بسم الله الرّحمن الرّحيم الأستاذ عبدالرحيم شهبي / المغرب
هذا الموضوع هو عصارة مجموعة أفكار تضمنتها ورقة داخلية من أوراق الحركة من أجل الأمة، شاركت بها بأحد لقاءات تنسيقية مكونات الحركة الإسلامية ببلادنا، بعد أحداث 16 ماي 2003 الأليمة، حاولت أن أعيد صياغتها وتحيينها وفقا لواجب الحال والوقت.. ما من شك أن تناول هذا الموضوع له أهميته الراهنة، وخاصة مع تنامي نزعات الغلو والتطرف في مجتمعاتنا وعلى صعيد العالم من جهة، وتنامي نزعات توظيفه من طرف الأنظمة الاستبدادية القمعية من جهة أخرى، لضرب قوى الاعتدال والوسطية التي تمتلك مشروعا للنضال المدني السلمي، ولها قدرة على نهج المعارضة السياسية الجذرية، على درب الإصلاحات الفكرية والسياسية والدستورية الشاملة، وتقول لا حينما تكون نعم مضرة بمصلحة الوطن. وبما أن الأنظمة الاستبدادية عاجزة عن المقارعة البرنماجية مع القوى والحركات السياسية المدنية التي تمتلك مشروعا سياسيا وفكريا، فإنها تختلق من الوقائع والذرائع ما يسمح لها بتوسيع معادلاتها الأمنية، وتوزيع اتهاماتها بالإرهاب لكل خصومها السياسيين، قصد إقصائهم وترهيبهم بشكل منهجي، وإخضاعهم لامتحان بيداغوجي، قصد إعادة إدماجهم في الحقل السياسي، وقد تنازلوا عن مبادئهم ومواقفهم، واستحكم فيهم هاجس الرقابة الذاتية، وانتظار "الإشارات الإيجابية"، وتحولوا إلى قوى إسنادية للأنظمة الاستبدادية.. ونحن إذ نؤكد على التزامنا بخط الوسطية والاعتدال، فإننا لا نفعل ذلك من أجل تسويق ذاتنا بشكل مقبول لدى هذه الأنظمة، أو الجهات الرسمية والإعلامية التي تتهمنا بالإرهاب، وتروج للرواية الرسمية، ولكننا نفعل ذلك لتأكيد مبادئنا، وتوضيح مواقفنا، التي ما فتئنا نناضل من أجلها، ونقدم تضحيات جسام من أجل الدفاع عنها.. فالإختيار الوسطي كما يؤكد أميننا العام الأستاذ محمد المرواني- فك الله أسره- - ليس اختيارا اضطراريا، وإنما اختيار مبدئي. -اختيار يدخل في مقاربتنا التأصيلية، التي ترفع شعار:" تأصيل القول، تجديد الفهم، وترشيد الممارسة". - ويمثل مدخلا نحو الإصلاح والنهضة. لقد صاحبنا في كل منعطفاتنا منهج النقد والنقد الذاتي، وكانت المراجعات عنوان لمسيرتنا الفكرية والسياسية، سمحت لنا في وقت مبكر لنمثل امتدادا لمشروع الحركة الإسلامية، بإعتبارها عمقا استراتيجيا لنا، ونمثل في الآن نفسه تجاوزا لها، ومحاولة لتجسير الفجوة بيننا وبين القوى الوطنية الديمقراطية، لننجز مشروعا فكريا وسياسيا يسدد ويقارب ويستوعب كل الأدبيات الراشدة، ويجمع بين المرجعية الإسلامية الجامعة ومكتسبات الحكمة الإنسانية.
تنقسم أرضيتنا إلى ثلاثة أقسام: الأول نخصصه للغلو وملامحه وتجلياته، على أن نعرج في القسم الثاني على الوسطية ومرتكزاتها وآثارها، ونختم الأرضية بخلاصات عملية.
الجزء الأول: في الغلو والتطرف
1/ التطرف لغة الوقوف في الطرف، واصطلاحا مجاوزة حد الاعتدال، أما الغلو لغة فهو مجاوزة الحد، واصطلاحا هو تجاوز الحد الشرعي بالزيادة كما قال الحافظ ابن حجر والشاطبي. 2/ له تجليات على المستوى العقدي وعلى المستوى المنهجي وعلى المستوى العملي والسلوكي.. أما التجليات العقدية فمتنوعة في التشديد والتعنيف، في الفهم المبتسر للولاء والبراء، وفي التكفير والتبديع .. فالعقائد في يد الغلاة، كالسيوف في يد المجانين، كما يقول الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – وأما التجليات المنهجية فتتجلى عموما في التقوقع وتعطيل فقه الواقع، وتعطيل مشروعية المعقولات بإطلاق، وعدم اعتبار المصالح الشرعية المعتبرة، وترك فقه الضرورات الشرعية،وعدم التمييز بين الكليات والجزئيات، والوسائل والمقاصد، والتوابث والمتغيرات، والتشدد تارة بجعل ما ليس بواجب ولا مستحب، بمنزلة الواجب والمستحب، وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه.. وأما التجليات العملية والسلوكية؛ فهي على مستويين: على مستوى السلوك الفردي، مثل التشديد على النفس وتحريم الطيبات ، والمبالغة في الهدي الظاهري، وعلى المستوى الإجتماعي، مثل هجرة المجتمع واعتزاله وعدم مخالطته، والبغي على المخالف، واستباحت الدماء والأموال والأعراض. 3/ ولذلك كان للغلو مصدران: أما المصدر الأول: فهو سوء الفهم/ أي خلل في منهج التلقي ، وتحصيل المعرفة والفهم والنظر، والجهل بالكتاب والسنة ومعرفة الأدلة الشرعية، ومعرفة الترجيح أو الجمع والتركيب، أو التغليب والتقريب عند تعارض الأدلة، وعدم القدرة على الموازنة بين فقه الفهم وفقه التنزيل. وأما المصدر الثاني فهو سوء القصد، بإتباع الشبهات أو إتباع الشهوات ، وأحيانا يجتمعان معا مما يزيد في خطورة الغلو والتطرف. 4/ ولا شك أن القمع والاستبداد، وغياب الحريات العامة أو ضعف هوامشها، وضعف حقوق المواطنة.. كلها عوامل تساعد على نمو فكر الغلو والتطرف وتوفير بيئة مناسبة لانتشاره.. 5/ وكثيرا ما يؤدي الغلو إلى إفراز نقيضه، يعني التفريط والاستسلام والوقوعية، فالمتطرف ليس متشددا بإطلاق، فهو متشدد فيما ينبغي التساهل فيه، ومتساهل فيما ينبغي التشبث به، لأن سلم أولوياته معكوسا. 6/ الإفراط هو مخالفة الأمر بالغلو وتجاوز الحد الشرعي، والتفريط هو مخالفة الأمر بالتقصير، وكلاهما مذمومان، لأن الله تعالى يأمر بالوسط العدل، يقول سبحانه:" وكذلك جعلناكم أمة وسطا" البقرة/143، ويقول عز وجل:" وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"فالإثم هو المعصية والتفريط في الأمر والنهي، والعدوان هو الغلو ومجاوزة الحق.
الجزء الثاني: في الوسطية والاعتدال
1/ الوسطية لغة، في لسان العرب، وسط الشيء أعدله.. وأما اصطلاحا فلها معاني واسعة تشمل كل خصلة لها طرفان مذمومان كأن نقول السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور.. 2/ ومن أركانها: - العلم: " ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسؤولا" الإسراء/36 وهو شرط في صحة القول والعمل،والعلم ما قام عليه الدليل. - العدل:" ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى" المائدة/9 وقد قيل العدل الوسط، والعدل هو الأساس الذي من أجله خلق الله تعالى الخلق، وأنزل كتبه، وأرسل رسله، يقول سبحانه وتعالى:" لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط"الحديد/25. فإذا كان مفهوم الكتاب هو العلم بدين الله، فإن مفهوم الميزان هو العدل وتحريم الظلم. - التيسير ورفع الحرج:" يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر"البقرة/185 ومن هذا استنبطت قواعد شرعية منها" المشقة تجلب التيسير" و" الضرورات تبيح المحضورات". - الحكمة: وقد قيل أن الحكمة هي" العلم النافع والعمل الصالح" الذي يكون هدفه الهداية لا المغالبة، والبدء بالأهم فالأهم، والأقرب إلى الأذهان والفهم، واستخدام الرفق واللين،والإحتجاج بالنقل والعقل، واعتماد التدرج والمرحلية، كما جاء في الوثيقة المعنونة بالاختيار الوسطي عند الحركة من أجل الأمة. وفي تعريف جامع مانع للمفهوم الوسطية للدكتور عصام البشير، يقول:" الوسطية التي نزمع أن نضرب فيها بسهم في مسيرة الأمة والإنسانية هي: أن نقدم تصورا إسلاميا مرتبطا بالزمان والمكان والإنسان، موصولا بالواقع، مشروحا بلغة العصر، منفتحا على الإجتهاد والتجديد في محله ومن أهله،جامعا بين النقل الصحيح والعقل الصريح، منفتحا على الحضارات بلا ذوبان، مراعيا للخصوصية بلا انغلاق، محافظا في الأهداف، متطورا في الوسائل، ثابتا في الكليات، مرنا في الجزئيات، يستلهم الماضي، يعايش الحاضر، يستشرف المستقبل، يرحب بكل قديم نافع، ينتفع بكل جديد صالح، ويلتمس الحكمة من أي وعاء خرجت".
الجزء الثالث: من أجل استراتيجية لترسيخ الوسطية
1- تجديد الدين فهما وتنزيلا، والنهوض بأوضاعه الإدارية والتدبيرية، لإقامة الدين وتحقيق مقاصده الكبرى، وليس ضبط الشأن الديني وتطويعه سياسيا، كما هو حال في المشاريع الرسمية . 2/ إنشاء مؤسسات تعنى بدراسة وإنتاج ونشر الفكر الوسطي، تتمتع بشخصيتها المعنوية والتنظيمية المستقلة عن الدولة وعن الأحزاب السياسية وعن الحركات الإسلامية، ويديرها علماء ومفكرون وتقنيون يمتلكون الكفاءة العلمية والمعرفية. 3- تفعيل العمل الدعوي، وتنظيم وتأطير وترشيد الحالة الإسلامية، بدل تركها عرضة لأخطار التسيب والتجريبية والميوعة...الخ 4- حماية النسق القيمي والأخلاقي، وصيانة الهوية الحضارية والوطنية من التبدد والانحلال. 5- بناء المسألة الديمقراطية، وبسط الحريات العامة وتوسيعها، وترسيخ وحماية حقوق الإنسان وكرامته، وتنمية قيم المشاركة والتدبير التشاركي، بدل تكريس الثقافة الانسحابية والعزوف السياسي. 6- ترسيخ قيم التداول السلمي على ممارسة السلطة، حتى تصبح المشاركة في العملية السياسية لها مصداقيتها، والانخراط في الأحزاب السياسية له معنى، والانتخابات لها معقوليتها. 7- حماية السيادة الوطنية، والوحدة الترابية والوطنية، وبناء القرار الوطني المستقل، وعدم الخضوع لأجندات أجنبية، تمس مصداقية هذه السيادة، والوحدة والقرار. 8- صيانة الثروة الوطنية، واحترام الحقوق الاجتماعية والاقتصادية لكافة المواطنين في إطار الحرية والمساواة. 9- ترسيخ ثقافة الحوار، واحترام الأخر المخالف مرجعية أو اجتهادا، والإقرار بالتعددية الفكرية والسياسية.