رئيس الجمهورية يأذن بعرض مشروع نتقيح الفصل 411 من المجلة التجارية على مجلس الوزراء بداية الأسبوع المقبل    عضو هيئة الانتخابات: حسب الاجال الدستورية لا يمكن تجاوز يوم 23 أكتوبر 2024 كموعد أقصى لإجراء الانتخابات الرّئاسية    تونس حريصة على دعم مجالات التعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ( أحمد الحشاني )    مسؤول باتحاد الفلاحين: أضاحي العيد متوفرة والأسعار رغم ارتفاعها تبقى "معقولة" إزاء كلفة الإنتاج    تونس تشارك في الدورة 3 للمنتدى الدولي نحو الجنوب بسورينتو الايطالية يومي 17 و18 ماي 2024    المنستير: إحداث اول شركة أهلية محلية لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين بجرجيس مخبأة منذ مدة (مصدر قضائي)    الترجي الرياضي يكتفي بالتعادل السلبي في رادس وحسم اللقب يتاجل الى لقاء الاياب في القاهرة    كاس تونس - النجم الساحلي يفوز على الاهلي الصفاقسي 1-صفر ويصعد الى ربع النهائي    الحرس الوطني: البحث عن 23 مفقودا في البحر شاركوا في عمليات إبحار خلسة من سواحل قربة    طقس... نزول بعض الأمطار بالشمال والمناطق الغربية    المنستير : انطلاق الاستشارة لتنفيذ الجزء الثالث من تهيئة متحف لمطة في ظرف أسبوع    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    مهرجان «بريك المهدية» في نسخته الأولى: احتفاء بالتّراث الغذائي المحلّي    عمر الغول.. الولايات المتحدة تريد قتل دور مصر بالميناء العائم في غزة    ملتقى وطني للتكوين المهني    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ صفاقس: انقاذ 52 شخصا شاركوا في 'حرقة' وإنتشال 4 جثث    عاجل/ ضبط 6 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم في 4 ولايات    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    الإنتخابات الرئاسية: إلزامية البطاقة عدد 3 للترشح..هيئة الإنتخابات تحسم الجدل    آمر المركز الأول للتدريب بجيش الطيران صفاقس: قريبا استقبال أول دورة للجنود المتطوّعين    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    بقلم مرشد السماوي: كفى إهدارا للمال العام بالعملة الصعبة على مغنيين عرب صنعهم إعلامنا ومهرجاناتنا!    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    ليبيا: اشتباكات مسلّحة في الزاوية ونداءات لإخلاء السكان    القيمة التسويقية للترجي و الأهلي قبل موقعة رادس    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    داء الكلب في تونس بالأرقام    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    كمال الفقي يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    حفل تكريم على شرف الملعب الإفريقي لمنزل بورقيبة بعد صعوده رسميا إلى الرّابطة الثانية    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شروط استتباب الأمن في البلاد
نشر في الحوار نت يوم 05 - 03 - 2011


الدكتور ابو يعرب المرزوقي
دعواي في هذه المحاولة هي أن علة انخرام الأمن ليست إلا مواصلة السعي لفرض المناخ اليعقوبي (الإرهاب الرمزي الذي تمارسه النخب المستلبة) المناخ الذي يولد رد الفعل الابن لادني (الارهاب المادي للنخب التقليدية الغافلة عن أبعاد هذه الاستراتيجية) حتى يبرر أصحابه وجودهم المستند إلى حاميهم الذي ولاهم إدارة الاستعمار غير المباشر. فهذا السعي هو السبب الكامن في جحري الحكومتين التونسية والمصرية أعني في ما أطلقنا عليه اسم الفضلات الخمس التي هي عينها ما نجده في تونس وفي مصر: إنهم لم يفهموا حقيقة ما حصل في الثورتين بدليل أنهم يرفضون أساسه وشرط إمكانه الذي جعله حاصلا بالفعل أعني الصلح التاريخي بين القوى السياسية سواء كانت من اليسار أو من اليمين في شكلهما الخالص أوفي شكلهما المصطبغ بالصبغة التي حددها التاريخ العربي الإسلامي كما نبين في هذه المحاولة.
المتشبثون بجحر الحكم في تونس ومصر يريدون تأبيد الممارسات التي سادت قبل الثورتين التونسية والمصرية. ومن ثم فأصل الانخرام الأمني ليس ما يراد تقديمه على أنه السبب في حين أنه المبرر للبقاء باسم الحاجة إلى توفير شروط الحياة العادية للمواطن: لكأنهم يجهلون أن المواطن لو كان يقنع بالحياة العادية بنفس النظام الكرهي لفضل بقاء رئيسهم. كل ما يقدمه حلف الفضلات لتبرير بقائه في الحكم ليس إلا غطاء للسبب الحقيقي الذي تمثله الفضلات الخمس بالذات. ومن ثم فهي السبب الحقيقي لانخرام الأمن من وجهين: الأول هو وجودها. والثاني هو ممارساتها لمغالطة الشعب وإثارة ما يزعمونه أغلبية صامتة ضد الثورة.
فأما وجودها فهو سبب انخرام الأمن لأنه وجود مدرك أصحابه أنه إلى زوال ومن ثم فهو في معركة حياة أو موت ولا يمكنه إلا أن يلجأ إلى سياسة الأرض المحروقة حتى لا يتنازل عما يعلم أنه لن يستطيع الحفاظ عليه.
وأما ممارستها فهي سبب انخرام الأمن لأنها ممارسة للمغالطة: وليكن مثالنا ما قلناه عن وزير الداخلية الذي يباهي بطرده ما ينيف على العشرين مديرا من الأمن. فهذا السلوك حتى لو سلمنا بأن صاحبه صادق النية في ما يسميه التنظيف دليل على الغفلة السياسية من قبل صاحبه الذي هو مجرد منفذ لسياسة يجهل محركاتها الخفية ودليل على الدهاء السياسي ممن دفعه إلى ذلك.
فلا يمكن لأي سياسي عاقل أن يحمل مديري الإدارات الأمنية مسؤولية ما حدث أعني ما كان بالجوهر سياسيا وليس إدرايا ثم يريد منهم أن يساعدوه للخروج من مأزق انخرام الأمن. أليس من يفعل ذلك قد حكم على نفسه بأن تصبح كل أفعاله لحفظ الأمن رماية في عماية ؟ متى كانت الداخلية يشرف عليها بعد الثورة الجاهل بخفايا ما كان يحدث قبل الثورة؟ وقد سبق فشبهت ذلك بما حصل للإمام علي بن طالب عندما عزل الولاة وكيف آل ذلك إلى ما نعلم في تاريخ هذه الأمة. وطبعا فالمقارنة تخص الفعلين لا الرجلين لأن الفرق بينهما هو ما بين الثرى والثريا.
الأمن الطوعي بدل الأمن الكرهي
وغاية القول وزبدته أن الأمن لن يستتب إلا إذا وُجدت سلطة ذات شرعية قوية تأمر فتطاع بعد أن عشنا عقودا تحت سلطان قوة عديمة الشرعية لا تُطاع فتكرِه في لحظة لم يعد أحد يقبل أن يكره حتى ولو دفع ثمن ذلك حياته فضلا عن راحته التي يدّعون السعي لتوفيرها. وهذه الروح الجديدة حاصلة الآن: فهي موجودة في الأعيان لأن القصبة مثال عيني منها وهي موجودة في الأذهان إذ إن من نسمع إليهم اليوم في تونس هم ممثل اليساري المتخلص من الستالينية وممثل اليميني المتخلص من التاتشرية وممثل الإسلامي المتخلص من القشورية وممثل القومي المتخلص من الشوفينية. وهؤلاء بوسعهم الاتفاق على أرضية تنقذ تونس بحق من سلطان قوة الأجهزة غير الشرعية لتنقلهم إلى شرعية الشعب القوية بالمؤمنين بتونس وطنا حرا مستقلا دينه الإسلام ولغته العربية وطنا ذا طموح كوني لكونه يمثل النموذج الذي يمكن أن يحقق الثورة العربية الحديثة فيكون نواة التوحيد وخميرته.
أما أثافي أرذل العمر الذين لجأ إليهم حلف الفضلات (المبزع الرئيس المؤقت وقائد السبسي إطار النجدة والطالبي الساعي إلى إحياء الفتنة) فلن يعلموا من بعد علمهم شيئا فضلا عن أن يعلموا الشباب الذي ثار لما لحق بالبلاد من عار بسبب أفعال النظامين اللذين هم من يمثلونهما. إنهم يرمزون إلى النظام الأرذل فضلا عن أرذل عمره. وهم يريدون أن يخوفونا بما جعلوه ممكنا بسبب تشبث حلف الفضلات بأذيال الحكم وبسبب ممارستهم لمغالطة الشعب. فدعوى المحافظة على السير العادي للشؤون دعوى حق يراد بها باطل فضلا عن كون الشؤون لا يمكن أن تكون عادية في أي ثورة مهما كانت سلمية.
ولكن هبنا قبلنا حجتهم. فها هم قد برهنوا على عجزهم عن ضبط الأمن. ومن ثم فما يعللون به وجودهم بات دليلا على ضرورة ذهاب الفضلات الخمس في أسرع وقت. ذلك أن المأزق الحقيقي ليس ما يطلبه شباب الثورة وقوى الأمة الحية بأطيافها الأربعة التي ذكرنا بل المأزق الذي ينبغي الخروج منه في أسرع وقت هو مأزق العهد بمصير الثورة لبقايا نظام بلغ بذاته وبرموزه إلى أرذل العمر. وليس القصد سنهم العضوي. فكم من هو في سنهم وهو حكيم بل القصد سنهم السياسي والعقلي.
فالرئيسان ومنظرهم الذي أتوا به لبث الفتنة وإعادة تونس إلى الحرب الدينية بين العلمانية والأصولية من دون مبرر عدا مساندة بقايا اليعقوبية في حكومة الفضلات ثلاثتهم من خدم نظامي ابني علي بل لعل عجلة النجدة الأخيرة من خدم أبناء علي الثلاثة الباي وبورقيبة والشين. ويكفي هذه الأمثلة من تجربتي الشخصية مع ثالوث بقايا النظام لفهم طبيعة القيادة التي لجأ إليها حلف الفضلات:
فالكثير ممن حضر ندوة الصادقية حول مدرسة الغد يذكر كيف أن الرئيس المؤقت قد جادلني بعنجهية لكونه لم يفهم أن ما كان يحاك للمدرسة التونسية من أدلجة باسم تحديثها الذي آل بها إلى أن تصبح مسخرة العالم بعد أن كانت مفخرته. فكيف يمكنه أن يحمي تونس إذا كان لم يفهم ما كان يحاك لنظام التربية فيها؟
وما أظن أحدا ينسى أن المنظر الذي أتوا به لدعم اليعقوبية لم يكن إلا رئيس اللجنة الثقافة القومية أعني المزاودية التي لا عمل لها إلا تنظيم حفلات عيد ميلاد بورقيبة. فكيف يكون مفكرا حرا إذا كان يقبل أن يكون مجرد رسم في لجنة قومية ليس لها من دور إلا الزمر والطبل في أعياد الميلاد؟
أما رئيس الحكومة المفروض من فوق فعلمي الوحيد به هو ما رأيته منه من خيلاء وانتفاش خلال حضوره أحيانا إلى جريدة المرحوم حسيب بن عمار لا تنم عن احترام للشعب بحيث لا أظن رئاسة الحكومة ستكون عنده خدمة للشعب بل هي ستكون بالأحرى استخداما له بمنطق من هؤلاء المتنمرين في القصبة على أسيادهم الذين سينقذونهم من الفوضى ؟
لكن ما يريده شباب الثورة هو من يقبل أن يكون خادما للشعب لا من يكون خادما للأشخاص وخادما للنظام العام لا من يكون خادما للنظام الذي يحمي النظام الخاص فتتحول الدولة بفضل خدماته إلى مزرعة مافية تتقاسم مع مستعمر الأمس ثروات البلاد وترهن مستقبلها باسم تحديث قشري حول أرضها إلى ميدان استجمام لعجزه وكاد أن يفقدها عرضها بأن يجعلها شعبها متسولا جل شبابه مخير بين أن "يحرق" ليغادر البلاد أو "يحترق" ليغادر الحياة. ذلك ما نريد القضاء عليه نهائيا بإصلاح تتحالف فيه جميع قوى الشعب على نحو يكون أساسه العلم بتفاعل هذه القوى لتحديد إستراتيجية المستقبل والبناء على تجارب الأمم في تحقيق شروط الاستقرار والأمن. وهذه صورة تقريبية مما يمكن أن يكون منطق تحقيق تحالف القوى الشعبية في بناء مستقبل الأمة.
منطق العلاج الذي تحققت شروطه ولله الحمد
يمكن إذن لأي ملاحظ موضوعي أن يعتبر ما يفسر به حلف الفضلات الانخرام الأمني في البلاد مجرد محاولات لإخفاء العلل الحقيقية لهذا الانخرام: مواصلة التنكر لمكونات الساحة السياسية والاجتماعية في تونس والاقتصار على البدائل الزائفة منها. وقد سبق لي أن أشرت إلى عناصر المعادلة السياسية والاجتماعية الطبيعية (التي تقتضيها طبائع العمران) والتاريخية (التي تعينت فيها العناصر الطبيعية) في إحدى المحاولات السابقة خلال متابعتي ما يجري في مسار الثورة الشبابية التي هي ثورة سلمية ويسعى حلف الفضلات إلى تدنيسها بالدم المستباح حتى يبرر الحاجة إليه ومن ثم البقاء في الحكم لتعود حليمة إلى عادتها القديمة.
فبمقتضى طبائع العمران تنقسم القوى الاجتماعية والسياسية إلى قطبين متفاعلين لا يخلو منهما مجتمع:
أحدهما يرى أن الحرية والصراع من أجل الحياة هو الحكم بين البشر (قانون التاريخ الطبيعي لكون الإنسان رغم كونه عاقلا فهو حيوان كذلك)
والثاني يرى أن العدل والتآخي من الحياة هو الحكم بين البشر (قانونه التاريخ الخلقي لكون الإنسان حيوانا فهو عاقل).
وإذن فالتقاطب الطبيعي في العمران هو عين التقاطب بين مكونات الإنسان كل إنسان في كل زمان وكل مكان أعني الإنسان من حيث هو كائن طبيعي وخلقي له خِلقة يغلق عليها بعده العضوي وخُلق يغلب عليه بعده العقلي. والترجمة السياسة لهذا التقاطب هي ما بات يُعرف بالتقابل بين اليسار الخالص واليمين الخالص. لكن التاريخ حد من إفراط كلا الحزبين ومن تفريطهما فلم يبق اليسار ولا اليمين خالصين إلا في الأذهان أما في الأعيان فحصل التحرر مما يلي:
فاليسار أفرط في عاقلية الإنسان وفرط في حيوانيته: ذلك أن السعي إلى تحقيق العدل المطلق ينقلب إلى ضده فتصبح الاشتراكية التي تريد تحقيق العدل ستالينية. لذلك رأينا كيف أن الأنظمة الاشتراكية انتهت إلى العنف المطلق الصريح و الدكتاتورية العلنية باسم العدل فبلغت إلى الحد الذي تم فيه القضاء على الحرية دون تحقيق العدل.
واليمين أفرط في حيوانية الإنسان وفرط في عاقليته: ذلك أن السعي إلى تحقيق الحرية المطلقة تنقلب إلى ضدها فتصبح الرأسمالية التي تريد تحقيق الحرية تاتشرية. لذلك رأينا كيف أن الأنظمة الرأسمالية انتهت إلى العنف المطلق الخفي والدكتاتورية السرية باسم الحرية فبلغت إلى الحد الذي تم فيه القضاء على العدل دون تحقيق الحرية.
وفي خلال الصراع بين هذين التطرفين في ما يقولان به والإفراطين في ما يتجاهلانه احتاج كلا الحزبين إلى أن يأخذ من الحزب الثاني ما لا بد منه ليبقي على شيء من الشرعية أعني أخذ ما فرط فيه بعين الاعتبار: فكان أن أنتج ذلك حزبين آخرين هما يمين اليسار الذي يأخذ بعين الاعتبار الحاجة إلى الحرية مع العدل ويسار اليمين الذي يأخذ بعين الاعتبار الحاجة إلى العدل مع الحرية. وبقي بين هذه الأحزاب الأربعة اليسار واليمين الخالصين واليسار واليمين المزيجين الوسط الانتهازي الذي لا هو من هؤلاء ولا من هؤلاء وهم الغالبية من المنتسبين إلى الأحزاب لكون انتسابهم مشروط دائما بمصلحتهم المباشرة وبما يشبه القمار على الفرس الرابع ليكونوا في صفه ومن ثم ليفيدوا من وصوله إلى الحكم.
تلك هي المعادلة الطبيعية للحراك السياسي في كل مجتمع إنساني كما تقبل الاستنتاج القبلي بالعقل الخالص والبيان البعدي بالتجربة التاريخية. لكن هذه المعادلة لا تبقى على هذا الشكل الواضح بل هي تلبس لبوسا ثقافيا فتتعين في تراث معين يحدد شكل ترجمتها في ثقافة معينة وفي حقبة تاريخية معينة: وبإيجار دون تفصيل فلنذكر أن هذه المعادلة في البلاد العربية عامة تشكلت بصورة جعلت الأحزاب القومية أميل للخيار اليساري المتيامن والأحزاب الإسلامية أميل إلى الخيار اليميني المتياسر بحيث إنهما لم يبقيا لليسار واليمين إلا التطرفين والإفراطين. وذلك ما نراه بالعين المجردة في ساحة القصبة وفي ميدان التحرير. وبذلك فالمعادلة السياسية والاجتماعية العربية الحالية عامة والتونسية خاصة هي:
1-اليسار الأقصى وهو ذو وجود أقلي لم يعد ينكره فيدعي غيره حتى وإن كان شديد الحركة.
2-اليمين الأقصى وهو ذو وجود أقلي لم يعد ينكره فيدعي غيره حتى وإن كان شديد الحركة.
3-الإسلاميون أو اليمين المتياسر وله وجود مهم رغم كونه لم يصبح بعد مدركا لطبيعة فكره واستراتيجية عمله.
4-القوميون أو اليسار المتيامن وله وجود مهم رغم كونه لم يصبح بعد مدركا لطبيعة فكره واستراتيجية عمله.
5-فإذا جمعنا بين اليسار الأقصى والقوميين حصل لنا طيف من الساسة المعتدلين والقادرين على ضبط الساحة التقدمية السوية لأنهما بذلك يحولان دون الإرهاب المتذثر بالحداثة والذي يمثله حزب اليعقوبية الفرنسية النافي للأصالة الحية والاستقلال في سعيه إلى محو الثقافة العربية والتاريخ الإسلامي من المنظومة التربوية ومن الثقافة التونسيتين.
وإذا جمعنا بين اليمين الأقصى والإسلاميين حصل لنا طيف من الساسة القادرين على ضبط الساحة المحافظة السوية لأنهما بذلك يحولان دون الإرهاب المتدثر بالأصالة والذي يمثله حزب الابن لادنية النافي لشروط التحديث الأصيل والكونية في سعيه إلى محو شروط التطوير المبدع للثقافة العربية الإسلامية من المنظومة التربوية ومن الثقافة التونسية.
وهذان الجمعان تحققا في ثورة الشباب التونسي والمصري على حد سواء وهي دون ستتحقق في كل الأقطار العربية بمجرد أن يبلغ الوعي فيها مستوى الصلح بين هذه الأبعاد من الوجود الإنساني. والشاهد على ذلك ساحتان: ساحة القصبة وميدان التحرير. لذلك فلا بد من العمل بهذا المنطق الذي يثبته التاريخ ويتوقعه العقل المنطق الذي يحقق القيم التي يتحد فيها العقل والنقل لأنها عين ما يتطلبه الوجود الإنساني السوي: فما نسميه حقوق الإنسان الطبيعية عقلا هو مانسميه الضروري من مقاصد الشرع نقلا:
فمقصد النفس شرعا هو حق الحياة عقلا
ومقصد العقل شرعا هو حق حرية الفكر عقلا
ومقصد العرض شرعا هو حق الكرامة عقلا
ومقصد المال شرعا هو حق الملكية عقلا
ومقصد الدين شرعا هو حق حرية العقد عقلا.
وتلك هي مطالب الثورة التي ينبغي أن يجمع عليها اليساري واليميني الخالصين المدركين لوزنهما الأقلي والإسلامي الذي هو يميني عقلا ومتياسر نقلا والقومي الذي هو يساري عقلا ويميني نقلا بحيث إن المعادلة السياسية التونسية والعربية واحدة وهي جوهر المحرك لثورة الشباب حتى وإن ظن الكثير من المحللين أن الشباب غافل عن دوافعه ولا تحركه إلا أدوات الاتصال لكأن المتكلم في الهاتف هو حزم الذرات الناقلة لحوارات الشباب وليس الفكر المنقول في هذه الحزم. شبابنا الثائر ليس ابن الانترنات إلا من حيث الوسائل. لكنه ابن التاريخ العربي الإسلامي الحي الذي يسعى أصحابه إلى إبداع المستقبل بمنطق الأصالة الحديثة والحداثة الأصلية إنه ابن كل مراحل النضوج الفكري والحضاري الذي أنجب هذا التراث الإنساني ذي القيم الكونية كما يبين التطابق بين مقاصد الشريعة وحقوق الطبيعة أعني مقومات كرامه الإنسان المتجاوز للإخلاد إلى الأرض لأنه لا يرضى من السماء إلا بالعنان: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر. استجاب القدر لأن الله وعد ووعده حق بأن يغير ما بقوم غير ما بنفسه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.