الصحة العالمية.. استهلاك الملح بكثرة يقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    عُثِرَ عليه بالصدفة.. تطورات جديدة في قضية الرجل المفقود منذ حوالي 30 سنة بالجزائر    عاجل: لأول مرة: تونس تصل المرتبة الثانية ضمن التصنيف الدولي للبيزبول    السلطات الاسبانية ترفض رسوّ سفينة تحمل أسلحة إلى الكيان الصهيوني    الديبلوماسي عبد الله العبيدي يعلق على تحفظ تونس خلال القمة العربية    يوميات المقاومة .. هجمات مكثفة كبّدت الاحتلال خسائر فادحة ...عمليات بطولية للمقاومة    فتحت ضدّه 3 أبحاث تحقيقية .. إيداع المحامي المهدي زقروبة... السجن    المنستير .. المؤبّد لقاتلة صديقها السابق خنقا    في ملتقى روسي بصالون الفلاحة بصفاقس ...عرض للقدرات الروسية في مجال الصناعات والمعدات الفلاحية    رفض وجود جمعيات مرتهنة لقوى خارجية ...قيس سعيّد : سيادة تونس خط أحمر    دخول مجاني للمتاحف والمواقع الأثرية    ارتفاع عجز الميزان الطاقي    دغفوس: متحوّر "فليرت" لا يمثل خطورة    العدل الدولية تنظر في إجراءات إضافية ضد إسرائيل بطلب من جنوب أفريقيا    تعزيز نسيج الشركات الصغرى والمتوسطة في مجال الطاقات المتجددة يساهم في تسريع تحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية للانتقال الطاقي قبل موفى 2030    كاس تونس - تعيينات حكام مباريات الدور ثمن النهائي    الترفيع في عدد الجماهير المسموح لها بحضور مباراة الترجي والاهلي الى 34 الف مشجعا    جلسة بين وزير الرياضة ورئيس الهيئة التسييرية للنادي الإفريقي    فيفا يدرس السماح بإقامة مباريات البطولات المحلية في الخارج    إمضاء اتّفاقية تعبئة قرض مجمع بالعملة لدى 16 مؤسسة بنكية محلية    وكالة (وات) في عرض "المتوسط" مع الحرس .. الموج هادر .. المهاجرون بالمئات .. و"الوضع تحت السيطرة" (ريبورتاج)    طقس الليلة    سوسة: الحكم بسجن 50 مهاجرا غير نظامي من افريقيا جنوب الصحراء مدة 8 اشهر نافذة    القيروان: إنقاذ طفل إثر سقوطه في بئر عمقها حوالي 18 مترا    تأمين الامتحانات الوطنية محور جلسة عمل بين وزارتي الداخليّة والتربية    كلمة وزير الخارجية التونسي نبيل عمار أمام القمة العربية    باجة: باحثون في التراث يؤكدون ان التشريعات وحدها لا تكفي للمحافظة علي الموروث الاثري للجهة    توزر: تظاهرة احتفالية تستعرض إبداعات أطفال الكتاتيب في مختتم السنة التربوية للكتاتيب بالجهة    وزارة الثقافة تنعى المطربة سلمى سعادة    صفاقس تستعدّ للدورة 44 لمهرجانها الصيفي    صفاقس: هدوء يسود معتمدية العامرة البارحة بعد إشتباكات بين مهاجرين غير نظاميين من دول جنوب الصحراء    وزارة الفلاحة توجه نداء هام الفلاحين..    "فيفا" يقترح فرض عقوبات إلزامية ضد العنصرية تشمل خسارة مباريات    جندوبة: وزير الفلاحة يُدشن مشروع تعلية سد بوهرتمة    عاجل: "قمة البحرين" تُطالب بنشر قوات حفظ السلام في فلسطين..    هل سيقاطعون التونسيون أضحية العيد هذه السنة ؟    106 أيام توريد..مخزون تونس من العملة الصعبة    اليوم : انطلاق الاختبارات التطبيقية للدورة الرئيسية لتلاميذ الباكالوريا    سوسة: الإطاحة بوفاق إجرامي تعمّد التهجّم على مقهى بغاية السلب باستعمال أسلحة بيضاء    ناجي الجويني يكشف عن التركيبة الجديدة للإدارة الوطنية للتحكيم    المعهد الوطني للإحصاء: انخفاض نسبة البطالة إلى حدود 16,2 بالمائة    سيدي بوزيد: انطلاق الدورة 19 من مهرجان السياحة الثقافية والفنون التراثية ببئر الحفي    رئيس الجمهورية يبحث مع رئيس الحكومة سير العمل الحكومي    قيس سعيد يُؤكّد القبض على محام بتهمة المشاركة في وفاق إرهابي وتبييض أموال    عاجل: متحوّر كورونا جديد يهدّد العالم وهؤلاء المستهدفون    ظهورالمتحور الجديد لكورونا ''فيلرت '' ما القصة ؟    الأيام الرومانية بالجم . .ورشات وفنون تشكيلة وندوات فكرية    محمد بوحوش يكتب...أدب الاعتراف؟    الخُطوط التُونسية في ليبيا تتكبد خسائر وتوقف رحلاتها.    بطولة اسبانيا : أتليتيكو يهزم خيتافي ويحسم التأهل لرابطة الأبطال الاوروبية    إصدارات.. الإلحاد في الفكر العربي الإسلامي: نبش في تاريخية التكفير    زلزال بقوة 5.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    استشهاد 3 فلسطينيين بنيران جيش الاحتلال في الضفة الغربية    أمراض القلب والجلطات الدماغية من ابرز أسباب الوفاة في تونس سنة 2021    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة النور ج3/4: الاستاذ : حسن الطرابلسي
نشر في الفجر نيوز يوم 16 - 11 - 2008


الفجرنيوز خاص www.alfajrnews.net
إقرأ أيضا: رحلة النور ج2/4
المدينة المنوّرة
إنه لإحساس عارم بالفرحة والعزة والطمأنينة أن تحس بأنك تجاور رسول الله صلى الله عليه وسلّم. ففي المدينة المنوّرة قبر الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلّم وقبور الصحابة الكرام وشهداء بدر. وأول انطباعاتي على المدينة أنها مدينة هادئة وجميلة، هوائها منعش، وشوارعها واسعة. فما عايشته في مكة من اكتضاض وضيق وأصوات عالية لم ألاحظه في المدينة المنوّرة، وكان ذلك حسب اعتقادي سمة بارزة لها.
في اليوم الثاني وقبل الآذان نبهني شريكي في الغرفة الأخ هشام حتى نستعدّ لصلاة الصبح حاضرة في المسجد النبوي، وفعلا ذهبنا كلنا إلى المسجد وأدّينا الصلاة، وعدت بعدها إلى الغرفة لأخذ قسط من الراحة فآثار الإرهاق من السفر لم تنتهي بعد. بعد تناول قهوة الصباح والإفطار توجّهت إلى السوق لشراء بعض الهدايا إلى الأهل، وتمّ ذلك فعلا ورجعت إلى النزل للإستعداد لصلاة الظهر.
لست أعلم لماذا يعتريني وأنا اتنقّل في المدينة شعور غامر بالسعادة والفرح والإنتماء، لم أستطع أن أفسّره، هذا الشعور فاق الأحاسيس التي وجدتها حتى في مكة المكرّمة، أحسست وكأني أعرف المدينة منذ زمان، أحس وكأن هذه المدينة مسقط رأسي ومرتع صباي ، حتى حديثي مع التجار تميّز بأريحية كبيرة ووجدت منهم تناغما كبيرا وتلقائية لم أعهدها فيما زرته من أماكن أخرى من العالم. كانت السعادة تغمرني، وكان السرور واضحا على محياي، وكانت الغبطة تسيطر علي، فكنت أخرج مرات وحيدا لأتجول في المدينة وكأنّي أملأ نفسي بهوائها المنعش. ألأنها المدينة التي نصرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآوته عندما أخرجته قريش ، ألأنها فتحت له أبوابها بعد ان بحث كثيرا عن موطن جديد للدعوة وبعد ان ضيّق عليه المشركون الخناق. قد تكون كل هذه الأسباب مجتمعة لكنّ المهم هو أنني كنت سعيدا منشرحا حامدا الله على ذلك.
وأيضا مما أثار انتباهي في المدينة المنوّرة، أن للمسجد النبوي مركزية كبيرة في حياة الناس، فالحياة تنطلق مباشرة بصلاة الصبح، فتفتح الأسواق، وتتجهّز الدكاكين، ويبدأ البيع والشراء. وتتواصل هذه الحياة النشطة إلى حدود صلاة الظهر حيث تغلق أغلب المحلاّت أو يتركها أهلها في حراسة الله ويتجه الجميع إلى الصلاة، ثم بعد الصلاة مباشرة تعود الحياة من جديد إلى نشاطها وتنطلق المناشط الدنيوية في دورة جديدة. ويتكرر هذا المشهد عند صلاة العصر والمغرب والعشاء، ثمّ تغلق المدينة ابوابها ليستعد الجميع إلى صلاة الصبح وإلى يوم جديد.
إنّ المسجد في هذا النموذج يمثل نقطة البدء والختام، فيه ينفتح الزمان وإليه يعود، وحسب ترنيماته يتحرّك، وعلى ذبذبته تدق الساعات. فالمسجد هو البدء والختام، وهو الأساس والمركز، ولذلك فهو في المركز والأسواق تحيط به والحياة تسير على نغمه.
لقد كان لهذا النموذج الهدنسي للمدينة الإسلامية تأثير كبير في الحضارة العالمية، فالمتتبّع للتاريخ يجد أن المدن الغربية شهدت بعد الحروب الصليبية شكلا معماريا مشابها لهذا النموذج. ذلك أنّ الكنيسة في النموذج المسيحي قبل الحروب الصليبية كانت تشيّد خارج المدينة ,في الأماكن المرتفعة العالية، وكأنّها تفرّ من الحياة الإجتماعية اليومية للمؤمنين، إلاّ أن هذا النموذج تغير بعد أن رأى الغربيون مركزية المسجد الجامع ودوره في الحياة الدينية والإجتماعية، فتمّ نقل هذا النموذج المعماري إلى المدن الأوربية وجائت الكنيسة إلى داخل أسوار المدينة وتوسّطت السوق. وتواجد في السوق معرض Messe مشابه للمعرض أو القدّاس الموجود في الكنيسة. ثمّ أستقلّ هذا المعرض بنفسه في القرون المتعاقبة وابتعد هو الآخر عن السوق والكنيسة وأصبح على ما هو عليه الحال الآن.
المسجد النبوي الشريف
أسس النبي هذا المسجد بعد أن استقر به المقام في المدينة المنوّرة حيث منه كان يدير شؤون الدولة الإسلامية، وتواصل هذا الدور الديني والسياسي للمسجد بعده صلى الله عليه وسلم مع الخلفاء الثلاثة الأوائل أبو بكر وعمر وعثمان إلا أن الإمام عليا غيّر بعد استشهاد عثمان عاصمة الدولة إلى الكوفة لوجود أنصاره هناك، ثم تغيرت العاصمة من هناك إلى دمشق ثم إلى بغداد، وهكذا لم تكن المدينة المنوّرة العاصمة السياسية للدولة الإسلامية إلا لفترة قصيرة نسبيا. إلا أن دورها الروحي ظل مستمرّا إلى اليوم خاصة من خلال إشعاع المسجد النبوي. والمسجد النبوي أهم معالم المدينة المنوّرة، وهو ثاني مسجد تشد إليه الرحال. فقد اختار موقعه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، إثر وصوله إلى المدينة مهاجرا، وشارك في بنائه بيديه الشريفتين مع أصحابه رضوان الله عليهم. ووردت في فضائل المسجد الشريف أحاديث نبوية كثيرة تبيّن أهمّيته ومكانته العظيمة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". وفي رواية."إنما يسافر إلى ثلاث مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إلياء". (رواه مسل)
ولقد أسس النّبيّ صلى الله عليه وسلم المسجد في ربيع الأول من العام الأول من هجرته صلى الله عليه وسلّم، وكان طوله سبعين ذراعا، وعرضه ستين ذراعا، إي ما يقارب خمسة وثلاثين مترا طولا وثلاثون مترا عرضا. وجعل أساسه من الحجارة، والدار من اللَّبِن وهو الطوب الذي لم يحرق بالنار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبني معهم، وكان سقفه من الجريد.
وشهد المسجد أحد عشر توسعة كان أولها في السنة السابعة للهجرة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثم في سنة السابعة عشر للهجرة إي في عهد أمير المؤمنين عمر بن الحطاب رضي الله عنه، والثالثة في عهد الخليفة الثالث عثمان بين عفان رضي الله عنه عندما ازداد عدد المسلمين. وتوالت التوسعات بعد ذلك في العهد الأموي والعباسي والعثماني. حتى كانت أكبر توسعة في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد في الثمانينيات من القرن العشرين أي ما يوافق 1405 إلى 1414ه. وتشمل المساحة الحالية للمسجد النبوي كل مساحة المدينة المنوّرة في عهد النّبوّة.
وبهذه التوسعة أصبح المسجد يتسع لمئات الآلاف من المصلين وقد يصل العدد إلى المليون في أوقات الذروة. ويمكن أن توزع بالشكل التالي في مساحة أربعة وثمانين ألف متر مربع في الدور الأرضي وهو يكفي لمائة وسبعين ألف مصل وسطح المسجد يتسع لتسعين ألف مصل بحيث يكون الإجمالي سبع وأربعون ومائتي ألف مصل أمّا الساحات الخارجية فهي تحوي ثلاث وثلاثين ومائتي ألف متر مربع تتسع إلى تسع مائة ألف مصل. وبهذا الشكل فإن الحرم النبوي يتسع إلى مليون مصلّ في أوقات الذروة.
بالمسجد عشر مآذن، منها ستة مآذن أضيفت في توسعة خادم الحرمين الشريفين، طول المئذنة الواحدة أربع ومائة مترا. في أعلاها هلال يزن اثنان ونصف طن وقطره متران ونصف المتر وعموده يبلغ سبعة أمتار. والمسجد مكيف فقد انشئت لتكييفه محطة خاصة تبعد عنه سبع كيلومترات ولها نفق تكييف يمتد على طول هذه لمسافة.
أما عدد مظلات المسجد فهي سبعة عشر مظلّة، وهي مصنوعة من قماش التوبليف، عمرها الإفتراضي خمس وعشرون سنة، وصنعت خصّيصا للمسجد النبوي ولها تكييف خاص لتحافظ عل الحرارة المعتدلة صيفا وشتاء. وبالمسجد النبوي سبع وعشرون قبة متحركة، محلاّة بالذهب، وزن القبة الواحدة ثمانون طنا، وهي حقا تحف معمارية وهندسية. وقد تم فتحها خصيصا لمجموعتنا حتى نرى كيف تفتح وتغلق. كان فتحها مثيرا لإنتباه الإخوة فأخذت الصور، وظهرت علامات الإنبهار والإعجاب.
وقد صاحب هذه التوسعة تحسين للحرم القديم، فتم تجهيزه بالكهرباء وتوصيل شبكة التكييف إلى كلّ أرجائه كما جهز أيضا بمضخّمات الصوت. التكييف ضروري للمسجد النبوي القديم خاصة فدرجة الحرارة تصل إلى أربعين درجة مئويّة.
ومن تمام فضل الله ونعمته أن ماء زمزم موجود دائما في الحرم النبوي أيضا، ويأتي إلى المسجد النبوي عبر ناقلات خاصة.
وقد شرح لنا مرافقنا وهو المسؤول عن المسجد النبوي بأنه حتى تتم هذه التوسعة أزيلت المتاجر والمحلاّت السابقة وعوّض أهلها وأنجز المشروع في زمن قياسي أي حوالي سبع سنوات.
ساحات المسجد يوجد فيها أربعة عشر مرفقا لدورات المياه، وبها محطة سيارات تتسع لأكثر من خمسة آلاف سيارة.
بالمسجد النبوي مكتبة تتكون من ست قاعات وهي مفتوحة يوميا من الساعة السابعة حتى إغلاق المسجد على الساعة العاشرة ليلا. توجد المكتبة في الجزء الشمالي من المسجد وتحتوي على مجموعة هامة من المخطوطات والمصنّفات تمّ تبويبها حسب التخصصات التالية: الأدلة والفهارس العامة، الموسوعات، علم النفس، علم الإجتماع، العلوم السياسية، علوم الإقتصاد، الإدارة العامة، اللغة العربية، النحو والصرف والعروض، العلوم البحتة، الزراعة وتقنياتها، الأدب، الجغرافيا، تاريخ أوربا، التاريخ الإسلامي، تاريخ مكة المكرّمة، تاريخ المدينة المنوّرة، الأنساب.
الطابق الأول من المكتبة مخصص لكتب الفقه وأصوله، والمذاهب، والأخلاق والأدب، والأذكار والشعائر، والدعوة والدفاع عن الإسلام، وقضايا الإصلاح الإجتماعي والسيرة النبوية.
أما الطابق الثاني فإنه خصص للمخطوطات وبه بعض الخرائط لمكة وللمدينة النوّرة، وقد يسر الله لي الدخول إلى قاعة المخطوات ونظرت ما فيها وكان أغلبها يدور حول مسائل الفقه والتاريخ والفتاوي، علما وأن هناك قاعة ثانية في نفس الطابق لم أدخل إليها.
بعد نهاية الزيارة إلى المسجد النبوي أخذنا أدراجنا إلى النزل ، وفي الطريق أثارني حوار أجريته مع مرافقي فلقد أبديت له إعجابي بالفن المعماري الإسلامي العظيم الذي بني به المسجد النبوي فابتسم وقال: ولكنه لم يصنع بأيد عربية ؟
أثارني هذا الجواب واستفزني في الأعماق. وتذكّرت أن محدثنا أثناء الشرح ذكر لنا فعلا أن القباب صنعت في ألمانيا وأن مادتها الأولية جمعت من دول مختلفة. فحز ذلك كثيرا في نفسي وشغلني ليلتي تلك .
إلى مسجد قُباء
قال تعالى: "لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى الْتَّقوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ" صدق الله العظيم
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تطهّر في بيته ثمّ أتى مسجد قُبا فصلى فيه صلاة كتب له أجر عمرة" حديث
على الطريق إلى هذا المسجد العظيم تنتشر الواحات على اليمين والشمال. وأعلمني سائق الحافلة أنّ إحدى هذه الواحات هي الواحة التي أشتغل فيها سلمان الفارسي لسيده اليهودي والذي اتفق معه على تعميره مقابل عتقه . وإنّي إذ أورد هذه المعلومة فإني أنبه القارئ أنّي لم أتثبت في الحقيقة التاريخية لهذه الرواية . المهمّ أنّنا بعد قرابة ربع ساعة وصلنا إلى المسجد .
بالمسجد أربع مآذن وست قباب كبرى، وثمانية أقل منها، منقوش عليها نقوش قرآنية جميلة. القباب الصغرى كتب في الجزء الأيمن منها محمّد رسول الله وفي الجهة الأخرى أسماء الصحابة وعلى رأسهم العشرة. أمّا بهو المسجد فقد غطّي بمظلات.
"بعد زيارة مسجد قبا اتجهنا مع حافلة أبي أيمن، وهو المشرف العام للرحلة، وكان خدوما عطوفا رحيما، إلى حيث ذكريات الجهاد العطرة، إلى حيث معركة أحد قبل ألف وأربع مائة سنة، ورجعنا بخيالنا إلى الوراء وتذكرنا غزوة أحد ، ورأينا خالدا بن الوليد يدور وراء الجبل ويحيط بالمسلمين" وضعت هذه الجملة بين ظفرين لأنها جملة أملاها علي الأخ ريبوار من كردستان وكان أحد المسافرين معنا ، وقد وافقت ما أردت أن أقوله .
أحد جبل نحبه ويحبنا
ورد ذكر جبل أحد كثيرا في الحديث النبوي من مثل ذلك:
قول الرسول صلى الله عليه وسلّم: أثبت أحد فإن عليك نبي وصديق وشهيدين" وقوله صلى الله علي وسلم: "أحد جبل نحبه ويحبنا"
اتجهت الحافلة خارج المدينة وبدأت أشاهد السلاسل الجبلية.
تركت زيارة مسجد قبا انطباعات جيدة لدى المسافرين، الشيء الذي ولّد موضوعات نقاش شيقة وثرية. وبعد مسيرة حوالي عشر دقائق وصلنا إلى سلسلة جبال أحد. وأول ما طالعنا كان مقبرة شهداء أحد السبعين، فطوّفت بيَ الذاكرة إلى الوراء إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يدافع مع العصبة المؤمنة عن هذا الدين وكيف أنه يجرح وتكسر رباعيّته ويستشهد من حوله خيرة رجاله من مثل عمّه حمزة وغيره. فلقد بلغ عدد الشهداء سبعون. وخسر المسلمون هذه الجولة بسب معصية واحدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بنا نحن اليوم نطلب النصر، والفحشاء منتشرة والمنكرات عامة والنصوص معطّلة بل ومحاربة في بعض ديار المسلمين. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أما جبل الرماة الذي خالف فيه مجموعة من الصحابة أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو يقابل مقبرة شهداء أحد. وأما المسافة بين المدينة وجبل أحد فإنّها لا تتجاوز بعض الكيلومترات ولكن قريشا أتت بطمّ طميمها، حتى تهاجم الدولة الوليدة وتفتك بها، وتقض أمنها وتروّع سكانها، ويأتي بعد ذلك أدعياء تمسحوا بلبوس العلم والنقد التاريخي ليقولوا إن جذور العنف والإرهاب موجودة في هذا الدين منذ بعثة النبي الكريم عليه افضل الصلاة وأزكى التسليم!! بطلت دعاواهم إن يقولون إلاّ كذباّ فهل كان هو الرسول الذي استعداهم وأغار عليهم أم أنهم هم الذين أتوه؟ ألم يتركهم في قريش فارا بدينه؟ ثمّ أيّهما الظالم أذاك الذي قطع مئات الأميال من أجل محاصرة جماعة بسيطة أو دولة وليدة أم ذاك الذي هو آمن في بيته وجاءه الطغيان ليرعبه ويروعه!! وما أشبه الليلة بالبارحة فهذه الولايات المتحدة تنصب نفسها شرطيا عالميا يعاقب من يشاء ويعفوا عمّن يشاء، ويتهم بالإرهاب من يشاء، ويصف بالإعتدال والمرونة من يشاء! وعندما تقضي منه أربها تتهمه من جديد وتضغط على العالم من أجل محاربته والقضاء عليه ويغدوا المخالف لها عدوّا للإنسانية جمعاء محبا لسفك الدماء!! أو هكذا يصوّره جهازها الإعلامي الضخم. ثمّ ما هو الإرهاب؟ إنه لحدّ الآن مفهوم مطاطي زئبقيّ غير خاضع لنحديد مفهومي واضح متواضع عليه بين أهل السياسة والفكر والفلسفة. فهو للأسف معبوثا به خاضعا للتوظيف السياسي والأيديولوجي. ولكنه الزمن الرديء الذي تنقلب فيه الموازين، وتنعدم فيه المعايير وتختلط فيه الأوراق.
المهّم، لا علينا فلنعد إلى ذكريات الحج الرائعة.
أحد سلسلة جبلية صخرية، قديمة جيولوجيا، فالجبال خالية من كل شجر ولا نبات فيها ، وهي على عكس جبال أوروبا الغربية خاصة التي تنتشر فيها الغابات والأعشاب المنتوّعة. أما هو فإنه ينتمي إلى سلسلة تغطيها الصخور السوداء التي بدورها تكسوها طبقة من التربة. وبجانب مقبرة شهداء أحد التي أحيطت في عهد خادم الحرمين الشريفين بسور عال ولكن كالعادة هناك من الحجيج من يتجمّعون أمام الباب ويصرخون ويبكون. أمام المقبرة تجد جبل الرماة الذي لا يزال قائما وإن كنت استغربت من صغر حجمه فسألت أحد مرافقينا في الرحلة عن ذلك فقال أن الجبل كان قبل أربعة عشر قرنا أكبر مما هو عليه الآن، ولكن ونظرا لعوامل التصحر ولكثرة الزوّار تآكلت أجزاء كبيرة منه، وقال بأن أغلب الأودية التي كانت تحيط به سوّت وكستها الرمال مما جعل مسافة الأرض تعلوا بعض الشيء عما كانت عليه زمن الرسول الأكرم. وفعلا فلقد لاحظت بعد تدقيق النظر وعلى بعد قليل من المقبرة أن هناك بقايا للأودية، فواحات النخيل لا تظهر إلا أعاليها وجذوعها مغمورة في الأودية، وقد أكد لنا محدّثنا الشيخ عبد الرحمان آل الشيخ أن ذلك هو المستوى الأصلي للأرض.
فوق جبل الرماة استحضرت جلالة الموقف ورجعت بي الذاكرة إلى الوراء، إلى عمق الذات والتاريخ حيث وقف فتية آمنوا بربّهم فزادهم هدى ليدافعوا عن المولود الجديد ضدّ قريش التي تجمّعت بطمّ طميممها تدقّ طبول الحرب محاولة وأد ولادة الحضارة والنور. ولكنني استحضرت أيضا خطورة الموقف، فمخالفة واحدة لرسول الرحمة، هذه المخالفة الواحدة أدت إلى ما كان من أمر المسلمين في يوم أحد.
وبجانب مقبرة شهداء أحد توجد اليوم قرية سكنية صغيرة، ومدرسة ابتدائية تحمل اسم حمزة بن عبد المطلب. وكأن إرادة الله أبت إلا أن يكون اسم سيد الشهداء مدويا في التاريخ والذاكرة والحاضر. نعم وإنه لنعم الشعاع أن يظل شعاع الشهادة نبراسا لهذه الأمة ينبع منه عزّها وتبني به تحررها. فلم يكن الشهيد ليموت هكذا! وأنّما ليبقى حيا ولتعقم دماؤه الأرض التي يسكب عليها، فبقدر ما يكون عدد الشهداء في أمة كبيرا بقدر ما تعقم أرضها وتطهّر وتستعصي على الغزاة.
زيارة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف يوم 15/02/‏2003‏
كانت هذه الزيارة رائعة أذ اطلعنا خلالها على معلم فخم من معالم المحافظة على كتاب الله فبفضل الله أوّلا ثمّ بفضل هذا المجمّع انتشر المصحف الشريف في أنحاء العالم وبلغات كثيرة بشكل هائل وممتاز. وأفضل مثل على ذلك أنه في أوربا وقبل حوالي خمسة عشر عاما كان هناك مشكل اسمه توفّر المصحف الشريف لهؤلاء المسلمين أما اليوم فإن المصاحف موجودة في كلّ مسجد وبشكل كاف تقريبا.
من المؤسف حقا أن يخضع هذا المعلم الضخم إلى المراقبة المشدّدة على إصداراته وتتهمه أمريكا بنشر الإرهاب وتوزيعه في العالم. دعوة لا معنى لها. ولكن لها للأسف آذان صاغية وإني لأذكر أنه بعد أحداث 09/11 سُئلت مرات عديدة من صحفيين عن دور السعودية وعن هذا المعلم وعن الحركة الوهابية ودورهم في الإرهاب؟ دعوات وأتهامات باطلة ولكن لأنّ الجهاز الإعلامي الإمريكي/الصهيوني ضخم استطاع أن يبلّغ هذه الفكرة إلى كل فآت وطبقات المجتمع، ووجد للأسف من صدّقه خاصة في غياب الإعلام المضاد الذي يكشف الحقائق. فالجزيرة وحدها لا تكفي ولكن لا بدّ من جزر متعدّدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.