ماء الصوناد صالح للشرب لكن التونسي تعود على شرب المياه المعلبة... مدير عام الصوناد يوضح    وزارة التشغيل : '' الشركات الأهلية ليست جمعيات خيرية وعلينا ضمان ديمومتها ''    عقوبات سجنية وخطايا مالية للاجانب والاشخاص المخالفين ، ابرز التنقيحات المقترحة في القانون المتعلق بحالة الاجانب بالبلاد التونسية    البنك المركزي التركي يتوقع بلوغ التضخم نسبة %76    قفصة: تأثيرات إيجابية لتهاطل الأمطار على مواسم الزراعات الكبرى والغراسات المثمرة والخضروات والأعلاف    القطاع الغابي في تونس: القيمة الاقتصادية وبيانات الحرائق    جندوبة: حريقان والحماية المدنية تمنع الكارثة    السلاطة المشوية وأمّك حورية ضمن أفضل السلطات حول العالم    الكاف: عروض مسرحية متنوعة وقرابة 600 مشاركا في الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    بطاقة جلب في حق سنية الدهماني    قليبية: الكشف عن مقترفي سلسلة سرقات دراجات نارية    بطاقة جلب في حق سنية الدهماني    رادس: إيقاف شخصين يروجان المخدرات بالوسط المدرسي    اليوم: فتح باب التسجيل عن بعد بالسنة الأولى من التعليم الأساسي    عميد المحامين: نتعرّض للتحريض من قبل هؤلاء ما أدى لمحاولة قتل محام    رئيس منظمة إرشاد المستهلك: أسعار لحوم الضأن لدى القصابين خيالية    بقيمة 7 ملايين دينار: شركة النقل بصفاقس تتسلم 10 حافلات جديدة    بلطة بوعوان: العثور على طفل ال 17 سنة مشنوقا    عاجل/ غلاء أسعار الأضاحي: مفتي الجمهورية يحسمها    كأس تونس: تغيير موعد مواجهة مباراة نادي محيط قرقنة ومستقبل المرسى    الأمطار الأخيرة أثرها ضعيف على السدود ..رئيس قسم المياه يوضح    مقتل 10 أشخاص وإصابة 396 آخرين خلال ال24 ساعة الماضية    بطولة روما للتنس: أنس جابر تستهل اليوم المشوار بمواجهة المصنفة 58 عالميا    الرابطة الأولى: برنامج مواجهات اليوم لمرحلتي التتويج وتفادي النزول    عاجل/حادثة اعتداء أم على طفليها وإحالتهما على الانعاش: معطيات جديدة وصادمة..    وزير السياحة يؤكد أهمية إعادة هيكلة مدارس التكوين في تطوير تنافسية تونس وتحسين الخدمات السياحية    نرمين صفر تتّهم هيفاء وهبي بتقليدها    لهذه الأسباب تم سحب لقاح أسترازينيكا.. التفاصيل    دائرة الاتهام ترفض الإفراج عن محمد بوغلاب    بسبب خلاف مع زوجته.. فرنسي يصيب شرطيين بجروح خطيرة    نادي ليفربول ينظم حفل وداع للمدرب الألماني يورغن كلوب    الكشف عن توقيت مباراة أنس جابر و صوفيا كينين…برنامج النّقل التلفزي    منبر الجمعة .. الفرق بين الفجور والفسق والمعصية    خطبة الجمعة .. لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما... الرشوة وأضرارها الاقتصادية والاجتماعية !    اسألوني ..يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    إتحاد الفلاحة : '' ندعو إلى عدم توريد الأضاحي و هكذا سيكون سعرها ..''    بلا كهرباء ولا ماء، ديون متراكمة وتشريعات مفقودة .. مراكز الفنون الدرامية والركحية تستغيث    أحمد العوضي عن عودته لياسمين عبدالعزيز: "رجوعنا أمر خاص جداً"    مدنين.. مشاريع لانتاج الطاقة    قوات الاحتلال تمنع دخول 400 شاحنة مساعدات إلى قطاع غزة..#خبر_عاجل    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين على سفينة في خليج عدن عبر زورق مسلحين    عاجل/ مفتي الجمهورية يحسم الجدل بخصوص شراء أضحية العيد في ظل ارتفاع الأسعار..    أضحية العيد: مُفتي الجمهورية يحسم الجدل    بلاغ هام للنادي الافريقي..#خبر_عاجل    المغرب: رجل يستيقظ ويخرج من التابوت قبل دفنه    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    اليوم: تصويت مرتقب في الأمم المتحدة بشأن عضوية فلسطين    ممثلة الافلام الاباحية ستورمي دانيلز تتحدث عن علاقتها بترامب    دراسة: المبالغة بتناول الملح يزيد خطر الإصابة بسرطان المعدة    بنزرت.. الاحتفاظ بثلاثة اشخاص وإحالة طفلين بتهمة التدليس    نبات الخزامى فوائده وأضراره    كاس تونس لكرة القدم - تعيين مقابلات الدور ثمن النهائي    اللغة العربية معرضة للانقراض….    تظاهرة ثقافية في جبنيانة تحت عنوان "تراثنا رؤية تتطور...تشريعات تواكب"    قابس : الملتقى الدولي موسى الجمني للتراث الجبلي يومي 11 و12 ماي بالمركب الشبابي بشنني    سلالة "كوفيد" جديدة "يصعب إيقافها" تثير المخاوف    سابقة.. محكمة مغربية تقضي بتعويض سيدة في قضية "مضاعفات لقاح كورونا"    سليانة: تنظيم الملتقى الجهوي للسينما والصورة والفنون التشكيلية بمشاركة 200 تلميذ وتلميذة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحركة الاسلامية مراجعة من الداخل بقلم عبد الرحيم شهبي
نشر في الحوار نت يوم 20 - 10 - 2010


عبدالرحيم شهبي / المغرب
عضو الأمانة العامة للحركة من أجل الأمة
عضو الأمانة العامة لحزب الأمة
عضو المكتب التنفيذي لمنتدى الكرامة لحقوق الإنسان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
حتّى لا أكون الجنديّ الّذي يطلق الطلقة بعد نهاية المعركة.. فإنّني أطلقها في قلب المعركة.. في شكل هذه المراجعات..
وبعد..
فإن الكتابة يلجأ إليها في لحظة القلق الوجدانيّ الإيجابيّ، لأنّه يقود إلى التحرر من قيود البؤس والجمود، وإعادة النظر في أساليب التفكير والممارسة. والكتابة مغامرة ورحلة في قارب بلا ضفاف؛ تحرص على فعل التحريض للقارئ النبيه، لينخرط في الفعل.. فالكلام الشفهيّ أو المكتوب الملتزم سلاحٌ نقديّ لتثوير الوعي، فلا شيء يبرر لنا فعل الإدمان على الصمت؛ الصمت انحدار ومهادنة لهذا الواقع العبثيّ الذي فقدنا فيه الإحساس بالبشاعة، ونكاد نتحوّل فيه إلى متسوّلين أو ماسحي أحذية../الصمت موت، أنت إن نطقت مت، وإن صمت مت، فقلها ومت/!
فنحن في كيانات التجزئة الوطنية والإسلامية حالنا يشبه حال الفرق الكلامية في الماضي، والذين وصفهم ابن تيميةب: (أنهم لا للإسلام نصروا ولا للأعداء كسروا)(1) !
ومشهدنا السياسيّ يحقّ فيه قولة البشير الإبراهيمي: (إن هذه الأحزاب كالميزاب، جمع الماء كدراً، وفرقه هذراً، فلا الزّلال جمع، ولا الأرض نفع(2) !
وبرغم هذه الرداءة، فهذه المراجعة لن تنحو منحى النقد العدميّ، فهي نقدٌ من أجل التصويب وإعادة المعنى لهذه الكيانات الهلاميّة، عساها تتعقل ذاتها من جديد، لتقف على أرضيّة النهضة والتجديد ..
لذلك فهي تريد:
- أن تلتزم بفقه المبادرة الواعية المستجمع لشروط التّدافع المدني السلمي والشّهادة على الواقع، فمعالم السّير الإيجابيّ تنطلق من نظريّة هاديّة من الزّلل، وعمل مبرأ من آفة العماء والجهل، ونقد يصوّب ويسدد، وأخلاق تزكّي النّفس من دواعي الغفلة وإتباع الهوى؛ يقول الله عزّ وجلّ..(ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه..) سورة الكهف، الآية/28، فالغفلة تسدّ باب الخير، وإتباع الهوى يفتح باب الشرّ.
- أن تراعي فقه الحذر من السقوط الحضاري والهزيمة النفسية؛ يقول الحسن البصريّ- رحمه الله تعالى-:(لأن تصحب أقواماً يخوّفونك حتّى تبلغ المأمن، خيرٌ لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتّى تبلغ المخاوّف)(3).
- أن تعقد القران بين فقه الأحكام، وفقه الواقع؛ إذ إنّ حالنا الرديء (قد أثمر فقهاء بالأحكام لا دراية لهم بفقه الواقع الذي يعيشون فيه، وخبراء بالواقع لا دراية لهم بالشريعة التي أنزلها الله لتدبير وحكم حركة الواقع الذي يعيش فيه المسلمون)(4)، ومن أمثلة هذا الفصام النّكد؛ أنّك تجد البعض من يدعون أنّهم من أهل العلم، يختزلون تحرير العقائد( من شرك الأموات والأوثان، ويضربون الذكر صفحاً عن شرك الأحياء والأوضاع والنظم المعاصرة.. ويعلنون الحرب على التشبيه أو التعطيل في بعض الصفات، ولا يعلنونها على تعطيل الشريعة وتحكيم القوانين الوضعية، والفصل بين الدين والدولة. والأولى معركة في غير ميدان، لا يملك الخصم فيها سيفاً ولا سناناً، والثانية أتون مستعر يلتهم الأصول والفروع، ويأتي على بناء الإسلام كلّه من القواعد)(5)!.
- أن تحقق الجمع المطلوب بين حسنات الحركة الإسلامية والمدارس السلفية العلمية، على قاعدة الاجتماع على الجمل الثابتة في الكتاب والسّنة والإجماع، والتّغافر في مواضع الاجتهاد، وتحقيق الائتلاف الواجب والتعاون اللازم لمواجهة الأخطار الكبرى التي تواجهنا جميعاً..(حتّى لا يؤدي اختلاط الأمور إلى ترخص في قطعيّ مجمع عليه،أو تهارج بسبب ظنيّ مختلف فيه)(6).
- أن تمكننا من ممارسة الفكر والسياسة بعقولنا وقلوبنا وعيوننا، لا بعقول وقلوب وعيون الآخرين؛ حتى نتمكن من تجاوز تحديات التحريف والانتحال والتأويل الفاسد.
- أن تؤسس لحداثة أصيلة، تجدد الفهم والتّنزيل، وتجافي حداثة مستعارة تستهلك تقدم الخارج، وتكرّس التخلف في الذات والأعماق..
- أن تعلمنا أن طرح الأسئلة الصّحيحة والمناسبة، مقدمٌ على البحث عن الأجوبة الصّحيحة، فما صحت بدايته، صحت نهايته، والذي يعرف كيف يبدأ، يعرف كيف ينتهي؟
- أن تعيد لكلمة 'لا' مكانها الطبيعي، بجانب كلمة' نعم'؛ بأن نرفض المبتذل والمعتّل والدخيل/ لا طاعة في المعصية/ وأن نقبل الصّحيح والنّافع، والمستوعب لثراتنا السّياسيّ الأصيل،والمجدد له/ إنما الطّاعة في المعروف/،فينبغي أن نتعلم أن نقول "لا" عندما تكون نعم مضرة بمصلحة الأمة والأوطان.
- وأن تحوّل أخيراً الهزيمة نصراً..( وما النّصر إلاّ من عند الله العزيز الحكيم)/ سورة آل عمران/126 والجفاء حبّاً..( إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم)/ سورة آل عمران/103.
والأثرة إيثاراً..( ويوثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة)/ سورة الحشر/9
والفرقة جماعة..( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)/ سورة الأنفال/49.
والاختلاف تنوّعاً ورحمة..( ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)/ سورة الرّوم، الآية/21
والجمود نهضة وتجديداً وحياة طيّبة..( يا أيّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيّيكم)/ سورة الأنفال/ 24
والله الموفق وهو يهدي السبيل .
1)هذه المقولة تنسب لابن تيمية.
2) .. .. .. .. .. للبشير الإبراهيمي.
3) محمد الراشد، نحو المعالي. ص/4
4) د. محمد عمارة، في فقه المواجهة بين الغرب والإسلام. ص/18
5) د. صلاح الصاوي، الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي ص/312
6)نفس الكتاب. ص/17
أولا/ منهج المراجعة:
على المريد أن يستوعب و يتجاوز في آن ما يريده أو يقوله أو يكتبه الشيخ.. وإلاّ لن تكون إرادته وقوله وكتابته جديرة بالإنصات أو القراءة؛ لأنها لا تضيف شيئا..
إن أول واجب نتعلمه من خلال هذه المراجعة؛ هو منهج تقديم الحقّ على الخلق، ومعرفة الحقّ بدليله، وأن الدليل هو منار السبيل، وأن الكلّ يؤخذ من كلامهم ويترك إلا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلا نستدل إلا بصحيح من المنقول،أو صريح من المعقول؛ ف( أشرف العلوم ما اصطحب فيه الرأي والشرع، وازدوج فيه العقل والسمع... فلا هو تصرّفٌ بمحض العقول، بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبنيّ على محض التّقليد الّذي لا يشهد له العقل بالتّأييد والتّسديد)(1) ولا نستنبط حكماً شرعيّاً غير سائغ، و لا نتعبد بشعيرة لا أصل لها، وأن لا نقول إلاّ بعلم يرّد جهل الجاهل، وعدل يسفه ظلم الظّالم، وإبداع يدحض قول الجامد، ووسطية واعتدال يجافي أصحاب الغلو والشذوذ، وحلم يتحمل الأذى ويلتزم بآداب القول والسلوك./ لذلك:
فمنهج المراجعة يروم التأكيد على الحاجة الماسّة إلى التّأصيل الشّرعيّ، والحاجة إلى تحقيق فقه الوحدة والائتلاف، والحاجة إلى بذل الوسع من أجل التّجديد والاجتهاد والنّهضة، واستخدام العقل والاستفادة من الحكمة الإنسانية والتاريخية، والحاجة الأكيدة للتفرغ للمنكر الأكبر وإتباع فقه الأولويات، ولا ينح منحى ( تصيّد الأخطاء، وتتبع العثرات، والبحث عن الهفوات، والتّغافل عن الحسنات، فذلك دليل على فساد القصد، وسوء الطّوية، وقلّة الدّين)(2)
ويؤسس مشروعه على أساس القراءة الإشكالية لا القراءة التّاريخية؛ فمقام المراجعة والنقد ليس كمقام النقل والإخبار، هدفه مراقبة مضمون الحركة الإسلامية المعرفيّ والمنهجيّ والسّياسيّ، وإخضاعه للنّقد والنّقد الذاتيّ.. وهذا المنحى لا يستبعد الأحداث بل هي مادته التي يجري عليها الفحص، والتناول يكون بالتحليل والتقييم لا بالوصف والسرد.
- والمراجعة ليست غاية في ذاتها، وليست ذريعة تكتيكية كذلك،إنها وسيلة لتصحيح المسار، واكتشاف/ ميكانزمات النّهضة/(3) وامتلاك القدرة واليقظة والنّباهة على وعي الحقيقة والمصلحة، ووعي الواقع، كلّما اتسعت مساحته أمامنا.. ووعي الحقيقة والمصلحة والواقع، لم يعد ممكنا مع حالة الإقتداء اللاواعي، والعاطفي، والمتعايش مع المسلكيات الخاطئة، والقانع والمتساكن مع الذوات المتشظية..( فالواجب علينا أن نقف مع الإقتداء بمن يمتنع عليه الخطأ، ونقف عن الإقتداء بمن لا يمتنع عليه الخطأ إذا ظهر في الإقتداء به إشكال)(4)
وبقدر ما نحقق نوعا من القلق الوجداني..( إن الناس قلّما يحققون نبلا أو تمردًا حقيقيّاً، إلا عندما يتألمون بشكل كبير)(5)، ونتجاوز النقد الإيديولوجي الّذي يجنح إلى المقاربات الحديّة/ تلك التي تمدح وتبجل في حالة الرضا.. وتهجو وتقدح في حالة الغضب/ أو الثنائيات المتخاصمة التي تفتعل الكثير من التعارضات الوهمية بين المفاهيم والرؤى والاتجاهات، نستطيع أن نمسك بممكنات التجاوز.
وغالباً ما ترتبط المراجعات ببعض المخاوف المبررة، والغير المبررة، وتنعت بأنّها مسلكٌ يؤدي إلى الاستسلام، أو التّراجع عن المبادئ. وللتصحيح نقول؛ إن الاستسلام لا ينحصر في التّراجع عن المبادئ، وهذا محذور نحرص على تجنبه بل يشمل كذلك/ وهذا هو الأهم/ التقوقع على الذات، وانعدام الجرأة على تعرية الأخطاء، والاكتفاء بالجاهز، وضعف عوامل التنويع والمبادرة، وعدم القدرة على الإضافة النوعية.
وعمليات المراجعة تجري في غياب تحديد المسؤوليات الفردية والجماعية والمؤسساتية، وفي كلّ مرّة نتداعى..(أنّى هذا..) وننسى قوله تعالى..( قل هو من عند أنفسكم) سورة آل عمران، الآية/165.. والاتهام يوجه بشكل جاهز- في أحسن الأحوال- إلى جهة غائمة غير معينة، يعبر عنها ببرودة، بظاهرة الكلام بلا عمل / وفي أسوئها/ فذرائع التبرير تتكئ على الإكراهات والظروف؛ وكأنّنا بلا إرادة أو وقدرة، مجرد ريشة في مهبّ الرّيح،أو كائنات خلقت على مقاس الجبريّة مجردين من الحريّة والاختيار.
إنّ هدف هذه المراجعة الأساسي؛ أن تكون أداة لتفجير دينامكية الجدل المنحبس داخلنا .. أن تقوم بعملية اهتزاز لمقولة المطلق، لا في مستواه العقائدي/ مسائل الإجماع/ ولكن في مستواه التاريخيّ والسياسيّ/ مسائل الاجتهاد/ مما يؤدي إلى التّنوع والإبداع والجودة.. وتوطين مفهوم النسبية المعرفية والتاريخية في حياتنا. ويجب استغلال الأحداث الدوليّة والإقليميّة والمحليّة المتوترة لصالحنا، فكما يقال/إن الحرب تسرع في إيقاع الزّمن..!/( وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم) سورة البقرة، الآية/216.
.......
(1) د. فتحي الدريني، دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي. ص33-34،نقلا عن الإمام الغزالي، المستصفى. ج1 ص2
(2) أحمد بن عبد الله الصويان، منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرّجال، ص/34
(3) انظر د. محمد عابد الجابري،المسألة الثقافية. ص72
(4) د. يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع الثرات والتمذهب والاختلاف. ص35، نقلا عن الإمام الشاطبي، الاعتصام. ج1 ص228 فما بعدها.
(5) د. نديم البيطار، الفعالية الثورية في النكبة. ص20
ثانيا/ الحركة الإسلامية ومحنة التكرار والتجزئة:
بعد أكثر من نصف قرن تقريباً من تجربة العمل الإسلاميّ بالمغرب نلاحظ أننا:
لم نتجاوز لحدّ الآن الاعتبارات الذاتيّة، وجداول أعمالنا كلّها أو جلّها تتحكم فيها ردود الأفعال، ولسان حالنا في كلّ لحظة يتنادى شبّ حريقٌ هيا نطفئه، ولم نتخلص بعد من ظاهرة الرقابة الذاتيّة المُفرطة ! في حين ما نفتقده هو حسّ المبادرة وصناعة الحدث، والتحلي بالشجاعة الأدبية والسياسية.
لم نحقق التّراكم المطلوب للانتقال نحو خطّ التّدافع والشّهادة، ومشروعنا السّياسيّ خاصة يُختزل في إطار ثنائيّة متخاصمة؛ تتجلّى في تيار المناشدة السّياسيّة،الّذي يُمارس العمل السّياسيّ على أساس ولاءٍ بدون براءٍ، وتيار المناوشة السّياسيّة الّذي يمارس على أساس براءٍ بدون ولاءٍ، في حين أن الأمر يتطلب (أن يكون الحقّ راسخاً في قلوبنا عقائد، وجارياً على ألسنتنا كلماتٍ، وظاهراً على جوارحنا أعمالاً، نؤيد الحقّ حيث كان، وممن كان، ونخذل الباطل حيثما كان، وممن كان) (1).
لم نصل بعدُ إلى حدّ الإشباع الذاتيّ، وعلاقتنا بذواتنا ما تزال طفوليّة لم تصل مرحلة الرّشد، وإحساسنا بالأخر / وحدة أو تحالفاً أو تعاوناً/ يتسم بالضعف الشديد! إن ممارسة النّقد والنّقد الذاتيّ../(وتواصوا بالحّقّ وتواصوا بالصّبر) سورة العصر،الآية/3 تمكننا من تفكيك هذه النّظرة العدميّة ومعرفة مثالبها ؛ فما تطفح به السّاحة الدوليّة والإقليميّة وحتّى المحليّة من مخاطر، يشعرنا بقصورنا الذاتيّ من جهة وحاجتنا إلى الأخر سواءً كان مخالفاً لنا اجتهادا أو مرجعية. وهذا الشعور الرّاشد هو شرطُ الوعيّ والانتقال؛ لأنّه تنجم عنه تجميد الكثير من التّناقضات الثانويّة وتوفير الكثير من الجهود والطاقات لبذلها في ما هو أجدى وأنفع .
وإن تضخم هذا النّزوع الذاتيّ/الفصائليّ../ التأسيسُ الذاتيّ أولاً، ثمّ البناءُ الذاتيّ ثانيًا، والتميز والمفاصلة ثالثاً وعاشرًا... مؤشرٌ على تحوّل هذا الخيار إلى ثابتٍ استراتيجيّ بعدما كان خيار ضرورةٍ لا أكثر، يقف عقبة في وجه كلّ المبادرات نحو تجميع الإسلاميين وكل الوطنيين، على أساس دعم الخيار الديمقراطي، في قطبٍ فاعلٍ ومتميّز..
وخيارُ الوحدة لا يتجاوز مستوى الشّعارات والخطاب الاستهلاكي، أو الصيغ الإبتلاعيّة/الإدماجية ، والتي تتحكم فيه موازين القوى، والنظرة الكميّة، وإرادة الهيمنة، ويغيب فيه البرنامج والمشروع شرطا وجوبه وضمان نجاحه؛ وبذلك بقي هذا الخيارُ هلامياً يُستخدم كذريعةٍ تكتيكيةٍ في لحظات الأزمة، لتخفيف مستوى الاحتقان الداخليّ، ولا يُخطى فيه سوى نصفُ خطوةٍ حتّى يحصل الارتداد إلى الخلف خطواتٍ.. ولو أرادوا الوحدة لأعدوا لها عدتها!..( إنّ الافتراق ليس قدراً غالباً، أو ضربة لازبٍ، وإنّ الأمر بالاجتماع هو أمر بمسبباته من الأوامر الشرعيّة، كما أنّ النّهي عن الفرقة هو نهيّ عن مسبباتها من المناهي الشرعيّة)(2). إنّ عجزنا عن بناءِ حركةٍ إسلاميةٍ ووطنية طليعيّةٍ وجماهيريّةٍ، هو دليلٌ عن أزمة عقلٍ يعيشُ محنة التكرار.
إن الفصائليّة في الساحة الإسلاميّة والوطنية، في كثير من الحالات، ليست نتاج التّنوع والثراء في الاجتهادات، حتّى تحظى باحترامنا، وإنّما هي نتاج ميكانيزم التّجزئة، والخلفيات المذهبيّة والطائفيّة، والعقليات المتحجرة المتمركزة حول ذاتها؛ ولذلك فهي لا تعطي في حصيلتها سوى اختلال المعادلات والتوازنات لغير صالحنا، وتساهم في تفشي الصراعات الثانوية، وعدم القدرة على المبادرة السّياسية، والإفراط في ردود الأفعال السلبيّة، والبكاء على الأطلال، وتضخيم خطاب المؤامرة... ذلك فإن(القوم إذا تفرقوا فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب)(3).
والانكفاء السّاذج على الذات مع تبرمٍ ساخطٍ عن الواقع، لا يُنتج فكراً نقديّاً وتوليديّاً، وإنما يُنتج وعياً مهزوماً وشقيّاً؛ يُؤمن بجملة من المبادئ ويعمل بنقيضها- تحت مبرر الضرورة التي لا ترتفع والفتنة التي تطل برأسها- فيؤمن بالوحدة ويعيش التجزئة، يؤمن بالإصلاح ويساهم في الجمود، يبحث عن معنىً جديدٍ للحياة ويدافع عن السائد ويتحوّل إلى حارسٍ له!.. هم سرقوا فلسطين والعراق وكلّ الأوطان العربية والإسلاميّة الأخرى، مُقعدة ومَهينة، وسرقوا الثرات وجففوا الذاكرة واخصوا التاريخ، وأنتجوا عقود الاستبداد الطويلة.. ونحن مازلنا نبحث عن ذواتنا في كيانٍ هلاميّ، ولا نستطيع حتّى الاحتجاج على الهزيمة! ومازلنا نعدّ ونستعدّ، ويتحوّل الإعداد عندنا إلى حائط مبكى، ننتظر من خلال فك عقده وعقباته،أن يتساقط علينا المنّ والسلوى، ثم تنفتح الدائرة أمامنا للزحف.. وما زلنا ننتظر وقد تبدل الواقع من حولنا تبديلاً !..
وأعتقد أن الارتباط التنظيميّ العاطفيّ بهذه الذوات المتشضيّة، ساهم في تلاشي الكثير من المعاني الإسلاميّة الكبرى؛ حيث الحاجة ماسّة اليوم( إلى الاجتماع حول المحكّم الجليّ، والتغافر في المتشابه الخفيّ، والتفرغ لمواجهة المنكر الأكبر الذي ضيّع الأصول والفروع، وهدم التوحيد والأعمال معاً، وأوشك أن يأتي على بنيان الإسلام من القواعد، فإنّ هذا هو واجب الوقت الذي لا يجوز أن يقتطع المسلمون دون تحقيقه بخلاف فروعيّ، أو أن يُصرفوا عن إقامته بتناوش جانبيّ، وقد قال الله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين)/ سورة الأنفال/ الآية46)(4) فمنذ أن اندمجنا في هذا الفسيفساء الإسلاميّ بدون قاعدة تحدد التعاقد، وقدمنا ما نستطيع من الواجبات بدون أن نطالب بحقوقنا، وأصبحنا امتدادا له؛ نهادن مواقفه المترددة ونفسه المحافظ ، بدل أن نكون ثورة تصحيحيّة وسلاحاً نقديّاً يُصوِّب الممارسة الخاطئة، واحتوتنا حكمة الخلاص الفرديّ، وفقدنا الكثير من معاني المخالطة والإيثار، وسرنا نُحدد أفقنا بأفق هذا الفسيفساء، ونرضع شيئا من هذا الغثاء، فقدنا مبررات الوجود ، ولم نعد إضافة نوعيّة.
ومُقاربتنا للواقع لا تزال متخلفة، فهي إما مقاربة وُقوعية؛ تبتدئ من النّص المبدئيّ لتصل بالتدريج أو بالطفرة إلى نصٍّ أخر تلفيقيّ، فنصّ متشطيّ، ليبلغ بها المطاف إلى نصّ رديءٍ منهزمٍ، لم يُبق من المبدأ إلاّ القناع! ولمواجهة هذه المقاربة لابد من تذكير أنفسنا بقولة الحسن البصريّ..(جعل الله الدّين بين لائين؛ ولا تطغوا ولا تركنوا)(5)، أو مقاربة أخرى تُحوّل النصّ إلى دوغماتيّة، تجمده وتعزله وتقتل فيه قدرته على التّجدد والإبداع، لا تريد أن تتفاعل وتشتبك مع الواقع، وتكتفي بإعادة ترديد شعاراتها العامة والغامضة، مدعيّة بشكل وثوقيّ أنّها تمتلك الخلاص.
و يمكن إرجاع أزمتنا في جزءٍ كبيرٍ منها إلى محنة التكرار، والتي تكاد تتحوّل إلى إيديولوجية منغلقة، تقدّس التقليد، وتجافي الاجتهاد والتجديد.. ولم تعد هذه الأزمة تنحصر في العائق المعرفيّ الكميّ، أو المنهجيّ الكيفيّ، وإنما تجد سندها في الكوابح النفسيّة المُعقدة، التي تختزل مجال التّداول الثقافيّ والمعرفيّ في دائرة الثابت والهوية، أو بلغةٍ أوضحٍ تُكرّس منطق التهاوي نحو الماضي، وكأنّ كلّ شيء في حياتنا وجد منذ البداية، مكتملاً ومنتهيّاً، وفي هذا النزوع المخالف لخيارات الأمة في الاجتهاد والتجديد؛ لتجاوز الفجوات الحضارية الّتي تفصلنا عن العصر، نفسٌ أفلاطوني يعيد إنتاج القضايا بشكلٍ دائريٍّ.
وقد شكّل سُؤال / لماذا تقدم الآخرون وتخلفنا نحن؟/ امتحانا عسيراً لدينا منذ صُدمنا بالغرب كقوة إمبريالية – إفتراسيّة، تضعنا في قلب مُعادلاتها في الهيمنة والسيطرة، ولم ننجح حتّى الآن في مُواجهة هذا السؤال الإشكاليّ، بسبب طبيعة الخطاب التبرمي والانعزالي والإنحباسات المنهجيّة والمعرفيّة، المرتبطة ببنية في التفكير غير قادرةٍ على الانفتاح والاستيعاب والتركيب والتجاوز .
ثم إن أخطر ما يواجه الحركات السياسية والإيديولوجية، هو أن تبقى أسيرة لشعارات لحظة البداية والتأسيس، ولا تستطيع أن تتجاوزها، فينطبع تفكيرها وممارستها بالطابع اللاتاريخي، الممركز حول لحظة تاريخية كثفت حولها كلّ المعاني الرمزيّة، وأصبحت عقبة في وجه التقدم والانتقال.. إن كثيرًا من الحركات قادها إهمالها للمراحل اللاحقة للتاريخ، وتجمد مشروعها في مرحلةٍ محددةٍ،إلى لعبة النهاية والانسحاب، فسقطت جثة هامدة، ومضت عربة التاريخ، تاركة إياها تجترّ ديوناً كبيرة. إننا نحن بوعينا الرّاشد الّذين نرسم أفقنا المفتوح لتنظيماتنا السّياسيّة، ولا يُمكن لتنظيماتنا السّياسيّة في غياب الوعي الرّاشد أن ترسم سوى الأفق المغلق لوعينا.
إن كثافة المعاني وثراء الدلالات التي يتيحها لنا المشروع الإسلامي الذي نحمله، تتطلب فائضاً تنظيمياً، وسيولة في الأداء والفاعليّة، وقدرة على التجديد والإبداع، تتجاوز مقدراتنا وإمكاناتنا، ونحن نسكن في قاع التجزئة السّحيق، ونخلد للتقليد والتبعية؛ لذلك فالمراهنة على كيانات التّجزئة من جهة، وعلى الوعيّ البائس من جهةٍ أخرى، لن يفعل سوى تأخير نهضتنا الإسلاميّة وقومتنا الحضاريّة إلى أجلٍ غير مسمىً، أو إجهاضها بالمرّة/ لا سمح الله/ وترك المرحلة الملتهبة التي نعيشها تزدحم بالإكراهات؛ مع التأكيد أنّ ما لا نفعله نحن ، لن يبقى معطلاً أو فارغاً، يُمكن أن نملئه في وقتٍ لاحقٍ، بل إن هناك بدائل جاهزة ستخطف المبادرة منا، وستقوم بالدور، ولكن لمصلحتها هي، ومن منظورها وعلى حسابنا.. فإلى متى سيبقى حرثنا بلا استثمار، وزرعنا بلا تمارٍ؟..
وكيف يمكننا أن نوازن بين حسابات المرحلة، وتحولات الواقع، وحاجياتنا كحركة إسلامية؟.. علماً أننا نعيش في دائرة دورةٍ تاريخيّةٍ متفردةٍ؛ نجترّ فيها ديُون التّاريخ وثقل أسئلته المكررة والمُعادة، ونواجه فيها إكراهات الحاضر الكبيرة ومُتطلباته، ولا نملك حساباتٍ للمستقبل!.. وهل توقف أفقنا التجديديّ الّذي أسسه أسلافنا العظام عند فاصلةٍ زمنيّةٍ؟ وبالتالي فما تلاها أو سيتلوها لا يعدُو أن يكون مُجرد هامشٍ أو تكرارٍ لها!. وهل سنبقى مجرد قوسين في المعادلة التاريخيّة؟.. ومتى سنخرج من أسر هذا الزمن الراكد ، ونعيش في أجواء زمنٍ متدفقٍ مفعمٍ بالحياة والحيوية؟.. وأين وجه المبدئيّة والمصلحة في المراهنة على أوضاع التجزئة المقيتة، والفكر البائس، والإرادة الباردة، والأداء المتردد؟.. وهل المراهنة على ذلك عنوانٌ للتّبرير والانتظار أم عنوانٌ للتّراكم والبناء؟..
(1) الشيخ أحمد بن باديس..
(2) الشيخ عبد العزيز بن مصطفى كامل، فقه الوفاق متى نحييه؟ ص/6
(3) شيخ الإسلام ابن تيمية..
(4) الثوابت والمتغيرات، ص/127
(5) نحو المعالي، ص/4
ثالثا/ مشروعُ الوحدة ومُتطلبات المرحلة:
الواقع اليوميّ؛ هو الآن والهُنا الّذي يضغط من أجل تجاوز حالة التّجزئة الرّديئة، الّتي يُغذيها مشروع ما يُسميه الدكتور طارق البشري ب( كيمياء التّفتيت)(1).. وليس مُجرد الحلم والعاطفة والتعجل والأمل المنشود. فكل حركة تقبل بواقع التجزئة، أو ما يسمح به من سقوفٍ، ممنوعٌ عليها أن تكون لها تطلعات شاملة ومتحررة .
ثم إنّ هشاشة الفسيفساء الفصائليّ، ومسلسل الإخفاقات المتتاليّة ، الّتي تُمثل عنوان اللحظة المُلتهبة دولياً وإقليمياً ومحلياً، وعجزه حتّى على إمكانية الاحتجاج على الهزيمة، وعدم قدرته على أداء واجب الوقت والحال... كل ذلك يدعونا إلى الجزم بفشل الخريطة التنظيميّة والسّياسيّة لهذه الفصائل، والاتجاه في منحى الوحدة/ وحدة المشروع والبرنامج كحدٍ أدنى في أفق وحدةٍ شاملةٍ/ . إنّ هذه الحقيقة لا يمكن القفز عليها لمن يريد أن يقاوم ويصمد وينتصر، أما من يريد أن يتميز فله في الهامش متسع!.
ومع حقبة العولمة المتوحشة والّتي أصبحت ترتدي بزّاتها العسكرية وتخلع قفازاتها الحريريّة، وضُعف النّظام العربيّ ودونيته، ووهن الحركات الوطنيّة والإسلاميّة و خلافاتها الكبيرة التي لا تستقر على جودٍ.. سيُصبح خيار المقاومة في حدودها المدنية- إن استمرت دار لقمان على حالها- عسيراً ومستبعداً من أجندتنا لا قدر الله، وحينها سيقوى خيار الارتهان والاستسلام، ولن ينفعنا بيانٌ أو خطبة هنا أوهناك، فكلّ ذلك لن يتجاوز الخطوط الحمراء الّتي رسمها ويُرسمها مُهندسو الحقبة الاستعمارية الجديدة.
ومن المفارقات الّتي يُراد لنا الركض داخلها؛ أن مشاريع الإصلاح المعروضة علينا تجعل بوابته المُشرّعة هي الاحتلال الأميركيّ البغيض.. هذه المعادلة تربك العمليّة الإصلاحيّة وتُفخخها من الداخل، وتوسع دائرة الذين في قلوبهم مرضٌ، وتضع العمل السّياسيّ أمام الإحراج التّاريخيّ؛ إنّها تقايض حرية المواطن بحرية الوطن وسيادته، وتضع المصلح في خانة العمالة ، وتضع كل ما هو وطني في خانة الاستبداد.. في حين إنّ المعادلة الصحيحة الّتي تعجز تجزئتُنا عن حمايتها؛ هي أنّ كلّ عمالةٍ هي استبداد لا محالة، وكل وطنيّة هي إصلاحٌ بلا ريبٍ، ولذلك لزم تطهير كل ماهو وطنيّ وشريف من كلّ الأورام الاستبدادية الخبيثة، وإبراز كلّ ما هو عميلٌ وخسيسٌ على حقيقته بدون قناعٍ؛ باعتبار(أن الاستبداد العربيّ الرّسمي الحديث، ظاهرة قد تشكل في رحم التّوسع الإمبريالي الغربي، وما زالت تتغذى من تبعيتها له)(2)، فأميركا لا تحل المشاكل ولكن تُعقدها وتستثمرها لحسابها، ولا تحقق العدل ولكن تفرض الخضوع.
والراهن يؤكد أننا بدأنا ندخل في حالة تنميطٍ جديدةٍ؛ فالمُقاومة المدنية تسمى إرهاباً، والحكومات العربيّة تُشّرع قوانين الإرهاب السيئة السّمعة وتفتح حقول ألغام الحروب الطائفيّة والمذهبيّة والإثنيّة.. وتُصفي ميراث الأمّة بأكمله- الأسرة والمسجد والمدرسة والإعلام../ حسب الإملاءات الأميركيّة/ من أجل توهين الذات وضرب مناعتها الحضاريّة. والمشروع الأميركيّ/الصّهيونيّ يُكشف علناً عن طبيعة مشاريعه التّصفويّة، ويصل الأمر إلى حدّ التّطاول على رُموز الأمّة ، وتدنيس المصحف الشّريف، وانتهاك الأعراض بشكلٍ فاجرٍ.
الجماهيرُ تحوّلت إلى حالةٍ متخشبةٍ تتفرج في صمتٍ مريبٍ على مآسيّ الأمّة، وإذا تحركت فإنّ حركتها تكون عابرة وموسميّة وغير مؤثرةٍ، وحتّى لو( تهيأت للاستماع بكل جوارحها، فإن/ أحزابنا ومثقفونا وعلماؤنا/ يضيّعون ألسنتهم وأقلامهم، وترتبك أطروحاتهم، ويجدون أنفسهم بلا رؤية مستقبلية..)(3). من المسئول عن إنامة يقظة هذه الجماهير؟.. أليس هو بالكاد هذا الفسيفساء المتناثر من الفصائل والأحزاب والقوى والحركات و.. و...الخ../ لقد كان فيما مضى يُقال أنّ العار هو عار النّفط والخليج والرّسمية العربية، ولكنّه اليوم صار العار عارنا جميعاً، وما أصعب أن يحمل الإنسان عاره/
وفي ظروف الإختلالات الكبرى، وعندما يتعطل الواجب، ويضعف الوُسع والاستطاعة، يصبح الفرض توسيع دائرة التعاون حتّى تشمل بعض الفسّاق والمبتدعة ونحوهم ممن لا يمكن دفع العدو الأكبر والضرر الأخطر إلا بالتعاون معهم -كما يؤكد ذلك جمهور العلماء- ويصبح من العبث الاقتصار على الذات الغير قادرة على إقامة الواجب، وهذا بابٌ مهمّ من أبواب فقه المصالح، من تجاهله أخذ على حين غرة.
- وكلّما تعرضت الأمّة بكاملها إلى المخاطر والتهديدات الخارجيّة، واقتحم الأعداء ثغورها، كلّما نمّى ذلك فكرة الوحدة والعمل المشترك، وأضفى عليهما صفة الواجب، فهذا قانونٌ تاريخيّ لا يمكن إبطاله، ومن يتنكب هذه الحقيقة يسبح ضد منطق الأشياء..
وما يحدث غالباً عندما تعجز المكوّنات الإسلامية عن القيام بالواجب، وتفشل في تجاوز خريطة التّجزئة السّياسيّة،هو أن تتعقد المشاكل وتتراكم، فتتبادل هذه المكوّنات لغة الاتهامات أو ما يُمكن تسميّته ب/الفجور السّياسيّ/(4)، مما يساهم في تنامي مساحات التوترات إلى درجة أنه لا يُمكن الإمساك بخيوطها، فتصير متشابكة ومعقدة وخاضعة لتأويلاتٍ متباينةٍ، وتسودُ لعبة تبادل منافع العداء؛ فكلّ طرفٍ عاجز بمفرده على تحمّل المسؤوليّة، ويسعى إلى التّهافت على الاستفراد بالسّاحة، يفتعل وضعياتٍ لإلقاء اللّوم على الآخر وتبرئة الذات؛ فننتقل من ضياع الواجب إلى مفسدة قطيعة ذات البين. وكلما استجدثت مخاطرٌ جديدة، رمينا بمشاريعنا المعطلة وراء ظهورنا- وكم من حاجة قضيناها بتركها أو حرقها- والتجأنا إلى هذه المخاطر الجديدة لنفتح حولها خصوماتٍ جديدةٍ، نختلف فيها من الألف إلى الياء، وقد نُدير حولها معارك لا تُبقي ولا تذر؛ فالانقسامات الأفقيّة بين مكوّنات السّاحة الإسلاميّة تُؤدي إلى انقسامات عموديةٍ تمس طبيعة المعارك والتحالفات والأولويات وساحات النّضال، تنتهي إلى شرذمة وتفتيت الجهود الإسلامية وإهدارها.
والكلّ مُضطرٌ- صدقاً أو رياءً- أن يعلن ولاءه اللفظيّ للوحدة والعمل المشترك، ولكنّه في عمله الدّعويّ وبرنامجه السياسيّ مُنهمكٌ- صدقاً- على ترسيخ كيانات التجزئة في إطار إيديولوجيةٍ منغلقةٍ، تتميز بأنّها صلبة في مواجهة الخارج، وهشّة في مواجهة مُتطلبات الدّاخل،لا يّمكن إحداث اختراقات فيها من الخارج بسهولةٍ؛ لأنّها قائمة أساساً ضد هذا الخارج، ولكنّها واهنة إلى أقصى الحدود من الداخل، وقابلة للانقسام أمام أية وهدة ريح تصيب التنظيم من الداخل؛ ولذا فكلّما أردنا الانغلاق فإنّ مصيرنا هو الانفجار..
ونخشى إن لم نعالج الوضع، ونمرّ نحو تشكيل قطبٍ إسلاميٍّ ووطني بشكلٍ سلسٍ، أن ننتقل إلى مرحلةٍ يسودها الغموضُ والفوضى، وانعدام القدرة، وسيادة النزوع الطائفيّ والمذهبيّ ، وتفشي جيوب التصورات الشوفنيّة والانتهازيّة والسّاديّة- أي أن نرتكس نحو التآكل الداخلي.
فكلّ الكيانات تتقطب وتتوحد، فنحنُ نسمع اليوم عن القطب اليساريّ والقطب اليمينيّ و.. و... فلماذا نكون نحن وحدنا الاستثناء؟ وهل في التّجزئة مزية؟ أفيدونا.. إن حالة التشظي التي تسود السّاحة الإسلاميّة، ونوع التعدديّة السائدة ، والتي هي في حقيقتها تعدديّة تنظيميّة وليست تعدديّة مشاريعيّة إلا في ما نذر، كرّست مفهوم العزوف التنظيميّ لدى شريحة واسعة من أبناء الصحوة الإسلاميّة، وتكادُ تحوّل السّاحة الإسلاميّة إلى مراكز قوى منفصلة بعضها عن بعضٍ، لكلّ ولاؤه واتجاهه وأولوياته، وكثيرٌ ما يؤدي الاحتكاك بين هذه المراكز إلى توثرات تضعف عناصر الأخوة والحوار والتعاون.
والرغبة في العمل المشترك مهما اختلفت صيغتها، تمليها حسابات الذات والموضوع، واعتبارات التدافع المدنيّ وحماية الرّصيد القيميّ والأدبيّ من التّبدد، ودفع حالات الاحتقان التنظيميّ الّتي تكادُ تخرج من دائرة الانحباس والانحصار لتدخل إلى دائرة الغموض والالتباس. فالوحدة وجمعُ المبعثر من السّاحة الإسلاميّة هو المدخلُ الأولُ والعاشرُ لضمان موقعٍ محترمٍ في الساحة السياسيّة في أفق بناء قطبٍ إسلاميّ ووطني أو أكثر- إذا كانت لذلك مبررات – يناضل من أجل الإصلاح الشامل، وإعطاء المعقوليّة والمعنى للعمل السياسيّ.
والوحدة هدفٌ ووسيلة تسندنا بالمدد النّظري والمؤسساتيّ والبشريّ، وتساعدنا على إنجاز مهامنا في التّحرر والإصلاح والتّنمية، وإمكانية كذلك لإعادة الفرز التنظيميّ والسياسيّ، وتجاوز أشكال التوظيف القذرة والتوازنات الهشة الّتي تخدمُ الجمود السياسيّ، في حينٍ كيانات التّجزئة الحاليّة لا تُعبر بشكلٍ ما عن سلامة الرّاية، ولا تستوفي أسس الشرعيّة.
وكثيرٌ ما تنهج بعض المكوّنات الإسلاميّة ما يمكن أن نُسميه ب /قانون التّوحدُنِ مع الذات/ كبديلٍ عن الوحدة مع الأخر الإسلاميّ والوطني، ممّا يُعمّق الأزمة ولا يحلّها؛ بحيث يصير كلّ مكوّنٍ يختزل فعل التّوحُد في ذاته المجزأة، ويستشهد بالنّصوص المحكّمة الدّالة على مشروعيّة الوحدة، في عمليّة انزياح ملتبسةٍ ليُكرس مزيداً من التّفتيت؛ وكأنّ مفهوم الوحدة هو وحدة الذات المتشظيّة وانحلال الكيّان الإسلاميّ والوطني.
.. ولذلك تبقى أطروحة الوحدة عند الإسلاميّين خاصّة، أسيرة منفيين؛ فهي كفكرةٍ تسكن في قاع الإيديولوجية، وهي كتراكمٍ عمليّ تغيب عن سطح الواقع وتنحدر نحو التشرذم..
وللأسف فأيّ مشروعٍ نظريّ فصائليّ ننتجه في أوضاع كهذه، يتحوّل إلى سياجٍ فكريّ يُضخم خطاب الذات، ويحُوطها بكل مبررات التّميز والتّعالي والانتفاخ،ويبني جداراً عازلاً يُعشش على ضفافه العجز والفشل والهامشيّة.. والمعوّل الذي يمكن له أن يفتح ثغرة في هذا الجدار العالي، هي تلك الأيادي المتضامنة، والأرواح المجندة، والصفوف المرصوصة..
ولتحقيق الوحدة أو الجبهة أو تجميع المُبعثر؛ذلك الرصيد الضائع.. لابد من الإقرار بأن المفاهيم الّتي حمّلناها للوحدة- باعتبارها تعني وحدة المبدأ والمشروع والوسيلة والمواقف والميادين...الخ، مفاهيمٌ غارقة في الفكر الطوباويّ والشموليّ، ولا تقر- شعورياً أو لاشعورياً- بالتنوّع والإختلاف في إطار ثابت الوحدة، كما لا تقرّ بالآليّة الديمقراطية في حسم الخلافات وصناعة القرارات.. ينبغي أن نفكر للوحدة ب(عقلٍ عالمٍ وليس بذهنٍ حالمٍ)، ونقوم ب( تصفيّة الحساب مع الجانب الطوباويّ فيها، والانصراف.. إلى ما يقدمُه الواقع من ممكنات)(5) وحدويّة أو جبهويّة؛ فالمستقبل لا يُبنى بمهامٍ نختارها حسب رغباتنا، ولكن بممكناتٍ نُفجر مكامنها، ونُوسع هوامشها. والمطلوبُ هو تحويل الوحدة إلى صيغةٍ واقعيّةٍ ممكنةٍ، وتحرير مفاهيمها من نطاق الاستحالة لتُصبح شأناً سياسيّاً ملموساً وبرنامجاً عمليّاً ناجحاً..
وهذه الصيغة الواقعيّة والمُمكنة، لا تهمُ فيها الوحدة النظرية، بقدر ما يهم فيها برنامج العمل المشترك..
ولابد لها من مرحلةٍ انتقالية، يُعمل فيها بشكلٍ جدّي، لتحديد القواسم المشتركة والتعاون من خلالها، وتحديد المختلفات، وبدأ الحوار حولها.. حتّى تكون الوحدة خالية من كل الإختلالات؛ الّتي قد تحوّلها إلى أداةٍ رجعيّةٍ استسلامية.. إنّ ( الوحدة الحقيقيّة لا تكون بالتشابه السلبيّ: أن يتشابه الجميع بالتأخر، بالجمود، وبالأمراض، الوحدة الحقيقيّة هي وحدة إيجابيّة:أن يتشابهوا بالعمل، بالنظرة الدائمة المبدعة للحياة..)(6)
وعلى كلّ حالٍ؛ فإنّ مشروع الوحدة سبيل لبناء الصفّ المرصوص، وإقامة الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضوٌ تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وإحياء قيم خفض الجناح لبعضنا البعض، ولين الجانب والتآلف والتصافي والتراحم والتواد.. وأما إذا ما تعذر ذلك، فإنّ في مشروع التعاون في المشترك الجامع، والحوار وفكّ الاشتباك في المختلف فيه، وتحديد قواعد التعايش متسعٌ للجميع، ولا تنحصر خياراتنا في( إما أن نندمج ونصير كياناً واحداً، أو يقتل بعضنا بعضاً)(7).
(1) هشام العوضي، الإسلاميون والحوار مع العلمانية والدولة والغرب، ص/
(2) د. رفيق عبد السلام، الاستبداد الحداثي العربي..
(3) صلاح الدين الجورشي، بعد أزمة الخليج، الجبهة الثقافية والدور المستقبلي للإسلام/ ص11
(4) عنوان كتاب لفريد الأنصاري.
(5)د محمد عابد الجابري، مسألة الهوية العروبة والإسلام... والغرب. ص81
(6) د. ميشيل عفلق، في سبيل البعث، ص/140
7) الإسلاميون والحوار مع العلمانية والدولة والغرب، ص/53.. والاستشهاد للدكتور كمال أبو المجد.
رابعا/"الانتقال.." والأسئلة العالقة:
عشنا- نحن الإسلاميين- كغيرنا من مكوّنات الشعب المغربيّ ما سمي بسنوات الجمر والرصاص، وإن كان كسبنا فيها متواضعاً؛ بتواضع مشاريعنا السياسيّة، واِرتكزت مهامنا على اِنتزاع حقنا في التنظيم والتعبير بوجهات نظرنا المختلفة مع وجهات نظر المُؤسسات السائدة، ولم نستطع ولفترةٍ طويلةٍ أن نتخلص من تأثيراتِ الرّافد المشرقيّ، وبقينا نعيشُ وهم المماثلة، والانفعال بما يجري في الخارج أكثر من اِنفعالنا بواقعنا المحليّ، وكان ثمن ذلك فادحاً، تجلى في مزيدٍ من العزلة والتهميش، وسيادة التصورات الاختزالية، الّتي تتعامل مع موضوعة التغيير بتبسيطيّة، وتخضعها للرغباتِ المتقلبة، وتتعامل مع التّحديات بشكلٍ إراديّ لا يستحضر الشروط الذاتيّة والموضوعيّة،أو السّياق المحليّ والإقليميّ والدوليّ.. ومن باب الإنصاف كذلك، أن نذكر بعض السيمات الإيجابيّة لهذه المرحلة؛ والتي تجلت وبالخصوص في سيادة قيم الإيمان بحتمية الانتصار، لدى الجيل الأول المؤسس، والاستعداد والجهوزية للتضحية؛هاتان القيمتان تمثلان جوهر العمليّة التغييريّة، وإذا ما اِختلتا- كما هو حالنا اليوم-، فإن هذه العمليّة تفتقد مبررات وجودها، وتصبح بلا معنىً، وفاقدة لمقومات الحياة.
وجاءت مرحلة التناوب السياسيّ بحلوّها ومرّها؛ لضمان انتقال سلسٍ في دواليب النّظام السياسيّ، مع تجديدٍ في لغة الخطاب وجمودٍ في البنية السّياسية، وحاولت فصائل الحركة الإسلاميّة التعاطي مع هذا الانتقال من خلال مقاربتين؛ الأولى منذمجة، تناشد وتوالي ولكن بدون كسبٍ نوعيّ، يدفع في اتجاه تحولاتٍ جوهريّةٍ في طبيعة النّظام المخزنيّ، مما جعل كلّ توغلاتها في العمل السياسيّ، تكون على هامش النّسق السياسيّ وليس في صلبه ومركزه، وتتحوّل بالتّالي إلى/ قاعدةٍ إسنادية للنظام السياسيّ/(1)، والثانية متحفظة ولكن بدون دفتر تحملاتٍ، مما ساهم في المزيد من العزوف السياسيّ والهامشيّة والإنتظاريّة..
وبدل أن يُؤدي الانتقال إلى نوعٍ من المشاركة تقف على أرضية التدافع المدني السلمي والشهادة على الواقع(2)، وتُؤدي إلى حالة من التفاعل الإيجابيّ مع الواقع تصويباً وتطويراً وتجديداً، لا تكريساً وتعمية وجموداً، وتدفع بالاشتباك إلى مداه الطبيعي، وتُمكننا من إدارة العمل الجماهيريّ والمدنيّ وتنظيم احتجاجاته وتطويرها، وسدّ الفراغ النّضاليّ التي تركته المعارضة السياسية السابقة ، للمحافظة على حدّ أدنى من سخونة الشارع السياسيّ؛ رأسمالنا الاجتماعي في انتزاع حقوقنا السياسيّة وانتصار قضايانا العادلة، تحوّلنا إلى نوع من الاستراحة التنظيمية، فانتقلنا من سنوات المحنة السّياسية/السّنابل الخضر/ إلى سنوات الاسترخاء السياسيّ الرّدئ/السّنابل اليابسات/.
إنّ خطأ الانتقال عندنا، يكمن في اِختزاله في مفهوم التّكيّف مع إكراهات الواقع، في حين التّكيّف هو استهلاكٌ وهامشية.. والمطلوب هو التّحول الإرادي النابع من المبادئ والقناعات السياسية في تواؤم وجدل مع متطلباتِ المرحلة التّاريخية المعطاة، وببذل الجهد الفكريّ والأدبيّ وتأصيل القول وترشيد الممارسة
ولذلك فبدل أن نتحوّل إلى ذاتٍ عارفةٍ وفاعلةٍ؛ نُمارس السياسة من خلال نظرية الممارسة، وندعم النظرية ونجددها من خلال الممارسة السياسيّة، بقينا موضوعاً للدراسة، والاستهلاك الإعلاميّ.
وجاءت الأحداثُ الإرهابية المقيتة، لتضعنا في قفص الاتهام جميعاً، من خلال سيلٍ إعلاميّ هادفٍ، يرومُ إخافتنا وإفزاعنا ليضعنا في وضعية الحلقة الأضعف، لنعيش أزمة اِنسدادٍ مركبةٍ، دفعت بنا جميعاً إلى عدة مراجعات، حكم بعضها منطق الخلاص الفرديّ، وتسويق الذات حسب ما يطلبه المسئولون، وحكم بعضها منطق الانحناء أمام العاصفة حتّى تمر بسلامٍ، وحكم بعضها الأخر منطق تصفية الحسابات مع السّلفية والأصوليّة و.. و... وقليلة هي المراجعات التي حافظت على توازنها، فبالإضافة إلى إدانة الأعمال الإرهابية، تناولت الأسباب التي تنتج مثل هذه الأحداث والظواهر بالتحليل والنقاش، في إطار مقاربة شمولية، تستهدف تجفيف منابع العنف والإرهاب.(3)...
ولذلك إذا لم نستطع أن نخرج من أسر المراجعات المهزومة، وننتج مراجعاتٍ راشدة تستجيب لمتطلبات وشروط تنمية الحاجات الذاتيّة، وليس متطلبات وشروط الآخرين قصد جلب رضاهم، لن نستطيع أن نحقق الكينونة و/أو نُرسخ الوجود.
فقوتنا في استقلالية قرارنا السياسيّ، وعدم خضوعنا لضغط وإملاءات الآخرين، وفي قدرتنا على اجتراح المبادرات السياسيّة، والتحوّل إلى قوّة إقتراحية تشارك فعلاً في صناعة واِتخاذ القرار السّياسيّ، وتمارس سياسة القرب من نبض الشعب، وتعكس مطالبه العادلة، وتتبنى خطاباً نقدياً غير محافظٍ أو مهادن، يكون بمثابة الحجر الّذي يُلقى في الماء الرّاكد ليهزه هزاً.
وكحصيلةٍ؛ لهذه المراجعات المعتلّة والانتقال المبتسر،أرى أننا/..
ما زالت ممارستنا جزئية وعرضية، تعالج الظّواهر، وتغفل عن الجواهر، كل يوم هي في شأنٍ تنظيميّ أو سياسيّ.. تفتحه ولا تحله، ولا يستقر أمرّها على جودٍ.
ومازالت جهودُنا مبعثرة، وفكرنا عشوائيّ، نقدم جزئيات الماضي على حساب أولويات الحاضر، ونحن نظن أننا نحسن صنعاً.
لم ندخل مرحلة من التفاؤل والانفتاح، نرى فيها أنفسنا، كفاعل في مرآة الآخرين؛ فيما يكتبه ويتداوله عنا، ونرى الأخر في مرآتنا فيما نريده منه. /فالذات لا تقوى إلا بالأخر في تدافعها معه، أو تحالفها له، وتضمر باختفاء المُعارض، وتموت بانتهاء الباعث، وتذبُل إذا غاب التحدي../ فالتحوّل لا يكون إلا بالاحتكاك والتشابك بالأخر المخالف، والتعلم لا يتم إلا عبر التحدي، ومواجهة المشاق، بدون ذلك تُصاب الحياة بالجمود والرتابة.
لم نُنتج قياداتٍ متمرسةٍ، تخرج من أطر المدرسيّة الضيّقة إلى رحابة التسيّيس النظريّ، المرتبط بالتّنظير والجدل البنّاء، والبناء العقليّ المتماسك والانهماك بالواقع.
لم نُنتج أطراً مستوعِبة للفكر المقاصديّ/التجديديّ والوسطيّ.
ولم نُنتج كذلك نخباً مستوعبة للفكر الإنسانيّ والتاريخيّ ../ الحكمة الإنسانية والحكمة التاريخية/.
ولم نستطع أن نُخرج المواطن من نفسيّة الإنسان المقهور، نتيجة آلة الاستبداد الآثمة، فظلّ..( هلوعاً، لا مبالياً، قانطاً، غير قادرٍ على التفكير والمشاركة وتحمّل المسؤوليّة، باحثاً عن سبل الهجرة)(4)، وكل سبل التدمير الذاتي...
طغيان الاعتبارات الذاتيّة، وتركز جدول أعمالنا عليها، وعجزنا الكبير عن اقتحام واقع التّدافع والشهادة، فكيف تُختزل مهامنا في البناء الذاتيّ، ولا نُحشر في الزّاوية؟ وحتّى إذا ما حاولنا تسجيل حضورُنا السياسيّ ، فهو حضورٌ كالغيّاب، يفتقد للحسّ الكفاحيّ، وتكون ملامسته للواقع ملامسة قشرية../ فلا أحد يهزّ بجدع النّخل، فتتساقط الرّطب الجنيّة/.. ونحن باقتناعنا بالانتماء للحركة الإسلامية لم نختر موقع الهامشيّة، ولكنّنا اخترنا موقع المقاومة المدنية؛ لذا فقدرنا هو رفض هذه الزاوية.
وضعنا التنظيميّ / كمكوّناتٍ للحركة الإسلامية/ ما زال كغيره من مكوّنات الطّيف السياسيّ الوطنيّ، يُنتج سلوكاتٍ تُعاند التّغيير، وتقاومُ أو تُفرمِل أو تعوق كلّ مبادرةٍ تخرج من االقطاعات التنظيمية الدنيا ، بدعوى أنّ المبادرة من المحيط تُربك المركز وتُبدده . هذا السلوك ينعكس على نوعيّة الفاعليّة ودرجتها لذا هذه القطاعات التنظيمية الدنيا، لتنخرط في حالة التقليد والانتظار وتذمن عليهما.
إن سيادة مفاهيم الطاعة والالتزام وترجيحها على مفاهيم المبادرة والإبداع، وعدمُ القدرة على اِكتشاف ما بينهما من العموم والخصوص، يُساهم في شلّ التنظيمات والمؤسسات وكسادها(5).
وغياب النّقاش الإيديولوجيّ والسياسيّ بين هذه المكوّنات- وأعني به النقاش الشفاف والصريح- يجعلنا أشبه بالمرآة المنكسرة، تعكس كلّ ألوان الطّيف بشكلٍ غريبٍ/.. وجهات نظرٍ مُختلفة ومتعارضة وقائمٌ بعضها ضد بعض/.. وبدل التداول في ذلك لفك الاشتباك، تبقى هذه القضايا في دائرة الكمون والمسكوت عنها؛ تتغوّل وتتفاقم وتكاد تتحوّل إلى مشاكسة لا تسمع ولا تُبصر وتضر بالجميع .
بالإضافة إلى غياب الجانب الفنّيّ ، واختزاله في بعض الأشكال التّعبوية المحدودة- كالأنشودة- واِستبعاد باقي الأشكال الأخرى،إما بخلفية فقهوية مغرقةٍ في ظلاميّتها، أو بخلفيات أخري.. مما جعل لغة التّخاطب الدعويّة يغلب عليها التّقرير والسّطحية والأحادية الدّلالية، وتفتقد لجماليّة الأداء. هذه اللّغة المتخشبة جعلتنا أحياءً/أمواتاً ندخل قبر الحياة، تحتوينا لغة اليوميّ والمعاش والمباشر، فلا نحس إلا بالسطح ولا نغوص في الأعماق.
وآثار هذه الحصيلة على أوضاعنا اليوم ثقيلة ، فنحن قد بدأنا نعيش حالات غريبة؛ لعلّ أبرز معالمها؛ هو بداية تواري مساحات الاقتناع والحماس من حياتنا ، لصالح اِتساع مساحات الشكّ والتردد والاضطراب.. وهذه الحالة إذا لم تعالج بسياسةٍ سليمةٍ وحكيمةٍ ، تمدّنا بجرعات اِستقواءٍ منعشةٍ، سيتراكم الوعيّ المأزوم إلى ما يشبه الانفجار، الذي يختصر الزّمن اختصارا شديداً، ينقلنا من أزمة الوعيّ إلى أزمة الوجود، ومن أشجارٍ صامدةٍ إلى أشجاٍر يابسةٍ.
إن أمتنا اليوم تعيش أصعب مراحلها التاريخية؛ تواجه الكثير من المخاطر والتحديات، بدون(أن يكون لها فكرٌ ونخبة قادرة على القيادة واِستشراف المستقبل)(6)..
(1) د. يونس برادة، مقال الفعل الحزبي وسؤال الديمقراطية بالمغرب.
(2) انظر: الحركة الإسلامية والمتغيرات الدولية، ورقة للحركة من أجل الأمة.
(3) نفس الورقة..
(4) منير شفيق، النظام الدولي الجديد وخيار المواجهة، ص/65 بتصرف
(5) د. محمد بن المختار الشنقيطي، معايير النجاح التنظيمي وثنائياته الكبرى،ص/8
(6) صلاح الدين الجورشي،بعد أزمة الخليج/ الجبهة الثقافية والدور المستقبلي للإسلام. ص12

خامسا/مشاريعنا السياسية وأزمة الوعي المغلوب:
إنّ الوعيّ المتحرر من الهزيمة يُنتج القدرة على المقاومة والصّمود، ويصنع الإنتصار في نهاية المطاف، أما وقوعنا في أسرّ وعيّ الغالب، فيجعلنا نحمل في بنيتنا الشعورية واللاشعورية بُذور الهزيمة السياسيّة، ويحوّلنا إلى كائناتٍ نمطيّةٍ/ موّلعةٍ بمحاكاة الغالب/، والحاصلُ في تجربتنا الإسلاميّة، أنّ الوعي المتحرر لا وجود له إلا في حدود المرجعيّة التي ننطلق منها، والتي ينبغي هي الأخرى، تطهيرها من تراكمات فقه الغلبة الذي أنتجه الفقه السلطاني، الذي يبقي ممارستُنا مرتهنة في إطار وعيّ الغالب، مما يجعل حياتنا عامة تحبل بالتناقضات بين ما نريدُ وما نقولُ وما نمارسُ.
وهناك إختلالات أخرى تطبع خطابنا، تشطرُه إلى خطابٍ ممتلئٍ وقويٍّ ، من حيثُ تعلقه بقضايا التّصور للوجود/ مرتكزات الإيمان المجمل/ وخطاب أخر ضعيف وهزيل، من حيث تعلقه بقضايا التّصور للمحيط/ فقه الواقع، وفقه التنزيل/
ومعاركنا أيضا تتحكم فيها ردود الأفعال والموسميّة، والنّفس القصير، وضُعف القوة والعزم، وكثرة التبريرات والأعذار، وقلة التحضير والاستعداد والجهوزية.. ويطبعها التردد والاضطراب، فتدخلنا في دوامة أنصاف غزواتٍ أو غزواتٍ منقوصةٍ، تنتهي قبل أن ندخلها، فتكون النتيجة والعائدُ إنهاكٌ للذات الهلاميّة، وعدم رسوخها على أساس صلبٍ وذاتٍ عاقلةٍ.
ولذلك لا نزال نعيش وضعاً غامضاً وملتبساً، ونفتقد فيه الإستراتجيّة الواضحة؛ فنحن لا نجد في الوضع الدولي سوى التحدي الصّعب، ولا نجد في المُعطى الإقليميّ والمحليّ وضعاً مشجعاً، ولا نجد في الأطراف السيّاسية الوطنيّة أطرافاً مأمونة نركنُ إليها، ولا نجد في أوضاعنا الذاتيّة سوى التبعثر وتجزيء المتجزئ.. فما المطلوب منا أن نفعل ؟ وما هي دفاتر تحملاتنا؟
وما يزال وعيُنا يتراوح بين بؤس معارضةٍ رثةٍ بدون هدفٍ، وموالاةٍ متآكلةٍ بدون نتيجةٍ.. فيما النظامُ السياسيّ والفاعلون السياسيّون يتعاطون معنا وكأنّنا حالة هلامية يُمكن تطويعها وتكييفها، حسب الحاجة والمرحلة، ويتراوح تعاملهم بين الإقصاء القمعيّ في ظروفٍ، والتّدجين والاحتواء الممنهجين في ظروفٍ مغايرةٍ، ويتخذ الحوار في حالة وجوده شكلاً متخشباً../هدفه الغلبة ووسيلته القوّة/!.في حين الحاجة الإسلاميّة قائمة اليوم على أساس تنضيج إرادتنا السياسية، وتطوير مشروعنا السياسي/ وحدة وتحالفاً وتدافعاً/.. وإيماننا بقدرتنا على فرض وانتزاع حقوقنا الشرعية، في التعبير والمشاركة الغير مشروطةٍ إلاّ بالشروط القانونيّة العادلة، والغير المحددة بسقوف الخرائط السياسيّة المدروسة من طرف الداخلية أو سلطة / ما يُعرف بحكومة الظّل/ هذا هو السّبيل لضمان وجودٍ سياسيّ مشروعٍ ومحترمٍ، يجمع بين المبدئية في المواقف، والواقعيّة في الأداء، والسلمية في أشكال الكفاح ،حتّى تكون معارضتُنا متبصرة و بهدفٍ، وموالاتُنا واعية و بنتيجةٍ.
كما إنّ حاجتنا اليوم؛ للخروج من وعيّ الهزيمة أو الوقوع في أسرّ وعيّ الغالب، وكلاهما وجهٌ لعملةٍ واحدةٍ، المبادرة إلى إصلاحٍ سياسيّ ودستوريّ سليم، يقرّ بحقوق المواطنة الكاملة، في التنظيم والتعبير والمشاركة والتداوُل السّلميّ على السلطة، حتّى ننتقل من خُدّام للسلطة أو دعامة سياسية للنّظام، إلى ممارسين للسلطة إذا حضيّ مشروعُنا السياسيّ برضا أغلبية الشعب.
وهذه المبادرة ما زالت رحمُها ساكنة إلى الآن، وتحتاجُ إلى فاعلٍ سياسيٍّ يُخرجها من الظلماتِ إلى النور؛ فالمخزن السياسيّ بحاجةٍ إلى إرادةٍ سياسيّةٍ حقيقيةٍ ما زال حتّى الآن يفتقدها ، ويُناِور من أجل اِستبعاد كلِّ حديث جادّ حول الإصلاح السياسيِّ والدستوريِّ إمّا باسم الخصوصية السياسية، أو باسم أولوية التّنميّة البشريّة، ومسألة الجهة وعلاقتها بوحدتنا الترابيّة.. في حين لا تنمية بشرية في ظلِ مواطنٍ مرتهنٍ، ونسقٍ سياسيّ يفتقد للمعقولية السياسيّة؛ فالحرية تأتي بالخبز، لكنَّ الخبز لا يأتي بالحرية. أمّا القوى السياسية الوطنية فلم يتجاوز هذا المطلب المُلِحُ عندها مستوى الشعار السياسيِّ، وتطغى عليه عملياتُ التَّوظيف السياسيِّ وثقافة الإنتظارية ومنطق الرّقابة الذاتية... أما المجتمع المدنيّ فهو لم يتشكل بعد، وعمليات تشكله لا تخلو من تشوهاتٍ، ويُراد له أن يكون عبارة عن فسيفساءٍ رصيفيّ لا طعم له ولا رائحة. وأما القوى الخارجية فإفسادها أكبر من إصلاحها، ولا تمتلك سوى مشروع/ الفوضى الخلاّقة/ تجربه في بلادنا.
ويتحوّل عالمُ السياسة في ظلِّ هذه الغثائية../ إلى عالمٍ من الأشياء، وتصبح الممارسة السياسية برُمتها مستقلة عن الفعل الإنسانيِّ، وكأنّها طبيعة ثانية، مؤثثة ومسقفة ومنتهية، ولم يعد بمقدورنا أن نفعل فيها أو نُغيِّر منها شيئاً/(1) وهذا يقود إلى تشيؤ العملية السياسية. والتشيؤ استيلابٌ يخلق بنىً سياسية واجتماعية خارجة عن إراداتنا، ونصبح دمىً لها.. فيسود الجمود والتكرار والهامشية، كما يسود عقلٌ أداتيٌّ يتعاطى مع الظواهر بعد تجريدها من المعنى والقيمة، ويتعامل مع الإشكالات بطريقة فنيّة علمانية مجردة من المبادئ الأخلاقية، ويعطي لواقع التجزئة وبعثرة المُبعثر قوة غير عاديةٍ، تجعل الفاعل السياسيَّ غارقاً في التناقضات الأفقية والعمودية، ولا يقوى على إحداث تغيّراتٍ جذريةٍ أو جزئيةٍ في محيطه، وتتحوّل الجماهير إلى كتلٍ بشريّةٍ، ليس لها هوية، تعيش خواءً روحياً في عالم لا تستطيع فهمه. ولا تبقى لنا إلا إمكانية التكيّف مع الأشياء، كما ُتنمطها الوسائط الثقافية والإعلامية وأدواتُ القهر المادية والرَّمزية.
ومثلما/ لم تعد الطبقة العاملة قادرة على إحداث الضغط المطلوب/(2)لأن التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، لم تعد قائمة في وعيِّ العامل البائس، ومادام النِّظام السياسيّ المخزنيّ قد اشترى ولاءها واستوعبها في إطاره قمعاً وتدجيناً، فإنّ قطاعاتٍ أخرى قد بدأت تتساقط تِبَاعاً؛ فالقطاع الطلابيّ بدأ يعيش مرحلة هي أشبه بالموت السريريِّ، والعلماء يتم اِستتباعهم بشكلٍ قسريّ وتعسفيّ وبلا مقاومةٍ تُذكر، وفي المقابل هناك قطاعات يتِّم اِستنباتها بدون أن تمتلك طعماً أو رائحة؛ كبعض الجمعيات النّسوانية الّتي/( تنقلُ مركز الثقل من التَّمركز الذكوريِّ إلى التَّمركز حول الأنثى.. وتتذرع بإزالة ظلم تاريخيّ بإقامة ظلمٍ بديلٍ.. وتتجاوز المقاربة الإصلاحية الشاملة إلى المقاربة الفوضوية العشوائية)(3) وأحزاب سياسية جديدة، وأندية ثقافية واجتماعية وتربويّة أخرى يتم تحويلها إلى مرافق عموميةٍ ملحقةٍ بدوائر وزارة الداخليَّة أو السفارة الأميركيَّة..
فلقد حدد النظامُ المخزنيّ الخطوط العامة للتّطور السّياسي وحفر له قنواته وأخاديده الخاصّة الّتي لا يجوز الخروج عنها؛ وبذلك غدت الممارسة السّياسية متناقضة ومعقدة ومقيّدة بالعديد من الكوابح والعوائق والقيود..
وعلى أرضية التجزئة السياسية، وعجز الفاعل السياسي، صار همّ الجميع هو ضمان الاستمرارية والجمود، لأنهما شرطا الوجود السياسي، وجذره الذي يستقي منه نبع الحياة.. وصار هناك شبه تعاقدٍ سياسيّ غير مكتوبٍ،أو دستور عرفيّ، يروم تخريب وردع أية محاولةٍ لتحقيق التغيير الشّامل والحقيقيِّ..
فالجميع يساهم من موقعه في تشويه البُنَى السياسية وإلحاقها بعجلة الآلة المخزنية الجهنميّة؛ فالكيانات التجزيئية هي كيانات هشّة امتصت وأزاحت كل معارضةٍ حقيقيةٍ، وكل من يريد أن يعارض يجد نفسه في الهامش. لذلك فهي كيانات للاستهلاك السياسي، وليست كيانات للتغيير.
والسؤال المركزيّ الذي يواجهنا نحن في فصائل الحركة الإسلامية، هو هل نقبل أن نعيش على محيطِ الدوّامة المخزنيّة وهامشها؛ بحيث يحتل هو مركزها ومستودعها، كغيرنا من الفاعلين السياسيِّين الذين سبقونا ب/إحسانٍ/.
والهزيمة المنكرة التي يراد لنا أن نتعرض لها ، هي اللَّعب بأسلحةٍ سياسيةٍ ضعيفةٍ، تخدم التوازنات الهشَّة، بدل أن تكون مخلّة بها، فنحن ندخل السَّاحة السياسية وإمكاناتنا محدودة، ولا نعمل على تغيير خريطة التجزئة، وتجاوز محنة التكرار.. فما المطلوب منا أن نفعل؟ وهل نمتلك معجزاتٍ؟ إن أية إمكانية نمتلكها أو يمكن أن نمتلكها ثم لا نستخدمها أو نسيء اِستخدامها هو أسلوبٌ مدمرٌ.
إنّ العيش أو التعايش مع وعيِّ الغالب، سيُجفف منابعنا من عناصر الإيجابية والتفاؤل، ويولّد لدينا عقدَ الإحباطِ والشعور بالهزيمة والعجز المُزمن .. وإنَّ الخطّة السيكولوجية للقوى المعادية، تريد أن تعيش الحركات المعارضة، والجماهير المؤيدة لها، إرهاقاً يومياً بدون إنجازاتٍ، حتّى يسهل القِرَانُ بين المعارضة الجادَّة الجذريّة وبين الفشل السياسيِّ.
وإنَّ تحقيق ولو بعض الانتصارات الجزئية النوعية، سَيُوَفِرُ بحرًا زاخرًا من الإمكانات والطاقات المستعدة للعطاء بلا حدودٍ، وسيربطنا بواقعنا أكثر، تصويباً وإصلاحاً وإضافة، وسيُمكِّننا من إعادة نقد مفاهيمنا للتغيير؛ فإستراتجيتنا هي تُعبِّر عن المستقبل البعيد، ولكنَّها عاجزة عن التعبير عن المستقبل القريب؛ فهي وإن امتلكت الجذور فإنّها بدون فاكهةٍ أو تماٍر، وهي في زُحمة النوازل تكاد تتحوّل إلى أحلامٍ وكوابيس.
(1) إيان كريب، النظرية الاجتماعية.. عالم المعرفة، ع/244، ص/309، بتصرف
(2) نفس العدد، ص/314
(3) د. أماني صالح، مقال: نحو منظور إسلامي للمعرفة النسائية..
سادسا/ نحو إعادة صياغة المستقبل:
مازال رهاننا في الحركة الإسلامية وغيرها من الحركات والأحزاب الوطنيّة، مشدوداً إلى خطاب من سيحتل القلعة؟ وحول القلعةِ أسيل الكثير من المداد والدّموع والدّماء.. في حين ما نحتاجه جميعاً؛ هو تحرير القلعة من فكر الهيمنة والإقصاء والسيطرة والإيديولوجيّة الشموليّة.
إنّ الواقع المغربيّ خاصة، والواقع الإقليمي والدولي عامّة، يحبل بالكثير من الإشكالات، ويحتاج إلى الكثير من الحلول، وليس واقعا منتهياَ دخل مرحلة نهاية التاريخ، حتَّى تُرفع الأقلامُ وتجف الصّحف ويسدل السِّتار؛ ولذلك يجب امتلاك الوعيِّ النَّقديِّ باللحظة التاريخية المتوثرة، وبناءُ عالميًّةٍ بديلةٍ، إسلاميَّة المرجعيّة وإنسانيّة القضايا والهموم، تتعامل مع الخاص والعام بنوع من الجدل والشمول.. فوعيُ رسالة الإسلام ينبغي أن يتم من خلال المرحلة التاريخية المعطاة، وليس من خلال الجاهز والمنجز في الماضي؛ ف (تلك أمّة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون) سورة البقرة، الآية141، بدون هذا الوعي التاريخيِّ والنقديِّ، نتحوَّل إلى وعيّ حالم وندخل في إبهام تاريخيّ.
وينبغي التحرر من الفكر المجرّد، ومعرفة حدودنا الكائنة والممكنة والمستحيلة، وتحديد الموضوعات القابلة للتعقل، والموضوعات الغير قابلة للتعقل، حتّى لا نتجاوز سقف المرحلة ولا نتخلف عنها، ونحدد بدّقة ما نريد؟.. إننا جزء من الحلّ، ولسنا كل الحلّ؛ قد لا نستطيع تحقيق كل ما نُريد، و قد نحقق بعض ما نُريد، قد يصاحبنا الفشل في بعض مشاريعنا، وقد ننجح في بعضها الأخر، ولكنَّنا يجب أن نُفكر أن نكون جسراً للآخرين، نفتح ممرات لهم ليمروا بسلامٍ، ونكون شاهدين على أرضية التَّدافع ، و/أينما كنا تكون ساحات النضال والمقاومة/، ثمّ نمضي، فكم هي الحركات الّتي مضت ولم تكن شاهدة ، واِنزاحت ولم تسجل موقفاً ولم تقل كلمتها، أو كما قيل../ عاشوا وما حضروا وماتوا وما ذكروا/.
وينبغي كذلك أن ننهي القطيعة الفكريّة والمنهجيّة مع الفكر الإسلاميِّ والعربيِّ النّهضويِّ الحديث، والفكر الإنساني التحرري؛ تلك القطيعة التّي أفقدتنا تراكماً معرفياً ومنهجياً في غاية الأهميّة، وجعلتنا نخرج من/ دائرة الاجتهاد والتجديد إلى دائرة التراث والمستهلك/.
وإنّ التّاريخ لا يُبنى بالقطائع ، كما لا يُولد مكتملاً؛ فالقطائع تضطرك إلى العودة إلى البداية من جديد ، وأنت مثقل بديون تاريخيّة، كما أنَّ إدعاء الاكتمال هو الأخر ارتداد إلى نهايةٍ لا تاريخيةٍ/أي صفرٍ عدميّ/ يُنتج /الأفكار الميِّتة المتجاوزة، والأفكار المُمِيتة التغريبيّة/(1)، ويُعيد إنتاجهما.
فتتحوّل البداية ختاماً، والحركة سكوناً، والتجديد تقليداً، والانفتاح انغلاقا، والوسطيّة إفراطاً أو تفريطاً... وتتعثر العلاقة بين الكينونة والصيرورة؛ إذ كيف نثبت الذات، وكيف نستمر في الحياة؛ ونغتسل بمائها المتدفق والمتجدد في كل لحظةٍ، ونحن نحمل في وعيِّنا واللاوعيِّنا الكثير من الماضي/ غزواته- فتنه- ونوازله/ والقليل القليل من الحاضر والمستقبل؟ ونجيب بإسهام عن ما كان، ونتلعثم ونتعثر عندما يتعلق الأمر بما ينبغي أن يكون.
وكيف نتجاوز محنة هذه الثنائية كذلك؛ ونحن نرى في ماضي الأخر المتغلب مستقبلاً لنا، ونسوّق ذلك لأجيالنا باسم حداثة هي معطوبة وغير منتجة ومقلدة؟ . ثم إن مقولة من قبيل/ ليس بالإمكان أحسن مما كان/ تُجردنا من أيِّ إمكانيةٍ للإبداع؛ ولذلك كان الفقيهُ الأندلسيّ أبو عمر ابن عبد البّر يقول:(.. ولا كلمة أضرّ بالعلم وبالعلماء والمتعلمين من قول القائل ما ترك الأول للآخر شيئاً)(2).
إن ارتباطنا برحم مؤسسة/السلف الصالح/ اتسم بالسمو والطهارة، يجب ألا يسقطنا في أسر خطاب تقديسيّ، يطلق عليه تجاوزاً /التشيّع السنيّ/(3).. فالسلف كان منهم السابق بالخيرات، والمقتصد، والظالم لنفسه، وقد غمرت حسناتهم سيئاتهم، في لحظات تاريخية، كما غمرت سيئاتهم حسناتهم في لحظات تاريخية أخرى، ولا يجوز بالمطلق الحديث عن خيريةٍ مطلقةٍ خاليةٍ من الشوائب والعلل والنواقص؛ لأن ذلك يجعل من عصرهم عصراً متعالياً، غير قابلٍ للفهم والاستيعاب، ويجعل من خطابنا الإسلاميّ خطاباً اِستثنائياً، لا يُمكنه أن يتجسد في النسبيّ والزمنيّ.
ومتطلبات المرحلة تقتدي كذلك التّحرر من مستقبل الماضي، وبناء مستقبلٍ للحاضر، يُراعي الإمكانات، ويحدد المهام؛ علماً أن ما كان مُمكنا بالأمس لم يعد ممكناً اليوم، نتيجة الإختلالات الكبرى التي حدثت في حياتنا.
إن تعاطينا مع الإيقاع الزمنيّ، ينبغي أن يتجاوز مفهوم /الزَّمن المنفلت/؛ فكل لحظة حاضرة عندما تنزاح، وتصير جزءاً من الماضي، يجب أن تصير في وعينا كذلك، وإلا حاصرتنا لحظات المستقبل التي تصير حاضراً، بحكم التدفق الزمنيّ، فتربك حساباتنا، بسيل من الأسئلة لم نستعد لها، لأنَّنا لم نتخلص من فاتورة الماضي بعد.
كما ينبغي أن نتجاوز مفهوم الزمن السائب الذي/ تتداخل فيه الأزمنة الثقافيّة/(4)، وتنتفي فيه التّخوم والفواصل بين المراحل التّاريخيّة؛ حيث تتعاشر بشكل تعسفيّ، فليس هناك جدول أعمال اِستنفذ أغراضه، وانتهت زمنيته، وصار جزءاً من الماضي، فنحن ما زلنا نستهلك أسئلة الماضي، على أساس أنها أسئلة للحاضر والمستقبل، ونُمارس عمليات القياسات الفاسدة، وتحكمنا العقلية الانتقائية، وأوهام المماثلة.
ولذلك فنظرية الممارسة عندنا تفتقد لشرط التّراكم والتّسلسل التّاريخي؛ فالمفاهيم التي صاحبتنا منذ التّأسيس والبدء هي عينها التي تُصاحبنا اليوم وتُرافقنا باستمرار، والتجاوز –إن حصل- لا يكون بدون تعسفاتٍ وقطائع لا تاريخيّةٍ، ننتقل من خلاله من الشيء إلى نقيضه بدون توسط..
إن قياس المدى الزمني لدى الجماعات، يُوَضِّح لنا طبيعتها التقدميّة أو الرجعيّة؛ فالجماعات المشدودات نحو الماضي، يكون فيها الإيقاع الزمنيّ بطيئاً، والحركة فيها مكررة ومعادة، ويتحوّل الرّاهن لديها إلى عقدة . في حين إنّ الجماعات المشدودة نحو المستقبل لا يكون فيها الحاضر سوى جسراً، ولا يكون فيها الماضي سوى ذاكرة وتراثاً، وتتسم حركتها بالإيجابية والفاعلية.
وتقتضي عملية بناء المستقبل كذلك، التحرر من الأحادية الفكرية والسياسية التي تعشش في فضاءاتنا؛ فليس هناك حالة إسلامية معزولة وأخرى وطنية في ضفة أخرى أو كوكب أخر، لكل واحدة منهما تاريخ خاص أو نوازل خاصة، بل هناك تداخل وتركيب بصيغة التاريخ المشترك، والوطن الجامع، والمصير الواحد، لذلك فمعادلة وطن بلا إسلام، هي معادلة فاسدة؛ لأنها طريق للإستيلاب، وذريعة تؤدي إلى تعقيد عملية التغيير وإرباكها، كما أن معادلة إسلام بلا وطن هي معادلة مغشوشة تحرف الإسلام عن حقيقته، وتعزله عن نبع حياته وتجدده.
إعادة صياغة مفهوم التجديد، على أساس الأصول والثوابت الجامعة، ونوازل العصر ومعطياته؛ لبناء ميزان الإرادات القويّ، وتوفير الشروط، وتجاوز الموانع. إن مفهوم التجديد لا يُمكن أن يُختزل في إطار مفهوم التكيّف والاستهلاك، أو تجسير الفجوة مع الفكر الغربي المتغلب- باعتباره أصلاً يُقاس عليه- وإنَّما التجديد هو الاستيعاب والنقد، والتركيب والتوليد، والفاعليّة والإبداع.. ويتجلَّى على ثلاثة مستويات../. التجديد على مستوى الأفكار والقيم والمناهج.. التجديد على مستوى الإدارة والتنظيم... والتجديد في الفاعليّة و كيفية استخدام الإمكانات وطريقة استثمارها.. (5)
البحث عن أفق سياسيّ مغاير؛ ذلك أنَّنا لن نعثر عن الحقيقة السياسية/ الصّحة والصّواب/ في ثنايا النسق السياسيّ السّائد، ولكن في ثنايا تلك الممكنات المغفلة، سهواً أو عمداً، والتي نجت من وطأة هذا النسق الجارحة.. والمطلوب الَّذي ينبغي بدل الوسع فيه والاجتهاد؛ هو ممارسة الحفر والتفكيك والبحث عن تلك الاختيارات والأساليب التي سقطت أو اُستبعدت من تفكير الفاعلين السياسيّين-أي البحث في التاريخ المستبعد والذي لم يحدث إما بوجود مانع أو غيره-.
نقدُ معوّقات الوحدة لا إلغائها، وإعادة بناءها بناءً نظرياً متماسكاً، وتحديد الآليات والإجراءات العملية لتحقيقها.
البحث عن علاقاتٍ إبداعيةٍ بين التفكير والتنظيم، فالفكرُ هو الذي يشكِّل التنظيم، ويحدد ماهياته وآلياته، وبعد ذلك تصبح العلاقة تشابكية وجدلية، فالأسبقية الوجودية هي للفكر، وليس للتنظيم؛.. ( لأنّ الفكر عندما يصبح في خدمة التنظيم، يصبح محافظاً، فجامداً، فحزبياً، وأخيراً معاد للحريّة والإبداع)(6) والتنظيم لم يعد مجرد موهبة فردية، تعتمد على المشيخة أو الزعامة، وإنما أصبح علماً راسخاً، وفنّاً متميِّزاً؛ لذا ينبغي التحرر من أخطار الفردانية، والتمركز والمركزية، حتّى لا تكون القيادة استبدادا.
التوفيق بين نهجي العمق والتركيز والحشد والانتشار، وتحقيق التميز الفكريّ والسياسيّ، والتوسع الأفقي، والتوسع المؤسساتي؛ فالفكر بدون العنصر البشري، هو رأس بدون أطراف، والفكر والتوسع الأفقي بدون توسع مؤسساتي هو دخان بلا نار، والتوسع الأفقي والمؤسساتي بلا فكر متميز هو سعي بلا أفق، وممارسة بلا بصيرة.
بناءُ ذاتيّةٍ إسلاميةٍ محترمةٍ وقادرةٍ على التنافس والمبادرة والإبداع والجودة، ولها رصيدها من المصداقية، ولها علاقات قويّة مع النسيج السياسيّ والاجتماعي، وتمتلك مشروعاً سياسيّا ومجتمعيّا.
ثمّ إن إقرارنا بأنَّنا اجتهاد نسبيّ في الدائرة الإسلامية والوطنية، وعدم احتكارنا للحقيقة، يترتب عليه ممارسة سلوك تصالحيّ مع القوى المخالفة، في إطار برنامج حدّ أدنى للتغيير الوطني؛ كما إن إقرارنا بتعقد الواقع وتشابك أحداثه؛ يتطلب الكثير من المُرونة والعقلانية،اللَّتان لا تخلاّن بالثوابت المبدئية، وتخرجنا من خيار قاتل أو مقتول أو حرب دائمة بيننا وبين خصومنا السياسيين.
المصلحة الإسلامية والوطنية تكمن في تكريس خطّ وسطيّ، يكون نواة لكتلةٍ تاريخيةٍ، تُشيع أجواء التغيير والتقدم، وتبني مؤسساتها المدنية لتكون قلاعاً للمقاومة والإصلاح، وتحمي مشاريع الأمَّة من الضياع والتَّبدد.
إن كلَّ التِّيارات السياسيّة والفكرية المختلفة، لها رصيدها التاريخيّ، وكسبها السياسيّ، الّذي يميزها عن الآخرين؛ فمنها من له خبرته في حماية هوية الأمَّة، ودعم مشروع المقاومة، ومنها من له دربته في تحديد مخاطر التجزئة وتفتيت المفتت، ومنها من هو أكثر اِستيعابا وتحريكاً للإشكالات الاجتماعية، ومنها من هو أوعى بالقضايا السياسية والحقوقية... الخ
كما ينبغي أن نبعث فينا شيئاً من ثقافة الأمل الواعي، فالإنسان الملتزم، الحامل لقضيته، هو أول من يقاوم، وأخر من يستسلم، وقد لا يستسلم.. وينبغي كذلك إعلان القطيعة مع أدبيات/ الأزمة المفتوحة/ ومقولات/ الانهيار الشامل/ وخطاب الانحطاط المعاصر/ ومفاهيم المأزق التاريخي..
(1) هذان المفهومان لمالك بن نبي
(2) الإمام أبي عمر ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، ج/1 ص/99
(3) محمد بن المختار الشنقيطي، الخلافات السياسية بين الصحابة، ص/9
(4) محمد عابد الجابري، المسألة الثقافية، ص/99
(5) أنظر برهان غليون، فلسفة التجدد الإ سلامي، مجلة الاجتهاد، ع/10 و11، ص323
(6) المقدمات النظرية للإسلاميين التقدميين،
/خاتمة:
إنّني وأنا أقوم بهذه المراجعة؛ بما تحمله من صبغة نقدية، تتسم بالجرأة في تعريّة الأخطاء، ولا تهادن مواقع الضعف والوهن، ولا يدفعها انتماؤها للحركة الإسلامية وحبّها للإسلام العظيم،أن تمارس لعبة التغطية والإخفاء، لأن الشمس لا تغطى بغربالٍ، وأن الحقائق هي ملك للجميع، أريد:
1- أن تنتزع الحركة الإسلامية شهادة الانتماء للنّاس والوطن والعصر والتّاريخ؛ من خلال تأصيل وعقلنة مشاريعها، وترشيد ممارستها، وتخليق سلوكها، وتثوير مواقفها.
2- أن تمتلك ذاكرة ومعاشاً؛ يُمكنانها من بناء رُؤية تركيبيّة، تُعيد صياغة مفاهيم المرجعية والهوية على ضوء نوازل العصر؛ فتكون إسلامية وطليعية وجماهيرية..
3- أن تكون أداة في التغيير والتحرير والتنمية المستدامة والنهضة الشاملة، ونواة لبناء تنمية بشرية راقيةٍ، و مشروع مجتمعيّ وحضاريّ، يتجاوز ما اُستهلك، ويوسع ما ضاق، ويهتك ما اُحتجب، ويُثمن منابع الأصالة والإبداع في الأمة، ويجدد لها مسيرتها.
4- أن تتخلص من التّفكير الإطلاقيِّ، وتنتقل إلى التفكير الإصلاحيِّ؛ الّذي يتعامل مع الخصوصيّ والإنسانيّ والنسبيّ، وتتخلص كذلك، من مفهوم الولاء للأشخاص والزعامات،إلى مفهوم الولاء للبرامج والأفكار والقيَّم.
5- البحث عن مصادر للقوة اللاعنفية، من خلال تبني واضح لإستراتيجية التّدافع المدنيِّ، والعمل في كل ميادين النّضال الجماهيريّ، قصد تفكيك مصادر تموين الاستبداد وعزلها، وتجفيف منابعها، والضغط من أجل الانتقال من ضيق المعالجة الأمنية إلى سعة المعالجة السياسية.
6- ولا أريد من هذه المراجعة، أن أقدم حلولاً جاهزة لمشاكل تاريخيةٍ معقدةٍ وعسيرةٍ، وإنّما أهدف إلى إماطة الأذى عن طريق العقل والتنوير، وتثوير المعرفة، وإخضاع الشأن الوطني والإقليمي والدولي لحقّ التداول العام، حتّى لا يبقى حكراً على نخبٍ؛ هي للأسف معزولة عنا، وقائمة ضدنا، ومندمجة في مشاريع التبعية والإلحاق. ولذلك أكتفي بتقديم إجابات غير نهائية، لكنها تمثل- في نظري- مفاتيح لإعادة الاعتبار لسلطة المعرفة، المتحررة من قهر السلطة.
7- ولا أريد من خلال هذا النقد، تصفيّة الحساب مع أحدٍ، أو الإساءة إلى أحدٍ، لأنَّ الشيء الذي يُسيء لنا جميعاً، ونحن نركب سفينة واحدة، هو صمتنا عن الأخطاء، وإصرارنا على توطينها، والدفاع عنها تبريراً ومحافظة، أو اقتناعا مبتسراً، ووعياً مستلباً.
8- كما أنني لا أنطلق في هذه الدراسة من ذاتيَّةٍ تنظيميَّةٍ مخصوصةٍ، محكوماً بخلفيتها، لا أنظر أبعد من دوائرها. إنَّ فروض البحث العلمي؛ ينبغي أن تكون ملتزمة بالموضوعيّة والنسبيّة والتاريخيّة، ومسترشدة بالهدي القرآني..( لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقومَ الناسُ بالقسط) سورة الحديد/25 فالكتاب هو العلم بدين الله، والميزان هو العدل وعدم الظلم. و مستنيرة بالأمر والنّهيّ القرآنيّ..( وتعاونوا على البرّ والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واِتقوا الله، إنّ الله شديدُ العقاب) سورة المائدة/2 فالإثم هو التفريط، والعدوان هو الإفراط والغلو في الدين، والتفريط مخالفة للأمر بالتقصير، والغلو هو مخالفة للأمر بالتّجاوز... بدون هذا الالتزام لن تكون هذه المراجعة سوى تكراراً لما قيل، وظِلاّ لما هو كائنٌ، وتعايشاً مع ما هو سائدٌ، وتبريراً لما هو معتلٌ. إنّنا اليوم أمام العديد من التحديات../
- تحديات الاحتلال، وفرض الأجندة الأجنبية..
- تحديات الدولة العربية القطرية الاستبدادية، وضعف المجتمع المدني والفاعل السياسي. وهشاشة التحالف الإسلامي والوطني..
- تفاقم الأزمة الاجتماعية، وتنامي أحزمة البؤس، وضعف القدرة الشرائية لدى شريحة واسعة من المواطنين..
ومع هذا يطاب منا إجراء مصالحة وطنية، تحقق السلم الإجتماعي بين الفقر المدقع والغنى الفاحش، الذي يفترس الثروة الوطنية، وينهب المال العام، وبمباركة المخزن السياسي والمالي..
ويطلب منا تحقيق التعايش الوطني بين برجوازية مترفة وطفلية، تقضي عطلها في متنزهات لندن وباريس .. وبين جيش عرمرم من المتسولين المتحلقين حول أبواب المساجد والمقابر، وخلق تسوية ما بين الضحية والجلاد.. ولا أحد يطالب بدفع مستحقات هذا السلم الاجتماعي والتعايش الوطني، وهذه من مفارقات زمننا المغربي والعربي.
إننا نواجه في المحصلة، ظروف داخلية صعبة، وضغوط خارجية شرسة.. أوطاننا مستهدفة، حرياتنا حقوقنا وكراماتنا يتآمر عليها، وليس بإمكان أيّ منا بمفرده مقاومتها، وليس بإمكان الثقافة السياسية السائدة أن تمدنا بجرعات من أجل الكفاح.. فما العمل؟............
عبدالرحيم شهبي
عضو الأمانة العامة للحركة من أجل الأمة
عضو الأمانة العامة لحزب الأمة
عضو المكتب التنفيذي لمنتدى الكرامة لحقوق الإنسان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.