطيور. كنت أنظر إليه وهو يتصفح الكتاب برفق وينظر إلى صورة الغلاف . يهز رأسه، يبتسم ويقرأ عنوان الكتاب بصوت مسموع: " كور فيلوك، الأسطورة والواقع" هذا الرجل الذي في صورة الغلاف من الذين قادوا دولتنا وعملوا كل جهدهم لكي نصير إلى ما نحن عليه الآن. ثم أضاف بعد لحظات من الصمت، آه على تلك الأيام، يحرك برأسه، أتذكر ملكنا "أولاف" الذي وقف في طابور مع الركاب ليشتري بطاقة القطار الكهربائي كباقي الشعب. كان حينها إضراب سياسي على البترول. لم يركب سيارته، شارك كبقية افراد الشعب. تصور ....! أذكر ذلك اليوم وكأنه البارحة. انفجر بالبكاء وجسمه يرجف، اندهشت من حالته ومن غير وعي انفجرت أبكي معه دون أن أدري لم أبكي في تلك اللحظة. فجأة يتوقف عن البكاء وينظر إلي جاحظا عينيه المحمرتين مستغربا، لماذا تبكي؟ فاجأني سؤاله الذي أوقف بكائي. قلت له في ارتباك، أبكي على بكائك. ابتسم وقال:
- أنا أبكي عن ملك محبوب عندنا. أبكي عن شهامة عن رجولة عن نزاهة، عن حاكم عادل، عن قائد ظل في قلبنا يعيش حتى الآن.
نظرت إليه وكلي خجل وقلت بحرقة تئن من تحت ضلوعي:
- أما أنا فأبكي عن أورام في قلبي متراكمة، عن حزن غربتي، عن بلد لا تفارقه الحروب، عن شعارات تتقيؤها المنابر، عن ملك مخلوع عن شعب منتشر في بقاع الأرض ينعي الوطن، عن وطن يرثي شعبا نصفه ميت والنصف الآخر يبحث عن مأوى.

هيفاء سابقا
أرنو إلى ذلك اليوم الذي أتوقف فيه عن الرحيل من بلد إلى آخر، أبحث عن ملجأ يحميني من التعسف والمطاردة، من السلطة المستبدة في مجتمعي، سلطة سلبت كل ذرّة صغيرة من حقوقي كإنسان لا يريد سوى العيش بسلام ..."
تنهدت هيفاء تنهيدة حارة، زفرت من خلالها الهواء المكتوم في رئتيها وكأنها تخرج ما بداخلهما من هواء مسموم. تتأمل المكان الذي تجلس فيه ، ترى الناس كل يسعى إلى غايته ، أما هي فقد سافرت في البر ومشت في البحر وسبحت في الصحراء تطير مع العاصفة وتسابق الريح، تغوص في الماضي وتصارع أمواج الحاضر والخوف يتملكها من تيارات المستقبل. آه يا زمن! إلى أين أوصلتني؟ هل هنا سأحط رحالي بهذا البلد القريب من القطب؟ فليكن، من المؤكد سأتأقلم معه. على الأقل أنا بعيدة من مسار تلك الرياح التي تعكّر صفو طرقاتي . بصيرتي رأت كل شيء. أصوات النساء الفاقدات أولادهن، وأطفال بلا منازل تتعثر حافية على أحجار و لا تتوقف عن الصراخ، الجدار الذي يفصل بين هذا وذاك يتنهد حسرة. كل الشوارع تبحر وسط الليل. أرض وجزر ومد لا يتوقف ، و تيارات تلبس ثوب المجون. لم أجد في ذلك الجسد قوة ولا في شمسه غابة ولا في ليله زورقا.
حانت منها التفاتة بعد أن غابت طويلا في بحر أفكارِها، فانبهرت لتلك الطبيعةِ الخلابة بُعيدَ الغروب ولذلك النسيم العليل المنبعث من صيف أوسلو، خفق قلبها بقوة وكأن تلك الطبيعَة الخضراء تدثر شغاف فؤادها المتجمد. طفح وجهُها نورا ثم ما لبثت أن تحركت شفتاها الورديتان. ماذا تريد مني أيها الزمن لقد نفذت نقودي ولم أعد أستطيع المكوث في الفندق الذي أقيم فيه، كما أنني لم أقبل في الجامعة بسبب تأشيرة السياحة. ماذا سأفعل الآن؟ تبدَّدت أحلامي. هل أستطيع أن أشتغل؟ لكن كيف ... هذا مستحيل. بعدما انتهت صلاحية تأشيرتي فلا أدري أين أسير أإلى الوراء أو إلى الأمام؟ إلى أي جهة أقصد...؟.اختلطت الجهات كلها في رأسي، التيار يجرني، يعلو بي ويهبط. أحاول جاهدة الوصول إلى البر طلبا للأمان فلا أجد إلا وحشا من الإنس أكثر ضراوة من الوحش البهيم. ارتعش جسدها المذعور من مجهول يتكسر خوفا . حلم وذاكرة تسيطر عليها ، لكن الواقع جسر منيع يحول بينها وبين الأحلام. تحس بغربة تنهش روحها فاقتلعتها من الزمان والمكان . وبعد سكينة ممزوجة بالتأوه والأنين، قالت بنبرة عالية موجوعة بالسخط، مذبوحة بالحزن : لن أهزم ... لن أدعهم يطردونني من البلد. سأمكث هنا. هذه أرض الله ... خلقها وخلقني فيها. إلا أنني وجدت في مكان غير لائق بي. سأشتغل ولو بطريقة غير قانونية" العمل بالأسود" سأشتغل بالأسود ريثما يحلها الحلال. استيقظ ضميرها على غفلة: أي عمل أسود هو يعتبر جريمة. سقطت دموعا مالحة على خدها ... الجريمةُ الأكبر إن عدتُ من حيث أتيت. بدأت تتوجع وتعتصرها آلامُ ُ في رأسها وكأنها قد فقدت البيانَ و القدرة على التعبير ... شحبت وامتقع وجهها الثمل بالغضب، صرخت بصوت عال غيرَ مباليةٍ بمن حولها. القانون لا يحمي المغفلين. وأنا لست مغفلة حتى أدعَهم يطردونني من البلد. سأشتغل بالأسود وإن لم أجده سأبحث عن الأبيض أو الأحمر أو الأزرق. المهم أن أجد عملا، وليكن لونه ما يكون. المهم ألا أرجع إلى وطني الذي كان يوما في غابر الزمان، كان عقيما على ما أذكر ، لم يترك لي شيئا يدل على إنتمائي له، إنني مقطوعة الجذور، غريبة الديار. يأسي وغربتي تقطع عمري. أهتف ، أصرخ ، فما لبى الزمان ندائي. سئمت أنين سهري الذي يلتهم روحي كما تلتهم النارالهشيم.
أخرجت جوازَ السفر من حقيبتها، مزقته ولم تترك أي شيء يدل عن هويتها. تنفست الصعداء. الآن تحررت من هويتي الزائفة، من كل شيء يربطني بتلك البقعة من الأرض. منذ الآن أنا لست هيفاء. أنا مجرد إنسانة تبحث عن الإنسانية في هذا العالم اللاإنساني. أمسكت حقيبة ملابسها وتأهبت لمغادرة الحديقة العامة. تمشي بتثاقل وعيناها مطرقتان في الأرض. تمشي ولا تعرف إلى أين، تعبر الشارع كحد السيف بين المكان الذي قدمت منه عبر سنوات القهر وجفاف الروح. تعبر إلى الطرف الثاني من الشارع، تتابع سفر حياتها في درب لا عودة منه ولا إياب. تراه جنات النعيم. صرخ أحدهم:" الضوء أحمر" لم توقظ صرخته سباتهَا... كانت ذاكرتها تضج بألم على وشك الإحتضار وعيون دامعة كينبوع أبدي. تصدمها سيارة وتقع على الأرض مغمى عليها. ولم تستيقظ من غيبوبتها إلا بعد أسبوع في المستشفى. فتحت عينيها فرأت سِربا من الأطباء والممرضات حول سريرها. نطق أحدهم:
- حمدا لله على سلامتك. لقد نجوت بأعجوبة. جرح صغير فقط في مقدمة رأسك ماعدا ذلك فجسمك سليم.
تطلعت إليهم باستغراب.
- منذ متى وأنا هنا؟
- حسنا تتكلمين اللغة الإنجليزية إذا.
تحاول أن تتذكر، إلا أن ألما يعتصرُها في رأسها.
- بلد ... لا أعرف.
- ما اسمك؟
- اسمي ... ما هو اسمي ( تحاول أن تتذكر) لا أعرف.
نظر الطبيب إلى باقي المجموعة وقال بلغة البلد:
- يظهر أنها فقدت الذاكرة.
نظرت إليهم والرعب في عينيها:
- أريد أن أذهب ... أريد أن أغادر المكان حالا.
- إلى أين؟
- لا أعرف ... أريد فقط أن أذهب من هنا.
- يجب أن تمكثي هنا فترة من الزمن حتى ننهي كل الفحوصات.
نظر الطبيب إلى ساعة يده ثم غادر ولحقه من كان معه.
تأكلها نار الحيرة حتى سمعت طرق الباب. التفتت فإذا بها ترى شابا وسيما، أشقر ذا عينين زرقاوين كأنهما البحر في صفاءه ... هزةٌ أيقظت شعورها العميق. اختلج فؤادُها الرقيق وتجرع عقلها ذاك الشعور الدافئ مبتدعا مشاهد حاكتها رغبتها في الأمان.
- من أنت؟
تقدم الشاب ببطء نحو السرير، ثم جلس على كرسي بجانبها ووضع باقة الورود في حجرها وقال بارتباك وعيناه محدقتان في عينيها.
- أ ..أ... أنا الذي ... أنا الذي كنت ... لكن لم يكن خطئي ... أنت التي كنت تمشين في مكان غير مسموح به للمشاة، ورأسك منحن إلى الأرض.
- فلماذا جئت بباقة الورود إذا؟
- أريد أن أطمئن عليك.
- تطمئن عليّ! أغرب عن وجهي ... لا أريد أن أراك ... أخرج من هنا حالا.
غادر الشاب غرفتها. أما هي فقرفصت على السرير، تبكي وتندب حظها، تمزق باقة الورود وتصرخ من أنا؟ ما اسمي؟ من أين جئت؟ هل أنا عاقلة أم مجنونة... واحد أم اثنان ... هل أنا موجودة أو غير موجودة ... هل أنا في الواقع أم في الخيال ...إنني أحترق... إنني أطير ولا أسقط ... أغرق ولا أختنق ... هل أنا.... لا ... أنا ... أنا .... من أنا ....
لم تجد جوابا عن أسئلتها .... دموع تسيل وعينان تجولان في تلك الغرفة البكماء إلى أن غطت في نوم عميق بعد حقنة مهدئة. بعد أسبوعين قررت هيفاء الهروب. غيرت ملابسها وتركت حقيبتَها، ثم تسللت من غير أن يراها أحد. بمجرد أن غادرت المبنى، حتى أطلقت ساقيها للريح ، سمعت صوت فرامل السيارة. أخرج السائق رأسه من النافدة صارخا.
- الجواميس هي التي تمشي بغير انتباه.
نظر إليها يتفحصها مستغربا.
جحظ عيناه غير مصدق ثم أضاف قائلا:
- أ هذه أنت؟ ماذا تفعلين هنا؟ المفروض ...
- أريد أن أرحل من هنا. من فضلك ساعدني.
نظر إليها مندهشا وعلى محياه الاستسلام، لوجه بديع، صبيح، غادرته الأسقام. صارت رقيقة وكأنها غصن بان و قضيب من ريحان. ابتسم قائلا:
- هيا اركبي بسرعة؟
اختفت هيفاء مع ذلك الشاب الذي كان سببا في فقدان ذاكرتها وسببا في منحها حياةً جديدة تختلف عن التي كانت تعيشها. منحها حرية حلمها وحلم حريتها ولم يُعرف حتى الآن من أين أتت وما هي عقيدتها. إلا أنه أصبح اسمها ماريانا وتعيش مع ذلك الشاب الذي داس يوما بعجلات سيارته هيفاء الجزائرية.
قطار الحرية
كان صعبا عليّ التنفس من شدة الصقيع ، لذلك فضلت المكوث داخل محطة القطار وليس على الرصيف. ثمة باب زجاجي كبير يفصلُ الثلجَ المتراكمَ في الخارج عن ثلجي المتراكم في داخلي . لم أكن لوحدي فالمكان مزدحم كالعادة رغم الطقس البارد والسماء الحالكة. كلّ متدثِّرٌ بمعطف من فرو أو من صوف، وكلّ ترى الرغبة في عينيه للوصول بسرعة إلى المكان الذي يريد . وجوه حزينة، عيون قاحلة، نساء جميلات، كل يركض في جنبات تلك القاعة الفسيحة . تراهم يهرولون وخطواتهم ترقص على نغم رياح القطب البارد.
أنتظر القطار في ضجروالرياح تعيدني داخل أحلامي المتجمدة. أتأمل الوجوهَ الشاحبة من بين أعمدة الضباب وهي تتحرك. أختلس النظر إلى كل ما يلفت انتباهي حتى سمعت صوتَ وقعِ الجوال على الأرض، وعلا صوت امرأة مدويا كجرس الإنذار. تتكلم بلغة لا أنا ولا غيري يفهمها. موجهة كلامها إلى زوجها. كنت انظر إليهما مترجمة حوارهما حسب حركات أيديهما وطريقة النظرات الحادة التي كانا يتبادلانها. شعرت بالخجل أول الأمر. إنهم أجانب مثلي. صحيح أنا إفريقية وهما من آسيا إلا أننا تجمعنا أشياء كثيرة؛ نفس الغربة والمعاناة ووحشة الأهل والأحباب وأمل الرجوع الذي اندثر في سراب الاغتراب.
عمر الصقيع يلبسنا وروح الغياب تَسكننا رغما. سنين من العمرتمضي ثقيلة، مليئة بالمكابدة أو بالإتكالية على دخل زهيد من الضمان الاجتماعي ونحلم أن نصنع منه المعجزات. كل ما يمسهم يمسني. أتطلع إليهما فضولا، خجلت لنباحهما على بعضهما أمام الملأ ككلاب الشوارع. تمنيت لو كنت أتكلم لغتهما لأقول لهما كفّا عن الصراخ إن منظركما يثير الاشمئزاز. مشاكلكما عالجاها في بيتكما وليس أمام الملأ. إنكما فرجة للأعمى والمبصر. أرأيتم أحدا من سكان هذا البلد ينبح مثلكما؟ بالطبع لا. فلم لاتخجلا من نفسيكما. كونا مثلا، صورة جميلة تعكس فن البلد الذي قدمتما منه أو أرحلا منه عن بدون رجعة. مازال صراخهما يدوي في قاعة الإنتظار والناس الفضوليون وغير الفضوليين ينظرون إليهما وجسمي يتصبب عرقا من خجلي. تمنيت لوكانت لي طاقة جني فانوس علاء الدين لأخذتهما من مكانيهما وألقيت بهما في البلد الذي قدما منه. كانت المرأة أكثر صراخا وكان الرجل أكثر خجولا. لون وجهه بلون معطفه الأصفر الباهت المتسخ. بدأ يُخفض من صوته، خافضا رأسَه وزادت هي في الصراخ والشتم وعلا على الأثرِ نحيبُها متأهبة للانقضاض عليه ولم لا فهي في البلد الذي أعطى للمراة حريات وحقوق ليس لها حدود. أعطاها حرية التعبير فصارت تعبر كما شاءت عن رأيها وغضبها بالصراخ. وأعطاها حقوقا تصونها من تعسف الرجل فصارت هي تتعسف كما شاءت ومتى أرادت بسبب و بدون سبب. أعطاها حرية الاستقلالية فتراها مستقلة عن زوجها وأولادها ولو تحت ما نسميه بالرباط المقدس. الله أكبر! ما أروع فهم المرأة القادمة من هناك لوطن الحرية هنا. أصبحت أكره هذه الكلمة حتى الموت. إنها تؤذيني في روحي، في أذني وفي عيني. أصبحت كلمة ً ذات رائحة نتنة ومنظرها يرعبني ولمسها يثير حساسية في جلدي.
مازال ضجيج صوتها الحاد يحوم في فضاء المحطة. ترى عن ماذا كانا يتحدثان؟ ما كنت لأعلم إلا أنني حللت قصتهما كغيري من محبي الاستطلاع. بطبيعة الحال كل يفسر حسب طريقته. فكان استنتاجي أن الزوج عندما ألقى بالجوال على الأرض قد رأى حتما رسالة من حبيب أوعشيق أو ما أثار غضبه وبدأ يشتمها مكشرا عن أنيابه وبدلا من أن تدافع عن نفسها باحترام وتشرح الأمر لتخلص نفسها من التهمة الموجهة إليها، كانت تتحسر على جوالها الذي لفظ آخر أنفاسه وانطفأ الضوء من شاشته ولم يعد هناك أملُ ُ بإستعماله مرة ثانية عندما فحصته بيديها المرتجفتين. أطلقت عنان صراخها في ذلك الفضاء الفسيح، تشتم وتسب واللعاب يخرج متطايرا عبر شفتيها القُرمزيتين، تنفجران بما تجمع فيهما من أحمر الشفاه القاتم وعيناها المغموستان في الإثمد يتطاير منهما الشرر، ووجهها مسقوف بجدائل فوضاوية وكأنها أفاعي مستعدة للهجوم في أية لحظة. لم يعد الرجل يحتمل منظرها ولا موقفه معها الذي سبب له إحراجا. فأسرع باتجاه أول قطار. أما هي فكانت ترفع يديها إلى الأعلى صارخة فيه بلغتها: ليس ذلك هو القطار الذي سنسافر فيه... تنظر إلى ساعتها وتصرخ بصوت مبحوح وهي تلملم وقاحتها بالعويل والحسرات ترثي جوالها الذي اختفى تحت نسيج ثلجي. تسب، تنبح وتلعن محاولة بشجاعة الجبناء اللحاق بالقطار الذي كان يسير غير مبال، كنت أراقبها من بعيد، مازالت تصرخ وما زال القطار يسير.
اقتلوا الجوال
أصبحت أكره رنة الجوال. ترعبني، تشل دقاته عضلاتي ، وتتسارع دقات قلبي . كم ضللت طريقي وكم فتنة راودتني بسبب رنة الجوال. إلى أين أمضي؟ لا مفر. كلّ الدروب، وكل الجهات سواء. شريد، وحيد وعيناي واجمتان، نائيتان، ترفضان الانحناء والتخاذل. عشت ومت كثيرا، في رحم الأزمان، وفوق عذابات الغربة، التي تحرق قلبي، ولم تترك في عنقي غير الغثيان.
يرنّ الهاتف ...
- ألو ... والدك في المستشفى، عليك أن ترسل النقود فورا.
أرسلت النقود منذ أسبوع، لأن والدتي ستعمل فحصا طبيا عاما. حتما سأكون لهما العون، عندما أتخرج وأجد وظيفة محترمة تليق بشهادتي الجامعية.
يرنّ الهاتف ..........
- ألو ....! والداك يريدان أن يسافرا إلى المدينة المجاورة، ليغيرا الجو الكئيب، ومضايقات الجيران.
أعلم يا أبي، أيضا الجيران متضايقون من ضيقة العيش مثلك، فأصبح كل منهم يضيّق بالآخر. هذا يغار من جاره، لأن له أبناء في الخارج، يرسلون له النقود مدرارا، وهذه تغار من لباس جارتها، وهذا مرارته ستنفجر، ولم يجد مكانا في المستشفى، وجارنا أبو حسن مصاب بالإحباط لترك زوجته البيت، وقد تزوجت غنيا أخذها إلى بلاد البترول. أعرف أن عدم الإستقرار سيد البلاد، وأن الأنهار جفت دموعها، والأشجار أجهضت أوراقها، والعدل سوى ديباجة الهم في الظلمات، وأنا هنا بين غربتي ودراستي، والتفكير فيكما عاصفة في قلبي.
يرن الهاتف ...
- ألو ... والداك يريدان أداء العمرة، ولابد من إرسال النقود في أقرب وقت ممكن ...
لست أنانيا، لكن ماذنبي إن كانت النرويج لا تزرع النقود في الشارع بدل الأشجار، وإن حجارتها لا تتحول إلى نقود.
كل ليلة عندما أرجع إلى غرفتي في الحي الجامعي يكون جسدي مُنهَكا ... لا يسعني إلا أن أتداخل في جلدي، أتشرب أنفاسي، أتجول في تاريخ طفولتي، أتنزه في ذكرياتي، أتحد بجسمي المتفتت، في أجزاء يومي في الجامعة، وفي حديقة منزل أستاذي د. (أندرسن)، أتشابك طفلا وصبيا ورجلا قويا، يتآلف ضحكي وبكائي وعزيمتي، أن أتخرج وأجد عملا أعين به أهلي. لابد من ذلك، فأنا ابنهم، مِلْكُهم، هكذا يقول لي أبي: "تَصرفّ المالكِ في ملكه، يعدّ عدلا لا جورا" لم أفهم فلسفته الثقيلة. أصبحت فريضة كمن يُسَبّح بعد الصلاة. لكن بداخلي أحسها سلطة استبدادية، تزعم الحكمة والنص، اللذين لا يأتيهما الزلل من أمام أو خلف .
يرن الهاتف ...
- ألوووو ... ابني، عليّ دين من الحاج (حسن)، إنه غاضب مني، لأنني لم أسدد له المبلغ في الوقت المحدد. أرجوك، يا ابني، حاول أن ترسل المبلغ حالا. سبع سنوات بجامعة (أوسلو)، المفروض أن اكون الأن أحمل شهادة جامعية من أربع سنوات. لكنني ما زلت أتصارع بين أمواج الامتحانات، وأتسكع بين تيارات العمل، وبالوعة أهلي التي لا ترحم. لا يسألان كيف أعيش؟؟ وكيف أحوالي الدراسية؟. همهم الوحيد النقود، النقود فقط . كنت أحيانا لا أتصل هاتفيا وأكون قد تعمّدت ذلك. أصبحت المكالمة لوالدي مجلبة للهمّ، أو أخبارا محزنة، أو طلبا للنقود، وعندما تمرّ فترة ليست بالطويلة ولم أتصل بهما ...
يرن الهاتف ...
- ألو ... لماذا تأخرت عن الإتصال؟ لماذا تحرمنا من سماع صوتك؟ أمك وقعت في الحمام، كسرت ساقها ونحتاج نقودا لمعالجتها.
ذهبت عند أستاذي د. (أندرسن) لأستلف منه النقود. ربت على كتفي وقال: إني أتفهم طلبات والديك اللانهائية، وأفهم بِرّك ومساعدتك لهما. لكن، عليك أن تركز على دراستك ومستقبلك، إلى متى ستظل في الجامعة. وتركيزك على العمل والتفكير فيهما وفي طلباتهما التي ليس لها حد ، لن يجعلاك تفلح في دراستك. بقدر ما وجدت كلام أستاذي منطقيا، بقدر ما شعرت بالنفور منه. كيف ينصحني أن أهتم بحالي؟ هذه أنانية، هذا هو العقوق بعينه. سئمت دموعي على خدي ذراعي ويا ليتها تغسل أعماقي. كنت أغمغم بين الصمت والهلوسة وأنا أختطف اللحظة من إنهماكي في التفكير. سأرفع علما صغيرا، أرسم عليه قلبي واستسلم ، لا أحد يفهم شيئا ، كلهم لا يفهمون! لا والدي ولا الدكتور (أندرسن)، هذا الذي يقول لي بأنه يفهم ويتفهم. إنه لا يفهم شيئا على الإطلاق. أهرب من بردي وصقيعي. دروبي كلها محطات سفر، ضجيج صمتي وصمتي صخب، ساخط أنا ولكن، لا اعتراض لدي!
يرن الجوال ........
- ألو ....!! والدك يريد أن يفتح متجرا صغيرا. الضجر يأكله من يوم تقاعده عن العمل.
هل أقول الوداع؟ كيف أقول الوداع وإلى أين؟ أنا من يأكله الضجر. أنا من تفتك رنات الجوال في أحشائي، ترشّ سما على قلبي وأركض مجنونا، باحثا عن الحياة. حياتي ليست حياة. إنها مِلْك غيري، يتصرّف فيها كما يشاء عدلا لا جورا. لا أريد العدل ... كرهت هذا العدل ... ربما الجور أحسن ...
يرنّ الهاتف
- ألو ... نريد النقود حالا نحن في أزمة.
- سمعا وطاعة يا أبي سأتدبر الأمر ...
أقفلت الجوال، قرفصت على الأرض، وبدأت أضرب عليها بكلتا يدي كالثكلاء، أتعثر حافيا داخل أحشائي. من الذي في أزمة؟ من يمشي على الغيم ويسقط رذاذا؟ من يتقدّم إلى الوراء فيما الحياة تسير إلى الأمام؟ من المعلق على ورقة، منتظرا حياة تطلع من بين رنات الجوال؟ من الذي يقفز فوق حبل الأزمات؟ كم كان بوسعي أن أحتسي القهوة بين أوراق كتبي، وأمارس ثرثرتي مع أصدقائي، دون أن تضايقني الأيام، وترعبني الساعات، والأحلام تتزلزل عارية على جسدي، فتؤرقه، وأستيقظ في كل صباح شاردا من شفاه الدجى، وحين يأتي الضحى، يداهمني مرة أخرى جرس الجوال:
- ألو ... والدي كيف حالك وحال أمي ؟
- آه يا ابني، الأحوال صعبة كالعادة، والديون متراكمة، وأمراضنا متلاحقة، والضرائب على رأسينا تضرب من غير رحمة، فماذا نفعل يا بني ؟ ليس لنا إلا الله وأنت.
كنت أسمع كلامه، أنتظره يسألني عن أحوالي، عن دراستي، وغربتي، قاطعني قائلا:
أريد أن أغير محرك السيارة، إنها واقفة أمام الباب، وأمك جالسة بقربي، تحيطنا جدران الوحدة من كل الجهات. أريد أن آخذها إلى البحر لتشم هواء نقيا، لكن كيف لي بذلك والسيارة معطلة؟
- سأحاول يا أبي... سأحاول.
- لا تجهد نفسك يا بني، لكن ليس لدينا أحدا سوى الله وأنت.
- ولا يهمك يا أبي، سأتدبر الأمر.
ربي يحميك، أيها البار، وأقفل السماعة. أما أنا، فالدنيا أغلقت أبوابها في وجهي، ونشرت على جسدي ومن حولي لونا قاتما. أستغفر الله!!! عليّ رحمتهما كما ربياني صغيرا. لكن طلباتهم لا تتوقف ، تنزل على رأسي كالصخر، كالمطارق، كالرعد، وليس هناك من أشكي أو أبكي له. أمشي على صمتي وتحت أقدامي هاوية. كل أصدقائي يطالبونني بنقودهم ولم أجد عملا في المستوى المطلوب، أملأ به بالوعة أهلي التي ليس لها نهاية . الكل أصبح نافرا مني ومن يدي التي دائما سفلى تحت رحمة أيديهم. ليس لي إلا الجزار حسن، هو الذي سينقذني من ورطتي. أنعم الله عليه بمال كثير. يا ليت كان بحوزتي رصيد من المال، أفتح دكانا لبيع اللحوم مثله. اللحوم بشتى أنواعها وجنسها في هذا الزمن هي التي تجلب أموالا بلا حدود.
استدان (كريم) المبلغ حسب شرط (الحاج حسن)، على أن يردّ له المبلغ بعد ثلاثة أشهر، وأن يدفع له خمسة عشرة في المائة من قيمة المبلغ. تذكر كلام أبيه: " إسمع يا بني، من يفكر في والديه لإسعادهم، يسعده الله ويرزقه من حيث لا يحتسب، لأجله ولعائلته، ومن يفكر في نفسه فقط، فلن يفلح حتى في إيجاد لقمة تسد رمقه " سدد (كريم) الديون التي كانت عليه، وأرسل ما تبقى منها لوالديه.
ثلاثة أشهر مرت كلمح البصر، ولم يستطع تسديد دينه لصاحبه مثلما وعده. كان يجلس في غرفته بالحي الجامعي يفكر في حلّ لورطته. أختلط عذابه بأنينه، يبكي حرقة ولا يدري على نفسه أو على أبيه. يرن الجوال، يتوسل إليه، يكبس على الأزرار ويديه ترتعش، ألو ...ألو ... ليس له رصيد كاف للإتصال. يجلس على سريره كالمشلول، يلملم حزنه المخضب بكوابيس ظنونه. يا إلهي ! أبي في ضيقة مالية، وأنا عاجز لمساعدته! يرن جرس الجوال، يقفز كريم من سكون صمته المشلول، يضغط بقبضة يده على الجوال، يريد أن يخنق عنقه، ويحطمه. أكرهك أيها الجوال، هل فهمت؟ أتسمع ما أقول؟ مازال الجوال يرن وهو يرجف كما القادم على جريمة. أخرس وإلا كسرت أسنانك. لم يبال الجوال بعصبية صاحبه. يجحظ كريم عيناه، يقف ممسك الجوال بكلتا يديه. ألا تخجل من نفسك؟ لقد تعديت الحدود، وتماديت أكثر من اللازم. أصبحت أكرهك، لا أطيق رنتك. إنها تشق أذني، وتطرق رأسي، وتعصر قلبي. أفهمت أيها الوقح!؟ يقهقه الجوال مرسلا رناته المتلاحقة. كفى! مازالت يداه ترجف، وصوته يزعق، والجوال يرن مسترسلا غير مبال به ولا بحزنه وغضبه، ومن غير شعور كبس على زر الجوال، فخرج منه صوت أبيه:
- ألوووووووو ... ألوووووو ... ألووووو ... الأب يوجه كلامه لزوجته. يظهر أن هناك مشكلة في الخط ..... ألووووو .... بني .
سمع كريم صوت أبيه، فرد عليه. ألو أبي، كيف حالك؟ وكيف حال صحتك؟... كيف حال أمي؟ قاطعه أبوه، ألوووو... ألوووو .... صوتك غير واضح، لم اسمع شيئا مما قلت، وحتى لا أطيل عليك، أريدك أن ترسل لي مبلغا حتى أبني غرفتين على السطح وأؤجرهما. سمعا وطاعة يا أبي... سأحاول. أرجوك لابد أن تجد المبلغ، لأنني وقعت للبناء شيكا على بياض، وأقفل السماعة.
لعنة الله على الشيك الفارغ! تبا للبناء الذي وافق على قبول الشيك من أبي! أما أنت أيها الجوال الوقح، سأحطم عظامك. خارت قوى كريم، وقع على الأرض كالذي أصابه شلل. بدأ يلطم خديه كالثكلاء، يبكي ويندب حظه وورطة أبيه. لابد أن أجد حلاّ. وضع الجوال في جيب سترته وغادر الحي الجامعي. يمشي ولا يعرف إلى أين يتجه. تمنى أن يجد حقيبة مليئة بالنقود، أو أن السماء تمطر نقودا. تمنى لو كان قطا أو كلبا أو حشرة. تمنى لو لم يكن. ضجيج، عواصف وبراكين بداخله . يمشي كالسكران ويحدث نفسه إلى أن توغل بشارع كارل يوهان . يحرك يداه كالمجنون . يعض على شفتيه، وأحيانا يضحك بامتعاض شديد، غير مبال بأحد في ذلك الشارع المليء بالمارة. رسام يعرض لوحاته، ومجموعة موسيقية من البيرو ترقص رقصها الفلكلوري، رجل لونه كلون النحاس، واقف كالأصنام لا يتحرك، وآخر يرقص دمية، وسيارة شرطة في نصف الطريق، أجانب يبيعون الحلي أمام المحلات، ومتوسل هنا وسكران هناك، أصوات موسيقى وكلام يتطاير في فضاء ذلك الشارع، وكريم يمشي وكأنه أصم أعمى، لا يسمع ولا يرى إلا الصراعات التي في داخله.
يرن الجوال، يقفز مرعبا، ألووو .... أنا الحاج مصطفى، لابد أن تأتي غدا بالنقود التي استلفتها لك، والا قدمت الشيك للمحكمة. حاضر، سأتدبر الأمر. وأقفل الجوال. يرن الجوال مرة ثانية، ألووو...من ... أهلا ... كيف الحال ... حاضر... لكن الآن ليس عندي نقودا، أمهلني شهرا. يصفر وجهه ، حاضر، سأحاول، سامحني على التأخير، أنت تعرف الأحوال ... طيب، طيب سأحاول. مع السلامة. يرن الجوال مرة أخرى، من؟ أسامة! أهلا كيف حالك؟ لا تؤاخذني كريم ، أنا في أمس الحاجة إلى النقود، سأسافر قريبا إلى وطني. حاضر سأتدبر الأمر .
يا إلهي! يا ربي! الله أكبر! ما هذه الورطة؟ أحس بدوار، غشاوة على عينيه حجبت الرؤيا، شعر بالاختناق . يفتح زر القميص، يسعل، تجحظ عيناه وكأن أحد يضغط على عنقه، يرن الجوال، يصرخ صرخة مدوية في ذلك الشارع، يرمي بالجوال على الأرض، يلتفت إلى المارة وبركان دفين في داخله على وشك الإنفجار، يسمع جرس الجوال، يتجه نحو صوت الجرس، يخطف الجوال من يد صاحبه، يضرب به بقوة على الأرض، يرى امرأة تتحدث على الجوال وتضحك، يتجه نحوها، يخطف منها الجوال، ويضرب به على الأرض.
تأتي الشرطة، تضع الحديد على يده، وتأخذه إلى المركز، يتحدث إليه المحقق، يصرخ كريم في وجهه: أقتلوا الجوال! لابد أن تقتلوا الجوال، حرام أن يعيش الجوال! أقتلوووووووه .... ووقع مغمى عليه.

منحتموني الغدر فسقيتكم السم
لم أشعر بنفسي معهم ...كلهم كذابون منافقون. قلبي تتسارع دقاته. كم يبدو متعبا، يائسا، مهزوما. جسدي يبدو بعيدا عني، لا أحس به بالرغم من يقظتي وعيني المفتوحتين. لكنني لا أرى. الظلام يغمر حياتي كليا. كلهم كذابون منافقون. أخذوا كل درة حب في حياتي، كسروا سعفة الأمل، أضرموا في جسدي النار، أحرقوا كل شيء جميل في روحي، فصرت رمادا تحملني العاصفة بكل قوة. أشيع في الريح وأقتلع وأقضم من أجده في طريقي. لم أعد أشعر بنفسي... بكياني ... قلبي تتسارع دقاته ... كم يبدو متعبا... يائسا... مهزوما ... جسدي يبدو بعيدا عني لا أحس به بالرغم من يقظتي ... عيناي مفتوحتان لكنني لا أرى ... الظلام يغمر حياتي كليا ... لا يريدون مني إلا الحصول على إقامتهم في البلد. يضحكون علي بكلمات معسولة لكنهم يكرهونني. إنني بالنسبة لهم مجرد شر ... رخيصة تبيع جسدها بكل سهولة وتتبع الرجال كما يتبع الكلب الجائع رائحة الأكل. عبثوا بي وهزؤوا بقلبي. لم أعد أشعر بجسدي ... لم أعد أشعر بالحب. جسمي ممدود وروحي منهكة وعيناي مفتوحتان تؤلماني ... جفت دموعي وماتت احاسيسي.
- لا تحقدين عليهم كلهم بسبب غلط أحدهم.
- كلهم غلطوا ... كلهم أذنبوا وسيدفعون الثمن غاليا. هل تسمعين؟ سيدفعون الثمن غاليا. لن أرحمهم، سأعذبهم كما عذبوني، واذيقهم طعم الموت وهم يمشون على الثرى. أكل هذا الحقد في قلبك اتجاههم؟
- لقد كانوا كهبوب ريح قوية ... يدفعونني بقوة. لم أملك سوى ان استجيب لهم، بحثا عن دفء لقلبي البارد المتجمد. رغبة في نظرك مجنونة، لكنها تجتاحني ... اعرف انه لا يجدر بي فعل ذلك. لكنني أفعله، متلذذة بكل شيء، متالمة من كل شيء، يتنازعون علي كما يرغبون، وأطاوعهم من دون اعتراض.
أنا لست حقودة. أنا مجرد إنسانة تبحث عن الحب والإستقرار. تبحث عن قطف الحب لكي تعطي بسخاء. أنا لست إلا نبتتة تحتاج ماءا لكي تزهر وتنعش الناظر إليها. الريح تصرخ في وجهي، تهز لباسي، تعبث بي. كم كنت أبكي وفمي مبتسما وكم كنت أخلذ للصمت وأقول في نفسي ليتكم ترو دمعي حينها، وليتني لم أشهد التجربة. وليتني لم أشهد التجربة.
(ألكسندر) سرق مني ابنتي واختفى بها في مقدونيا. و(سوفوكليس) كان يكذب علي، يكرمني بإيثار عواطف كاذبة. مالبث إن حصل على الجواز حتى رجع إلى كريت، و(علي) كان يضربني ويمنعني أن أتبرج في لبسي. (كامبالا) كان يأخذ نقودي ويرسلها إلى أهله في الموزمبيق، و(تو) كان يعيرني بالفيتناميات اللواتي في نظره يختلفن عن النرويجيات بتضحياتهن للزوج والعائلة.
- لا تحكمين على كل الرجال من خلال تجاربك مع بعضهم.
- تدافعين عنهم يا هداية. ربما حياتك العاطفية ناجحة مع أحدهم.
- أنا لست متزوجة.
- أعرف ذلك. لكن من المؤكد لديك صديق.
- لا أبدا.
- تمزحين.
- أنا لا أمزح. ما زلت عذراء.
- عذراء! قطعا هناك خلل في عقلك.
- لا ليس هناك خلل ولكن عاداتنا لا صديقا ولا حبيبا ما عدا الزواج.
ضحكت ضحكة كالبكا، ضحكة مجلج
لة كالرعد محملة بمطر غزير حزين. ثم أردفت قائلة بنبرة حزينة
- في هذه الحال وفرت عليك كل المشاكل والجحيم الذي مررت منه.
- رغم كل تجاربك هذه ما زالت الدنيا بخير وفيها رجال يعرفون الإخلاص والوفاء.
تطاير الشرر من عينيها ...
سأنتقم منهم كلهم. ما أحد أتعرف عليه إلا وأتركه مجنونا، مهووسا أو ضائعا. سترين بعينيك يا هداية. سأنتقم لكل مظلومة بالعالم. أعرف أنك تسخرين مني وتهزئين ...تنظرين إلي بعين العطف حينا وبعين الدهشة حينا وبعين السخرية أحيانا أخرى.
كل مساء عندما ترجع من عملها تتزين وتتبرج ثم تذهب إلى الديسكو تصب على ثيابها قنينة البيرة وتشرب جرعة واحدة فقط... تتظاهر بالسكر وتجر ضحيتها إلى شقتها ليقضي معها الليلة في جنة ليلتها النعيم. تتسلل باكرا إلى وظيفتها بالمستشفى. في الصباح عندما يستيقظ من نومه يذهب إلى الحمام فيرى جملة مكتوبة بأحمر الشفاه على المرآة. يقف مشدوها أمام الجملة ...تتدلى روحه عارية من الأوراق ... يكبر الصراخ في شفتيه الذابلة ... تخرج أغصان الألم ممزقة قلبه ... ينظر إلى الجملة التي اغتالت جسده في الحلم ... يقرأها بتلعثم ...
Welcome to the world of aids

زكية خيرهم الشنقيطي
• ماجستير أدب انجليزي. جامعة ” سان فرتنسيس كالدج” فورثواين، انديانا بوليس.
• أقامت معارض للخط العربي في كل من أكادير، تونس ، نيويورك وباريس.
• عملت استاذة اللغة الفرنسية في مدرسة ” ارتهاغن” أسلو 1994.
• عملت في المركز الثقافي العراقي أسلو 1996.
• نائبة رئيسة المنتدى العربي أسلو 1997.
• عملت مستشارة للمركز الثقافي النرويجي 2004 لاختيار كتب من الأدب العربي لترجمتها.
• حصلت على شهادة سفيرة سلام من المنظمة الفدرالية العالمية للسلام سنة 2006 في جنيف.
• نشيطة حاليا في المنتدى الثقافي المغربي النرويجي 2008.
• عضوة في نقابات الكتاب في النرويج.
المؤلفات
• قصة للأطفال الصغار بعنوان " كما تزرع تحصد" 1996.
• كتاب للأطفال الصغار "قصص مسائية من العالم الواسع" مع 11كاتب من جنسيات متعددة، 1999. دار نشر (كلتور برو قورلاغ(.
• لها كتاب مع مجموعة من الكتاب الأجانب حول ثقافة التهذيب في المجتمع النرويجي. 2005 كلتور برو فورلاغ.
• صدرت لها رواية ” نهاية سري الخطير " المؤسسة العربية للدراسات والنشر" عمان الأردن.2003.
• الطبعة الثانية من نفس الرواية في مؤسسة "دار زاوية" الرباط المغرب 2008.
• مجموعة قصصية قيد النشر "العربان في بلاد القرصان".
• كتبت مسرحية مع كاتبة الدراما السويدية، لينا ستايملر وستمثل في اسلو وفي بعض المدن الأخرى بالنرويج هذه السنة 2008 بشهر أكتوبر ونونبر.
• شاركت في المؤتمر الذي ترأسته نوال السعداوي حول ” الختان للذكور والإناث” ، 1999.
• شاركت في مؤتمر حول السلام في الشرق الأوسط في هلندا سنة 2006
• شاركت في مؤتمر حول الحوار بين الأديان في كوبنهاجن الدانمارك 2006.
المصدر بريد الفجرنيوز :[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.