شخص جديد ذلك الذي أطل على الإعلاميين مساء أول أمس الأحد بنزل بالبحيرة بالعاصمة, شخص مختلف تماما عما عهدناه من قبل. يكفي أن ترمقه بنظرة خاطفة حتى تعرف أنه لم يأتنا هذه المرة حاملا لخطاب شبيه بما كان يقوله في كل زيارة من زياراته المتعددة إلى بلادنا والتي كان يمدح فيها طيب الحياة في تونس. كان «فريديريك ميتران « وزير الثقافة والإتصال الفرنسي ينبئ من خلال علامات وجهه حيث كانت علامات التأثر بادية بعض الشيء عليه بما كان سيقوله حتى قبل أن يشرع في إلقاء كلمته أمام الحضور بإحدى قاعات النزل. قد لا نحتاج للتعريف بالعلاقة القوية التي تربط بين تونس و«فريديريك ميتران» وزير الثقافة والإتصال الفرنسي. فالمعروف عن الرجل أنه اضطلع وبتلقائية كبيرة وعن طواعية تامة وبتفان كذلك بدور السفير لبلادنا في فرنسا. ليس السفير بمعناه التقليدي والرسمي ولا سفير النوايا الحسنة فقط وإنما كان عمليا وعلى امتداد ثلاثين سنة تقريبا اجتهد «فريديريك ميتران» في فتح الأبواب الموصدة أمام الفنان التونسي والمثقف التونسي في الخارج ولا سيما في فرنسا. ومن قبيل الإجحاف أن ننكر على الرجل جهوده في التعريف بالثقافة التونسية لا سيما من خلال الأشرطة الوثائقية التي أعدها عن بلادنا والتعريف بالفنان التونسي ومساعدته له ماديا وكان قد عجل مثلا بمجرد أن تولى منصبه بإجراء هام حيث عين المنتجة درة بوشوشة رئيسة لصندوق الجنوب لدعم السينما بفرنسا. تعيين ربما لم يحظ بدعم جميع السينمائيين في تونس لكن ذلك لا يمنع من أن «فريديريك ميتران» اختار من بين الجميع (دول افريقيا وآسيا وغيرها) تونس لترأس الصندوق.
ثم جاءت الثورة التونسية التي فاجأت الجميع بما في ذلك صديق تونس الحميم الذي يحتضن في بيته طفلين تونسيين (بالتبني) وإذا به وربما لهول المفاجأة لم يهضم بسهولة ما يحدث في بلد الياسمين التي طالما تغنى بها في أعماله الفنية والتلفزيونية حتى أنه فلتت من لسانه عبارة قرأها البعض على أن «فريديريك ميتران» لم يستطع استيعاب ما قام به التونسيون من قلب للنظام القائم. قال عندما حاصره الإعلاميون في بلاده «للأسف لقد قام بالكثير من أجل المرأة في تونس» وكان يقصد بذلك الرئيس المخلوع وهو ما جعله عرضة لهجومات في بلاده شملت حتى حياته الخاصة لكنه سرعان ما قدم اعتذاراته للشعب التونسي وما قاله أول أمس أمام الإعلاميين ما هو إلا مواصلة لما قدمه من اعتذارات رسمية في صحافة بلاده. كان الرجل متألما وكان ذلك باديا على ملامحه. قال مثلا «إن الذي يحدثكم اليوم خذلكم وهو بقدر ما آلمكم فإنه تألم كثيرا «لكنه طالب في المقابل -إن كان لابد من مساءلة- بأن يأخذ التونسيون في الإعتبار ثلاثة عقود من الزمن كان فيه على حد تعبيره صديق تونس والمدافع الأول عنها في بلاده ومهما كان موقعه سواء على رأس القناة التلفزيونية « تي في 5 « أو على رأس وزارة الثقافة والإتصال وغيرها فإنه بقي حريصا على صداقته لبلادنا.
ولم يكتف « فرديريك ميتران « خلال اللقاء المذكور مع ممثلي الصحافة الوطنية بمباركة الثورة التونسية بعبارات قوية وإنما قال إنه معني بها بشكل مباشر وأن رياح الثورة قد عادت عليه هو أيضا بالفائدة. زار « فريديريك ميتران « في جولته بالبلاد في نهاية الأسبوع المنقضي متحف باردو. وكانت هذه الزيارة مهمة بالنسبة له ليس فقط لأنه من هواة المتاحف وإنما كذلك لأنه اتخذها كمحرار لقياس نسبة الحرية التي بات يستنشقها التونسي والتي جعلته بدوره يشعر براحة كبيرة. قال أنه لاحظ مثلا أن الحديث مع المسؤولين بات متحررا من كلمات على غرار « هذا بأمر من سيادة الرئيس وهذا بفضل عناية السيد الرئيس إلخ.» لاحظ كذلك أن أسئلة لم تكن تطرح من قبل حتى مجرد الطرح أصبحت ممكنة ويقع الخوض فيها براحة تامة وقدم مثالا على ذلك. يتعلق المثال بغياب الحضارة الإسلامية عن متحف باردو مشيرا إلى أن المتحف الذي يشهد أشغال إعادة تهيئة وإن كان يشتمل على كنوز فإنه مازال يفتقر إلى ما من شأنه أن يحيلنا على التراث الإسلامي مستنتجا من خلال خوض التونسيين معه بحرية في الموضوع أن التونسيين استرجعوا تاريخهم. وعبر الوزير الفرنسي عن ابتهاجه بما لاحظه من انفتاح التونسيين اليوم على المسألة ومناقشتها وهو ما كان غير متاح في عهد النظام السابق. كان «لفريديريك ميتران» خلال زيارته الأخيرة إلى تونس لقاءات مع نظيره السيد عز الدين باش شاوش ومع كل من وزير التجارة والسياحة ووزيرة المرأة إلى جانب المدير العام للتلفزة الوطنية وقدم فكرة عن حصيلة لقاءاته تلك أمام الإعلاميين.
نتحدث منذ 20 سنة عن السياحة الثقافية ولم نفعل شيئا
ولكن « فريديريك ميتران « كان وهو يتحدث عن نتيجة زيارته أقرب إلى محاولة التأسيس إلى علاقة جديدة مع تونس أكثر منه إلى تعداد محصلة الزيارة لأن ما تحدث عنه من أمور أغلبها إما سبق وأن أعلن عنها من قبل على غرار المشاريع المشتركة بين متحف اللوفر ومتحف باردو أو أنها مسودة مشاريع على غرار مشروع المركز السينمائي الذي قال عنه أنه اتفق مع شركائه التونسيين على مبدإ وضع الأسس الخاصة به. وأبرز ما يمكن ملاحظته حول مشاريع التعاون القادمة أن الرجل أظهر كثيرا من النوايا الطيبة وتعهد بالعمل بنفسه على تحقيق المشاريع. تحدث الوزير الفرنسي مثلا عن تشجيعه لرؤوس الأموال على الإستثمار في البنية الأساسية السينمائية لا سيما ما يتعلق ببناء قاعات سينمائية جديدة. قال « فريديريك ميتران « أيضا أنه سيعمل على المساعدة في مجال الكتاب وخاصة دعم المكتبات المتنقلة ( الحافلات ). وعد الوزير بمعرض تونسي للفن المعاصر يقام في فرنسا خلال شهر سبتمبر وبحفل فني كبير احتفاء بالثورة خلال الصيف تنقله احدى التلفزيونات الفرنسية الكبرى مباشرة وبأن يكون لتونس حضور واسع خلال الدورة الثانية لليالي رمضان التي انتظمت دورتها الأولى في رمضان الفارط ببادرة منه.
أشار «فريديريك ميتران» بنفس المناسبة إلى ضرورة المرور إلى مرحلة التنفيذ فيما يخص التعاون التونسي الفرنسي في مجال السياحة الثقافية حيث قال أننا منذ 20 سنة نتحدث ولا نفعل شيئا. أما فيما يخص مشاريع التعاون بين التلفزيون الفرنسي ( القطاع العام ) والتلفزة الوطنية فإن الوزير تعهد بوضع خبرات التلفزيون الفرنسي على ذمة التونسيين وخاصة منها ما يهم تحسين التغطية التلفزيونية للجهات ومواكبة أخبار الجالية التونسية بالخارج. ولم يشأ الوزير الفرنسي قطع اللقاء دون أن يذكر بأنه يضم صوته إلى صوت الملايين من التونسيين الذين أصبح العهد السابق بالنسبة لهم مجرد ماض وأنه لا سبيل للعودة إلى الوراء... الثورة الشعبية حسب قوله غمرت الجميع بالفرحة لكنها مازالت تثير مخاوف منها ما يتعلق بتعطل تنفيذ الأحلام المنبثقة عنها لذلك فإنه يرى أن مشاركة التونسيين فرحتهم لا ينبغي أن تقف عند الكلام والتعبير عن المشاعر, المهم بالنسبة له المرور إلى مرحلة البناء حتى وإن حرص على القول أنه لم يأت إلينا حاملا لحقيبة من الوعود وإنما جاءنا بجملة من الأفكار والمشاريع رأى أنه قد يكون بامكانه إنجازها.