للخطاب وجهان قول وفعل, وازدواجيته هي عدم تطابق وجوهه, ولطالما اتهموا النهضة بهذه الازدواجية. القول يبقى دائما من الفعل الممكن وقد يخضع إلى ضغوطات القمع والقهر فينحبس على مستوى اللسان والفكر. وأما الفعل في السياسة فيحتاج دائما إلى أدوات الحكم, من سلط مختلفة. ولكي نقيم الدليل القاطع على ازدواجية فلا من توفر شروط الحكم مجتمعة. ويبقى مثال الهارب بن علي دليل على ازدواجية خطابه, من بيان 7 نوفمبر إلى ممارساته على مدى 23 سنة, زيادة على ما تكشف من مستور ما بعد الثورة. فلم يكن ما يقوله متلازما ومترابطا مع ما كان يفعله. ولإسقاط معنى الازدواج في الممارسة السياسية للأحزاب التونسية جميعها, فان غياب شرط امتلاك أدوات الحكم تجعل منها, أي الأحزاب, بمنأى عن كل شبهة بما فيها النهضة أو غيرها. وما بعد الثورة, ظهر واقع جديد سقطت معه هيبة الدولة, وبقت أحزاب معارضة أخرى في دواليب بقايا الحكم الساقط وانخرط آخرون بفعل المكاسب السياسية, فصار بوسعها استعمال أدوات الدولة لتحقيق أهداف سياسية معينة. فكان من أحزاب ألصقت بنفسها مفاهيم الديمقراطية في خطاب وردي توجهه للشعب ولكنها في نفس الوقت تدعوا إلى الحرب على النهضة وإخراجها من كل تواجد ممكن, مع أن الديمقراطية هي سلطة الشعب والحكم له بما يختاره عبر صناديق الاقتراع, وهي بذلك تناقض ذاتها بذاتها. وذهبت أخرى إلى الانخراط في العنف المعنوي والانهيار الأخلاقي لتكتب بليل على الحيطان شعارات معادية للنهضة استحت أن تقولها علنا, فخرجت كخفافيش الليل لتهاجم دون أن تدرك, فيحسب عليها الازدواج. وأحزاب أخرى انخرطت في العنف المادي باستعمال بلطجية واعتدت على النهضة في المنستير وأماكن أخرى, مع أنها حينما تظهر في التلفاز تلحق تهمة العنف بالنهضة, وهي التهمة التي روج لها بن علي وحاك لها تفاصيل قاتلة. كما تعدت أحزاب أخرى إلى ترويع الشعب مثلما حصل في سليانة مع إنها تدعي الوطنية والديمقراطية. وقد كان خطاب هذه الأحزاب مزدوجا, قد ترى قولا سلسا ودروسا في الثورية, وإما الفعل فلا يقتصر إلا على تأزم الوضع وإقصاء الآخرين, وكآن لا احد يحق له العيش بتونس غيرها. وفي المقابل كانت النهضة حركة ملتزمة بما تقوله, بالرغم من تهمة العنف التي الصقها بها بن علي, والتي لم تثبت إدانتها به, ومع إن هذا الاتهام قد مضى عليه أكثر من 23 سنة, إلا إنهم أداروا رحى الأعلام لتذكية من جديد, وبدل المطالبة بمعرفة الحقيقة, وكم كانت خطايا بن علي كثيرة, فإنهم تحدثوا به وكأنه الحقيقة, مع إن النهضة لم تمتلك أدوات الحكم ولو ثانية واحدة. في القول, لم يقتصر خطاب النهضة في توجيه الاتهام بكل جدية إلا لبن علي, ولم تتهم حزبا آخر بأي شكل من الاتهام, مع إن كثيرها كان يدا وآلة لبن علي لقمع الشعب وسرقته. وقد تفننت هذه الأحزاب في إيذاء النهضة, إلا إنها كانت كالأب الذي يحتمل شقاوة أطفاله الغير بالغين والغير راشدين. كان خطابهم واع بخطورة المرحلة ولم يتجنوا على احد. وفي العمل, النهضة لم تمتلك أدوات الحكم بعد, لتفرض قولها على الشعب, انحازت الى الفقراء, فتحت مكاتبها لهم, تناقشهم وحاورهم أحلامهم, لأن الراهن مازال في طور الحلم, وحتى والجماعات التي تلتحق بها لا تحدثهم عن أي حزب بسوء. زار نجيب الشابي المناطق الداخلية, فوجد قواعد النهضة في استقباله كما استقبلوا قبله رئيسة حزبه مي الجريبي... وجاء مصطفي بن جعفر فملأت قواعد النهضة مقر اجتماعه وصفقوا له... وجاء حمة الهمامي فحضروا في موكبه مرحبين بضيقهم الكريم.. وجاء من قبلهم منصف المرزوقي فزاروا معه مدينة الشهداء وساحة الشهداء. ولو كان لهذه الحركة ازدواجية في الخطاب لأفسدوا كل مؤتمرات الضيوف وهم قادرون على ذلك, ولكن إيمانهم بان تونس للجميع وتتسع للكل وبضرورة السلم والعيش المشترك فسيرحّبون بأي ضيف قادم. اما الحكم على النوايا, فعلى كل الأحزاب أن تأتي بالدليل على سلامة نواياها, فكيف يدعون نوايا الشيطان لدى النهضة وهم الملائكة, مع إنهم لا يؤمنون بها.