باريس تسعى بثقلها الأوروبي، ومن خلال اليات مجموعة 5 زائد 5 المتوسطية، إلى تسييج منطقة المغرب العربي في وجه الزحف الأميركي الكثيف.أي مستقبل للمنطقة المغاربية في ظل التنافس الأميركي- الفرنسي الذي احتدم في النصف الثاني من سنة 2007؟ فقد كشفت الشهور الأخيرة عن مفارقة دالة بين توجه الرئيس الفرنسي الجديد ساركوزي نحو التصالح مع أميركا وفي الوقت نفسه تكثيف زياراته للمنطقة المغاربية في سعي بارز نحو استعادة وتقوية النفوذ التقليدي لفرنسا بها. لعل هذا هذا سيكون من التحولات الاستراتيجية التدريجية الجارية في المنطقة والتي تسترعي انتباها خاصا وتفرض بالتالي تحليلا متأنيا، وهو ما يبتغي هذا الملف القيام به. انتهت سنة 2007 كاشفة عن تطورات غير مسبوقة في التنافس الفرنسي- الأميركي على المنطقة المغاربية، حيث عرف المغرب وحده توجه العديد من الشراكات وإبرام صفقتين الأولى أميركية تجلت في صفقة الطائرات اقتناء 24 طائرة حربية من نوع "إف 16 سي دي" مرفقة بأحدث التجهيزات بكلفة قدرها 2.4 مليار دولار، وتخسر بذلك الشركة الفرنسية "داسو أفياسيون" صفقة بيع طائرات "الرافال" للمغرب، كما قدم صندوق "حساب تحدي الألفية" الأميركي للمغرب نهاية 2007 مساعدة مالية قيمتها 697.5 مليون دولار أميركي ، وفي مقابل ذلك تم الاتفاق بين المغرب وفرنسا على إنشاء خط للقطار الفائق السرعة (TGV الذي تصل سرعته إلى 300 كلم في الساعة) بمبلغ يصل إلى 3 مليار دولار، وسبق ذلك منح الاتحاد الأوربي للمغرب لما يوفق 650 مليون أورو في إطار مساعدات التنمية. وفي الوقت نفسه أبرمت أميركا اتفاقية التبادل الحر مع المغرب، والذي يستعد لاتفاق مماثل مع الاتحاد الأوروبي، وسجلت التبادلات التجارية بين المغرب والولاياتالمتحدة الأميركية ارتفاعا كبيرا بالمقارنة مع السنوات الماضية سواء من حيث الصادرات أو الواردات بين البلدين، أما في الجزائر ففي مقابل للاستثمارات النفطية التي تتجاوز 6 مليار دولار، هناك زيارات مكثفة لفرنسا لاستعادة قوتها الاقتصادية، أما على المستوى العسكري فإن المنطقة شهدت تركيزا بدعوى بروز منطقة الصحراء كمشروع ملاذ آمن للقاعدة والتنظيمات المرتبطة بها، وصولا إلى طرح مسألة استضافة مقر قيادة القوات الأميركية الإفريقية أفريكوم. عودة للتاريخ انطلق التنافس الأميركي الفرنسي حول منطقة المغرب العربي غداة الحرب العالمية الثانية، وبعد نزول جيوش الحلفاء بقيادة أميركية علي شواطئ المغرب والجزائر، ثم زحفها في اتجاه تونس لطرد قوات المحور، والعبور عبر الشواطئ التونسية نحو ايطاليا لفتح جبهة عسكرية جديدة فوق الأراضي الأوروبية ضد التحالف الألماني الايطالي. في المرحلة التي سبقت ثم تلت عملية تصفية الإستعمار تمثل النفوذ الأميركي أيام الحرب الباردة في القواعد العسكرية في كل من المغرب وليبيا، ثم استمرار نوع متذبذب من النفوذ بعد جلاء القوات الأميركية عن قواعدها في البلدين وخاصة عبر مؤسسات الحلف الأطلسي. ورغم طغيان النفوذ الفرنسي لعقود خاصة بتونسوالجزائر والمغرب والدول المتاخمة لهما جنوب الصحراء واصلت واشنطن جهودها لتقوية تأثيرها الإقتصادي والسياسي رغم تركيز ثقلها خلال النصف الثاني من القرن العشرين على مناطق أخرى خاصة في أسيا وأميركا اللاتينية. على الصعيد العسكري رفضت الولاياتالمتحدة دائما ان تتنازل عن قيادة الحلف الأطلسي في جنوب ايطاليا لدولة أوروبية بسبب وجود دول المغرب العربي تحت مظلته، هذا بالرغم من السعي الفرنسي المكثف لتولي المنصب، وتطور الأمر أمام معارضة الولاياتالمتحدة الى ان تؤسس الدول الأوروبية المطلة علي الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط قوة تدخل سريعة حماية لمصالحها الاستراتيجية أو الاقتصادية في بلدان المنطقة. صراع متجدد لكن كامن منذ بداية الألفية الثالثة تحولت منطقة المغرب العربي إلى ساحة صراع سياسي وإقتصادي مكشوف وأكثر حدة بين فرنساوالولاياتالمتحدة بسبب السباق لتامين موارد النفط والغاز وضمان الولوج الى اسواقها. فواشنطن وضعت ثقلها في المدة الأخيرة في هذه المنطقة بغية إنهاء ما تعتبره إحتكار فرنسا لمنطقة الشمال الإفريقي العربي سياسيا وإقتصاديا وثقافيا وإستراتيجيا، حيث طرح مشروع إيزنستات للشراكة الأميركي المغاربية. بينما سعت باريس عبر مجموعة 5 زائد 5 المكونة من الدول الأوروبية والمغاربية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، إلى إحداث معادل مضاد للمشروع الأميركي خاصة وان توسع الإتحاد الأوروبي أخذ يشتت قدراته في التركيز على المنطقة المغاربية، وشكل مجيء الرئيس ساركوزي بمشروع الإتحاد المتوسطي كتجل بارز لوجود صراع مشاريع بين فرنسا وأميركا لمستقبل المنطقة، هذا بالرغم من أن معارضة ألمانيا لمشروع الاتحاد المتوسطي تكاد تفرغه من محتواه، والمعروف أن الإتحاد الأوروبي كان سباقا في عقد إتفاقيات شراكة مع دول المنطقة حيث تم ذلك مع تونس سنة 1995 والمغرب سنة 1996، ففرنسا المتحمسة لمجموعة 5 زائد 5 ومشروعها المتوسطي ترى أن فرصها أفضل في تحصيل مكاسب أكثر من الولاياتالمتحدة لأنها لا تتفاعل مع الدول المغاربية بمفردها بل يقف الإتحاد الاوروبي خلفها، وهي تخطط لزيادة ارتباط المناطق المغاربية بمحور الجنوب الأوروبي خاصة على الصعيد الاقتصادي ذلك ان الدول المغاربية تستحوذ على ثروات نفطية هائلة وتحديدا الجزائر وليبيا، كما أن الدول الأوروبية هي الممول الأساسي للأسواق المغاربية التي ترتبط عضويا بإقتصاديات دول الإتحاد الأوروبي التي سيزيد اعتمادها مستقبلا على موارد الطاقة المغاربية، زيادة على ذلك ترى باريس وعبرها غالبية الدول الأوروبية أن وجود أكثر من خمسة ملايين مغاربي في دول السوق مع ارتباطاهم الاقتصادية ببلدانهم الأصلية يشكل لبنة قوية في مواجهة المنافسة الأميركية. بكلمة إن باريس تسعى بثقلها الأوروبي إلى تسييج منطقة المغرب العربي في وجه الزحف الأميركي الكثيف، حيث باتت الشركات الأميركية تنافس كبريات الشركات الفرنسية في المغرب العربي كما أن الشركات الأميركية تعاقدت مع دول الإتحاد المغاربي للإستثمار في قطاع الطاقة على مدى السنوات العشر المقبلة، مما جعل الشركات الفرنسية العملاقة تتحرك ضد التسلل الكبير للشركات الأميركية المتعددة الجنسيات إلى مناطق المغرب العربي والتي كانت مدعومة من قبل الإدارة الأميركية التي نجحت في فرض نوع من الوصاية والضغط على السياسات المغاربية. الموقف المغاربي إلا أن العنصر السلبي في سلوك الدول المغاربية في وسط الصراع الفرنسي الإميركي يبرز في انعدام التوازن الإقتصادي والسياسي مع أوروبا، هذا الإختلال الذي سمح بتنامي الإقتصاد الأوروبي وتوسعه على حساب المغاربيين وبدون منفعة متناسبة مع ثرواتهم وقدراتهم وفعلهم، وهذه الوضعية هي نفسها التي فتحت شهية الأميركيين للإسثمار في كل القطاعات في المغرب العربي، بدءا من توريد السلاح وإلى توريد القمح والمنتجات الأخرى، حيث لم تجد واشنطن أي صعوبة تذكر في إخضاع منطقة المغرب العربي لتوجهاتها، وحتى ليبيا رضخت في نهاية المطاف لواشنطن، وحسب الإستراتيجيين في الإدارة الأميركية فإن الوجود الأميركي في إفريقيا والذي بات ملموسا في كل مكان ومترافقا مع كل أزمة لا يمكن أن يستكمل إلا بتعزيز هذا الوجود في الشمال الإفريقي الذي يتمتع بغنى كبير في مجال الثروات الباطنية والطبيعية والمعدنية. ومثلما ينعدم التوازن بين الدول المغاربية والدول الأوروبية الأمر الذي يجعل المنطقة في دائرة التأثر والإنفعال السياسي والإقتصادي، فإن الوضع هو عينه مع الولاياتالمتحدة حيث إنعدام التوازن بالمرة بين واشنطن والدول المغاربية، ولذلك ستمارس فرنسا كما أميركا الإبتزاز في حق الدول المغاربية التي تحتار في مسلكيتها السياسية والإقتصادية والثقافية والإستراتيجية. ان المعضلة الأساسية تتمثل في انعدام خطة تنسيقية بين الاقطار المغاربية في مجال التعاون والتكامل الاقتصادي فيما بينها أو مع الاتحاد الأوروبي، أو مع الولاياتالمتحدة، ويكمن وراء هذا العجز بصفة أساسية عدم وجود برنامج سياسي واضح المعالم، وجعجعة دون نتيجة عن التكامل والوحدة الإقتصادية التي يتطلع اليها أكثر من 80 مليون مواطن مغاربي. والأدهى ان المنطقة تشكو من خلافات حول ملفات سياسية معقدة تحول دون هذا التنسيق، من ابرزها ملف الصراع المفتعل حول الصحراء المغربية، وتوتر العلاقات المغربية الجزائرية، واختلاف وجهات النظر في تقييم القضايا الاقليمية والدولية، ومن بينها مسألة التطبيع مع اسرائيل. التنافس الفرنسي الأميركي في منطقة المغرب العربي عرف مراحل انتصار وإنتكاسة لكلا الطرفين، وسيظل كذلك ان لم يكن بقدرة المغاربيين على الحفاظ على التوازن، فسبب عوامل خارجية ودخول أطراف جديدة في البحث عن مناطق نفوذ وخاصة الصين وروسيا والقوى الصاعدة في جنوب آسيا. بقلم: عمر نجيب